إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

فإن قلبي مسبي يلبي

وبينما تراه يغني من نغم خاص على أصول خاصة :

انهض وبادر يا رفيق

ولا تفارق ذا الطريق

لأن ساقينا الرحيق

يملا طفاح

وإذا به قد انتقل منه إلى قدّ آخر فينشد :

قم يا أمير الغزلان

كي ننفي التراح

واسمع لصوت العيدان

في وقت الصباح

واترك قول اللاحي

واحذر تغدو صاحي

فالحب قد وافانا

في وقت الصباح

وهنا إذا تأملت تجد المناسبة ظاهرة بين قوله : (لأن ساقينا الرحيق يملا طفاح) وبين قوله في القدّ الآخر : (قم يا أمير الغزلان).

ثم إنه بعد إنشاده : (فالحب قد وافانا إلخ) يدخل منه إلى شغل آخر إلى مثل هذا النغم أو إلى غيره مع وجود التناسب بين النغمين فينشد مثلا :

السعد وافى بالأماني

هيا بنا يا صاح

نرشف سلافات الدنان

في روضها الفياح

وهنا كما ترى المناسبة ظاهرة أيضا بين قوله : (فالحب قد وافانا إلخ) وبين قوله :

(السعد وافى بالأماني) ثم ينتقل بكل رشاقة وخفة من البيتين المتقدمين فينشد مثلا :

زارني المحبوب

في رياض الآس

روّق المشروب

وملالي الكاس

قلت له يا زين

يا أعز الناس

ثم ينتقل من قوله : (يا أعز الناس) إلى شغل آخر وهو :

فيك كل ما أرى حسن

مذ رأيت وجهك الحسن

جل من به عليك من

أيها الذي الصدود سن

٤٦١

من لسيف أدعجيك سن

لم حرمت مقلتي الوسن

وهنا يتلاعب الوراق بالنفوس والأرواح ، فيدعها غارقة في بحار السرور سكرى من خمرة الطرب لا حراك بها ، مع أن صوته لم يكن بالصوت الحسن ، وإنما تلك الأصول والتصرف في الأنغام وتلك التنقلات المتناسبة مع بعضها حتى كأنها شيء واحد هي التي كانت تفعل في الألباب ما تفعله بنت الدنان في العقول.

وبينما كان ينشد :

يا بدر في جنح الغلس

عرج ركّابك والنفس

سلطان جمالك مفترسي

ولك قوام يا ذا الغلام

قولوا لحبي يرفق بي

وإذا به قد انتقل منه على الطريقة التي قدمناها من التصرف في الأنغام إلى قوله وهو من قدّ من نظمه :

بالله يا كنز الكمال

ويا بديعا بالجمال

عطفا على معنّى

يبكي بدمع يحكي دم

وهنا ترى أيضا المناسبة ظاهرة بين قوله : (قولوا لحبي يرفق بي) وبين قوله : (بالله يا كنز الجمال إلخ) ويجعلها مقول القول.

وبينما تراه ينشد :

قم نغنم اللذات

قد غاب واشينا

وقد تجلى لنا

جمال ساقينا

وإذا به قد انتقل من قوله : (قم نغنم اللذات قد غاب واشينا) وينشد من شغل آخر :

إنّ ليل الصد ولى

وهلال السعد هلّا

وبديع الحسن يجلى

في أويقات السعود

ثم يرجع إلى قوله : (قم نغنم اللذات قد غاب واشينا) وهكذا ، وهذا النوع يسمى

__________________

((١) في الأصل : لماذا حرمت ... والصواب ما أثبتناه كما يقتضيه الوزن وكما يغنى اليوم.)

٤٦٢

عند أهل الفن بالتحميل ، وهنا كما ترى المناسبة ظاهرة بين قوله : (وقد تجلى لنا جمال ساقينا) وبين قوله : (إن ليل الصد ولى وهلال السعد هلّا).

وهذا ولا ريب يكون له أحسن وقع في النفوس وأعظم تأثير فيها. ولا تظن أنه كان ممن يلتزم أن ينشد بعد قوله : (قم نغنم اللذات إلخ) (إن ليل الصد ولى إلخ) لأن ذلك يحفظ عنه ويقلد فيه ، بل تراه يدخل بعد قوله مثلا : (قم نغنم اللذات) إلى شغل آخر على طريقته المتقدمة ، فتراه كالفارس المغوار يصول ويجول في أي ميدان كان بحيث يدع الأفكار حيارى في تصرفاته وسرعة ما تنقلاته وحسن استحضاراته.

وكان ينشد في كل محفل ومجتمع ما يناسبه ، فكان ينشد في حلقات الأذكار بما يناسبها من كلام القوم ، وفي الأفراح بما يناسبها ، وربما اقترح عليه أن يكون مجلسه في ذلك اليوم في ذكر الخال ، فكنت تراه يمضي ذلك المجلس في الإنشاد من أناشيد وأشغال فيها ذكر الخال ، وكذا إذا اقترح عليه أن يكون مجلسه في ذكر العيون وهكذا.

وكان إذا وجد في عقد نكاح أو حفلات المولد النبوي يستقبل المدعوين حين دخولهم كل واحد على حسب مقامه وصنعته ، فيستقبل العالم بما يناسب العلماء والوجيه بما يناسب الوجهاء والتاجر بما يناسب التجار والشاب بما يناسب الشبان ونقباء الصناعة بما يناسب صناعتهم ، وربما صرح باسم الداخل وأدخله في إنشاده.

حدثت عنه أنه كان في عقد ، فدخل رجل يقال له عمر أفندي جابي الحرمين ، فحين دخوله شرع ينشد :

يا عمر هذه مكارم

من أتى للرسل خاتم

وهو من نشيد أوله :

حسبي المختار حسبي

لحماه حادي سربي

حبه أمسى نديمي

والشفا من كل كرب

ولا تسل هنا عما داخل عمر أفندي والحاضرين من الطرب والسرور ، وكل ذلك كان يأتي به بلا تكلف ولا توقف.

وكان يحفظ ما لا يحصى من النظم والنثر والأناشيد فيما يلزم لكل مجتمع ومحفل من

٤٦٣

الأذكار وعقود الأنكحة والولائم التي تصنع عند الولادة المسماة بالعقيقة وعند الختان ، وكانت تقام له في ذلك الوقت بكثرة ، وفي المجتمعات التي تقام لسفر الحجاج والغزاة وقدومهم وغير ذلك.

