إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

٩٥٩ ـ الشيخ أحمد القاري سنة ١٠٤١

الشيخ أحمد بن عمر المعروف بالقاري ، نسبة لقارة : بين حسة والنبك المشهورة بالبرد الشديد ، نزيل حلب ، الشيخ الصالح المتجرد المتقلب في أفانين الشطح.

ذكره الشيخ أبو الوفاء العرضي في معادنه وقال بعد أن أثنى عليه : نشأ فقيرا وسلك طريق المشيخة والدروشة ، فطاف البلاد وزار مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني. قال : وأخبرني أنه وجد الشيخ حبيب الله البصري * في بغداد وطلب منه عهد القوم على طريقة القادرية ، فأطرق مليّا ثم قال : أجد عليك سيما غيري وأظنه سيما المجذوب أبي بكر الحلبي. قال : ثم جئت إلى الشيخ أبي بكر فقال لي في الوقت والساعة جذبناك بالحبال والرجال ، فإن الشيخ يؤنث المذكر. ولازم خدمة الشيخ زمنا وما كان عنده أعظم من صاحب الترجمة ، فتولى الخلافة بعده جماعات متعددة ، وأيدي الأقدار تبددهم ، وقد كان الزوار لمرقده الشريف لا يحصى عددهم ، والصدقات تتوارد عليهم وهم لا يعملون ولا يستطيعون أن يشتروا ماعونا يطبخون فيه لغلبة الجذب عليهم ، وكلهم محلقون اللحى ، يلبسون المرقعات ويفترشون جلود الغنم ويأكلون الحشيش والكلس ، وبعض المجاذيب منهم يشرب الخمر والعرق ، ولا يصومون ولا يصلون ، وتتوارد عليهم مجاذيب البلاد على هيئات مختلفة ، وصاحب الترجمة معهم لا يقدر أن يخالفهم في صورة الظاهر في شيء ، حتى ضجروا يوما من الأيام فلاموا أنفسهم على أحوالهم وقالوا : مرادنا شيخ يصلح نظامنا ، فنصّبوا المذكور ، فاشترى لهم بسطا وصحونا وبعض حوائج التكية.

ثم زارهم كافل حلب أحمد باشا ابن مطاف ، فلامهم على ترك الصلاة وهذه الأحوال ، ثم أجرى لهم إسماعيل نائب القلعة الماء من قناة حلب ، ولازموا الصلوات الخمس بالأوراد والعبادات ، حتى أشرقت قلوبهم وأضاءت وجوههم وكثرت الصدقات الدارة عليهم ، فعمر لهم حسن باشا ابن علي باشا ميدان الفقراء بالقبة الكبيرة تحتها العواميد العظيمة ، وعمر حمزة الكردي الدمشقي القاعة ذات البركة من الماء ولم يتمها بل وصلت إلى

__________________

(*) في خلاصة الأثر (في ترجمة المذكور) : المصري ، وهو تصحيف. كان قد تضايق من شتم الصحابة ، فحج ثم قطن مصر بالجامع الأزهري ، ثم لزم الطريقة القادرية ، ومر بحلب ثم ارتحل إلى البصرة ومات فيها سنة ١٠١٤.

٢٢١

السراويل ، فأتمها أحمد باشا أكمكجي زاده الوزير ، والوزير الأعظم محمد باشا * كبّر القبة التي على مرقد الشيخ (١) ، وعلي آغا ضابط العسكر عمّر عمارات.

والحاصل فقد أنشأ فيها صاحب الترجمة بتدبيره وحسن رأيه أشياء عظيمة من حدائق لطيفة ومطابخ للطعام ، وصار هذا المزار لا يوجد له نظير بالنظر إلى مزارات الأولياء.

وكان صاحب الترجمة ذا سكون ومصاحبة لطيفة وسخاء مفرط ، لوجيء له بالألوف لفرح بإنفاقها يوما واحدا ، وعماراته كلها صدرت منه بصدر واسع وكرم زائد وتجمل تام للفعلة والمعلمين. وقد لامه شيخ الإسلام المولى أسعد لما مر على حلب على كونه يحلق لحيته مع كون ذلك بدعة ، قال : هكذا وجدنا أستاذنا ، قال : أستاذكم كان مجذوبا وأنتم عقلاء ، فقال : إن شاء الله نطلق سبيل اللحية. ولما سافر المولى أسعد استمر على حلق اللحية حتى قدم على الله.

