إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٧

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٦٤

توجه إلى الآستانة وصار له إقبال زائد وتوجه من سلطان ذلك العصر ، فصار رئيس البوابين بالباب العالي برتبة أمير الآخور الأول السلطاني ، ثم صار متسلما في حلب ثم محصلا فيها وذلك سنة ١٢٢٣ ، ومتسلما في عينتاب في سنة ١٢٢٤. وتوفي في سنة ١٢٢٨ في الخامس من جمادى الأولى.

وأما والده عبد القادر آغا فقد كان من كبار التجار في حلب ، ويده مبسوطة في البر والإحسان وفعل الخير ، وهو الذي جدد الحمّام الكائنة في محلة سويقة الحجارين واسمه منقوش على بابها. ومن آثاره الخيرية وقفه عدة عقارات على القسطل الكائن في المحلة المذكورة المعروف بقسطل بني ربيعة وذلك في سنة ١١٦٦ ، وهذا القسطل كان قد خرب فجدد عمارته الحاج إسماعيل ابن الحاج صالح بن عبد الله الصباغ وذلك في سنة ١١٣٢.

ومن آثار عبد القادر آغا تجديده مكتبا للأطفال فوق دكانين المحلة المذكورة تجاه الحمّام ، وعبد القادر هو شقيق السري الوجيه الحاج موسى آغا بن حسن آغا صاحب الوقف المشهور بوقف الحاج موسى وقد تقدمت ترجمته.

وأما حسين آغا المترجم فقد كان أيضا من كبار التجار ومن ذوي الغنى واليسار. ومن آثاره تجديده المسجد المعروف بمسجد بني ربيعة الكائن في المحلة المتقدمة الملاصق للقسطل ووقف له أوقافا وذلك في سنة ١١٣٢. وتولى نقابة الأشراف بحلب. وكانت وفاته في السابع والعشرين من رجب سنة ألف ومائة وسبع وثمانين رحمهم‌الله تعالى.

١١٨٣ ـ الشيخ حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي المتوفى سنة ١٢٢٩

ترجمه العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي في تاريخه «حلية البشر» فقال في حقه :

الفاضل الألمعي والكامل اللوذعي ، كعبة الأدباء ونخبة العلماء ، من اشتهر بالفضائل وشهد له السادة الأفاضل.

مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وماية وألف ، ونشأ بكنف والده ، وقرأ ونبل

١٨١

وأقبل على العلم حتى حصل. وكان له في الأدب والشعر اليد الطولى. وتولى منصب الإفتاء العام من طرف السلطان في مدينة حلب.

وكان حسن الأخلاق كريم الطباع. وكان العلامة المرادي مفتي دمشق لما كان في حلب يتردد عليه كثيرا وامتدحه بعدة قصائد ، وامتدحه المترجم كذلك ، فمن نظمه فيه :

حبذا حبذا اتفاق الزمان

بموافاة سيد العرفان

يا رعى الله يومنا حيث فيه

شرفوا حيّنا ونلنا الأماني

قادة شيدوا منار المعالي

وعلاهم يعلو على كيوان

صفوة الشام بل هم الأنجم

الزهر وأقمار ذروة الدوران

عن ثقاة لقد سمعنا علاهم

فعرفنا مصداقها بالعيان

هم مرادي وبغيتي ومرامي

ثم قصوى بشائري وأماني

منهم سيد همام بهيّ

كامل الذات غرة الأعيان

روح أنس ونزهة الدهر حقا

ذو صلاح وعابد الرحمن

خصه الله بالكمال مع اللطف

وأولاه بالعلا والشان

وكذا الفاضل الوقور علي

من علا بالتقى وحذق البيان

جوهر خالص ودر نضيد

فاق إجلاله على الأقران

إن أجاد النظام نذكر قسا

أو أفاد العلوم كالنعمان

وكذا المصطفى الشقيق المصفى

بارع الذهن حائز الإفتنان

من له في العلوم ذوق وتوق

وترق بها وصدق اللسان

وكذا الكامل الأديب سمي

حسن الذات من بني الأسطواني

لا يزالون في نعيم من العيش

مقيم على مدى الأزمان

فأجابه الشيخ خليل أفندي المرادي بقصيدة مطلعها :

حبذا حبذا بلوغ الأماني

وبشير وافى بعقد الجمان

وترجمه الشيخ عبد الله العطائي في رسالته «الهمة القدسية» المدرجة بتمامها في ترجمته الآتي ذكرها.

ومن آثاره كتاب سماه «النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح» جمع فيه نظم

١٨٢

والده وما مدح به من شعراء عصره وما مدح به أسلافه ، وعقد لكل واحد من هؤلاء الشعراء ترجمة ، وقد قدمنا ذلك في ترجمة أحمد أفندي أبي المترجم ، وقد أتينا على ما فيه من تراجم أعيان الشهباء إلا قليلا.

وذكر صديقنا الفاضل السيد مسعود أفندي الكواكبي في مجموعته التي جمع بها تراجم آل الكواكبي نقلا عن مجموع جمعه عبد الله العطائي في مدائح الشيخ علي الجيلاني الحموي قال فيه :

ولجامعه مادحا جناب سيدنا الأستاذ لما خطر مدينة حلب المحروسة سنة تسع ومائتين وألف ودعاه السيد حسن أفندي الكواكبي إلى داره المعروفة بدار عبد السلام وواصفا محاسن الدار ومثنيا على صاحبها :