وهذا لعمري مقدرة ما بعدها مقدرة ، ومهارة ما وراءها مهارة ، وهذه أعطية من الله تعالى ، والله يخص من شاء من عباده بما شاء.

وبعد وفاة الورّاق ووفاة أستاذه البشنك تفرد في صناعة هذا الفن في حلب المنشد الشهير أحمد عقيل ، وهو ممن أدركناه وسمعناه ، وكنا نتخيل به على مقتضى ما حدثنا عن طريقة البشنك والوراق ما كان عليه هذان من المهارة والحذاقة ونعجب من كثرة محفوظاته ولطيف استحضاراته ، ومع هذا فكان يذكر لنا أنه لم يدرك شأو أولئك وأنه حسنة من حسناتهم ، وبعد وفاته ، وليس العهد بها ببعيد ، انحط شأن هذا الفن في الشهباء من ذروة عليائه وتضاءلت أنوار ضيائه ، ولله في خلقه شؤون.

١٢٩٤ ـ الطبيب الشيخ أحمد الحكيم الإدلبي المتوفى سنة ١٣١٨

الشيخ أحمد ابن الشيخ طه بن محمد المشهور بالحكيم الإدلبي.

ولد في إدلب سنة ١٢٥٥ ، ونشأ في حجر أبيه الرجل الصالح فرباه تربية صالحة. ولما ترعرع لازم الشيخ عبد القادر أبا النور الكيالي في زاويته مدة فحصّل فيها قسما وافرا من العلوم العربية والدينية ، ثم لازم أخاه الشيخ عارف الكيالي في جامع الشيخ خليل فأخذ عنه من علوم القوم الأخلاقية ما فيه الكفاية ، وأخذ عنه الطريقة الرفاعية. وأخذ عن الشيخ المغربي المقيم في إدلب المشهور بالعلم والصلاح وانتفع به كثيرا. ثم انقطع إلى الشيخ حسين الكحيل فانتفع بعلمه وأجازه بالطريقة الشاذلية الزروقية. وما زال يتردد إلى أشياخه إلى أن انتقلوا إلى رحمة الله تعالى.

وكان والده يتعاطى الطبابة هناك ، فتلقاها عنه كما تلقاها والده عن جده. وكان يطبب كأبيه وجده على مقتضى الطب القديم لأن الطب الحديث لم يكن منتشرا ، ثم أخذ من الطب الحديث بقسم وافر بمطالعة كتبه ومجلاته واجتماعه بحذّاق الأطباء ومذاكرته لهم في بيروت وحلب.

٤٦٤

وفي حلب كان يجتمع بأطبائها المشهورين في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ، مثل السيد بكري زبيدة والحاج محمد الحكيم المشهور بالأفندي ومصطفى أفندي الخلاصي. وهؤلاء مع معرفتهم بالطب القديم كانوا قد تلقوا شيئا من الطب الحديث عن بعض الأطباء الغربيين الذين توطنوا في حلب ، فكان المترجم يذاكر هؤلاء وكانوا يعترفون له بالذكاء والمهارة في هذه الصنعة.

وكان متمسكا بدينه تمام التمسك ، قائما بما افترضه الله عليه لا يهمل شيئا من ذلك ، وله أدعية خاصة كان يدعو بها. ومما حفظ عنه قوله : اللهم أعذني من شموس الطبيعة وجموح النفس الردية ، يا منير ظلمة الضلالة بنور الإيقان خذ بأيدينا ، ومن مهواة الهلكة نجنا ، ومن ردغة الطبيعة طهرنا.

وكان لأهل بلده اعتماد عظيم عليه وثقة تامة به ، حتى إن أكثر المسيحيين القاطنين في بلدته كانوا يتطببون عنده ، وذلك لحسن معاملته ونصحه في تطبيبه لجميع الناس.

وكان له عطف على الفقراء والضعفاء ، فكان فضلا عن مداواتهم مجانا يأتيهم بالطعام والشراب وكل ما يحتاجون إليه في أثناء مرضهم. وكان له صدقات سرية لا يقصر في ذلك.

ومن آثاره الحميدة تجديده لزاوية بني المراد بعد أن تخربت ، فجدد مسجدها وبنى بمقابلته من جهة الشمال قبوا مستطيلا أقام على ظهره أربع غرف أسكن فيها الطلاب ، وأمامها تتمة ظهر القبو جعله للصلاة أيام الصيف وفرشه وفرش صحن الزاوية بالبلاط.

وكان إذا فرغ من تفقد المرضى اعتكف في المسجد يتلو كتاب الله تعالى عن ظهر قلب. وكان له صوت حسن. وكان يهجر مضجعه في داره ويأوي إلى هذا المسجد ليلا ، ولا يزال معتكفا فيه يتلو أوراده تارة ويتهجد تارة إلى أن يطلع الفجر ، ذكر ذلك بعض عارفيه الواقفين على أحواله من المجاورين في إحدى الغرف المتقدمة.

وكان لا يألو جهدا في مساعدة من يسعى لترميم المساجد ومعاونة من ينهض لجمع شيء من المال للفقراء عند الشدائد.

وكان هو القائم في التوقيت في رمضان للإفطار والسحور بنفسه ، ويضرب المدفع لأهل البلدة بيده ويعطي قيمة البارود من ماله. ويهتم في أمر النظافة في البلدة كثيرا.

٤٦٥

واهتم في جلب ماء عين مرتين إلى إدلب ، إلا أنه لم يوفق لذلك ، لكنه أودع هذه الفكرة إلى ولده الطبيب السيد محمد حلمي وابن أخيه السيد حكمة ، وهما من الأطباء المأذونين من المكتب الطبي في دار السعادة ، فهذان جدا في جلب هذا الماء واشتركاهما ومفتي البلدة الشيخ برهان الدين أفندي العيّاشي وقائم مقامها وطنينا توفيق بك الحياني في السعي ، وتم ذلك سنة ١٣٤٣ ، فكان لهؤلاء اليد البيضاء في إبراز هذا المشروع لحيز العمل جزاهم الله خيرا.

وكان المترجم فصيح المنطق حسن التعبير ، تجردت عبارته عن حشو العامة. وكان لكلامه تأثير في القلوب لإخلاصه ولحسن الظن فيه. وكان مؤدبا مهذبا نصوحا يعامل المجاورين عنده في غرف الزاوية أحسن معاملة ، وله عليهم غيرة زائدة ، وكان يجلس إليهم ويؤنسهم ويعظهم بمواعظ حكمية لا تقل عن الحكم العطائية ، فكان المجاورون يجدون لذلك في قلوبهم أحسن تأثير.

