إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

من رأى ظبيا أرانا أسهما

من لحاظ كعيون النرجس

يا نديمي قد صفا وقت الهنا

فاملأ الكاس وعجل بالطلا

وأدرها خمرة تولي المنى

فزمان الأنس بالبشر حلا

والحيا قد ألبس الروض سنا

وعلى الدوح من الزهر حلى

(وحكت بالأنجم الأرض السما

إذ غدت بالزهر منها تكتسي)

(وحبا الأغصان طرزا معلما

حين ما ماست بأبهى ملبس)

ما ترى يا صاح أغصان الصبا

فصبا القلب إليها باكتئاب *

ومن الزهر لها أغلى قبا

ومن الدوح لها أعلى القباب

(نقّطتها السحب درا مثل ما

كست الروض بثوب سندسي)

(وشذا عرف نسيما هيّما

وكذا يفعل زاكي النفس)

ما للاح مذ لحا طاب الهوى

في حبيب وجهه يحكى القمر

لذّ لي في حبه مرّ النوى

وارتكاب الهول يوما إن خطر

ما على من نجمه فيه هوى

حينما صد دلالا ونفر

(أحوري اللحظ معسول اللمى

فاحم الفرع شهي اللعس)

(ثغره أبدى لنا برق الحمى

وأثيث الشعر ثوب الغلس)

يا له بدرا حمى عني الكرى

قده والطرف عضب وأسل

في دجى الشعر له بدر سرى

وبشمس الوجه ليل قد نزل

خنث في جفنه أسد الشرى

وعلى أعطافه لين ودل

(ساحر المقلة معشوق الدمى

قمر الأفق وظبي المكنس)

(ذو لحاظ كم أراقت من دما

وهي تفدى بالجوار الكنّس)

ثم شرع فقرأ علي رسالتي «شرح المقلتين في مسح القلتين) دراية ، ورافق في سماع تأليفي «مخائل الملاحة في مسائل المساحة) ، وشارك في الجبر والمقابلة. وقرأ «المحلّى الأصولي» مع مشارفة حاشيته ، وسمع «شمائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» للترمذي من

__________________

(*) البيت ملفق من بيتين هما :

ما ترى يا صاح أغصان الربى

مائلات القدّ من خمر السحاب

رنحتها سحرة أيدي الصبا

فصبا القلب إليها باكتئاب

١٤١

لفظي فكان السبب أن قلت (وهنا أنشد أبياتا تقدمت في ترجمة الرضي الحنبلي *).

قال : ثم أخذ عني كتابي «الفرع الأثيث في علوم الحديث» لما حررته بمشارفته ، وقرأ علي أيضا «شرح اللب الأصولي» للقاضي زكريا ، وكان السبب في أن وضعت عليه حاشيتي الموسومة بشرح اللب مع مشاركة في تحريرها وتهذيبها كما ذكرت ذلك في إجازتي له غب إتمامها في نسخة حاشيتي التي بخطه جريا على عادته في كتابة ما يقرؤه عليّ من تأليفاتي مختومة بإجازاتي.

ولما كانت سنة أربع وستين ولي تدريس البلاطية بحلب التي أنشأها الحاج بلاط داودار الحاج إينال كافلها إلى جانب تربة مخدومه على ما ذكر في تاريخ أبي الفضل ابن الشحنة. ومع هذا لم يزل ملازم القراءة علي في شرح «المواقف» و «العضد» مع حاشيتيه للسيد الجرجاني وللسعد التفتازاني. ا ه ما ترجمه به أستاذه العلامة الحنبلي.

وترجمه المحبي في «خلاصة الأثر» ومما قاله : وقد ذكره جماعة من المؤرخين والمنشئين ، وكلهم أثنوا عليه ووصفوه بأوصاف حسنة رائقة ، وبالجملة فإنه كان واحد الدهر في كل فن من فنون الأدب ، جمع بين لطف التحرير وعذوبة البيان ، وكان بالشهباء أحد المشاهير ومن جملة الجماهير ، نشأ في كنف أبيه ، وقرأ على جماعة من العلماء ، وأكثر اشتغاله على الرضي ابن الحنبلي صاحب تاريخ حلب. وهنا ساق مقروءاته ومن أخذ عنه كما تقدم ، ثم قال : وصنف وأفاد وشرح «مغني اللبيب» شرحا جمع فيه بين الدماميني والشمني وأطال فيه ، وهو في بابه لا نظير له. وتعاطى صنعة النظم والنثر فأحسن فيهما إلى الغاية. ومن محاسن شعره قوله :

نازع الخدّ عذار دائر

فوق خال مسكه ثم عبق

قائلا للخد هذا خادمي

ودليلي أنه لوني سرق

فانتضى الطرف لهم سيف القضا

ثم نادى ما الذي أبدى الفرق

أيها النعمان في مذهبكم

حجة الخارج بالملك أحق

وقوله :

__________________

(*) مطلعها :

يا من لمضطرم الأوا

م حديثه المرويّ ريّ

١٤٢

وأسمر من بني الأتراك ذي غنج

يهز قدا كغصن البان في هيف

كأنه حين يعلو سور قلعته

وينثني شرفا منه على شرف

غصن الصبا مزهرا قد رنحته صبا

عليه بدر بدا من دارة الشرف

وقوله :

ادّعوا أن خصره في انتحال

فلذا بان قدّه الممشوق

وأقاموا الدليل ردفا ثقيلا

قلت مهلا دليلكم مطروق

وقوله :

قالوا حبيبك أمسى لا تكلمه

ولا تميل لرؤيا وجهه النضر

فقلت أمر دعاني نحو جفوته

والحب للقلب لا للفظ والنظر

وقوله :

المشهديّ لسانه

قد فلّ كل مهند

إن رام إنشاد القري

ض فقل له يا سيدي

يشير إلى قول بعضهم في قول ابن الشجري العلوي :

يا سيدي والذي يعيذك من

نظم قريض يصدا به الفكر

ما فيك من جدك النبيّ سوى

أنك لا ينبغي لك الشعر

وهذا ألطف في التعبير بمراتب من قول مخلد الموصلي وهو :

يا نبي الله في الشعر ويا عيسى بن مريم

أنت من أشعر خلق الله إن لم تتكلم

وإن كان أصله ما قاله الثعالبي في كتابه المسمى «بالشكاية والتعريف» : إذا كان الرجل متشاعرا غير شاعر قالوا : فلان نبي في الشعر ، يعني أنه لا ينبغي له ذلك. وقال :

إن كنت تفخر يا رقيع بما عزمت من الشرف

فالله يدري ما تقول ولست إلا ذا سرف

إني أجل بني الرسول من أن تكون لهم خلف

وإذا قبلنا ما تقول فإنهم نعم السلف

١٤٣

ومن قول أبي تمام :