رعى الله يوما قد قطفنا ثماره

بربع رحيب ما أحيلى اخضراره

يفوح كما الجنات عرفا ورونقا

فيمم بهاه في المنى وبهاره

وإيوانه السامي إلى فلك العلا

يحدث عن كسرى ويبدي افتخاره

وحوض به ذوب اللجين منضد

فلله ما أبهى وأزهى نضاره

وغرفته العليا المطل بناؤها

على الماء مثل الفلك أجرى مداره

وهاتيكم الأنوار في كل وجهة

كأن غزالا قد أعار سواره

فسقيا لها دار الفضائل أشرقت

بشمس المعالي من شهدنا وقاره

أبي الحسن الشهم الأجل الذي له

مقام من العلياء فاق اشتهاره

فتى الباز عبد القادر العلم الذي

له دانت الأقطاب تبغي مزاره

أفاض من العلم اللدنّي على ابنه

وأرحبه فضلا وأزكى نجاره

لقد شرفت شهباؤنا بقدومه

وأضحى مقر الإبتهاج وجاره

نعمنا به واليوم طابت ظلالنا

بمحتد مجد شارف النسر داره

به كوكب العلياء زاد ومشرق

يضيء من الليل الدجيّ سراره

هو الشبل من آساد مجد تسابقت

إلى المنصب العالي فشاد نصاره

أبو العز والإجلال والفضل والعلا

فلا زال مغناه بخير وجاره

فيا حسن يوم جاد فيه بأنسه

وزار ابن عبد القادر الغوث داره

وصحبته ناس كرام ذوو تقى

فلله ما أبهى الحمى حين زاره

١٨٣

أطال إلهي عمرهم وحباهمو

نوالا وأسدى للجميع انتصاره

مدى الدهر ما قال المحب بمدحهم

رعى الله يوما قد قطفنا ثماره

أقول : وهو واقف الدار العظيمة المعروفة قديما بسراي جانبولاد والآن بدار ابن عبد السلام في محلة البندرة ، وتاريخ وقفه لها سنة ١٢٠٦ كما رأيته في كتاب وقفه لها في دائرة الأوقاف ، وقد تقدم الكلام على هذه الدار في الجزء السادس (الترجمة ذات الرقم ٩٢١) وفي هذا الجزء في (ص ١١٠).

وكانت وفاته كما هو محرر على قبره في جامع جده أبي يحيى في رجب الفرد سنة ألف ومائتين وتسع وعشرين رحمه‌الله تعالى.

١١٨٤ ـ الشيخ عبد الله بن محمد العقاد المتوفى سنة ١٢٢٩

الشيخ عبد الله بن محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي ، أبو البركات جمال الدين ، العالم الفاضل والمحدث الكامل ، شيخ القراء في حلب الشهباء ، زين الثقاة جمال الرواة.

مولده يوم عيد الأضحى سنة خمس وستين وماية وألف. وقرأ القرآن وحفظه وتلاه مجودا ، وقرأ القراءات السبع من طريق الشاطبية. واشتغل بالتحصيل والأخذ والانتفاع ، وقرأ وسمع وأخذ الفنون المتنوعة عن كثير من السادة المشايخ في المدة الطويلة ، منهم والده وجل انتفاعه عليه ، وأبو السعادات طه بن مهنا الجبريني ، وأبو محمد عبد الكريم بن أحمد الشراباتي ، ومصطفى بن عبد القادر الملقي ، وأبو عبد الله محمد بن محمد الأريحاوي ، وأبو عبد الله محمد بن صالح المواهبي ، وأبو محمد عبد القادر بن عبد الكريم الديري ، والشمس محمد بن مصطفى البصيري شيخ القراء بحلب ، والمقري زين الدين عمر بن شاهين ، والتاج عبد الوهاب بن أحمد المصري ، وأبو عبد الله محمد بن محمد التافلاني ، ولطف الله بن أحمد الأرضرومي ، وعلاء الدين محمد بن محمد الطيب المغربي ، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطرابلسي مفتي الحنفية ، وأبو الحسن علي الرابقي ، وأبو داود سليمان ابن أحمد الكليسي المفتي ، وأبو بكر بن أحمد الهلالي القادري ، وأبو إسحق عبد الجواد ابن أحمد الكيالي ، وأبو الفرج عبد الرحمن بن عبد الله الحنبلي ، والشهاب أحمد بن عبد

١٨٤

الله العطار الدمشقي ، والشمس محمد حاجي بن علي المفتي (دفين المدرسة الخسروية) ، وعبد الرحمن الدمشقي بن إبراهيم المصري ، والشهاب أحمد بن إبراهيم الأربلي الكردي نزيل حلب ، وأبو عبد الله محمد الصوراني الكوراني ، وأبو العدل قاسم بن علي التونسي المغربي ، وأبو جعفر منصور بن مصطفى السرميني ، وأبو الفضل فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن العقيلي ، وأبو عبد الله طاهر الحنفي ، وأبو العباس أحمد بن أحمد المصري نزيل حلب ، والشهاب أحمد الكعّاك ، وأبو عبد الله محمد بن حجازي السختياني ، وأبو عبد الله محمد الفرضي ، والشيخ شرف الدين المقري ، وأبو عبد الله عبد الكافي بن حسين الإمام ، ومحمد بن زكريا المقري ، ومهذب الدين سعيد بن عبد الله السويدي البغدادي ، ومحمد بن يوسف المفتي ، وأبو الإخلاص حسن بن عبد الله البخشي ، وأبو الحسن محمد ابن صادق السندي نزيل مصر وغيرهم.

وسمع الكثير من كتب الأحاديث الصحيحة والمسلسلات كحديث الرحمة وغيره.

وفضله لا زال في ازدياد إلى أن اخترمته المنية بعد الألف ومايتين وخمس سنوات رحمه‌الله رحمة واسعة. ا ه. (حلية البشر).

أقول : كانت وفاته سنة ألف ومايتين وتسع وعشرين في الطاعون ودفن في تربة الشعلة.

١١٨٥ ـ الشيخ طه بن محمد العقاد المتوفى سنة ١٢٢٩

الشيخ طه بن محمد بن طه بن أحمد العقاد الحلبي الشافعي ، مفتي الشافعية بحلب ، العالم الفاضل ، والهمام الجهبذ الكامل ، والتقي الصالح ، والنقي الراجح.

مولده سنة تسع وخمسين ومائة وألف ، واشتغل بالأخذ والتحصيل في كنف والده وانتفع به وقرأ عليه الكثير من الكتب والفنون ، ولازم الشيوخ وسمع عليهم أكثر من التلقي ، وله عدة مشايخ سادة أفاضل ، منهم أبو سليمان صالح بن إبراهيم الجنيني الدمشقي ، وأبو يحيى علاء الدين بن علي بن صادق الداغستاني.

ولم يزل يترقى في الأخذ في العلوم والمعارف إلى أن خطفته المنية بعد الألف والمائتين وخمسة (١). ا ه. (حلية البشر).

__________________

(١) يلاحظ أن المؤلف جعل سنة وفاته ١٢٢٩.

١٨٥

أقول : كانت وفاته بالطاعون سنة ألف ومايتين وتسع وعشرين ودفن في تربة الشعلة بجانب أخيه وأبيه.

١١٨٦ ـ أحمد بن طه الأشرفي المتوفى سنة ١٢٢٩

أحمد بن طه الأشرفي ، الحافظ الخطيب وكالة والواعظ أصالة بالجامع الكبير الأموي.