وكان منجمعا في نفسه لا يألف مخالطة الناس ، ولو لا الطبابة ما واجه أحدا ولا خالط أحدا.

وفي الجملة فقد كان من خيار الناس أجمع أهل بلده على الاعتراف بفضله ومهارته في صنعته والثناء على جميل أخلاقه.

وكنت سافرت مع والدي إلى إدلب في صفر من سنة ١٣٠٧ ونزلنا هناك في دار الحاج محمد طاهر الأصفري من تجار إدلب وأعيانها ، فصادف أن والدي مرض بعد وصوله بأيام مرضا شديدا ، فاستدعي المترجم لتطبيبه ، فكنت أراه يأتي له بالعقاقير والبذور ، فكان يدقها وينخلها ثم يركبها ويعالج بها سيدي الوالد مع بشاشة ولطف لا مزيد عليهما ، وكان يأتي كل يوم لتفقده ، وامتد به المرض نحو ١٥ يوما وخشينا وقتئذ موافاة الأجل ، فأرسلنا إلى حلب فأرسل لنا وقتئذ محفة (تخت روان) فعدنا فيها إلى حلب ، وكانت صحته قد تحسنت نوعا ، ويوم عودتنا حضر المترجم على عادته فأخرج سيدي الوالد كيس دراهمه ، وكنت مشاهدا لذلك ، وقبض قبضة من الدراهم ملء كفه وناولها له فلم يأخذها ، وألح عليه كثيرا وهو لا يزداد إلا تمنعا وملاطفة لسيدي الوالد ، وهذا ولا ريب من كرم أخلاقه وطيب أعراقه رحمه‌الله تعالى.

٤٦٦

وكانت وفاته في رابع ذي الحجة سنة ألف وثلاثمائة وثماني عشرة ، وكان لوفاته رنة حزن عظيمة ، ودفن في المقبرة الكبرى القبلية. وكتب على ضريحه من نظم الفاضل الشيخ محمد الخيزراني من جهة القبلة قوله :

بفضل الله أحمد حزت خيرا

فكم أبرأت من قلب سقيم

لذاك الخير في التاريخ عز

لك البشرى بجنات النعيم

ومن جهة الشمال قوله :

لقد خطبتك علّيون شوقا

للقياها لقد أسرعت سبقا

ولم تعلم لفقدك كم فقدنا

عيونا بل وألبابا ونطقا

١٣١٨

١٢٩٥ ـ الأديب عبد الله مرّاش المتوفى سنة ١٣١٨ ه‍ و ١٩٠٠ م

عبد الله بن فتح الله بن نصر الله بن بطرس مرّاش ، من أسرة عريقة في الفضل والوجاهة معروفة بالعلم والأدب ، وكفاه شهرة أنه أخو فرنسيس مرّاش وشقيق مريانا مرّاش الشاعرة العربية ومن شهيرات النساء الكاتبات في سوريا.

ولد في حلب في ١٤ أيار سنة ١٨٣٩ ، ونشأ بها على والده وغيره ، فتلقى في حداثته مبادىء علوم العربية والخط والحساب ، ثم دخل مدرسة الرهبان الفرنسيسين فأخذ عنهم أصول اللغة الإيطالية ... وبعد ذلك انصرف إلى أعمال التجارة فتخرج في أبوابها وفنونها.

ولما بدت نجابته فيها انتدبته جماعة من جملة تجار حلب لعقد شركة تجارية ينشىء لها محلا في منشستر من بلاد الإنكليز ، فسافر إليها سنة ١٨٦١ ولبث بها إلى سنة ١٨٦٩ ، واشتهر بما كان عليه من الأمانة والدراية فكان له مقام محمود بين معامليه من أرباب التجارة ، وأحرز منها ثروة صالحة.

وفي تلك السنة تم فتح خليج السويس ، فاستشف من وراء هذا الفتح أنه سيكون ضربة قاضية على تجارة حلب ، لأنه قدّر أن البضائع التي كانت ترسل إليها فتحملها القوافل برا إلى نواحي العراق وبلاد العجم لابد أن ترسل بعد ذلك بحرا عن طريق السويس ثم

٤٦٧

البصرة ، ولهذا السبب ولأسباب أخرى نوى العدول عن التجارة بتة وشرع في حل الشركة وتصفية أعمالها.

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بين الفرنسيس والألمان ١٨٧٠ انتقل إلى باريس فأقام بها يتعاطى التجارة وخدمة المعارف. ولما أنشأ رزق الله حسّون سنة ١٨٧٦ جريدة (مرآة الأحوال) في لندن تولى عبد الله مرّاش تحريرها ، ثم عاد إلى منشستر فلبث بها إلى سنة ١٨٨٠ كاتبا لأشغال فتح الله طرّازي وأعماله التجارية ، وبعد ذلك فارقها فأتى باريس مرة ثانية حيث حرر في جريدة (مصر القاهرة) لأديب إسحق وجريدة (الحقوق) لميخائيل عورا وصحيفة (كوكب المشرق) لأحد رجال الفرنسيس. ثم زايلها وسافر إلى مرسيليا وألقى بها عصاه ولم يزل مقيما فيها إلى أن توفاه الله في ١٧ كانون الثاني سنة ١٩٠٠.

هذا مجمل ما يذكر من تاريخ هذا الرجل وما تقلب فيه من أطوار الحياة ، وقد عبرت أيامه كلها على السكينة والدعة ، لأنه كان قليل المزاحمة والتطاول إلى بعيد الشؤون والتفاني في معالجة الحظوظ وابتغاء الشهرة والمقامات العلية بالإكثار من الجلبة والحراك.

على أنه كان على حظ من الدنيا بلغ به مبلغ الرضى وهو الغنى كله ، فلم يكن بعد ذلك يحرص على حشد الدينار ولا يعاني الكسب. ولكنه انصرف إلى المطالعة والتوسع في العلم وهو ما لم ينقطع عنه قط مع اشتغاله بالتجارة أيضا. فإنه كان كثير الاختلاف إلى مكاتب لندن وباريز يتصفح ما فيها من الأسفار قديمها وحديثها ولا سيما الخطية منها ، فأدرك حظا وافرا من لغة العرب وتواريخهم وآدابهم ، وانتسخ منها عدة كتب عزيزة نذكر منها كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي ، وهو مصنف ضخم يكون نحوا من ألف وخمسمئة صحيفة كبيرة انتسخه من مكتبة باريز ثم عارضه بنسخة لندن ، وأشار إلى مواضع الفرق بين النسختين ، ونبه على ما وجده مباينا للصحة من غلط النساخ مما استدركه بنفسه ، وبعد ذلك عارضه بالنسخة المطبوعة في دمشق ، وبعد أن جمع بينها وبين نسخته وقد تتبعها صحيفة صحيفة وسطرا سطرا علق على هوامشها كل ما وجده من الفروق والزيادات وغيرها ، فكانت كل واحدة من هاتين النسختين أصح نسخ هذا الكتاب.