لئيم الفعل من قوم كرام

له من بينهم أبدا غواء

ومن لطائف مضامينه البديعة قوله في شخص عابه بانحسار شعر رأسه :

يعيبني أن شعر الرأس منحسر

مني فتى قد عري من حلة الأدب

وليس ذلك إلا من ضرام هوى

سرى إلى الرأس منه ساطع اللهب

أقصر عدمتك ذا داء بمبعره

فالعيب في الرأس دون العيب في الذنب

وكتب مع هدية قوله :

اقبل هدية مخلص

في وده وثنائه

واجبر بذلك كسره

واغنم جميل دعائه

ومما ينخرط في هذا السلك قول سعيد بن أحمد :

هديتي تقصر عن همتي

وهمتي تعلو على مالي

فخالص الود ومحض الولا

أحسن ما يهديه أمثالي

وله :

قد بعثنا إليك أكرمك

الله ببرّ فكن له ذا قبول

لا تقسه إلى ندى كفك الغمر

ولا نيلك الكثير الجزيل

واغتفر قلة الهدية مني

إن جهد المقلّ غير قليل

وقال في رحلته الرومية : لمحت بعريض شيزر غزالا بين الغزلان نافر ، وشادنا طار نحوه قلبي فألقى الذي بين جفنيه كاسر ، ومليحا أسفر عن بدر في تمامه ، وابتسم عن ثنايا كأنها الدر في انتظامه ، يتبعه شرذمة من خرّد النساء الحسان ، وهو يلعب بينهن كأنهن الحور وهو من الولدان.

صادني بالعريض ظبي غرير

بحسام من حدّ جفن غضيض

ثم لما انثنى بأسمر قدّ

أوقع القلب في الطويل العريض

وله من رسالة : يقبّل الأرض معترفا برق العبودية قربا وبعدا ، ومقرا بأن فراق تلك الخضرة الزكية لم يبق له على مقاومة الصبر جهدا ، ارتكب مجاز التصبر ليفوز بحقيقة

١٤٤

الاصطبار ، واستعار لقلبه جناح الشوق فها هو يود لو أنه نحوكم طار ، عجل عليه البين بدنو حينه ، وسبك في بودقة خدّيه خالص إبريز دمعة عينه ، وقطر بتصعيد أنفاسه لجين دموعه ، ونفى بتأوهه وأنينه طير هجوعه.

وله غير ذلك من غرر القول.

وكانت ولادته في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ، وتوفي في سنة ثلاث بعد الألف ، قتله الفلاحون في قرية باريشا من عمل معرة مصرين ظلما وعدوانا ، ودفن بالجبيل بالقرب من تربة جده لأمه الخواجه إسكندر بن آبجق رحمه‌الله تعالى ا ه.

وترجمه الشيخ محمد العرضي في مجموعته فقال : مطلق العنان في ميادين الفضل * ، ذو نظام كأنما هاروت نفث على لسانه سحر بابل ، كم له في ولاية الفضل من منشور ، فهو بحر علم بسفائن الأدب مسجور ، وروض بليل بأزهار الأشعار ممطور ، دأب وجدّ على قطف نور التحصيل ، ولإنسان الدهر فيه رجاء وتأميل ، وعكف على مجلس جدي الأعلى ابن الحنبلي مقتبسا من مشكاته ، متزودا من ثمار حضراته ، وذكره في تاريخ «در الحبب» وسرد مقروءاته ، وذكر له من شعره الكثير الغض النضير ، ثم لم يطب بالشهبا له المقام ، مهاجر الخليل وذات المقام ، فألقى عصا التسيار وحط رحل الرجا ، بقرى من أوقاف أجداده بني أجا ، واتخذها رحلة مرتبعه ومصطافه ، متجرعا غصص خلانه وألّافه ، وهناك صنف كتابه «منتهى أمل الأريب في شرح مغني اللبيب». عبث الهوى بيراعه فتأود ، وسقاه من سلاف الحب فعربد ، على أعيان من مشايخ حلب بل جبال رواسخ ، كالشيخ عبد الرحمن البتروني والخواجا عثمان العلبي ورفيقه في الاشتغال محمد الأسدي والسيد نويرة نقيب الأشراف ، حتى جمع رسالة في هجوه سماه «بالسهم المصيب في كيد النقيب» رتبها على حروف الهجاء ، وهنا ساق المساجلة التي جرت بينه وبين البدر حسين النصيبي وقد قدمناها في ترجمته. (ثم قال) : ولم يزل صاحب الترجمة في مضيعة الضياع ، تاركا ما لا يستطاع من المجد في المدن إلى ما يستطاع ، كما قيل في قول ابن الرومي :

هذا أبو الصقر فردا في محاسنه

من نسل شيبان بين الضال والسلم

إنما خص انفراده بالمحاسن بما بين الضال والسلم وهما شجرتان في البادية لأن فقد العز

__________________

(*) لعل الصواب : الفضائل ، وبذلك يتم السجع.

١٤٥

في الحضر. يقضي الفصول الثلاث الربيع والصيف والخريف بالقرى ما يستعد به لقضاء الوطر في المدن مقرونا بكافات الشتاء ، فيتسهل له بذلك الارتفاق والارتزاق ، وهو مع هذا بين إنجاح وإخفاق ، حتى حان عليه الحين ، ونعب بداره غراب البين ، وحق ما قيل الخلا بلا ، فقتله الفلاحون ظلما وعدوانا ، وجاور بعد أعدائه رضوانا في سنة ثلاث وألف ا ه.

ووقفت على أوراق بخط الشيخ إبراهيم ولد المترجم ، ومما جاء فيها : وللشيخ أحمد الأعزازي الأطرش يمتدح شيخ الإسلام الوالد :

مرأى جمالك في الدجى مصباح

وبطيب نشرك تنعش الأرواح

يا حاوي المجد الرفيع ومن به

لأولي النهي الإرشاد والإيضاح

رب الصبابة إن بدت أشجانه

أعليه في لثم الحبيب جناح

أمسى ومهجته لدى الظبي الذي

ما إن له أبدا لديه سراح

ريم بجفنيه سهام إن بدت

من دونها يعلو الكئيب نواح

والبيض من سود اللواحظ تنتضى

وبكل جارحة لهن جراح

وقوام قدّ دونه السمر التي

يعلو لذي الهيجا بهن صياح

والصب كم رام الخلاص وماله

أبدا إلى نيل النجاح جناح

أضحى بعيد الصون مفتضحا ولا

يخفاكم أن الهوى فضّاح

ثملان من خمر الصبابة إذ غدت

أحداق ساقيه له أقداح

أيحل أن يشفي غليل عليله

من سلسبيل رضابه ويباح

ويضم من عطفيه غصن ملاحة

في صبح وصل كله أفراح

لا غرو أن أوضحت مبهم قصتي

إن الشهاب له السنا الوضاح

الكلام على تأليفه «منتهى أمل الأريب من الكلام على مغني اللبيب» :