وكان له معرفة بكلام القوم ومذاكرة في بعض لطائف من الواضحات. ومن محاسنه أنه سمع من أغلب الناس أن الوزير نصوح باشا يريد قتله وهدم أبنيته ، فلم يبال بذلك حتى خرج الوزير المذكور يوما ومعه الفعلة بالفؤوس والمجارف وأهل حلب يظنون أنه يهدم ذلك الموضع ، فاجتمع الناس عند مرقد الشيخ أبي بكر لأجل الفرجة ، والفقراء الذين عنده هربوا وهو قاعد ثابت ، وفي خلال ذلك ظهر أنه يهدم الأبنية التي على سور المدينة. ثم جاءه الباشا زائرا فقال له صاحب الترجمة : قالوا لي عنك إنك غضبان علينا فقلت للناس : الباشا يقدر علينا في ثلاثة أمور : إما القتل فإنا لنا مدة نتمنى الشهادة ودرجتها ، وإما النفي من حلب فلنا مدة نطلب السياحة ، وإما الحبس فلنا مدة نطلب الرياضة ، أتقدر على أكثر من ذلك؟ قال : لا ، ثم قال له طب نفسا وقر عينا ، مالنا بركة إلا أنت ، اليوم أخرجت الفعلة لهدم الدور التي على سور المدينة وليس لي نية على ضرركم أصلا.

__________________

(*) محمد باشا : كان وزير السلطان سليمان ثم سليم ثم مراد.

(١) نقل هذه الترجمة بعينها الشيخ يوسف بن حسين الحسيني في كتابه «موارد أهل الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر ابن وفا» وهنا كتب على الهامش ما نصه : الوزير الأعظم محمد باشا هو المشهور بأكوز محمد باشا المدفون قبالة مدفن الشيخ من جهة الغرب ، ومدفنه مطل على الحديقة الغربية وله خيرات في هذه التكية «تكية الشيخ أبي بكر». وقد توفي في حياة الشيخ أحمد القاري معزولا عن الوزارة العظمى ، وعمر مزارا لنفسه في حياته بإذن القاري وكبر قبة الشيخ وجددها كما هي الآن. انتهى من المؤلف.

٢٢٢

واستمر نحو خمسين سنة في الخلافة لا ينازعه منازع في راحة وافرة وصدقات متواترة تأتيه من الناس ، والكبير والصغير يقبلون يده ، وهو ملازم على الأوراد ويبذل القرى للواردين ، وكل من يرد عليه سقاه القهوة ، ومن يستحق الضيافة أضافه بصدر واسع وخلق كريم. ولكن كانوا في كل يوم وقت الضحوة الصغيرة يديرون الكأس * يأكلونه ويشربون القهوة عليه.

وكان يقول : الدهر مل من طول عمر ثلاثة : أحدهم أنا ، والثاني أبو الجود مفتي حلب ، والثالث شاه عباس. قال بعضهم : والرابع يوسف باشا ابن سيفا. وهذا الكلام محمول على طول عمر هذه الثلاثة وكثرة وقائعهم وأحوالهم بحيث مل الناس من ذكر أمورهم حتى سار الإملال إلى الدهر ، لكن كان أبو الجود فيه نفع لعباد الله تعالى.

ثم اشترى كتبا فيها المقبول الذي له ثمن فوقفها على المكان ، واشترى أراضي ووقفها على الأماكن ، واشترى بستانا ووقفه أيضا على الدراويش وكتب بذلك وقفية وجعل لها متوليا.

ولما مرض أوصى بالخلافة من بعده للدرويش أحمد الكلشني وأعطاه ختمه وأحضر الكشاف عنده وكتب له بذلك حجة. ولما مات أظهر الشيخ مصطفى القصيري ورقة بخط الشيخ أحمد أنه اتخذ الدرويش مصطفى الخليفة من بعده ، واشتد الخصام وبقي هذا يتولى الخلافة مدة ثم يذهب الآخر ويأتي بأمر سلطاني ليكون الخليفة ويعزل الآخر ، وهلم جرا ، واختل أمر ذلك المكان غاية الاختلال.

وكانت وفاته في سنة إحدى وأربعين وألف (١)

وقال أديب الشهباء السيد أحمد النقيب الآتي ذكره يرثيه.

ما الكون سوى صحيفة الأكدار

خطّت لذوي العقول والأفكار

كم موعظة تضمنت أسطرها

إن أنت جهلتها فأين القاري

وفي لفظ القاري إيهام التورية كما لا يخفى ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(*) في الأصل : يديرون الكلس.

(١) دفن في حجرة قريبا من باب مسجد التكية المذكورة قبالة مزار الشيخ أبي بكر. ا ه من كتاب «موارد أهل الصفا» للصلاح الكوراني ، وقدمنا ذلك في الكلام على هذا المكان في ترجمة الشيخ أبي بكر.

٢٢٣

٩٦٠ ـ زين الدين الأشعافي المتوفى سنة ١٠٤٢

زين الدين بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي ، الشافعي الحلبي المعروف بالأشعافي ، نزيل دمشق ، الفاضل الأديب العروضي السائر ذكره.