قرأ على إسماعيل المواهبي وعلى الشريف مصطفى الكوراني وعلى قاسم المغربي وغيرهم ، وحصل طرفا من العلم.

وكان سليم الصدر سخي الكف محبا للضيوف. كان له تردد على الجابريين ، وكان كتبيا وجمع من الكتب نوابغها بسبب ذلك. وكان رحمه‌الله غير متصنع متحملا متجملا ، وكان بيننا وبينه مودة أكيدة ، وكان يحملني على شراء الكتب شئت أو أبيت ، وله عليّ في ذلك اليد البيضاء جزاه الله خيرا.

وجرى على يديه مثوبة عظيمة لما أراد الله به من الخير ، وذلك أنه كان بجوار خان قباد مسجد قديم استولى عليه سكان الخان المذكور بطول الزمان من الإفرنج وجعلوه معدا لطرح قماماتهم من شبابيك الخان العلوية ، فتلطف إلى أن أظهر هذا المسجد للناس وفتحه ورممه ، واستعان بأهل الخير ونصره الله تعالى على من مانعه في ذلك ، ولما أعياهم أمره أرسلوا إليه خفية رشوة على أن يترك لهم هذا المكان على حاله ، فعصمه الله من قبول رشوتهم ولم يعبأ بذلك إلى أن تم فتحه على يده ، ولم يزل إلى الآن هذا المسجد تقام فيه الصلوات ويرجى له كل خير بهذه المثوبة.

ثم إنه في طاعون سنة ١٢٢٩ توفي مطعونا ودفن في مقبرة باب الفرج المسماة بالعبّارة رحمه‌الله تعالى. ا ه. (من مجموعة أبي الوفا).

١١٨٧ ـ الشيخ هاشم الكلّاسي المتوفى سنة ١٢٢٩

الشيخ هاشم الكلّاسي ، العالم الفاضل الأديب. ترجمه عبد الله العطائي الصحاف في رسالته «الهمة القدسية» التي أدرجناها بتمامها في ترجمته.

توفي في عينتاب سنة ١٢٢٩.

١٨٦

١١٨٨ ـ الشيخ محمد الصوراني المتوفى سنة ١٢٣١

الشيخ محمد الصوراني الكردي. لم أقف له على ترجمة ، غير أن الشيخ أبا الوفا الرفاعي ذكره في جملة من أراد ترجمتهم من أعيان الشهباء ووصفه في منظومته في سكان حلب بالعارف المحقق الرباني.

وقد كانت وفاته في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة ١٢٣١ كما هو منقوش على لوح قبره في تربة السنابلة ظاهر باب أنطاكية على طرفها ، وكتب عليه أنه كان قادري الطريقة ، وإلى جانبه قبر ولديه الشيخ محمد درويش المتوفى سنة ١٢٢٩ والشيخ عبد الله المتوفى سنة ١٢٣٠ ، فتكون وفاتهما قبل وفاة أبيهما ، وقد كتب على قبريهما أنهما ابنا عمدة العلماء العاملين وتاج المحدثين الشيخ محمد الصوراني. ويغلب على ظني أنه كان مدرس المدرسة الأحمدية في حلب.

١١٨٩ ـ محمد أفندي العيّاشي الإدلبي المتوفى سنة ١٢٣١

محمد أفندي بن حسن بن أحمد الأدلبي الشهير بالعيّاشي ، المتصل نسبهم بالولي الشهير الشيخ جميل العراقي قدس الله سره.

كان رحمه‌الله سخيا جوادا ، انتهت إليه الرياسة في بلدته واشتهر كرمه في الآفاق ، واكب على مدحه الشعراء وقصد بره النبلاء. وكان ذا سعة من المال.

وممن مدحه الشيخ مصطفى الكردي الحلبي بقصيدة طويلة مطلعها :

أذكرتني عهد أنس أيها الواشي

بحب ظبي على وصل الجفا ناشي

ودأبه كسر قلبي مع طلاوته

بكسر جفنيه لم يركن لحراش

أهابه إذا أرى سلطان بهجته

كضيغم فارس الفرسان رعاش

على الجبين حياء إذ حوى خجلا

فما أحيلاه إذ وافى بتدهاش

إلى أن قال في التخلص :

وقم بذا نلتقي يوما لذي كرم

ذاك الحميد الثنا السامي ابن عياش

وانهض لنحو سجايا عنده حسنت

وجز رحيب حماه خاضعا خاشي

١٨٧

فإنه المنهل المنهلّ في نشب

من طاب في نسب منه الجدا فاشي

ومنها :

بشراك يا إدلب الفيحا به سندا

كم كفّ عنك بكفّ شر أوباش

كما الفساد أقاموا مع أساتذهم

لأهل عرض بتبكيت وتغواش

حتى العدا وصلوا للاعتدا وصلوا

على الأعالي بإعنات وإخداش

فأظهر الله من أبدى به مددا

لما مضت مدد فيهم بتر عاش

فكا لمجدد وافى بالصلاح وبال

رحمن لهم والتقى في حسن تنعاش (١)

لذا غدت مثل جنات تلوذ به

حصنا حصينا بتدبير لتجياش

سديد حزم بآراء بها ثقة

شديد عزم بتجهيز لأجياش

سجية خصه الله الكريم بها

جبلة الطير مبناها لأعشاش

أعني أبا الحسن العالي الجناب ومن

بالحلم شاع ولم يعرف ببطاش

الطاهر الذيل والزاكي الطباع ترى

أوفى عزيز العطايا عنده لا شي

على الشهامة والإكرام منجبل

ثبت الفؤاد رسوخ لا بغواش

ما أم مثواه ذو ضنك وذو خجل

إلا استقام بأمن بعد إرعاش

ما جاءه قاصدا من ضاق في خجل

إلا وخاطبه دع مقول الواشي

وادخل حمى عامرا فيه الجدود نمت

لهم أياد من الأيدي بإدهاش

تراه مستحضرا مهما الضيوف غدت

صبحا رواحا وليلا أو بأغباش

لا يعتريه انزعاج من تراكمهم

ولا يعكر منه قدر منكاش

قدوره راسيات قد وهت حد ما

في الشكل أجسامهم في لون أحباش (١)

تشكو الرماد الأثافي حيث غمرهم

والله عمرهم بالسيد الماشي

وهي طويلة جدا اقتصرنا منها على هذا المقدار.