شرحه هذا أجل شروح المغنى لابن هشام ، وهو كما قال الغزي في سياق ترجمة المؤلف في تاريخه «لطف السمر وقطف الثمر» : إنه أفاد فيه وأجاد. وكما قال العلامة المحبي : إنه في بابه لا نظير له. وقال الشهاب في ريحانته في الكلام على ولدي المترجم محمد وإبراهيم : ووالدهما همام ألف وأفاد ، وعذبت موارد إفادته للوراد ، له تآليف كثيرة ، منها شرح مغني

١٤٦

اللبيب ، طرز بتحريره حواشيه ، ودخل جنته من أي باب شاء من أبوابه الثمانية.

وهو موجود في مكتبة المدرسة الأحمدية في مدينة حلب في مجلدين ضخمين أوله : حمدا لمن شرح صدورنا لفهم أسرار العربية بأفصح لسان ، وأمتن علينا بمزيد فضله فهو الرحمن علّم القرآن.

ويوجد المجلد الثاني في مكتبة المرحوم عبد القادر أفندي الجابري التي نقلت منذ سنتين إلى مكتبة المدرسة الخسروية في حلب وأوله : (ما) : تأتي على وجهين : اسمية وحرفية. وهو منقول عن نسخة بخط ابن المؤلف. ويوجد نسخة منه في مجلد واحد في المكتبة السليمية في الآستانة ورقمها ٥٥٥ ، وفي مكتبة بشير آغا وهي في مجلدين رقمهما ٦٠٤ و ٦٠٥ ، وفي مكتبة نور عثمانية في مجلدين أيضا ورقمهما ٤٦٠١ و ٤٦٠٢ ، ونسخة أخرى أو مجلد فقط في هذه المكتبة ورقمها ٤٦٠٣ ، ونسخة في مكتبة لا له لي في مجلدين ورقمهما ٣٤٣٦ و ٣٤٣٧ ، ونسخة في مكتبة راغب باشا ورقمها ١٣٦٦. وكل هذه المكاتب في الآستانة.

ووجدت على ظهر نسخة خطية من المغني بيتين بديعين هما لابن الملا المترجم يثني فيهما على كتاب المغني حيث يقول :

ألا إنما المغني عروس تزينت

وزفّت إلى الطلاب ترفل في الحسن

فقل لفقير النحو إن كنت راغبا

فمل نحو مغناه فهذا هو المغني

وأخبرني من عهد قريب الشيخ محمد طيب المغربي التونسي نزيل حلب ومدرس التاريخ في المدرسة السلطانية فيها أن هذا الشرح طبع في بلدته تونس منذ زمن ، وهو متداول هناك ولهم فيه عناية تامة.

ومن العجب أن يطبع هذا الشرح الجليل من أمد بعيد في تونس ويتداول هناك وهنا لا علم لنا بذلك فضلا عن عنايتنا به وإقبالنا عليه. وقد كتبت إلى تونس لابتياع نسخة منه وكنت آمل أن تحضر قبل تقديم هذه الملزمة للطبع فلم يتفق ذلك.

ومما يجدر ذكره هنا ما رأيته في سلك الدرر للمرادي في ترجمة الشيخ عبد الله بن الحسين السويدي البغدادي مولدا ووفاة نزيل حلب المتوفى سنة ١١٧٤ أن له حاشية على المغني جعلها محاكمة بين شارحيه كالدماميني والشمني وابن الملا والماتن.

١٤٧

ومن مؤلفاته شرح العزي في الصرف ، وشرح الشافية فيه أيضا ، وشرح الكافية ، وشرح غنية الإعراب في النحو. وغنية الإعراب هو أرجوزة لعبد العزيز المدني شرحها المترجم وسماه «كشف النقاب عن غنية الإعراب» ذكر فيه أن والده أشار إلى شرحه وأذن له فيه فوضع ثلاثة شروح على مقدمة الإعراب والتصريف والمنطق للشيخ المذكور.

وله كتاب في الفرائض. وله من المؤلفات التاريخية اختصار تاريخ الإمام الذهبي ومعظمه موجود بخطه وخط والده في الأحمدية بحلب ، ومختصر الدر المنتخب رأيت الجزء الأول منه بخطه أيضا وقد أوضحنا ذلك في المقدمة.

٩٣٧ ـ محمد بن قاسم بن المنقار المتوفى سنة ١٠٠٥

ترجمه شيخه الرضي الحنبلي فقال :

محمد بن قاسم ابن الأميري الناصري محمد ابن الأميري الشرفي يونس ، الشيخ الصالح الفالح الذكي الفاضل المفتي شمس الدين الحلبي ثم الدمشقي الصالحي الحنفي ، المشهور بابن المنقار ، الماضي تلقيب أحد أجداده بهذا اللقب في ترجمة الجمال يوسف عم والده المتوفى سنة ٩٤٣.

ولد بحلب سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة ، ونشأ في كنف والده ، فحفظ القرآن العظيم ، ولازمني سنين متعددة في فنون شتى كالصرف والنحو وانتهى فيه إلى «مغني اللبيب» ، وكذا البلاغة والبديع والعروض والمنطق والهندسة والهيئة والميقات والفقه وأصوله والفرائض وعلم الحديث ، وكالتصوف ، والذي أخذه مني فيه شرح حكم ابن عطاء الله الإسكندري للنفزي ، وكذا المعمّى فإنه أخذ عني فيه وفي الأحاجي رسالتي المسماة «بكنز من حاجي وعمّى في الأحاجي والمعمّى» ، وكالحساب ، وقد أخذ عني فيه كتابي «عدة الحاسب وعمدة المحاسب» قراءة ودراية كعدة من تأليفاتي مثل «تذكرة من نسي بالوسط الهندسي» وغيره.

وتخرج في قرض الشعر فشعر ، ونظم الشعر الحسن كما نثر.