٤٦٨

وهناك كتب ورسائل أخر كلها غرر آثار الأقدمين ونوادر تآليفهم انتسخها بخطه مع العناية والتدقيق في مقابلتها وتصحيحها.

وكان مليح الخط نقيّ الرقعة ، كثير التأنق كأكثر خطاطي حلب. وكان يكتب أولا بقلم من القصب الهندي وهو شديد الصلابة لا يكاد يتشعث ولا يتغير ، ثم صار يكتب بأقلام الحديد ولذلك ترى خطه من أول الكتاب إلى آخره واحدا.

وكان عبد الله من أكابر أهل الإنشاء ، حسن الترسل ، سهل العبارة ، واضح الأسلوب ، بصيرا باختيار الألفاظ والتراكيب ، حسن النقد ، حريصا على البلاغة ووضوح المعاني ، آخذا بالنصيب الأوفر من قوالب فصحاء العرب وألفاظ الخاصة من أهل الأدب. وكان مع ذلك متقنا اللغة الإنكليزية والفرنسوية والطليانية يكتب فيهن جميعا.

وكان له باع طويل في التاريخ والفلسفة وعلم الأخلاق والأديان والشرائع المختلفة ، مشاركا في علوم المعاصرين كالطبيعيات والهيئة وسائر الفنون الرياضية. وكان بصيرا بالسياسة مطلعا على أسرارها ودقائقها ، وله في كل ذلك مقالات ورسائل شتى ، منها ما هو باق بخطه ومنها ما نشر في بعض الجرائد العربية في لندن وباريس وجرائد ومجلات القطر المصري.

وأشهر ما طبع له منها مقالة في التربية التي نشرها تباعا في مجلة (البيان) اليازجية فلا حاجة إلى الإطناب في وصفها.

وأما النظم فإنه مع تضلعه من فنون البلاغة وكثرة ما كان يحفظ من أشعار العرب والمولدين ومع اشتهار بيتهم في الشعر كان قليل الرغبة فيه والمعاناة له ، ولا سيما مع ما بلغ إليه الشعر في هذا العصر من الانحطاط والتفاهة ومع قلة المميزين بين جيده ورديئه.

وأما صفاته الشخصية فقد كان ربعة القوام ، معتدل الجسم ، أبيض اللون ، طلق المحيا ، فصيح اللسان ، مهذب المنطق ، واسع الروية ، لطيف المحاضرة. وكان رجلا جليل القدر كامل الصفات ، قد جمع بين رزانة الإنكليز ورقة الفرنسيس وأريحية العرب. وكان على أعظم جانب من الزهد وخفض الجناح ، بعيدا عن الزهو والخيلاء ، منزها عن الدعوى والكبر ، حتى إنه مع سعة فضله ورسوخ قدمه في العلم والإنشاء وإجماع المطلعين على

٤٦٩

استحسان كلامه كان يتفادى من ذكر اسمه في أكثر ما كتبه وما طبع له ، ويشترط ذلك على من يروم نشر شيء من آثاره. هذا ولا جرم من عنوان تمام فضله وتناهيه في الكمالات الإنسانية لأنه لم يكن يتوخى فيما يكتبه إلا نشر فائدة أو تقرير حقيقة دون ابتغاء الشهرة والتهالك طلب الإطراء.

وتوجد من آثار قلمه رسالتان ، إحداهما جمع فيها فوائد متفرقة في (علم الهيئة وتخطيط الأرض) والثانية عرب فيها خواطر (الدوك دولا رشفوكو) في الأخلاق والأدب. وأما فصوله في الهيئة فإنها لا تخلو من إحياء ألفاظ من مصطلحات العرب في هذا العلم مما أذهبت بأكثره الأيام إلا من بعض الأسفار الباقية إلى هذا العهد في خزائن أوربا مما يدل على وفرة اطلاعه وإمعانه في البحث والتقييد.

وله أيضا نقد مطول على ترجمة إفرنسية لكتاب «مروج الذهب» بقلم واحد من أكابر علماء الفرنسيس يقال له بربياي دي مينار ، وهو نقد جزيل الفائدة نشرته مجلة (الضياء) اليازجية في القاهرة سنة ١٩٠٠. ا ه. (تاريخ الصحافة العربية).

١٢٩٦ ـ الشيخ مصطفى الحريري المتوفى سنة ١٣١٩

الشيخ مصطفى ابن السيد الشيخ محمد ياسين المعروف بالحريري ابن السيد عبد القادر ابن السيد موسى المهاجر من حماة إلى حلب سنة ١١٣٢.

ولد الشيخ مصطفى سنة ١٢٣٨ ، ولما بلغ من العمر أربع سنوات توفي والده في دمشق الشام وكفله جده ، وتوفي عنه سنة ١٢٥١.

وطلب الفقه والنحو والحديث وكتب الخط على شيخه الشيخ مصطفى الأصيل ، وأجازه في ذلك سنة ١٢٧٠ ، رأيت تلك الإجازة عند أولاده ، وهي بديعة الخط ذكر فيها أنه أخذ الخط عن الشيخ عبد القادر الرسمي ، ولا أعلم إن كان الشيخ عبد القادر من أهل حلب أو من غيرها.

وفي سنة ١٢٧٧ زار بغداد في زمن ولاية تقي الدين باشا المدرس ، وعلّق في جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني لوحة كتب فيها (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ

٤٧٠

يَحْزَنُونَ) وهي مجوفة كتب داخلها خمسة أجزاء من القرآن العظيم.