وكان توجه في قضية له إلى الشام ، ولما وصل حماة وحل ضيفا عند السادة الكيلانية امتدحه الشيخ عثمان الحموي المشهور بقصيدة قال في مطلعها :

أهلا وسهلا بمن تحلو به الشيم

ومرحبا بالذي ساحاته حرم

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(١) هكذا في الأصل.

١٨٨

بحر النوال مجير الخائفين ومن

تلاهجت بثناه العرب والعجم

محمد خلفة العيّاش من شهدت

له الكمالات والعرفان والحكم

لا شك سرت حماة الشام وامتلأت

عند القدوم سرورا وانتفى الألم

تزهو المجالس في إشراق طلعته

كأنه مفرد في وصفه علم

ترتد عنه العدا بالذل خاسرة

يثنيهم عن علاه المجد والكرم

كأن إدلبهم كالجسم وهو لها

روح وإن غاب عنها عمها الظلم

إلى أن يقول :

فلم يزل في سعادات مؤبدة

دهرا على بابه الوراد تزدحم

وكانت ولادته سنة ١١٧٠ ووفاته سنة ألف ومايتين وإحدى وثلاثين. ا ه.

١١٩٠ ـ الشيخ إسماعيل بن عبد الجواد الكيّالي المتوفى سنة ١٢٣٢

إسماعيل بن عبد الجواد بن أحمد الكيّالي الرفاعي. قال الشيخ أبو الوفا في ترجمته :

هو الولي ابن الولي والسري ابن السري ، سادات أشراف ذوو أحوال وكرامات. كان إسماعيل هذا قرة عين والده ، أخذ العلم عن الشيخ محمد العقاد ومحمد الصوراني (١). ونبغ واستفاد وأفاد ، وأذعن له بالفضل والتقدم علماء عصره واحترمه أشياخه.

ولم يزل على ذلك إلى أن عرض له عارض الجذب والهيام ، واختطف بيد العناية إلى مقامات الاصطلام وألبس إهاب الهيبة فلا يكاد يطاق رهبة ووقارا ترك الاعتناء بالملابس وقنع بزريها ، وكان قبل ذلك يلبس ملابس الأكابر يواجه الوزراء والأمراء والأعيان والصدور بالسب والزجر وكلام الازدراء ، ولا يقدر أحد منهم أن يرد عليه جوابا أو

__________________

(١) وترجمه الشيخ عبد الرزاق البيطار في تاريخه «حلية البشر» وذكر أنه أخذ أيضا عن الشيخ قاسم بن علي المغربي ومحمد بن محمد الأريحاوي ، وأنه حصل ونبل في مدة يسيرة على الكثير من العلماء حتى شهد له بالتقدم شيوخه. وكان والده يثني عليه ويحبه ويقدمه على إخوته وأخذ عنه وأجازه بمروياته ، وبعد وفاته درس وشرع في الإفادة والتسليك وقام مقامه ، وحصل له جذبة في سنة ألف ومايتين فخلع ثيابه وصار يدور في الأسواق على هذه الحالة وشوهدت له كرامات كلية وخوارق وأحوال وإخبارات غيبية ، وكانت الناس تحترمه وتهابه وتخشى من بطشه ويرجون دعواته وينظرون إليه بعين المهابة والتعظيم ويذكرون الله عند رؤيته كما هو علامة أهل الله. وقال : إن ولادته كانت سنة اثنتين وسبعين وماية وألف.

١٨٩

يظهر التبرم والضجر من مقاله ، وإذا وجد في مجالسهم كأنّ على رؤوسهم الطير هيبة منه. وكان صادق الكشف خارق الحال ، يميل إلى الأصوات الحسان وينبسط إلى الغناء والألحان ، وتارة يشارك المغنين والندمان ، ويظهر التواجد والطرب ، ويميل إلى القهوة والتتن الفاخر وكل شيء مقبول لدى أهل الأذواق ، وكان آية من آيات الله.

وجرى لي معه ماجريات وكشوفات ، منها أنه حكم في بلدتنا الشهباء قاض شهرته بربر زاده ، يعني ابن الحلاق ، وذلك بتاريخ سنة ١٢٢٦ ، فاقتضى وقع بيننا نفسانية أدت إلى أن فأجأته بما لا ينبغي حتى خاف عليّ من سطوته بعض أحبابنا. ثم في ذلك الغضون توجهت لزيارة الأستاذ المشار إليه ولنتبرك بأنفاسه ، فصادف ذلك اليوم أن كان تجليه جمالا ، وكان نهار الأحد ، وطال المجلس إلى وقت العصر وميعاد التوحيد عندنا في الزاوية بعد العصر ، فصرت أحاول الإذن لي في الذهاب فلم يأذن إلى أن كادت الشمس تغرب ، فإذا به قام من المجلس وقال لي : تفضلوا سيدي ، وخرج من الزاوية ، فتبعته ولم أقدر أن أسأله إلى أين ، فتوجه إلى المحكمة لعند القاضي المزبور ، فأردت أن أفارقه على باب المحكمة ، فالتفت إليّ وقال : تفضلوا سيدي ، فدخلت معه امتثالا لأمره ، فدخل على القاضي فاستقبله وقبل يده ، وقبل أن يجلس وأجلس خاطب القاضي بقوله : سيدي

نسب أقرب في شرع الهوى

بيننا من نسب من أبوي

وإلا ينعلوا أبو دقنك ، ثم دخل وتعشى عند القاضي وعشاني معه ، ثم خرجنا فقال :

اذهب إلى سكانك ، وهذا البيت لسيدي عمر بن الفارض قدس‌سره من اليائية ، فإنه أشار إلى القاضي أن نسبتي ونسبة هذا أقرب من النسبة الأبوية ، فتأدب وإلا تخسر. فما مضى مدة من الزمن إلا وقد صار القاضي مدينا منكوبا ، وذهب إلى الشام ثم إلى مصر وعاد إلى الآستانة أعمى كأنه أصابه الأستاذ بسهم وفعل كما قال من أنهم ينعلو أبو ذقنه إشارة إلى اضمحلال الحال.