ثم ذهب إلى دمشق سنة سبع وخمسين وتسعمائة فتولى بها تدريس الماردانية ، ثم تدريس الجوهرية. وقرأ على العلاء بن عماد الدين الدمشقي صاحبنا شيئا من تفسير البيضاوي ،

١٤٨

وكذا قرأ شيئا منه على منلا محب الله نزيل حلب قديما. ثم انتقل عن قضاء حلب إلى قضاء دمشق القاضي محمد المشهور بعبد الكريم زاده قرأ عليه منه أيضا عشرين درسا فأعجبه شأنه وقوي فيه اعتقاده ، فعرض له في إمامية التكية السليمية بالصالحية بحكم قصور إمامها ، فإذا إمامها قد حضر لديه وتلا بين يديه شيئا من القرآن العظيم ليعرض عن عرضه ، فيصل إلى غرضه ، فصمم على أن لا مجال ، وبذل له خمسة وعشرين دينارا في الحال ، رعاية للجانبين ودفعا لكدر الخاطر من البين. ثم لما صار قاضي العسكر بأناضولي توجه إليه فأعاد إليه تدريس الماردانية ، وكان قد خرج عنه ورقاه في علوم تدريس الجوهرية إلى خمسة عشر درهما عثمانيا ، وعاد من عنده إلى دمشق سنة خمس وستين وتسعمائة.

وترجمه الغزي في ذيل تاريخه «الكواكب السائرة» المسمى «لطف السمر وقطف الثمر» فقال : محمد بن قاسم الشيخ العالم شمس الدين بن المنقار الحلبي المولد والمنشأ ، ثم الدمشقي الحنفي. مولده بحلب سنة إحدى وثلاثين * وتسعمائة. طلب العلم في بلدته حلب ، ولازم ابن الحنبلي وغيره ، ثم وصل إلى دمشق في أواسط المائة العاشرة ورافق الشيخ إسماعيل النابلسي والشيخ عماد الدين المنلا أسد وطبقتهم في الاشتغال على الشيخ العلامة علاء الدين بن عماد الدين الشافعي ، وعلى الشيخ أبي الفتح الشبشيري وغيرهما. وحضر دروس شيخ الإسلام الوالد ، وأخبرني هو أنه حضر معهما للشيخ الوالد في ختان ولد له كان يقال له رضي الدين وأنه مشى في خدمته وقد أركبوه في شوارع دمشق. وكان الشيخ الوالد يصاحبه عمه البرهان ابن المنقار.

وكان الشيخ شمس الدين علامة إلا أن دعواه كانت أكبر من علمه ، وكان يزعم أن من لم يقرأ عليه أو يحضر درسه فليس بعالم. وكان كثير اللهج بذكر شيخه المذكور (يعني ابن الحنبلي) والإطراء في الثناء عليه ، وإنما يقصد بذلك التميز على أقرانه والانفراد عنهم. وكان بينه وبين الشيخ إسماعيل النابلسي رفيقه في الطلب تمام المناظرة حتى يؤدي ذلك بينهما إلى المهاجرة ، ثم يلائمه الشيخ إسماعيل ويأخذ بخاطره لأن الشيخ إسماعيل كان أنبل منه وأوسع جاها وإطلق لسانا ، ثم يعاود إلى منافرته. وسمعت الشيخ إسماعيل مرة يقول لابن عمه أحمد جلبي : كيف حال الشيخ الأكبر؟ يشير إلى تبجحه بنفسه. وكان يقع بينه

__________________

(*) في «لطف السمر وقطف الثمر» ـ منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق ـ ١٩٨١ ـ تحقيق محمد الشيخ :

مولده بحلب سنة أربع وثلاثين وتسعمائة.

١٤٩

وبين المنلا أسد بسبب المباحث العلمية أشياء ، فيحتد من الأسد فينتقل من المناظرة إلى إيذائه بلسانه بسبب أن المنلا أسد خلفه على بنت عمه الشيخ شمس الدين لأنها كانت تحته ، فأدى سوء خلقه إلى أن طلقها ، فتزوجها المنلا أسد وهي أم أولاده ، فكان بسبب ذلك اشتداده عليه وإيصال إيذائه إليه. ووقع بينه وبين الداوودي بسبب عقد الداوودي لمجلس الحديث بالجامع الأموي ، فكان ينكر عليه ذلك ويستكثره ، ووقع بينهما مقاولة عند بعض القضاة فقال للداوودي (أنا صخرة الوادي إذا هي زوحمت) (١) وأنت يا ابن داوود :

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل *

وكان سريع الغضب سريع الرضا ، وإذا غضب لا يقوم لغضبه شيء ، وإذا داراه الرجل يصفو له ، ثم يغلب عليه الحال. وقع بينه وبين ولده الشيخ يحيى ، وكان شديد الحط على ولده ، وتصلح الناس بينهما ثم يعود إلى طرده والحط عليه. وجمع مرة جماعة من أعيان أهل العلم كالقاضي محب الدين والسيد القدسي في آخرين ودخل إلى القاضي يشكو من ولده ، فأحضر بين يديه وعزره فلم يشف خاطره منه ، وتسلط ولده عليه وعلى الجماعة حتى ذهب إلى الروم وجاء بأحكام في أبيه وفي بعض أعيانهم ، وكان يبادر إلى تخطئة الناس ويخطىء في تخطئته كثيرا.

وسمع مرة الشيخ رمضان العجلوني يقرأ في بعض كتب الحديث عن أبي سعيد الخدري بالمهملة ، فقال له : أخطأت يا شيخ ، الخذري بالذال المعجمة ، فقال له الشيخ رمضان : بل إعجام الدال خطأ. وصدق فإن النسبة إلى بني خدرة بالدال المهملة. وكان له من هذا القبيل أشياء. وكان يدرس في البيضاوي ، فإذا تفاوض الطلبة في البحث لا يزيدهم على قراءة عبارة الكشاف من الكتاب. وكان يكتب على الفتاوي ويغلب عليه الصواب. وولي إمامة السليمية فكان يقرأ قراءة العوام ، ويقف الوقوف التي لم يأت بها وجه عن إمام فتركها. وكان مدرسا في بقعة الأموي وغيره. وولي أخيرا تدريس القصاعية الحنفية. ولما كنت أعظ وأقرأ الحديث وأنا يومئذ دون العشرين سنة أنكر ذلك وحمله الحسد على الإنكار بغير وجه حتى شدد النكير في يوم الثلاثاء ثامن عشري رمضان سنة ثمان بعد الألف ، وكانت الشمس قد كسفت كسوفا كليا ، وصلى شيخنا إماما بالناس صلاة الكسوف

__________________

(١) البيت لأبي الطيب وتمامه (وإذا نطقت فإنني الجوزاء).

(*) البيت للأعشى.