ولد بحلب ونشأ بها ، وأخذ عن جماعة ، ولما دخل البهاء الحارثي العاملي حلب أخذ عنه وبرع في عدة فنون ، وألف وصنف ، ومن جملة تأليفاته شرح على الشفا ، وله رسائل في العروض كثيرة ، منها «بل الغليل في علم الخليل وعمدة النبيل» ، ورسالة بين فيها عروض أبيات من شواهد النحو سها فيها العلامة العيني في مختصر شرح الشواهد سماها «التنبيهات الزينية على الغفلات العينية» قال في ديباجتها : وكنت أولا أنسب ذلك إلى تحريف النساخ ، إلى أن وقفت على نسخة قرئت عليه وكتب خطه في مواضع منها وفي آخرها إجازة بخطه ، فتصفحتها فإذا هي مشتملة على ما في النسخ مما هو خلاف الصواب.

وولي نظر المدرسة الطرنطائية داخل باب الملك بحلب وتعرف الآن بالأويسية لسكن الطائفة الأويسية بها. ثم خرج إلى الروم ومكث بها ، ثم دخل دمشق واستقر بها وانتفع به كثير من أهلها في العروض وغيره.

وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وقال في وصفه : وكان له مذاكرة تأخذ بلب الصاحب ، ومحاضرة ترغّب عن محاضرات الراغب ، ورقة طبع تملك زمام قياده لكل ريم ، وتهيمه لكل وليد يراه هيمانه بنسيم. وله شعر نضير منه قوله :

كتبت وأفكاري وحقك مزقت

كما قد بدت في الحب كل ممزق

ولو حم لي التوفيق كنت تركته

ولكنني أصبحت غير موفق

إذا قيل أشقى الناس من بات ذا هوى

فلا تنكرن هذا المقال وصدق

وهذا كقول الآخر :

سألتها عن فؤادي أين مسكنه

فإنه ضل عني عند مسراها

قالت لدي قلوب جمة جمعت

فأيها أنت تبغي قلت أشقاها

وكتب لبعض أصحابه يعزيه عن نعل له ضاعت :

تعز أخي إن كنت ممن له عقل

ولا تبد أحزانا إذا ذهبت نعل

٢٢٤

ولا تعتب الدهر الخؤون فدأبه

لعقد اجتماع الشمل دون الورى حلّ

لحى الله دهرا لا يزال مولّعا

بتكدير صفو العيش ممن له فضل

يفرق حتى شمل رجل ونعلها

أشد فراق لا يرى بعده شمل

فما شئت فاصنع ما اللبيب بجازع

ولا تارك صفوا ولو زلت النعل

بحقك قم نسعى إلى الراح سحرة

نجدد أفراحا لكل صدا تجلو

إلى دار لذات وروض مسرة

لرحب فناها من غصون المنى ظلّ

وقد أورد له هذه الأبيات الخفاجي في ترجمته وذكر معارضات وقعت لها في هذا لخصوص. وقد ترجمه الشهاب ترجمة لطيفة (١). وكان في سنة خمس وثلاثين وألف موجودا في الحياة فإني قرأت بخطه في آخر رسالة التنبيهات أنه فرغ من كتابتها يوم الأحد ثاني عشري صفر سنة خمس وثلاثين وألف ، ثم أخبرني بعض الحلبيين ممن يعرفه أنه توفي في حدود سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين بعد الألف والله أعلم.

٩٦١ ـ فتح الله بن محمود البيلوني المتوفى سنة ١٠٤٢

فتح الله بن محمود بن محمد بن محمد بن الحسن الحلبي العمري الأنصاري المعروف بالبيلوني ، الشافعي الفقيه الأديب المشهور.

كان أوحد أهل عصره في فنون الأدب وعلو المنزلة ، وشهرته تغني عن الإكثار في تعريفه. أخذ عن والده البدر محمود الماضي ذكره ، وسافر عن حلب إلى الروم صحبة الوزير نصوح ، وكان صار معلما له ، فحصل على جاه عريض. ثم انحط عنده فتولى منها مكة والمدينة والقدس ودمشق وطرابلس وبلاد الروم ، وألف تآليف فائقة ، منها «حاشية على تفسير البيضاوي» و «الفتح المسوي شرح عقيدة الشيخ علوان الحموي» ، وله الكتاب الذي سماه «خلاصة ما يعول عليه الساعون في أدوية دفع الوبا

__________________

(١) قال الشهاب في الريحانة : فاضل لين العود ماجد الأعراق ، حلو الشمائل عذب الأخلاق ، له آثار على أكف القبول مرفوعة ، وكلمات كثمرات الجنان لا مقطوعة ولا ممنوعة ، صحبني وهو يقطف نور التحصيل ، وللفضل إلى معاليه انتظار وتأميل ، فتجاذبنا أهداب المذاكرة ، وجررنا ذيول المناشدة والمحاورة ، فمما أنشدنيه من شعره قوله : كتبت وأفكاري إلخ الأبيات.

٢٢٥

والطاعون» (١) ، وهو مشهور ، وله مجاميع اشتملت على تعاليق غريبة. وأخذ عنه خلق كثير.