ومنها أنه لما كان إبراهيم باشا قطر آغاسي مرفوع الوزارة متقاعدا في تكية الشيخ أبي بكر الوفائي قدست أسراره صار يتوجه الأستاذ إلى زيارته ويذكر في كلامه ما يشير إلى رجوع الوزارة إليه ، ويلبسه الأكراك والخلع ، فما مضى مدة إلا وعادت إليه الوزارة وطلب لملاقاة يوسف ضيا باشا الصدر الأعظم إلى أنطاكية ، فخرج من حلب ولقيه في أنطاكية

١٩٠

وخلع عليه خلع الوزارة وتوجه معه إلى سفر مصر واستنقاذها من الفرنساوية ، فعين إبراهيم باشا إلى دمياط ويسر الله له فتحها ، وكانت أول بلدة استحوذ عليها المسلمون من إقليم مصر وأخذوها من الإفرنج وتتابعت الفتوحات والحمد لله تعالى.

ومنها أنه كان ملازما للشيخ إسماعيل المواهبي في خلوته الأربعينية غالبا ، وكان يجري معه أشياء لا يقدر أحد على إجرائها من المعاصرين كأنه متحكم فيه وفي مجالسه ، فتغالى ليلة من الليالي في ذلك وسطا على بعض إخوان المواهبي بهذيان اللسان ، والمواهبي متحمل لذلك كله على مضض ، فهم بعض إخوان الشيخ المتعصبين بإهانة الأستاذ في صورة لا يعود بعدها إلى حضور الخلوة ، فخرج ليلا من الزاوية الصالحية واختفى في مكان ، حتى إذا مر به الأستاذ أوقع به إما ضربا أو تخويفا ، واستصحب معه عصاة إذا احتاجها ، فلما مر به الأستاذ وهم بما في ضميره أخذته رعدة وخشية وتراخت أعضاؤه ، وبقي على ذلك حتى مر الأستاذ وغاب فانطلق وعاد إليه حاله وتاب من ذلك.

وكان أشياخه الدين قرأ عليهم وانتفع منهم كالشيخ العقاد والصوراني يعظمونه ويهابونه ويعترفون له بالفضل والتفرد ، وأنه لو بقي على حاله الأول ولم يحصل له هذا الجذب كان فاق العلماء الأول تحقيقا وتدقيقا. وكان في حال صحوه لم يقع في يده كتاب من كتب العلماء إلا ويشاكل فيه المؤلف إن كان متنا أو شرحا ، على الخصوص كتب القوم ، وقد شاهدنا ما كتبه على ذلك والحق معه في كل ما يستشكله ويناقش به رحمه‌الله تعالى.

(وقال الشيخ أبو الوفا الرفاعي في مجموعة له أخرى) :

إن السيد عبد الجواد الكيالي أعقب أولادا نجباء ، منهم السيد الشيخ علي (المتوفى سنة ١٢٠٧ وقد قدمنا ترجمته) والسيد إسحق وأخ جليل محترم برع في العلوم وطرأ عليه الجذب الإلهي اسمه إسماعيل. وكان الأستاذ عبد الجواد والدهم قدس‌سره يتحدث بنعمة الله ويقول (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)(١). ولما توفي الشيخ علي إلى رحمة الله وكان الجذب تزايد على أخيه الشيخ إسماعيل وألف الوحدة فأخرج حرم أخيه المتوفى ومن يلوذ به على صورة العنف والإهانة من الدار ، فبلغ الخبر أخاه الشيخ إسحق فغضب لذلك ودار بينهما أمر المشاجرة ، فقال إسحق لإسماعيل : الموعد بيني وبينك ستون

__________________

(١) إبراهيم : ٣٩.

١٩١

يوما ، إما أن تقتلني يعني بالقلب أو أقتلك ، وخرج من الزاوية ، فما مضى إلا ستون يوما حتى انتقل إسحق ، وبقي الشيخ في الزاوية وحده وظهر قدس‌سره بمظهر عجيب.

وكان مهابا موقرا يشافه الوزراء والأمراء والحكام والقضاة بالمكروه فلا يقدر أحد منهم على الجواب ويتحاشون من قلبه ويخافون. وكان تارة يتكلم بكلام لا يفهم وتارة يشير إلى أمر مبهم يفهمه من يفهم ، له كشف صريح ، وسر يسري بمريض القلب والصحيح. وقع لي غير مرة قدست أسراره منه ملاحظات ظاهرة وباطنة ، وكان يحبني ولا يتخلى عني.

وكان بعد الثلاثين والمائتين خرج إلى إدلب ، ثم منها إلى الساحل ، ثم إلى الشام ومعه من أقاربه وأتباعه جماعة ، ثم عاد إلى إدلب ، فاشتد شوق أهل حلب إليه خصوصا الوجوه المشاهدين بركاته ، فتعاطوا أسباب تشريفه وأرسلوا له مرسالا خفية ليحسن له القدوم إلى حلب أو إلى أقاربه ، وكان في سرمين فأبى إلا التوجه إلى إدلب ، وقام في الحال وتوجه إليها ، فوصلها فما استقام إلا حصة يسيرة حتى تغيرت أحواله وانزوى في جهة البيت وقال لمن حضر : أصابتني رجة سماوية ، وطلب النزول إلى حلب حالا ، فحاوله الأقارب وحسنوا له الإقامة في إدلب لينظروا في حاله فلم يمكن ، وقال : اخترت أولا مقابر إدلب فلم يحصل الإذن إلا في مقابر حلب ، فأركبوه في الحال وهم معه ، فلما وصل إلى قرية بنّش بال الدم مرات وعجز عن الركوب ، وصار ينزل عن ظهر الدابة ويضطجع في الأرض ، فعل ذلك مرات إلى أن وصل إلى خانطومان فحصل له إفاقة ووصل إلى حلب كأنه نشط من عقال ، وأقام في الزاوية معه أقاربه مقدار يومين ، ثم في اليوم الثالث دخل الحمّام فخرج منها وقد عادت عليه الحال كما كانت أولا ، وصار يبصق الدم ، وكل يوم في ازدياد إلى أن أدركه الموت ووقع أجره على الله ليلا في أوائل شوال سنة ١٢٣٢ ألف ومائتين واثنتين وثلاثين ولم يصل إلى عشر الستين في السن.