١٥٠

بمحراب الأولى من الجامع الأموي ، ثم حضر الشيخ شرف الحكيم الخطيب فصلى وحضر الشيخ شمس الدين بذلك المشهد ، فلما فرغ الناس من الصلاة أخذ في الإنكار على شيخنا في صلاته وعطف في الإنكار عليه أنه علمني وقواني على الإفادة والتدريس والوعظ ، فاجتمع به شيخنا والفقير معه ، فلما تكلمنا ثارت العوام في الجادة حتى خرج من باب البريد من الجامع حافيا وهو بعمامة صغيرة غير عمامته المعتادة وهم يصيحون به وينكرون عليه بتحريك من الله تعالى ، ثم آل الأمر إلى الاجتماع معه في مجلس حافل عند قاضي القضاة مصطفى أفندي بن بسنان ، فقرئت الفاتحة بيننا ، ثم قال شيخنا القاضي محب الدين والشيخ العيثاوي : لانفض هذا المجلس حتى يمتحن الشيخ نجم الدين ، فدعي بتفسير البيضاوي فصار بيننا وبينه مناظرة عظيمة كانت الغلبة فيه والنصرة لنا عليه ، وألف في ذلك شيخنا الشيخ العيثاوي رسالة حافلة فيما وقع بيننا في ذلك المجلس ، وكان ذلك وقد ظهرت نجوم السماء نهارا لقوة الكسوف ، فقال بعض الناس مصراعا تجاذبه أفاضل ذلك الوقت وهو (وعند كسوف الشمس قد ظهر النجم) فسبكتها في أبيات هي :

بعام ثمان بعد تسعين حجة

وتسعمىء * مرت جرى الأمر والحكم

بأن حضر الشمس بن منقار الذي

تحرى جدالا حين زايله الحزم

وناظرنا يوم الكسوف فلم يطق

لنا جدلا بل خانه الفكر والفهم

فقيل وبعض القول لا شك حكمة

وعند كسوف الشمس قد ظهر النجم

ولو لا تلافي الله جل جلاله

أصاب تلافا حين تابعه الرجم

ولما سطع الحق وبان ، وانقطع المشار إليه في ذلك الميدان ، واعترف لنا بالفضل المبين ، وباستحقاق تدريس بأربعين ، وأنا في سن العشرين ، كان بعد ذلك إذا لا يمناه تلايم ، وإذا تركناه تماوج حباب حسده وتلاطم ، وكذلك كان حاله مع أكثر الناس ، وكانوا يتعبون في مداراته وهو على ما فيه سليما من الصبوات ناهضا إذا استنهض في المهمات ، لا يخل بالشفاعات عند الحكام ، وله جرأة عليهم وإقدام ، وكان يفتي الناس في الأحكام ، ويدرس الدروس الخاصة والدرس العام.

وكان له شعر ضعيف ، وبعضه مستحسن لطيف. ومن شعره في مدح شرح الكافية للجامي :

__________________

(*) في الأصل : وتسعمائة ، وبها يختل الوزن ، وفي خلاصة الأثر كما أثبتناه.

١٥١

ألا قد جلا الجامي ببستان شرحه

لكافية الإعراب كاس مدام

فحافظ عليها تلق سعدا مؤبدا

وخذ جامه واشرب بغير ملام

ولما كان عيد الفطر سنة خمس بعد الألف تمرض الشيخ شمس الدين ، ولم يعهد له مرض بدمشق قبل ذلك ، وكان سبب مرضه أن شيخنا القاضي محب الدين كان يتأدب معه ويعظمه لسنه وجريا على عادته في التأدب مع أهل دمشق وإكرام كل منهم على حسب ما يليق به ، فكان شيخنا إذا اجتمع هو والشيخ شمس الدين يقدمه في المجلس ، فلما انتصر شيخنا القاضي محب الدين لنا بسبب تعنت الشيخ علينا وقع بينهما ، وكان كلما تعرض الشيخ شمس الدين لنا بادر شيخنا إلى الانتصار حتى بلغ شيخنا أذية الشيخ شمس الدين له ، فاجتمعا آخرا عند قاضي القضاة كمال الدين أفندي ابن طاشكبري قاضي دمشق ، فتقدم عليه شيخنا في المجلس ، فغضب ابن المنقار وقال له : أنت كنت سابقا تقدمني ، فلم تقدمت الآن؟ قال : تقدمت إلى مجلسي وكنت سابقا أوثرك بمقامي ، وكان الشيخ محمد بن الشيخ سعد الدين في المجلس ، فأخذ بيد الشيخ شمس الدين وأجلسه بينه وبين القاضي ، ثم بقي الشيخ شمس الدين على غيظه حتى مرض منه وجعل تتزايد به الأمراض حتى توفي عند غروب الشمس من يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شوال وصلي عليه من الغد هو والشيخ ولي الدين بن الكيال بالجامع الأموي بعد صلاة الظهر الأولى ، ودفن بمكان صغير به محراب قديم على الطريق الآخذ إلى السويقة المحروفة غربي تربة باب الصغير رحمه‌الله تعالى.

هذا ما ترجمه به النجم الغزي ، وهنا ترى أنه قد نال منه وحط من قدره ولم يذكره بما يستحقه شأن المتعاصرين إذا حصل بينهما نزاع في أمر ما ، ومما سننقله لك يتبين لك حقيقة ترجمته.

قال الشهاب الخفاجي في ريحانته : هو جواد في حلبة الأدب سابق ، مخلط مزيل (١) فاتق راتق ، وقد كانت تتجاذب الأخبار شمائل فضائله ، وتهتز الأغصان إذا هبت نسمات شمائله ، ومن طاب عرفه طاب من عرفه الشمم ، ومن كان غصنا في رياض المعاني هزه مرور النسم ، إلا أن شعره شعر العلماء ، وأدبه أدب الفقهاء ، وما كل قصر خورنق

__________________

(١) قوله مخلط مزيل يضرب للذي يخالط الأمور ويزايلها ثقة بعلمه واهتدائه إليها ا ه من المحبي.

١٥٢

وسدير ، وما كل واد فيه روضة وغدير. على أنه كانت تتيه به على سائر البقاع بقاع الشام ، ويفتخر به عصره على سائر الأيام ، فلا تزال تصدح ورق الفصاحة في ناديها ، وتسير الركبان بما فيه من المحاسن رائحها وغاديها ، وأقلام الفتوى مثمرة من شمس إفادة له ارتفعت ، فيا لها من قضب أثمرت بعد ما قطعت ، ونور فضله بادي ، وموائده ممدودة لكل حاضر وبادي.