وله شعر كثير ، منه ما قرأته في «الجواهر الثمينة» للسيد محمد بن عبد الله المعروف بكبريت المدني قال : أنشدني إجازة لنفسه بحلب الشيخ فتح الله البيلوني قوله :

السبت والإثنين والأربعا

تجنب المرضى بها أن تزار

بطيبة يعرف هذا فلا

تغفل فإن العرف عالي المنار

(قلت) : هذا عرف مشهور ، لكن ورد في السنة ما يرد السبت منه ، فقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفقد أهل قبا يوم الجمعة فيسأل عن المفقود فيقال له : إنه مريض ، فيذهب يوم السبت لزيارته.

ومن كلام صاحب الترجمة في صدر تأليف له : ولما كانت الهدايا تزرع الحب وتضاعفه ، وتعضد الشكر وتساعفه ، أحببت أن أهدي إليه هدية فائقة ، تكون في سوق فضائله نافقه ، فلم أجد إلا العلم الذي شغفه حبا ، والحكم التي لم يزل بها صبا ، والأدب الذي اتخذه كسبا ، ورأيت فإذا التصانيف في كل فن لا تحصى ، والأمالي من سطور العلماء وطروس الحكماء أوسع دائرة من أن تستقصى ، إلا أن التأنق في التحبير من قبيل إبراز الحقائق في الصور ، ومن هنا قيل : لكل جديد لذة ولا خلاف في ذلك عند أهل النظر.

وذكر السيد محمد كبريت المذكور آنفا في كتابه «نصر من الله وفتح قريب» أنه أخبره أنه قال له عمه أبو الثناء محمد بن محمود البيلوني : لا تباحث من هو أعلى منك مرتبة ، لأنه ربما انجر الكلام إلى مسألة معلومة عندك لم يطلع عليها الشيخ فيحمر وجهه ، ثم لا تكاد تفلح إن رأيت في نفسك شيئا لذلك ، ولا من هو مثلك ، فإنه لا يسلم لك كما أنك لا تسلم له فيفسد عليك عقلك وتفسد عليه عقله ، والمعاصر لا يناصر ، وعليك بمن هو دونك فإنه يستفيد منك بغير إنكار وتستفيد أنت بإفادته ، فقد روي عن أبي حنيفة : من أحب أن يظهر الخطأ في وجه مباحثه فقد أخطأ هو لرضاه بالخطأ ، وإنما يعرف حال أهل العلم من جال في ميدانهم بنور الإنصاف. كان السيد تلميذ السعد يستفيد منه كل يوم أربع مسائل ويفيده ثمانية مسائل ، وكان عمره عشرين سنة وعمر شيخه ثمانين ، فقيل

__________________

(١) منه نسخة في الأحمدية بحلب وفي مكتبة بيت سلطان بحلب وفي السلطانية بمصر.

٢٢٦

له في ذلك فقال : أما الأربع فأضمها إلى الثمانية فتكون اثني عشر ، وأما الثمانية التي أفيدها فعدم إفادتها لا يزيد فيما لدي ، وما أحسن قول من قال :

أفد العلم ولا تبخل به

وإلى علمك علما فاستزد

من يفده يجزه الله به

وسيغني الله عمن لم يفد

وقال ابن المعتز :

لا تمنعنّ العلم طالبه

فسواك أيضا عنده خبر

كم من رياض لا أنيس بها

هجرت لأن طريقها وعر

وقد وقفت على أربعة كراريس جمعها ابن أخيه محمد بن فضل الله من نتفه التي لم تصل إلى حد القصيدة ، وغالبها في النصائح والحكم والاستغاثة ، فمن ذلك قوله :

يقولون دار الخصم تظفر بوده

فذلك درياق من الغل في القلب

فما ازداد مذ داريته غير جفوة

لأن قديم الداء مستصعب الطبّ

وقوله :

بباب الله لذ في كل قصد

وغض الطرف عن نفع الصحاب

فماء الأرض لا يروي ثراها

إذا لم ترو من ماء السحاب

وقوله : وينسبان لفتح الله ابن النحاس ، والصواب أنهما لفتح الله هذا :

يقولون وافق أو فنافق مرافقا

على مثل ذا في العصر كلّ لقد درج

فقلت وأمر ثالث وهو قول أو

ففارق وهذا الأمر أدفع للحرج

وقال مضمنا :

لا تجزعنّ لحادث

وبصدق عزمك فانفذ

فالصبر أمنع جنة

والله أعظم منقذ

فالجأ لعز جنابه

ومن الهموم تعوّذ

واصرف تصاريف الأمور

إلى ورائك وانبذ

إن المقدر كائن

ولك الأمان من الذي

٢٢٧

ومما قاله عاقدا لما روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما :

وقال ابن عباس ثلاث جزاء من

حباني بها لا يستطاع فيحصر

سماع لتحديثي وقصدي لحاجة

وتوسيعه لي مجلسا حين أحضر

ولقد أجاد في قوله :