وكان لهذا الأستاذ إسماعيل ولد اسمه علي ، وكان لا يألفه ولا يؤويه ، ولكن لا عن بغض لكون هذه الطائفة المباركة عادتهم إيواء البعداء وطرد القرباء لحكمة إلهية. ثم إن الشيخ إسماعيل طرد ابنه عليا هذا بالقلب بعد أن تزوج وولد له ، فأقام في سرمين عند شقيقته وبني عمه إلى أن توفي وجاء خبر موته إلى حلب سنة ... (١) وكنا ذلك اليوم

__________________

(١) لم يذكر سنة وفاته ، وقدسي أفندي توفي سنة ١٢٢٢ فتكون وفاته حول ذلك ولعلها سنة ١٢٢١ ، وما ذكر في كتاب «بهجة الحضرتين» سنة ١٢٧١ غلط أو سهو من الطبع.

١٩٢

مدعوين في بيت عبد الرحمن الحريري ، وكان محمد باشا أبو مرق وقدسي أفندي والجابريون وابن السياف والأوجاقلية جمعية حافلة ، وكان الأستاذ مدعوا أيضا ، ولم يجسر أحد من الموجودين على إخبار الأستاذ بموت ولده ، فما كان إلا بعد حصة تغيرت أطواره وانعزل عن الجماعة إلى قبة الإيوان وجلس منفردا ، فقمت ودخلت القبة فرأيت أثر الحزن ظاهرا عليه ، لكنه لم يتكلم بشيء ، فدعاني وألبسني طاقيته وبش في وجهي ، فاستأذنته في إحضار جبق ليشرب ، فأذن فأمرت من أتى به فشرب التوتن ، ثم وانسته ووانسني وتقوض المجلس بعد الطعام وتفرقنا.

وكان رحمه‌الله يميل إلى الفقير جدا ، ومن جملة ميله لي أن ولده الشيخ علي المومى إليه استأذنه في طلب مشيخة الزاوية الصالحية بواسطة بعض المتقربين إليه بعد وفاة الشيخ أحمد المواهبي فلم يأذن ، فقال له المستأذن : يا سيدي ، إذا أذنتم له يحصل الخير ويجمع الناس على الذكر والتوحيد ، فكان الجواب : إذا أراد الذكر والتوحيد فليذهب إلى زوايا الشيخ أبي الوفا.

وخلف بعده ولدين كانا في الصحو وطلب العلم ومعاشرة الناس ، ثم طرأ على الكبير منهم واسمه محمد الجذب والخمول والذبول والحال أنه من سلاطين الناس ، فحبب إليه الانزواء ، ولم يزل يتزايد حاله ويحسن الاعتقاد فيه. ثم تبعه أخوه عبد القادر وتقشف واخشوشن تارة وتنعم أخرى إلى أن اختار خشونة العيش والقلوب مطبقة على ولايتهما وأهليتهما وأنهما سلالة قوم أجلاء أولياء. وابتلي محمد بحملات الطريق وصار يضعف عن تحملها ، إلى أن طال مرضه بالاستسقاء وأزمن وانتقل إلى رحمة الله تعالى في ذي الحجة سنة ١٢٥٥.

١١٩١ ـ الشيخ عبد الله العطائي الصحّاف المتوفى سنة ١٢٣٣

الشيخ عبد الله بن الشيخ عطاء الله ابن الحاج عبد الله المشهور نسبه ببني الخوجة (١).

رأيت ترجمته في ورقة بخطه قال فيها :

__________________

(١) في «حلية البشر» : الشيخ عبد الله أبو الكمال بن عطا الله بن عبد الله بن بركات الحلبي الشافعي الكتبي.

١٩٣

هذا وقد جرت عادة العلماء قدس الله أرواحهم الطاهرة أن يذكروا عند ختم الدروس مشايخهم في الدراية والرواية ، ومن انتمى إليه في سلوك سبل الهداية ، وإن هذا العبد الفقير ليس من فرسان هذا الميدان ، ولا يذكر في حلبة سباق ولا رهان :

ولكن البلاد إذا اضمحلت

وأقفر نبتها رعي الهشيم

والقصد الأعلى من ذلك التبرك بأنفاسهم الزكية ، والاستئناس بمراتبهم العلية ، وعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ، وتستمطر غيوث النعمة ، والتشبه بالكرام فلاح ، ومحبة الصالحين صلاح ، فأقول وبالله التوفيق.

من مشايخي الكرام بل أعزهم عندي وأجلهم إليّ بوأه الله دار السلام والدي الهمام البارع أبو الفضل الشيخ عطاء الله بن الحاج عبد الله المشهور نسبه ببني الخوجة ، قرأت عليه المقدمات في النحو والعروض ، وأخذت عنه الفقه وغذاني بجميل المعارف ، وأسبغ عليّ ظلال العوارف ، وانتفعت به علما ودينا وأكثر اشتغالي عليه ، فرحم الله ثراه ، وبلغه من وجه الكريم أقصى مناه.

ومنهم علامة العصر وخاتمة فضلاء الدهر أبو اليمن محمد المعروف بالعقاد ، كان رحمه‌الله شيخ والدي ، وكان يحضرني عنده الدروس الحديثية والتفسير ، وسمعت من فوائده وانتفعت بعوائده ، فعليه رحمة الرحمن في كل عهد وآن.

ومنهم عمدة العلماء وقدوة الأصفياء أبو البركات عثمان بن عبد الرحمن العقيلي ، حضرت دروسه في الجامع الصغير ، وقرأت عليه حصة يسيرة في العربية ، وشملتني بركاته ونفحاته.

ومنهم قدوة الأفاضل الشيخ قاسم المغربي التونسي المالكي ، قرأت عليه كثيرا وحضرت عنده في المغني لابن هشام في شرح الألفية للبدر ابن مالك وفي الشافية لابن الحاجب وفي غير ذلك ، وانتفعت بتحقيقاته وشمول بركاته.

ومنهم فقيه العصر عبد القادر الديري الشافعي ، بل شافعي زمانه ورافعي أوانه ، حضرت عنده في شرح المنهج لشيخ الإسلام وفي المنهاج للقطب النووي وفي غير ذلك من فقه الإمام الشافعي ، وتيمنت بفضائله وانتقيت محاسن شمائله.

١٩٤

ومنهم الجهبذ الأوحد أبو عبد الله محمد التاسوماتي ، قرأت عليه جملة وافرة من توضيح ابن هشام والسلم المنورق للأخضري ، واقتبست من أشعة أنواره ومحاسن آثاره.

ومنهم جامع المعارف والتحقيق أبو زكريا يحيى المسالخي ، حضرت عنده في المنهاج ، وقرأت عليه جملة من شرح الغاية للخطيب الشربيني ، واغترفت من بحار علومه واقتديت بدراري فهومه.