كالشمس في كبد السماء ونورها

يغشى البلاد مشارقا ومغاربا

ولم يزل ثاويا في فلك السعادة ، حتى كسفت شمس حياته فلبس الدجى عليه حداده ، فمن نفحات أسراره ولمعات أنواره قوله للقاضي محب الدين وهو بمصر :

من يوم بينك كل طرف دامي

لم تكتحل أجفانه بمنام

لما رحلت ممتّعا بسلامة

ومصاحبا للسعد والإكرام

خلّفت بعدك كل خلّ هائما

يجري الدموع حليف فرط غرام

سكران من كأس الفراق معذبا

يا صاح بالهجران والآلام

يشدو بذكرك من نواك إذا رأى ال

عشاق في ركب لكل مقام

مولاي إنا قد تفرق شملنا

وضياء نادينا انمحى بظلام

قد كنت واسطة لعقد نظامنا

حتى انفردت فحلّ عقد نظامي

وضياء وجهك في النهار إذا بدا

فالشمس تستر وجهها بغمام

هذا وعبدك ضاع بعدك صبره

فاسلم ودم في السعد والإنعام

وعلى حماك من المحب تحية

لا تنتهي وعليك ألف سلام

وسقى الإله ديار مصر وأهلها

أنواع سحب من يدك عظام

لما حللت بها تضاحك نورها

فرحا وبدّل نقصها بتمام

لا زلت ترفل في ثياب سيادة

وتجر ذيل العز فوق الهام

ما نمق المشتاق طرس رسالة

بحديث أشواق وبث غرام

وقال المحبي في خلاصة الأثر : محمد بن القاسم الملقب شمس الدين بن المنقار الحلبي ثم الدمشقي الحنفي ، العالم البارع المناظر القوي الساعد في الفنون. كان من أعيان العلماء الكبار. ولد بحلب وبها نشأ ، ولازم الرضي بن الحنبلي وغيره ، ثم وصل إلى دمشق في سنة إحدى وستين وتسعمائة وتديرها ، ورافق الشيخ إسماعيل النابلسي والعماد الحنفي

١٥٣

والمنلا أسد وطبقتهم في الاشتغال على العلاء بن العماد والشيخ أبي الفتح الشبشيري وغيرهما ، وحضر دروس شيخ الإسلام الوالد. ورأيت في بعض مجاميع الطاراني أنه درس بعدة مدارس ، ومات عن تدريس القصاعية والوعظ بالعمارتين السليمانية والسليمية والبقعة في الجامع الأموي وغير ذلك من الجهات والجوالي. وأفتى على مذهب الإمام أبي حنيفة ، وكان يدرس في البيضاوي ، وأخذ عنه جمع كثير منهم التاج القطان والحسن البوريني والشمس الميداني والشيخ عبد الرحمن العمادي والشمس محمد الحادي وغيرهم.

وكان عالما متضلعا من علوم شتى ، إلا أن دعواه كانت أكبر من علمه. وكان يزعم أن من لم يقرأ عليه ويحضر درسه فليس بعالم. وكان كثير اللهج بذكر شيخه ابن الحنبلي المذكور والإطراء في الثناء عليه ، وإنما يقصد بذلك التميز على أقرانه والانفراد عنهم به. ثم ذكر في الخلاصة ما جرى بينه وبين الشيخ إسماعيل النابلسي والمنلا أسد وما جرى بينه وبين النجم الغزي وقد تقدم ذلك.

(ثم قال) : والحاصل أنه كان ضيق الخلق ، وأما علمه فمسلّم عند من يعرفه ، وإن طعن فيه طاعن فمن عداوة وحسد. وله أشعار كثيرة وقفت في بعض المجاميع على أبيات له كتبها إلى قاضي القضاة بالشام العلامة المولى علي بن إسرائيل المعروف بابن الحنائي ، وكان وقع له وهو قاض بدمشق أنه أخرج عن رجل بعض الوظائف ، فكتب الرجل محضرا في شأن نفسه واستكتب الأعيان ، فكتب له بعض من كان يظهر الصداقة والمودة للقاضي المذكور ، فبلغه ذلك فقال مضمنا :

لنا في الشام إخوان

بظهر الغيب خوّان

فأبدوا في الجفا شانا

به وجه الصفا شانوا

وظنوا أنهم ذهلوا

وما غدروا وما خانوا

ولما أن رأينا الذهل طبع الناس مذ كانوا

صفحنا عن بني ذهل

وقلنا القوم إخوان

وأبيات الشمس هي هذه :

لسان العدا إن ساء فهو كليل

قصير ولكن يوم ذاك طويل

وأقلام من ناواك ضلت وأخطأت

وليس لهم في ذا السبيل دليل

١٥٤

لقاليك شان شانه سوء فعله

وفعل الذي والى علاك جميل

فلا تحتفل مولاي إن قال قائل

سننشدهم عند اللقا ونقول

(وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول)

إذا طلعت شمس النهار تساقطت

كواكب ليل للأفول تميل

وهل يغلب البحر المعظّم جدول

وهل يدعي قهر العزيز ذليل

وهل لجهول أن يقاوم عالما

(وليس سواء عالم وجهول)

فلا عجب أن خان خلّ وصاحب

لأن وجود الصادقين قليل

على أنني أصبحت للعهد حافظا

وحاشا لدينا أن يضيع جميل

صفونا ولم نكدر وأخلص ودنا

وفاء عهود قد مضت وأصول

وإنا لقوم لا نرى الغدر سنة

إذا ما رآه صاحب وخليل

نعم قد كبا عند الطراد جوادهم

وأنت كريم لا برحت تقيل

ثم ذكر المحبي هنا قصيدة أرسلها المترجم إلى جده يسأله فيها أسئلة فقهية ، وأجابه جد المحبي بقصيدة مثلها ، وفي نقل ذلك يطول الكلام ، ثم قال :

ومن ألطف شعره أيضا قوله من قصيدة كتب بها إلى الأديب محمد بن نجم الدين الهلالي الصالحي ومطلعها :

وقفت على ربع الحبيب أسائله

ودمعي بالمكتوم قد باح سائله

وقلت له مني إليك تحية

أما هذه أوطانه ومنازله

أما ماس في روضاتها بان قدّه

ومالت لدى مر النسيم شمائله

فمالك قد أصبحت قفرا وطوّفت

طوائح دهري فيك ثم زلازله

فقال سرى عني الحبيب وفاتني

سنا برق شمس الدين ثم هواطله

ومن شعره قصيدة وجدتها في أوراق بخط الشيخ إبراهيم بن أحمد بن المنلا يمدح بها دمشق الشام ويتشوق إليها وهو في بلاد الروم ، وهي :