المرء ما دام في عز وفي جدة

فكل خل له بالصدق متصف

لا عرّف الله عبدا صدق صاحبه

فإنه بانكشاف الحال ينكشف

وقوله :

هذا مثال جرى فافطن لباطنه

فعارف الوقت من للوقت قد عرفا

إذا ابتليت بسلطان يرى حسنا

عبادة العجل قدّم نحوه العلفا

وقوله :

توق من العداوة للأداني

فكيف بمن إذا ما شاء كادك

تبيت لرفعة تبغي وجوها

ولا تدري بماذا قد أرادك

وأصابه رمد وهو بالقاهرة فكتب لبعض أحبابه :

أيها الشهم قد ملكت فؤادي

بوداد ما شيب قط بمنّك

إن عيني شكت لبعدك عنها

لا أراك الإله سوءا بعينك

ومن مجونه المستملح :

لا أرتضي المرد ولا أبتغي

إلا لقا الحسنا لسرّ بطن

فقل لمن نافق في حبها

إن من الإيمان حبّ الوطن

ومما يستجاد له قوله في العيون ، ويعبر عنها بالنظّارة التي تستعملها الناس لتقوية البصر

رب صديق عاب نظّارة

يقوى بها الناظر من ضعفه

وعن قليل صار في أسرها

يحملها رغما على أنفه

وقال متوسلا قبل دخول مكة في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وألف :

٢٢٨

أبقنا منك بالعصيان جهلا

وأنت دعوتنا حلما ومنّا

فقابل بالرضا يا رب واغفر

بمحض الفضل ما قد كان منّا

وهذا ما وقع اختياري عليه من أشعاره وفيها كفاية.

وكانت ولادته في شهر رمضان سنة سبع وسبعين وتسعمائة ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين بحلب ودفن بزاوية آبائه (١).

والبيلوني بفتح الباء الموحدة ، وهو نوع من الطين يستعمل في الحمّام ، وأهل مصر تسميه طفلا. قال الخفاجي : وكلاهما لغة عامية لا أعرف أصلها * ، كذا ذكر. وفي الصحاح : الطفل بالفتح : الناعم ، يقال : جارية طفلة أي ناعمة. ولعله سمي به هذا النوع من الطين لنعومته لأنه كالصابون تغسل به الأبدان سيما في الحمّام. ا ه.

وقال الشهاب الخفاجي في الريحانة في ترجمته : أديب فاضل له طرف وملح ، وشعر سمح طبعه منه مما سنح ، وله مجلس من مجالس القصاص والنصاح ، ينادي به كل طالب حي على الفلاح ، رأيته وقد قدم الروم بصحبة الوزير نصوح ، وشمس فضله من أفق معاليه تلوح ، فانقطع عن الاختلاط ، وربما حرك السكون ردىء الأخلاط. وله شعر وشعور ، هما من خير الأمور ، كقوله :

يقولون نافق أو فوافق مرافقا ... إلخ البيتين المتقدمين.

وقوله في بعض منازل الحج المسمى بأكرة ويقال لها أكرى بالقصر أيضا :

تعففت عن زاد الرفيق ومائه

وسرت لبيت الله أهدي له شكره

ووفرت ما عندي احترازا وإنني

لصوني ماء الوجه لم أر ما أكره

_________________

(١) مكان الزاوية في المحلة المعروفة بجب أسد الله في الزقاق الذي هو وراء الخان الجديد المعروف بخان الميسّر ، وداخلها خراب ولم يبق منها إلا جدرانها وبيت مشرف على الخراب يسكنه الفقراء. ووقف بني البيلوني وقف عامر ذو ريع ومتولوه أو دائرة الأوقاف لا يلتفتون إلى عمارة هذا المكان. وقبر المترجم بجانب باب الزاوية وله شباك صغير على الجادة.

(*) يرى محمد خير الدين الأسدي في «موسوعة حلب المقارنة» أن العربية استمدت البيلون من اليونان Valaniyon بمعنى الحمّام ، والحمّام في اللاتينية : Balnea والعربية سمت الحمّام : البلّان. وجاء في اللسان (ط ف ل) : الطفال : الطين اليابس ، يمانية.

٢٢٩

ومن أمثاله المرسلة :

ربّ داء أضرّ منه الدواء *.