ومنهم أوحد الفضائل السيد مصطفى أفندي الكوراني ، قرأت عليه التلخيص في المعاني والبيان وجل المغني لابن هشام وحضرت عنده في ملتقى الأبحر وغيره ، وشملتني لطائفه ومواهبه.

ومنهم بحر التحقيق السيد محمد أفندي الأسبيري المفتي ، حضرت عنده في الأشباه ، وقرأت عليه الأثيرية وغيرها وانتفعت به.

ومنهم بارع الفضائل أبو السعد عمر بن عبد الله الخفاف ، صحبته كثيرا ، وقرأت عليه جملة من الأشموني وحصة من المختصر وتهذيب المنطق والملوي على السمرقندية وغير ذلك ، وأخذت عنه علم الأدب والشعر ، فرحم الله ثراه.

ومنهم القدوة الكامل أبو عبد الله محمد الغرابيلي ، قرأت عليه النزهة ورقايق الحقايق واللمعة ، وانتفعت به في علم الميقات وغيره.

ومنهم مسند العصر أبو المواهب إسماعيل بن محمد المواهبي ، قرأت عليه جملة من التنوير وشرحه للعلائي ، وسمعت عليه صحيح الإمام البخاري بطرفيه إلا يسيرا ، وأجازني إجازة عامة بما تجوز له روايته وخاصة بالبخاري وكتب لي الإجازة غير مرة ، وشملني ببركته ونظره الشريف.

ومنهم نخبة الأعلام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الميقاتي الشامي المحتد الحنبلي ، قرأت عليه في علم الميقات وانتفعت به. ا ه.

ومن نظمه كما وجدته في بعض المجاميع الحلبية والبيت الأخير لمنلا جامي :

مليح ذيول البها ساحب

كأن العرين له صاحب

حوى في المحاسن سلطانها

لذاك نفوس الورى سالب

١٩٥

فما قده غير غصن النقا

ظليل الفؤاد له جانب

يكاد من اللطف أن ينثني

وقلبي عليه هو الواجب

فلا تعتبوني على حبه

فإن الهوى سهمه صائب

ومن كان مثلي قتيل العيون

فليس على مثله حاجب

تهتكت في شادن ألثغ

أنا في ذوائبه ذائب

وما خده غير خضر الجنان

وماء محاسنها ساكب

(ولو لم يكن ثغره جوهرا

لما دار من حوله الشارب)

ومن نظمه كما وجدته بهذا المجموع :

عارض الخد عذار دائر

دوران الليل في ضوء الشفق

وغدا يسري بداجي شعره

فوق خال مسكه ثم عبق

قائلا للخد هذا خادمي

وأنا مالكه راق ورق

حجتي في رقه بينة

ودليلي أن من لوني سرق

فانتضى الطرف له سيف القضا

حين شام الخد بالملك سبق

أيد العارض فيما يدعي

ثم نادى بالذي أبدى القلق

أيها النعمان في مذهبكم

من ترى أولى إذا الحكم افترق

قال إني حاكم في شأنه

حجة الخارج بالملك أحق

وترجمه الأستاذ الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي في تاريخه «حلية البشر» ووصفه بالشاعر الأديب والبارع الأريب ، وبعد أن ذكر مشايخه الذين قدمنا ذكرهم قال :

وأقبل على نظم الشعر فنظم ونثر ، وكان من الأدباء البارعين. ولما سافر العالم المؤرخ الفاضل محمد خليل أفندي المرادي إلى حلب سنة خمس ومايتين وألف اجتمع المترجم به فأخذ عنه واستجازه ، ونظم هذه القصيدة يمدحه ويهنيه بعيد الفطر :

أبدت لنا الورقاء من ألحانها

سجعا ينوب عن السلاف وحانها

تثني على أيامك الغر التي

هي عندنا الأعياد في أعيانها

فترنحت تلك الغصون صبابة

وسرت حميا الأنس في عيدانها

وتأرجت أزهارها وتبلجت

أنوارها وافتر ثغر أوانها

١٩٦

فالنشر ند والمحاسن غادة

وطفا الحباب على عقود جمانها

طارحتها شكوى الغرام وحالتي

وهوى أقام على حمى أوطانها

أخبار حب قد روتها أدمعي

وتسلسلت في الخد عن نعمانها

كادت بلطف حديثنا وسماعه

أن ترسل العبرات من أجفانها

حتى درت ما ذا أكابد في الهوى

وتعرفت صدق الهوى بعيانها

ذكرت لتجديد العهود مواعدا

يجب الوفاء بها على ندمانها

واستقبلت عود الأماني باللقا

لقدوم عيد الفطر من إبانها

فيه يهنى واحد المجد الذي

ثنى ذكاء في سمو مكانها

المشتري رتب الكمال من العلا

والواهب الجوزاء من كيوانها

المنتقى من أكرمين أعاظم

نالوا الثوابت من لدى دورانها

شم العرانين الفخام إلى السها

من غيرها يزهو على أخدانها

فهم الصدور مهابة وجلالة

وهم البدور طوالعا في آنها

والجود ألقى في ذراهم رحله

إذ كذبوا الأنواء في هتانها

والعلم والتقوى شعار مقامهم

وسنا المحامد مخبر عن شانها

ما ثم إلا وارد أو صادر

شكر السحائب في ندى إحسانها

فاذكر مرادك عندهم تلق المنى

وتساعد الأقدار في جريانها

وهي طويلة وحسبنا منها هذا المقدار. وكتب يمدحه أيضا :

بحقكما هبا فقد سطع الفجر

وأذّن داعيه ألا وجب الأمر

وفي الطير والأفنان شاد ومائس

غناء ولا هجر ووصل ولا هجر

ومن نشرها ريح الصبا عطر الربا

إذا ضمها من نحو كاظمة النشر

ودارت حميانا على البر والتقى

حميا عفاف ما على ربها حجر

سلافة قوم لم يذوقوا مدامة

ولا خامروا خمرا ولا نالها وزر

نعم سمعوا يوما أحاديث ماجد

هي الدر قد وافى بتنظيمها الثغر

هو البحر يرجى للعواطل دره

كما أنه يحوي مناهله القطر

ثمال عفاة في المآتم والأسى

وحين صروف الدهر حان لها الغدر

بقية أسلاف كرام تقدموا

ومن سنن الآداب أن يختم الصدر

١٩٧

إمام المعالي يقتدي أهلها به

وقطب العوالي رقه الشمس والبدر

بجدّ وجدّ ساد أمة جيله

وشاد ذرى ما فوق ذروته قدر

ومنها :