سقى جلّق الفيحاء ذات البها القطر

ولا زال هتّانا بها المطر الغزر

وحيّا الحيا تلك الرياض مباكرا

ولا زال فيها النجم ما طلع البدر

ترحل عنها الحزن لما رتعن في

رباها الظبا والحور ثم جرى النهر

١٥٥

أيوجد همّ في دمشق وقد غدا

بها الأمن والإيمان واليمن واليسر

عروس الأراضي جلّق الشام قد غدا

على قصرها مسبولا الستر والستر

إذا فاح من بين البساتين عرفها

سحيرا زمان الزهر ينتعش الصدر

فكم لعبت أيدي النسيم بروضها

فصفقت الأنهار ثم بدا النشر

وأغصانه مالت إلى الرقص فانثنى

ينقّط أنهار الربى ذلك الزهر

وأطيارها غنت على عودها ضحى

غناء رقيقا دون رقته الشعر

فهل عجب أن قيل جلّق جنة

وفيها جرى الأنهار ثم سرى العطر

رعى الله أياما تقضت بربعها

لقد تم لي فيها المسرة والبشر

فما كان أنماها وأحلى بناتها

حلت في الحشا حتى لقد سلي القطر

وحيّا اللييلات التي سلفت بها

لقد زينتها في الحمى الأنجم الزهر

فلو أنها عادت بروحي شريتها

ولكنها مرت وليس لها سعر

تقضّت ولم أعرف وحقك قدرها

على أن آنا لا يعادله الدهر

فيا أسفي يا حسرتي يا ندامتي

عليها ولكن لا يقام لي العذر

ترحّلت عنها غير قال لحسنها

إلى الروم لكن حين ضرني العسر

ففارقتها لكن بجسمي وقالبي

وقلبي فيها كيف وهي له صدر

متى يجمع الرحمن شملي بقربها

ويبدو لعيني الصالحية والجسر

هناك أنادي فرحة ومسرة

ألا زال عني الهم والغم والضرّ

٩٣٨ ـ محمود بن محمد البيلوني المتوفى سنة ١٠٠٧

محمود بن محمد بن محمد بن الحسن الشيخ بدر الدين أبو الثنا ابن الشيخ شمس الدين أبي البركات ، البابي الأصل الحلبي المولد والدار ، الشافعي ، المشهور بابن البيلوني.

ولد في ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة ، ونشأ فحفظ القرآن العظيم ، ثم لازمنا بإشارة عمه الشمس المتقدم ذكره في تحصيل العلم فأكثر من ملازمتنا.

قرأ علينا الصرف والنحو وانتهى فيه إلى «مغني اللبيب» ، وفن البلاغة وأتم فيه «المختصر» مع سماعه غيره ، وعلم القراءة وأكمل فيه «شرح الشاطبية» للجعبري إلا

١٥٦

النوع الثالث منه في توجيه وجوه القراءات فإنه اقتصر عنه ، وأصول الفقه وأتم فيه شرح «لب الأصول» ، وأخذ عني «شرح السراجية» للسيد الجرجاني و «شرح الشمسية» مع حاشيته و «شرح النخبة» و «شرح ألفية العراقي» لمصنفيهما و «شرح الحكم» للقونوي و «متن الخبيصي». و «أشكال التأسيس» وغيرها.

وأخذ عني من تأليفاتي دراية «شرح المقلتين في مساحة القلتين» على قاعدة مذهبه ، و «رفع الحجاب عن قواعد الحساب» و «الفوائد السرية في شرح الجزرية» و «عدة الحاسب وعمدة المحاسب» و «تذكرة من نسي بالوسط الهندسي» وغيرها. وأجزت له أن يروي عني جميع ما يجوز لي وعني روايته من كتب الحديث التي أخذ عني بعضها رواية ودراية ومن غيرها من تأليفاتي وأشعاري وغيرها.

وقرأ القرآن العظيم بتمامه للعشرة من طريق التحبير على الشيخ برهان الدين الدمشقي القابوني نزيل حلب وأجاز له بأسانيده في محفل كان بجامعها الأعظم.

وكتب في سنة سبع وخمسين وتسعمائة استدعاء بخطه وبعث به إلى القاهرة ودمشق فأجاز له جماعة منهم العلاء بن عماد الدين الدمشقي والكمال محمد بن أبي الوفا المعروف بابن الموقع والشيخ ناصر الدين الطبلاوي القاهريان وغيرهم. وسمع المسلسل بالأولية وشيئا من البخاري من الجمال بن حسن ليه الحلبي وأجاز له جميع ما يجوز له وعنه روايته وأن يفتي ويدرس على قاعدة مذهبه. وترجمه بأنه فاضل وقته والمستغني بحاله عن نعته كما قيل :

وإني لا أستطيع كنه صفاته

ولو أن أعضائي جميعا تكلّم

وكما قيل :

وليس يزيد الشمس نورا وبهجة

إطالة ذي مدح وإكثار مادح

قال : ولكن لا بد للشمس أن تلوح ومن المسك أن يفوح. وكذا سمع المسلسل بالأولية من والدي وأجاز له في آخرين ما يجوز له وعنه روايته ، وقرأ «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الشيخ أحمد الطويل الحلبي وأجاز له ، و «ثلاثيات البخاري» و «الجواهر المكللة في الأخبار المسلسلة» له على عمه السابق ذكره وأجاز له بحق روايته لهما عن والده الشيخ وشيخنا التقي الحيشي بحق روايتهما لهما عن المؤلف ،

١٥٧

وأجاز له إذ دخل دمشق سنة ثلاث وستين وتسعمائة الشيخ المعمر محمد بن بلبان ورد الشيخ أبي بكر بن داود قدس الله روحه وتلاوته بحق روايته عن الشيخ عبد القادر بن أبي الحسن البعلي الحنبلي بحق روايته عن ولد المصنف المسمى كأبيه بالشيخ أبي بكر عن المصنف.

قال : ومولده في تاسع المحرم سنة إحدى وسبعين وثمانمائة.

وقد نظم الشيخ بدر الدين ونثر ، وطالع الكثير وقرر ، وتصدى للإقراء وتصدر. تولى وظيفة تلقين القرآن العظيم بالجامع الكبير بحلب عن شيخه البرهان الدمشقي القابوني بحكم وفاته بعد أن عارضه فيها من عارضه ، وأبى الله إلا أن تكون له وأن يخرج من عهدة خدمتها مع الإفادة في علوم شتى تقرأ عليه. ثم تولى تدريس الصاحبية الشدادية وكذا إمامة الحجازية بحكم وفاة عمه.

وترجمه النجم الغزي في تاريخ لطف السمر وقطف الثمر فقال : محمود بن محمد الشيخ الإمام العلامة أبو الثنا بدر الدين البيلوني الحلبي العدوي الشافعي شيخنا ، من صرف عمره في العلم تعلما وتعليما. قرأ على والده وغيره ، ولازم على ابن الحنبلي فاضل حلب ، وكان شيخه ابن الحنبلي يجله ، وبرع في زمانه وكان يدرس في حياته. وكان يحفظ القرآن العظيم حفظا متينا مع التجويد والإتقان فيه ، مع تبحره في النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والهيئة والتفسير والفقه والأصول ومعارف الصوفية. وكان إذا تكلم في فن من العلم يقول سامعه لا يحسن غيره ، وكان مع ذلك يظهر له كشف في مجلسه وإشراق على قلوب جلسائه.