ومنه :

إذا ابتليت بسلطان يرى حسنا

عبادة العجل قدّم نحوه العلفا

وله :

أنت كالمنخل الذي صار يلقي

الصفو للناس ممسكا للنخاله

وهذا مما وقع معناه في بعض الكتب الإلهية كما نقله الإمام الرازي ، وقد كنت قلت فيه :

الدهر كالغربال في

خفض ورفع لا محاله

إن حط لب لبابه

رفع الحثالة والنخاله

وترجمه ابن معصوم في «سلافة العصر» فقال : فتى العلم وكهله ، وبيت الفضل وأهله ، الحكيم الحكم ، السائر الأمثال والحكم ، معدن المعارف وكنز الإفادة ، وكعبة الفضائل وقبلة الوفادة ، تصانيفه في سماء الوجود كواكب ، وتآليفه لجمع الفوائد مواكب ، إلى أدب مورده في البراعة معين ، يحسد إثمد مداده كحل عيون العين ، وديوان شعره عزيز المثال ، وأكثر مقاطيعه حكم وأمثال. وكان له مجلس وعظ ونصح ، يزدحم لسماعه البكم والفصح ، فيقرع الأسماع بتذكيره وتحذيره ، ويصدع قلوب أولي المنكر بنكيره ، ويقص من المواعظ أحسن القصص ، ويقسم من أخبار الخوف والرجاء أوفر الحصص. ولم يزل سالكا هذا السبيل ، واردا من صفو عينها السلسبيل ، حتى طوى الدهر منه ما نشر ، والدهر ليس بمأمون على بشر ، فتوفي سنة اثنتين وأربعين وألف بحلب الشهباء ، ودفن بزاوية آبائه النجباء. ومن مقاطيعه المشار إليها :

يقولون إن العتب باب إلى القلى

فقلت وترك العتب باب إلى الحقد

ورب قلى تلقاه بردا على الحشا

ولكن نار الحقد دائمة الوقد

وقوله :

وإذا أردت أن تكون براحة

في صحبة الخلطاء دون جفاء

__________________

(*) هذا عجز بيت أورده له ابن معصوم في السلافة ضمن بيتين كما سيأتي.

٢٣٠

فافرض قديمهم حديثا في الولا

واغنم ولاه بلا اشتراط وفاء

وقوله :

وإذا أراحك صاحب من منة

بالمنع فاشكر منعه فهو العطا

وإذا أباحك منحة فاعدد له

شكرا وحاذر في الشهود من الخطا

وقوله :

من يحاول لمن أساء جزاء

فهو فيه ومن أساء سواء

خير ما استعمل اللبيب احتمال

رب داء أضرّ منه الدواء

المصراع الأخير من هذين البيتين أورده صاحب الريحانة قائلا : إنه من أمثاله المرسلة ، ولم يذكر ما قبله فذكرناه لئلا يتوهم أنه مصراع قد. وقوله :

إذا كنت صدر القوم قل ما تريده

وإن كنت دونا فاستمعهم وسلم

وإن كنت فيما بين ذلك رتبة

فكن واعيا للقول ثم تكلم

وقوله :

لا تحقرن من الكرام صغيرهم

فابن الكرام بكل حال يكرم

واعلم فرب صغير قوم في الورى

بكبير قوم آخرين وأعظم

وقوله :

إذا ما احتجت في أمر لشخص

تكن في أسره بمقام ذلك

وإن تستغن عنه تكن أميرا

وما المملوك في أمر كمالك

وهذا من قول بعض السلف : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره. ا ه.

٩٦٢ ـ محمد بن عبد الرحمن البتروني المتوفى سنة ١٠٤٢

محمد بن عبد الرحمن بن محمد ، وسيأتي تمام نسبه في ترجمة ابن أخيه إبراهيم بن أبي

٢٣١

اليمن البتروني الحلبي ، مفتي الحنفية بحلب ، ويعرف بمفتي العقبة لسكناه في محلة العقبة.

كان قليل البضاعة في العلم ، وتولى الفتوى ولم يكن أهلا لها ، وسبب ذلك أن الشيخ فتح الله البيلوني كان كثير العداوة لأخي محمد الكبير وهو أبو الجود المقدم ذكره ، وكان البيلوني معتقد الوزير الأعظم نصوح باشا وشيخه ، واتفق أن محمدا صاحب الترجمة ذهب إلى الروم لطلب المعاش من قضاء أو غيره ، فأنزله البيلوني عنده وأكرمه وقال له : أقضي مآربك ، ثم بعد أيام قال له : قد شفعت لك عند الوزير الأعظم وأخذت لك منصبا جليلا ، ولا أعطيك الأوراق حتى تقطع البحر وأودعك إلى أسكدار وأسلمها لك ، ففعل ذلك ، فلما ودعه سلمه مكتوب الفتوى ، فامتنع وقال : أنا لست أهلا لذلك ، وهل يمكنني التصرف بها مع وجود أخي الشيخ أبي الجود؟ فقال له : إن لم تقبل أسعى على إهانتك ونفيك ، فلم يسعه إلا القبول. ولما دخل إلى أخيه قبّل أقدامه وعرض عليه هذا الأمر فقال : جعله الله مباركا ، وأنا أعلم أن هذا من مكر فتح الله ، فافعل ولا تخالف ، فإننا نخشى شره. ثم بعد لم يقبلها أبو الجود ، وتصرف بها مدة محمد ، ووجهت بعده لأخيهما أبي اليمن ، وكان أبو اليمن ومحمد بمنزلة الخدام عند أخيهما الكبير أبي الجود المذكور.