فيا من به يستطلع البدر سعده

وفاقا لعلياه كما اتضح الأمر

لأنت مراد الفضل وابن مراده

وعامر ركن المجد طال لك العمر

بقيت مدى الأيام إربا لأهلها

يسود بها الراجي ويتضح الغمر

ويثني عليك الحظ أبيض ناصعا

وتخرس أعداء الأبالسة الحمر

وعيشك والأيام والدهر والمنى

رضي وأعياد وطوعك والأمر

وكتب إليه أيضا يمدحه :

يا در در الجمال ما صنعا

أسيره دون نيله قنعا

أعز قوما بعز منصبه

وكلنا هيبة له خضعا

فمن مجيري من أسر غانية

غيداء في القلب طيفها رتعا

رخيمة رخصة المعاطف وال

بنان تشكو من حيلها الجزعا

أهدى إلي السقام ناظرها

قاسيت سهدا لكنه هجعا

عسالة القد والمباسم وال

تحديث تشفي الطعان والوجعا

فالغصن في الروض فرع قامتها

والبدر في أفق وجهها طلعا

كأنه ازدان من محاسن من

حاز التقى والكمال والورعا

بقية السادة الأولى جمعوا

مناقب العلم والصلاح معا

وهي طويلة أيضا. وكتب له يمدحه أيضا :

ولهي بكم في غدوتي ورواحي

وله العليل إلى شذا الأرواح

وترنمي في مدحكم بين الملا

روحي وندماني وملء الراح

وصدى يراعي إذ يراعي ذكركم

عودي الرخيم ورنة الأقداح

وطروسي اللاتي حوين سناءكم

صفحات غراء الجبين رداح

ومدادها نقش البنان من الدمى

والنقط خيلان البياض الماحي

أبني الأيادي الهاشمية والأك

ف الحاتمية والندى المياح

١٩٨

الصاعدين إلى الكمال بلا انتها

والمحرزين المجد دون براح

من منكم قطب الوجود مرادنا

روح المكارم بلبل الأفراح

وحفيده علامة العصر الذي

هو جوهر من فالق الإصباح

السائر الأخبار في آفاقه

ذكر يضوع بنشره الفواح

من ليس يرغب عن مدائحه شج

متهيم وأطاع فيه اللاحي

ويك اتئد يا عاذلي أنا مغرم

في وصفه أصبو إلى التمداح

سكنت محبته القلوب بأسرها

خلقا بدون تعرض الأشباح

سر أبان إلى النهى مرموزه

أن الوفاق بعالم الأرواح

أخلصت تهنيتي له بالصوم في

هذا الربيع الوارق الأدواح

لرجاء نيل القرب من ساحاته

ثم التملي بالسنا الوضاح

ظل ظليل في المهامه وارف

خل خليل بحر كل سماح

لا زال يبقى كل عام رافلا

متوشحا بالمجد كل وشاح

ما أهديت لجنابه تحف الثنا

من مخلص ثمل المودة صاح

أو ما يقول أبو الكمال مصدرا

ولهي بكم في غدوتي ورواحي

وله مخمسا أبيات الصفي الحلي :

سايرتنا إلى الليوث الحوامي

مرهفات إلى الدماء ظوامي

ما الأعادي إذا عدوا ما الروامي

إن أسيافنا القصار الدوامي

صيرت ملكنا طويل الدوام

قد وعينا التلويح من كل مور

وقد حنا من الزناد الموري

لم يشب حزمنا ارتشاف خمور

نحن قوم لنا سداد أمور

واقتحام الأخطار من وقت حام

من يفد حيّنا يعد بسلام

ليس يخشى من سطوة وملام

ولنا القرن طائع كغلام

واصطلام الأعداء من وسط لام

واقتسام الأموال من وقت سام

ا ه.

وفي رحلتي إلى دمشق سنة ١٣٤٠ أطلعني العالم الفاضل والكاتب البارع صديقي

١٩٩

الشيخ عبد القادر المغربي الطرابلسي (نزيل دمشق) على مجموعة عنده لعلي أفندي الكيلاني الحموي من أعيان حماة في القرن الثالث عشر ، فتصفحتها فرأيت فيها ما نصه :

هذه الأبيات تشطيرا وتخميسا إلى السيد عبد الله الحلبي العطائي لما كنا بحلب سنة ١٢٠٩ :

تسامت إلى أعلى المنازل رتبتي

بمنصب ساداتي وصحة نسبتي

غدت نشآت الحق نسكي وقربتي

ولما صفا وقتي بقرب أحبتي

تبلج صبحي واستنارت كواكبه

هلموا إلى هذا المقام ولطفه

إذا عبقت في الشرق أنفاس عرفه

فإني لمشتاق إلى طيب وصفه

ومذ نظر الجيلي نحوي بطرفه

علمت بأني نلت ما أنا طالبه

فيا شرفي شارفت في القوم حضرة

محاسنها أسنى من الشرق غرة

بها الباز أولاني ندى ومسرة (١)

وقرت به عيني ونلت مسرة

فأعظم به مولى تعالت مناقبه

أنا اللائذ الحمي في ظل بابه

أصوغ اللآلي في معالي جنابه

وكم نلت من إقباله واقترابه

ملالي كاسي من لذيذ شرابه

وشاهدت وردا قد صفت لي مشاربه

وترجمه السيد الكواكبي في «النفائح واللوائح» فقال :

هو الفاضل الكامل ، الجامع ما تفرق من شمل الفضائل ، عبد الله بن عطاء الله الصحاف ، المتحلي بمحاسن الأوصاف. مولده بحماة سنة ١١٦٤ ، ونشأ بحلب الشهباء ، وتضلع من فن العربية حتى ضاهى العرب العرباء ، من بيت طيب قديم ، وقوم انتشوا في الصلاح وليس لهم سوى الفضل والأدب نديم ، صديق الصدق وخدن الصلاح ، شقيق الندى وترب السماح ، دمث الأخلاق ، كريم الأعراق ، سام في فنون العلم وسرح ، وأوضح متون الأدب وشرح. قرأ الكثير على الكثير من علماء حلب واستفاد ، حتى تصدر للتدريس وأفاد ، في المدرسة التي أنشأها والدي المبرور ، لا زال على ضريحه سحائب النور ،

__________________

(١) لعل الصواب : ومبرة.

٢٠٠