ومما جرى له في بغداد أنه كان ذات يوم على مائدة الباشا الموما إليه ، فسأله عما إذا كان في حاجة إلى شيء من الدراهم ومن أين يصرف مدة وجوده في بغداد ، فقال له : أطال الله بقاء مولانا الباشا ، ما دامت مائدة الطعام حاضرة في الصبح والظهر والعشي لا أحتاج إلى شيء. في حين أنه كانت دراهمه قد فرغت منذ أسابيع ، وقبل فراغها نسخ مصحفا بخطه البديع في خمسة عشر يوما وأتقن تجليده وعرضه في أسواق بغداد ، فاشتري بعشرين قطعة ذهبا عثمانيا. ولما عاد من بغداد إلى وطنه زوده الباشا بما يكفيه إلى حين وصوله إلى حلب.

وفي سنة ١٢٨١ زار الآستانة من طريق البر وأهدى للسلطان عبد الحميد مصحفا شريفا.

وفي سنة ١٢٨٥ زار آدنة زمن ولاية تقي الدين باشا المدرس عليها وعين هناك لدائرة النفوس وغيرها.

وفي سنة ١٢٩١ ذهب للحج ثانيا ، وكان قد حج قبل ذلك ، وهناك علّق على أستار الكعبة لوحة كتب عليها (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) وهي مجوفة كتب داخل تلك الحروف الكبيرة أربعة أجزاء من القرآن العظيم.

وفي سنة ١٣٠٢ زار الآستانة أيضا وعلّق في جامع السلطان عبد الحميد لوحة كتب فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً)

(مُبِيناً)(٣) وكتب داخل هذه الآية جزئين من القرآن وذيّلهما ببيتين فيهما تاريخ بناء الجامع وهما :

سلطاننا عبد الحميد قد ابتنى

لله بيتا خصّ بالتمجيد

لبنائه قد جاء أرّخ زاهيا

والسعد تممه بشهر العيد

ولم تزل هذه اللوحة معلقة فوق المحراب إلى الآن.

__________________

(١) يونس : ٦٢.

(٢) البقرة : ١٢٧.

(٣) الفتح : ١.

٤٧١

وفي سنة ١٣٠٣ زار الآستانة أيضا وقدّم لخزانة السلطان عبد الحميد خان نسخة من الشجرة المحمدية على طرز جميل جدا ، وعند أولاده الآن نسخة ثانية ، وهي في ٢٠ صحيفة كبيرة الحجم. وهذه الشجرة مأخوذة عن نسخة قديمة في مكتبة المدرسة الأحمدية وأولها : قال نقيب النقباء بمصر أبو علي محمد ابن القاضي الكامل السعدي ابن علي الحسيني الجواني النسابة : هذه تحف شريفة وطرف منيفة ، تختص بالمنصب المطهر النبوي ، والفخر المقدس المصطفوي ، وضعها برسم الملك الناصر صلاح الدنيا والدين وتصلح أن تكون تاريخا مختصرا في بيان أعمام النبي وأخواله وكتّابه وحجّابه وخدّامه إلى غير ذلك. كتب بخطه منها ثلاثا أو أربع نسخ إحداهن على ورق ثخين جدا.

وكان كتب لوحة فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) سنة ١٢٩١ وكتب داخلها بعض سور من القرآن وهي الآن عند أولاده.

وكان يكتب بظفره أيضا وكان مما كتبه به [حسبي الله وحده] واللوحة موجودة عند أولاده. وله آثار متعددة في الخط.

وكان إماما وخطيبا في جامع النحويين في محلة سويقة الحجارين وشيخا للتكية الحريرية هناك.

وفي أخريات عمره تنازل عن وظائفه لولده الشيخ محمد لكبر سنه وأقبل على خويصّة نفسه إلى أن توفي سادس عشر رمضان سنة ١٣١٩ وله من العمر ثلاث وثمانون عاما ، ودفن في تربة العبارة ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٩٧ ـ صدّيق أفندي الجابري المتوفى سنة ١٣٢٠

الحاج صدّيق أفندي ابن الحاج عبد الحميد الجابري ، أحد أعيان الشهباء ووجهائها.

جمع إلى وجاهته علما وفضلا وأدبا وتصوفا ، ومنزله مجمع الفضلاء وسوق عكاظ الأدباء ، لما يرون فيه من حسن المذاكرة ولطيف المحاورة ، مع رأي صائب وفكر ثاقب ، يرجع إليه في المهمات ويشاور في النائبات ، فيجد الناس لديه مخرجا ومن ضيقهم فرجا.

أدركته وقد وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبا ، وجلله الوقار وعمته الحشمة والهيبة ،

٤٧٢

ينبيك مرآه عن وفرة ذكائه وكبر عقله وعلو همته.

ومن شعره وهو مما نقلته من خط ولده صديقي الفاضل الأديب الشيخ عبد الحميد أفندي قوله :

أيا من يدّعي حبا لشخص

إذا حققت ما المحبوب غيرك

تميل إلى الذي تهواه منه

وما تهوى سوى ما فيه خيرك

وقوله في وصف بيروت حينما زارها :

صحراء بيروت زهت نضرتها

لا سيما أشجار روض الحرش

قد بسطت أكفها تدعو لمن

يزورها بنيل طيب العيش

وكانت ولادته سنة ١٢٤١ ووفاته ثالث ذي الحجة سنة ١٣٢٠ ، ودفن في تربة الصالحين ، رحمه‌الله تعالى.

١٢٩٨ ـ السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي المتوفى سنة ١٣٢٠

ترجمه صاحب مجلة المنار تحت عنوان (مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم) فقال :

في يوم الجمعة يوم ٦ ربيع الأول سنة ١٣٢٠ أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي ، وعالم عامل من علماء العمران ، وحكيم من حكماء الاجتماع البشري ، ألا وهو السائح الشهير والرحالة الخبير السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي مؤلف كتاب «طبائع الاستبداد» وصاحب سجل جمعية أم القرى الملقب فيه بالسيد الفراتي. اختطفت المنية منا بغتة هذا الفاضل الكريم والولي الحميم.

(ثم قال) : وإني أدع الرثاء والتأبين لأفاضل الشعراء المجيدين ، وأذكر في المنار ما يليق بموضعه من خلاصة سيرة هذا الرجل ، ليعلم القراء منها كيف ينبت الشرق الرجال العظام ، وكيف تضيعهم الأمم والحكام ، ولتكون ذكرى لمن يذّكر وعظة لمن يعتبر. وأبدأ بترجمة الفقيد الرسمية ، وهي مطبوعة في ورقتين رسميتين ، إحداهما مصدق عليها من والي حلب المشير عثمان نوري باشا ورؤساء حكومة حلب يومئذ ، والثانية مصدق عليها من

٤٧٣

الوزير رائف باشا والي حلب وهي الأخيرة. وإنما أبدأ بالسيرة الرسمية لأنها من مواد استنباط سيرته الاجتماعية والسياسية والأدبية. قال :

هو عبد الرحمن أفندي ووالده الشيخ أحمد أفندي من آل الكواكبي ومن المدرسين في الجامع الأموي الكبير والمدرسة الكواكبية ، وآخر وظيفة كان فيها عضوية مجلس إدارة ولاية حلب ، وبيتهم من بيوتات المجد والشرف (خاندان) المشهورة في الآستانة العلية وحلب.