قدم علينا دمشق قاصدا الحج على طريق مصر في سادس عشري جمادى الآخرة سنة سبع بتقديم السين بعد الألف ، وأخبرنا أنه أخذ العلم أيضا عن ملا مصلح الدين اللاري. وسمع الحديث من الشيخ برهان الدين بن العمادي ، وأجازه الشيخ نجم الدين الغيطي مكاتبة ، وحضر مجلس درسي بالجامع الأموي تجاه سيدي يحيى عليه‌السلامة عشية في أثناء رجب هو وجماعته وشيخنا القاضي محب الدين ، وذهبوا لضيافتي وحضروا عندي ليلة كاملة كانت ليلة مشهودة. وخطر لي في ليلة النصف من رجب أن أستجيزه بالإفتاء والتدريس ، فلما أصبحت ذهبت لزيارته وكان نازلا بالعادلية الصغرى داخل دمشق ، فرأيته قد كتب لي إجازة بالإفتاء والتدريس ودفعها إليّ.

١٥٨

وكان يقابل من يأتي بالسلام عليه بالبشاشة والإقبال ويبادر إلى إسماعه الحديث المسلسل بالأولية. وكان من أفراد الدهر ، عليه جلالة العلم وأبهة الفضل ونورانية العبادة ، متوقد وجهه نورا ، ويشهد له من رآه أنه من العلماء العاملين والأولياء الصالحين.

ومن شعره وهو مما تلقيناه عنه وأجازنا به ، وكان حصل له مرض حين تم له ستون سنة من عمره :

لما وعكت بغاية الستين

جافيت كل دنية في الدين

وبذلت جهدي في العلوم ونشرها

للعاملين بها ليوم الدين

ومنه أيضا :

اقنع بما لا بد منه وكف عن

ما قد بدا مما عليه الناس

وإذا كففت عن الذي فتنوا به

ذهبت همومك والعنا والباس

ومنه أيضا :

ربع قواي من سنين قد عفا

والحب أبدل الوصال بالجفا

والدمع من أجفان عيني وكفا

فحسبي الله تعالى وكفى

ورأيناه أطروشا لا يسمع إلا بإسماع في أذنه ، وقال لنا : من نعم الله علي هذا الطرش ، فإني لا أسمع غيبة ولا غيرها ، إلا أني أسمع قراءة القرآن إذا قرىء عندي.

وبالجملة كان فردا من أفراد العصر وأعجوبة من أعاجيب الدهر رحمه‌الله تعالى.

حدثنا أبو الثناء محمود بن محمد البيلوني لما قدم علينا دمشق ، وكان التحديث يوم الأحد سابع عشري جمادى الآخرة سنة سبع بتقديم السين بعد الألف بالعادلية الصغرى داخل دمشق بالقرب من قلعتها ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا المعمر برهان الدين ابن إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحمن الحلبي المعروف بابن العماد بحلب ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا جماعة منهم شيخنا الحافظ العز عبد العزيز بن نجم الدين المدعو عمر ابن محمد بن فهد المكي الشافعي بداره بزيادة دار الندوة من المسجد الحرام رابع ذي الحجة سنة خمس عشرة وتسعمائة ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا والدي الحافظ نجم الدين ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا الخطيب صدر الدين أبو الفتح محمد

١٥٩

ابن محمد بن إبراهيم الميدومي ، وهو أول حديث سمعته منه (ح) قال ابن العماد ومنهم شيخنا العلامة الرّحلة المسند جمال الدين أبو الفتح إبراهيم ابن العلامة علاء الدين القلقشندي الشاذلي من لفظه بالقاهرة في سادس شوال سنة خمس عشرة وتسعماية : حدثنا جماعة من مشايخ الإسلام يزيد عددهم عن عشرين ومئة أعلاهم المسند المعمر شهاب الدين أحمد ابن أبي بكر الواسطي ، وهو أول حديث سمعته منه ، قدم علينا بالقاهرة سنة ست وثلاثين وثمانمائة : حدثنا مسند الآفاق صدر الدين الميدومي (١) وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا النجيب أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني ، وهو أول حديث سمعته منه قال : أخبرنا به الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا أبو سعيد إسماعيل بن أبي صالح أحمد بن عبد الملك النيسابوري ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا به والدي أبو صالح المؤذن ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزار ، وهو أول حديث سمعته منه : حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري ، وهو أول حديث سمعته منه قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، وهو أول حديث سمعته منه عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى

__________________

(١) أقول : إني بفضل الله تعالى أروي حديث الرحمة المسلسل بالأولية عن الشيخ الصالح كامل الموقت الحلبي ، فمما جاء في إجازته لي قوله : وأجزته أيضا بحديث الرحمة المشهور عند المحدثين بالحديث المسلسل بالأولية ، لأن كل راو من رواته لا بد أن يقول فيه عن شيخه وهو أول حديث سمعته منه أو قرأته عليه ، أو يقول وهو أول حديث أجازني به أو أرويه عنه أو رويته عنه لكن لا يصح تسلسله بالأولية عما فوق سفيان بن عيينة ، كما أجازني به والدي السيد الشيخ أحمد الموقت الحلبي وهو أول حديث سمعته منه وقرأته عليه ، وأجازني به (قال) : حدثنا به والدي السيد الشيخ عبد الرحمن الموقت الحلبي وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به والدي السيد الشيخ عبد الله موفق الدين وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به والدي السيد الشيخ عبد الرحمن الشامي الحنبلي وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به به الشيخ محمد بن أحمد عقيلة المكي وهو أول حديث سمعته منه (قال) رحمه‌الله تعالى : سمعته من الشيخ الناسك أحمد بن محمد الدمياطي المشهور بابن عبد الغني وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به المعمر محمد بن عبد العزيز المنوفي وهو أول حديث سمعته منه وأجازني بجميع مروياته في ربيع الأول سنة اثنين بعد الألف (قال) : حدثنا به شيخ الإسلام الزين زكريا بن محمد الأنصاري قدس‌سره وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به خاتمة الحفاظ الشهاب أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني وهو أول حديث سمعته منه (قال) : أخبرنا به الحافظ زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي وهو أول حديث سمعته منه (قال) : حدثنا به الصدر أبو الفتح محمد بن محمد الميدومي وهو أول حديث سمعته منه إلى آخر السند المذكور فوق.

١٦٠