وكانت وفاة محمد في سنة اثنتين وأربعين وألف.

٩٦٣ ـ محمد الشهير بغلامك البوسنوي قاضي حلب المتوفى سنة ١٠٤٥

محمد الشهير بغلامك البوسنوي قاضي القضاة بحلب ، العالم المشهور صاحب الحاشية على الجامي ، وله حاشية على الزهراوين وأخرى على شرح القطب للشمسية ومثلها على شرح المفتاح للسيد.

وكان عالما متقشفا وفيه عجب وكبر ، وسافر من حلب وهو مولى وأقام مقامه السيد محمد بن النقيب ، ولما وصل إلى أسكدار تألم منه مصطفى باشا السلاحدار خوفا أن يبلغ خبر ظلم وكلائه في بلاد العرب فيحصل له ضرر ، فوبخه ثم سيّره إلى الحصار وأمره بلزوم الخلوة. ووجهت عنه حلب بعد أيام وشاع أنه أصيب بالنقرس.

(وحكى) أنه جاءه رسول من جانب السلاحدار المذكور ومعه بشارة بتوجيه قضاء قسطنطينية إليه ، فقال للرسول : قل له : (وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل) ، فلم

٢٣٢

تمض ثلاثة أيام إلا مات.

وكان وهو بحلب أقرأ حاشيته على الجامي وكتبت عنه واشتهرت بحلب ، وفيها يقول السيد أحمد بن النقيب :

حواشي إمام العصر بكر عطارد

محمد السامي على هام بهرام

صوارم أفكار إذا هز متنها

نبا كل هنديّ وكل حسام

وأبحر تحقيق إذا طم موجها

فهيهات منا عاصم لعصام

وخمرة توفيق زكت فتسارعت

إلى حانها أهل الفضائل بالجامي

وحكى لي شيخنا العلامة أحمد بن محمد المهمنداري مفتي الشام أن صاحب الترجمة قال يوما للنجم محمد الحلفاوي : السيد أحمد بن النقيب يقول وهو غائب : إنه أفضل منك ، فقال : صدق ، وهو أكثر إحاطة مني. وقال لابن النقيب مثل هذه المقالة في غيبة النجم. فقال : لا شك فيما يقول ، فإنه أستاذي ، والأستاذ على كل حال له رتبة الأفضلية.

وكانت وفاة غلامك سنة خمس وأربعين وألف. والكاف في غلامك للتصغير في اللغة الفارسية كما ذكر في مصنفك وأمثاله.

٩٦٤ ـ أبو اليمن بن عبد الرحمن البترونيوفى سنة ١٠٤٦

أبو اليمن بن عبد الرحمن بن محمد ، وهو والد إبراهيم البتروني الحلبي الآتي ذكره ، وقد ذكرنا تتمة نسبه هناك فلا حاجة بنا إلى ذكره هنا.

وكان أبو اليمن هذا مفتي الحنفية بحلب بعد أخيه أبي الجود المار ذكره. كان فاضلا فقيها متواضعا حسن الخلق جوادا ممدوحا ، نشأ في الجد والاجتهاد ، وقرأ وأخذ عن علماء عصره ، ودرس بالمدرسة العادلية ، وأفتى مدة طويلة ، وكان له شأن رفيع ، ولأهل حلب عليه إقبال زائد لسلامة طبعه وتودده وكرم أخلاقه.

ودخل دمشق حاجا في سنة أربع بعد الألف ، فصادف قبولا وافرا ، وأكرم نزله جدي القاضي محب الدين لسابق مودة بينه وبين أخيه أبي الجود.

٢٣٣

وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وقال : أدركته وقد خلق عمره وانطوى عيشه. وبلغ ساحل الحياة ووقف على ثنية الوداع ، ولم يبق منه إلا أنفاس معدودة وحركات محدودة ، ومدة فانية وعدة متناهية ، وهو بحر علم وطود حلم ، وواحد الآفاق في مكارم الأخلاق. ومن لطائفه قوله في مكتوب أرسله إلى شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر مفتي التخت السلطاني عند ذكر اسمه : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)* وما كتبه في صدر كتاب إلى المولى فيض الله قاضي العساكر الرومية قوله :

لتهن العلا إذ صرت حقا لها بدرا

وزيّن عقد الفضل منك لها النحرا

فحمد لك اللهم قد سعد الورى

وصار بفيض الله نهر الندى بحرا

ومن شعره قوله في مجريّ اسمه عبد اللطيف :

عبد اللطيف للطفه

سبق الذي جاراه

فكأنه ريح الصبا

يحيي القلوب سراه

وقوله في الغزل مضمنا :

وبي رشأ أحوى إذا ماس في الربى

وهز قواما منه تحتجب القضب

علقت به حتى هلكت صبابة

ومن ذا يرى هذا الجمال ولا يصبو

وله غير ذلك. وكانت وفاته سنة ست وأربعين وألف وبلغ من العمر ثمانين سنة رحمه‌الله.