ولد السيد عبد الرحمن أفندي في ٢٣ شوال سنة ١٢٦٥ ، وتعلم القراءة والكتابة في المدارس الأهلية الابتدائية ، ثم استحضر له أستاذ مخصوص علمه أصول اللسانين التركي والفارسي. وتلقى العلوم العربية والشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأسرته. وقد وقف على العلوم الرياضية والطبيعية وبعض الفنون الجديدة بالمطالعة والمراجعة. ومن تأليفه تحرير الجريدة الرسمية (فرات) بقسميها التركي والعربي من سنة ١٢٩٢ إلى سنة ١٢٩٧ ، ومنه جريدة (الشهباء) التي أنشأها في حلب سنة ١٢٩٣.

خدمته ووظائفه :

دخل في وظائف الدولة رسميا في الثامنة والعشرين من عمره. وفي سنة ١٢٩٣ عين محررا رسميا للجريدة الرسمية بقسميها (كأنه كان في سنة ١٢٩٢ يحررها بصفة غير رسمية للاختبار) براتب قدره ثمانمائة قرش. وفي ٥ ربيع الأول سنة ١٢٩٥ عين كاتبا فخريا للجنة المعارف التي تأسست في ولاية حلب (يعنون بالفخري ما كان بدون راتب) ، وبعد ثلاث سنين اتسعت دائرة اللجنة وزيد فيها قسم للنافعة (الأشغال العمومية) وعين عضوا فخريا فيها. وفي جمادى الأولى عين محررا للمقاولات (مسجل المحكمة). وفي ربيع الثاني سنة ١٢٩٨ صار مأمور الإجراء (رئيس قلم المحضرية) في ولاية حلب. وفي رمضان سنة ١٢٩٨ عين عضوا فخريا في لجنة امتحان المحامين. وفي ربيع الأول سنة ١٢٩٩ عين مديرا فخريا لمطبعة الولاية الرسمية. وفي رجب عين رئيسا فخريا للجنة (قومسيون) النافعة. وفي ذي القعدة عين بأمر نظارة العدلية (الحقّانية) في الآستانة عضوا في محكمة التجارة بولاية حلب مع البقاء في وظيفته الأولى (محرر المقاولات). وفي سنة ١٣٠٣

٤٧٤

انفصل من هذه الأخيرة. وفي رجب سنة ١٣٠٤ عاد إلى وظيفة مأمور الإجراء. وفي رجب سنة ١٣١٠ عين رئيسا للبلدية.

وجاء في ترجمته الرسمية الثانية بعد ذكر ما تقدم أنه في ربيع الأول سنة ١٣١٢ عين رئيس كتاب المحكمة الشرعية. وفي ذي الحجة منها عين ناظرا ومفتشا لمصلحة انحصار الدخان (الريجي) المشتركة مع نظارة المالية في ولاية حلب ومتصرفية الزور. وفي أثناء ذلك اتفق مع إدارة المصلحة على أن يستلم منها جميع ما تقدمه من الدخان (التبغ) إلى الولاية والمتصرفية بزيادة كثيرة على القدر المعتاد وجميع ما يزرع فيهما منه ويتولى بيعه ، وتعهد في إزاء ذلك بمبلغ من المال يزيد عما كانت تبيع به المصلحة دخانها زيادة كبيرة. وفي غضون ذلك استقال من رياسة كتاب المحكمة الشرعية. وفي ذي الحجة من سنة ١٣١٤ أعيد إليها وعين رئيسا للجنة البيع والفراغ (أي استبدال الأراضي الأميرية من أصحاب اليد بالمال). وفي ربيع الأول عين رئيسا أولا لغرفة التجارة في حلب ورئيسا لمجلس إدارة المصرف البنك الزراعي. وفي رجب عين قاضيا شرعيا لراشيّا التابعة لولاية سورية.

رتبه ووساماته :

في رجب سنة ١٢٩٧ وجهت إليه باية رؤوس رؤوس أدرنة العلمية. وفي ربيع الثاني وجه إليه تدريس هذه الرتبة. وفي ذي الحجة من سنة ١٣١٢ وجهت إليه مولوية إزمير المجردة ، ثم أعطي الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة. ا ه.

إن من ينظر في هذه الترجمة الرسمية ولم يكن عارفا بالمترجم ولا بسيره في هذه الوظائف العلمية الأدبية الإدارية القلمية الحقوقية التجارية الزراعية المالية يقول : إن صاحبها من أوساط الناس لا من أفراد الرجال الذي يعدون من علماء الاجتماع وأركان العمران ومهذبي الأمم كما وصف في فاتحة القول. ولكن من يعلم أنه في كل عمل منها آية بينة في إنفاذ العمل وحكمة التصرف يحار كيف يحسن رجل هذه الأعمال المتباينة. وإذا وقف بعد ذلك على بعض سيرته في العزيمة وقوة الإرادة وعلم ما كانت تسمو إليه نفسه ويرمي إليه فكره وقرأ بعض ما جادت به قريحته الوقادة وفكرته النقادة علم أنه من أفراد الزمان ، وأدرك ما كان يرجى منه لو ساعده الزمان والمكان. وإنا لم نلم بشيء مما وقفنا عليه من سيرته في مدة صحبتنا له في هاتين السنتين اللتين أقامهما في مصر.

٤٧٥

أدبه وأخلاقه :

توفيت والدته وهو في أول سن التمييز ، فعهد والده بتربيته إلى خالة له من بيوتات أنطاكية من نوابغ النساء اللواتي قلما يعرف مثلهن الشرق لا سيما في هذا الزمان ، كانت تعرف بالعقل والكياسة والدهاء والأدب البارع ، فنشّأته على أدب اللسان والنفس ، فكان من أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة وحب الضعفاء. وقد كنت ككل من عرفه معجبا بأناته حتى كنت أقول : إنني أراه يتروى في رد السلام ويتمكث في جواب ما يجيبه عدة ثوان ، ولا أكاد أعرف أخلاقا أعصى على الانتقاد من أخلاقه ، ولقد كان لسان الحال يصفه بقول ابن دريد :

يعتصم الحلم بجنبي حبوتي

إذا رياح الطيش طارت بالحبى

لا يطّبيني طمع مدنّس

إذا استمال طمع أو اطّبى

والحمد خير ما اتخذت جنة

وأنفس الأذخار من بعد التقى

علمه ومعارفه :

نزيد على ما جاء في السيرة الرسمية أن الفقيد درس قوانين الدولة درسا دقيقا ، وكان محيطا بها يكاد يكون حافظا لها ، وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع ، ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين.

ولا أعلم أنه برز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران ، ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فن بفهم وعقل بحيث إذا أراد الاشتغال به عملا أو تأليفا أو تعليما يتسنى له أن ينفع نفعا لا ينتظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم. ألا تراه كيف ألف كتابا في طبائع الاستبداد لم يكتب مثله فيلسوف في الشرق ولا في الغرب فيما نعلم وكما سمعنا من كثيرين لهم اطلاع واسع في مؤلفات فلاسفة الغرب وكتابه.

على أن الفقيد لم يتعلم شيئا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة ، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه فيها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية. أرأيت عقلا يتصرف هذا التصرف الذي يفوق فيه الحكماء والفلاسفة في علم لم يأخذه بالتلقي ، وهو أصعب العلوم البشرية وأعلاها ، كيف يكون أثره لو تربى وتعلم في مدارس

٤٧٦

منتظمة كمدارس أوربا الجامعة وكان عنده من مواد العلم ومعرفة الأمة والحكومة بقيمة صاحبه مثلما في أوربا.

وبالجملة إنك لم تكن تذاكره في شيء ولا علم إلا ويشاركك فيه على بصيرة.

عمله ووجهته :

كانت وجهته في كل عمل عمله أو حاوله هي المنفعة العامة. فأول شيء ولاه وجهه هو إنشاء جريدة في بلاد لم تكن تعرف الجرائد الأهلية ولم تكن بضاعة الكتاب رائجة فيها ، ولو كان في بلاده حرية للجرائد لكان له في (الشهباء) الأثر المحمود ، ولكن البلاد التي تحكم بالاستبداد كالأرض الموبوءة لا تحيا فيها الجرائد ، ولذلك لم تنجح جريدة من الجريدتين اللتين أنشأهما ، لأن نفسه الأبية لم تستطع إرضاء الحكام فيما يكتبه ، وهكذا كان شأنه في وظائفه.

ولي رياسة البلدية ، فكان أول عمل عمله للبلد أن وضع على طرق المدينة من خارجها سلاسل من الحديد تمنع الجمال التي كانت تسد الطرقات وتمنع المارين من التردد في حوائجهم ، وجعل لهذه الجمال التي تحمل إلى البلد ومنه مكانا أو أمكنة مخصوصة.

وكانت مصلحة القبّان قد حصرت في واحد من الأغنياء يأخذها من البلدية بالالتزام ولا يتجاسر على الزيادة عليه أحد لتقربه من الرؤساء ، فلما علم أن الرئيس الجديد لا يصده التقرب إليه عن خدمة المصلحة عرض عليه أربعين ألف قرش أو أكثر يعطيه إياها رشوة كل عام في مقابلة سكوته عنه ، فلم يقبل الفقيد أن يأخذ لنفسه شيئا ، ولكنه قبل أن يكون المبلغ إعانة لصندوق البلدية ، فعلم الوالي بهذه الزيادة في الصندوق وسعى في أن يكون له سهم منها ، فأبى عليه الفقيد ذلك فعزله.

وهكذا كانت سيرته مع الحكام في كل وظائفه أو جلها ، يتصرف للإصلاح فيصدونه عنه لأجل منفعة مالية أو لتقليل نفوذه فلا يتم له عمل.

وكل أول عمل عمله في إدارة مجلس البلدية هو قطع عرق الرشوة من العمال الذين يباشرون الأعمال والمصالح ويسمون (الجاويشية) ولكنه زاد في راتبهم لعلمه بأن الذي يضطر أكثر العمال إلى الرشوة هو قلة الراتب.

٤٧٧

وكان من ظلم الوالي بعد عزل الفقيد من رياسة البلدية أنه أرجع راتب الجاويشية كما كان ، وألزم صاحب الترجمة بدفع ما كان زاده لهم في مدته إلى صندوق البلدية ، كما ألزمه بدفع ما أنفق على سلاسل الحديد التي منع بها الجمال من المدينة لأن الوالي أمر بإزالتها عقيب عزله ، ثم عاد فأمر بإعادتها بعد زمن قريب ، ولكنه لم يعد إلى الفقيد الغرامة التي ظلمه بها.

ولما عين رئيسا لكتاب المحكمة الشرعية كانت المحكمة في أسوأ الأحوال في الصورة والمعنى ، فكان ينفق على إصلاحها من جيبه ، حتى إنه استحضر لها السجوف والأستار من بيته ، ومنع اختلاط النساء بالرجال إذ جعل لكل مكانا ينتظر فيه دوره للتقاضي ، ورتّب الأوقات ونظّم الدفاتر.

وكان صاحب عزيمة ، لا يهاب حاكما ولا يخاف ظالما ، وعزيمته هي التي جنت عليه ، فقد كان نجح في عمله عندما عين مديرا ومفتشا لمصلحة حصر الدخان كما تقدم في السيرة الرسمية ، حتى وقع النزاع بينه وبين عارف باشا والي حلب يومئذ فبطل العمل.

عمل الفقيد في ضبط هذه المصلحة ما عجزت عنه إدارتها العمومية والحكومة جميعا ، حتى كانت تخسر في ولاية حلب دون سائر بلاد الدولة.

وكان المشتغلون بتهريب الدخان البلدي وبيعه في حلب سبعمائة رجل ، فعين لهم رواتب شهرية ومنعهم من التهريب بحكمة عجيبة. وسيأتي مجمل خبره في عداء الوالي عند الكلام على بعض الصعوبات التي لقيها في طريقه.

كانت مدة الاتفاق الأول مع مصلحة حصر الدخان ثلاث سنين ، فانفصل من إدارة العمل والتفتيش بعد سنتين بالسبب الذي ألمعنا إليه. ولثقة الفقيد بنفسه واقتداره على العمل ذهب إلى الآستانة بعد عزل عارف باشا من ولاية حلب ، فعقد اتفاقا آخر مع المصلحة والحكومة مدته عشر سنين. وكان أراد أن يضم إلى ولاية حلب ومتصرفية دير الزور ولايتي بيروت وسورية فلم يرض له ذلك من استشاره من الأقربين ، فرجع عنه وقد نجح أيضا في المرة الثالثة ، ولكن بعد أربع سنين حدثت الفتنة الأرمنية فنهب الأرمن الدخان من عدة بلاد وقتلوا موظفي المصلحة ، فكان الفقيد يخسر في الشهر بضعة عشر ألفا من

٤٧٨

الليرات (١) ، فتوسل بذلك إلى الآستانة بحل العقد وإبطال الاتفاق ، فتم له ذلك بعد عناء وخسارة عظيمة.

مشروعاته :

طلب من الحكومة عدة امتيازات بأعمال عظيمة ، (منها) إنشاء مرفأ في السويدية وطريق حديدي منها إلى حلب. (ومنها) جلب نهر الساجور إلى حلب لأن ماء المدينة قليل ، ولو تم هذا العمل لأحييت به أرض واسعة فكانت جنات وحدائق. (ومنها) أن عينا خوارة في سفح جبل بين أرمناز وإدلب قد أغرقت أمواهها تلك الأرض فجعلتها مستنقعات تضر الناس ولا يأوي إلى غاباتها إلا الخنزير البري ، فذهب المترجم إليها واختبر حال الأرض والعين اختبارا هندسيا زراعيا ، فعلم أنه يمكن جرّ مائها إلى إدلب القليلة الماء وتجفيف تلك المستنقعات فتصير نافعة وتحيا أرض إدلب وتحيا أهلها ، فطلب بذلك امتيازا.

(ومنها) إنارة حلب وبيره جك ومرعش وأورفة بالكهربائية بواسطة شلال يحدثه من نهر العاصي في محل اسمه المضيق بالقرب من دير كوش تابع لجسر الشغر ، وكان اختبر المكان اختبارا هندسيا فعلم أن إحداث الشلال فيه ممكن. (ومنها) استخراج معدن نحاس من أرغنة التابعة لولاية حلب.

وقد حال دون إعطاء بعض هذه الامتيازات ما يحول دون كل مصلحة عامة يطلبها الوطنيون كالرشوة ونحوها. وقد كان أعطي امتياز استخراج النحاس واشتغل به ثلاث سنين ونيّف ، وبعد ذلك أرادت حكومة الولاية إبطاله لأمر ما ، فأدخلت مع المترجم بعض الأجانب وتوسلت بذلك إلى إبطاله.

خدمته للناس والحكومة :

كان اتخذ له مكانا بين داره ودار الحكومة سماه المركز يأوي إليه فيه وكلاء الدعاوى البارعون ، فكان يؤمه أصحاب الحاجات والقضايا يستشيرون صاحب الترجمة في حل عقد المشكلات ويستضيئون برأيه في دياجير المهمات. وكان في الغالب يفصل بينهم بالتراضي

__________________

(١) خسارة هذه المبالغ على الشركة جميعها ، وقد لحقه من ذلك نحو ألف ليرة كما تحققت ذلك ، إذ لم يكن لديه من الثروة هذا المبلغ ولا نصفه.

٤٧٩

ويغنيهم عن المحاكمة والتقاضي ، فإن احتيج في قضية إلى الحكومة يندب لها من يراه أهلا لها من الوكلاء المحامين ، وإن كانت عظيمة الشأن يندب نفسه ويحاكم المبطل حتى يحق الحق لصاحبه. وقد كان قصاد ذلك المركز يكادون يزيدون على قصاد دار الحكومة نفسها تستشيره في الشؤون الغامضة وتعتمد على رأيه.

مقاومة الحكام له :

ورث المترجم عن سلفه السادة الأمراء علو الهمة وقوة العزيمة وعدم المبالاة بالأخطار ، فهو من سلالة السيد إبراهيم الصفوي الأردبيلي المهاجر إلى حلب. وما حديث الصفوية في الإمارة بمجهول. بهذا كان رحمه‌الله تعالى لا يهاب الحكام ولا يداريهم مع أن حكومتهم في الحقيقة استبدادية.

وهذا هو الذي أحبط أعماله في بلده وذهب بثروته. غاضب عارف باشا أحد ولاة حلب ، فأغرى بعض الناس أن يكتب إلى الآستانة شاكيا من سيئات الوالي شارحا لها ، فعلم الوالي بذلك ، فعمل مكيدة لحبس المترجم وضبط أوراقه وزوّر عليه ورقة سماها (لائحة تسليم ولاية حلب إلى دولة أجنبية) وطلب محاكمته عليها ، وحكم القانون في هذه الجريمة بالإعدام ، ولكنهم غلطوا في معاملته بالحبس وطلب الاستنطاق غلطا قانونيا ما كان ليخفى على المترجم ، فكتب إلى الآستانة كتابة مطولة يظهر فيها أن خروج حكومة الولاية عن حدود القانون هو من دلائل تحاملها عليه وتحريها ظلمه ، وطلب أن يحاكم في ولاية أخرى ، فأجيب طلبه وحوكم في بيروت ، فحكم ببراءته ، وما زال يتبع الوالي حتى عزل بعد عودته إلى حلب ، وكان هو أول من بشره بالعزل بواسطة قاضي الولاية. ثم إنه أخرجه من حلب بإهانة عظيمة لأنه أو عز إلى أصناف الفقراء الذين كانوا يسمون المترجم أباهم لنصرته إياهم ، فاجتمعوا عند داره بهيئات غريبة ، فترك أهله وخرج كالهارب وسافر إلى الآستانة ، وتبعه المترجم ليحاكمه ، ولكنه لم يكد يصل إليها حتى مات قهرا.

وكان الشيخ محمد أبو الهدى أفندي الشهير من أعدائه ، ويقال إن السبب الأول في ذلك إباء الفقيد أن يصدق على نسب الشيخ أبي الهدى هذا ، وإن الشيخ أبا الهدى صار نقيب أشراف حلب وكانت هذه النقابة من قبل في آل الكواكبي. ومن آداب الفقيد العالية أنه كان هنا يثني على صفات الشيخ أبي الهدى الحسنة كالمروءة والكرم والذكاء والثبات ،

٤٨٠