٩٦٥ ـ أصلان دده المجذوب المتوفى سنة ١٠٤٨ أو ١٠٤٩

أصلان دده المجذوب نزيل حلب.

قال أبو الوفا العرضي المذكور آنفا عندما ذكره : اخترط في مبادي العمر شوك القتاد ، واحتمل المشقات والأنكاد ، من الجوع والعطش والعري والسهر (والقمل وسب الناس له ، وطردهم إياه عن مواطن نومه وهجوعه) **. وكان ينام في المساجد بغير غطاء (ولا

__________________

(*) النمل : ٨٨.

(**) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

٢٣٤

وطاء ، أذل من وتد وأحقر من نقد) * مشغولا بخويصة وجوده في منادماته وشهوده وكان نائبا لبعض قضاة حلب ، فحصل له الجذب الإلهي فيها ، يقال إنه قطع خصيتيه. قال : وسمعته يقرأ أحيانا بعض عبارات «كافية» ابن الحاجب. وكان يسرد أحيانا آيات قرآنية. ولازم بيت القهوة فكان لا يخرج منها ليلا ولا نهارا إلا أحيانا قليلة ولا يتكلم مع الناس إلا القليل من الكلمات ، تارة لها انتظام وأخرى بدونه. ثم خدمه رجل يقال له الشيخ محمد العجمي ، وكان شيخا معلما لبعض الأكابر من أرباب الدول ، وكان له صوت حسن وخط حسن ، فأجل مقامه وأظهر احترامه ، فعكف الأكابر عليه وقدمت الأموال إليه ، وشاهد كثير من الناس تصرفه التام (بإذن العليم العلّام) *. ومن كراماته ما أخبرنا به صهرنا الشيخ أحمد (جلبي) * الشيباني : وكان عبدا صالحا معتقدا في الأولياء من ذرية قوم كرام من ذرية بني الشيباني ومن ذرية بيت الشحنة أنه كان لوالده (مصطفى جاويش) * معتق يقال له سليمان ترقى في الرفعة حتى صار كتخداي جعفر باشا كافل البلاد اليمنية أنه لما رجع من اليمن على أنطاكية استقبله أحمد المذكور فأخرج له ورقة تتضمن أن الشيخ محمد الزجاج من أهل اليمن يسلم على أصلان دده ويقبّل أياديه وقال لي : قبّل أياديه عني ، فأنا الآن مشغول بخدمة الباشا لا أستطيع الذهاب إلى المذكور ، فأنت كن نائبا عني. فلما جاء أحمد المذكور قام له أصلان دده قائلا : مرحبا بالذي جاء لنا بسلام أهل اليمن ، كررها أربع مرات ، ثم قال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وكررها أربع مرات ، ثم قال : رأيت الجمل قل ولا الجمّال ، وكررها أيضا ، كل هذا وأحمد المذكور لم يكلمه بذلك ولا شطر كلمة ، وإنما عرض عليه الأمر في الباطن. وهذه الكلمات قالها بالتركي ، فإن أصلان دده كان لا يعرف العربية ولسانه تركي ، فقال له درويش علي خليفته الجالس في خدمته : يا سيدي ، حضرة الدده يقول لكم السلامة ولكم اليمن والبركة ولكم الجمال لمكة ، فقال له : يا مولانا صدقتم هذا تأويل كلام الشيخ :

سارت مشرّقة وسرت مغرّبا

شتان بين مشرّق ومغرّب

ومن كراماته أن عسكريا اشترى من باياس أرزا وبنا وسكرا وقال في ضميره : أعطي للمذكور منه ستة عشر أبلوجا من السكر. (وحملها إلى حلب : فقال له أخوه : الشيخ يشرب أبلوجا واحدا) والباقي يبيعه خليفته سيدي علي ويحط الثمن على دراهمه الكثيرة ،

__________________

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

(*) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن قطعة من «معادن الذهب» تحقيق الدكتور محمد ألتونجي.

٢٣٥

ثم عدل وقال : آخذ له أبلوجين ، ثم حمل السكر من باياس ، فسقط عن الدابة ووقع في الماء حتى وصل إلى التلف ، وقدر الله أن البن والأرز كانا يباعان بأحسن ثمن فانحط ثمنها ، ففي الحال ذهب وأعطى بقية ما نذره في ضميره ، فما مضى ثلاثة أيام حتى باع الجميع بأرفع الأثمان.

ومنها أني الفقير أردت أن آخذ مكانا خربا كان أصله يباع فيه غزل الصوف من مستحق وقفه ، فطلبته منه فامتنع ، ووقع في خاطري ، وكان المذكور كثيرا ما يزورنا في زاويتنا العشائرية ويدخل إلى بيتنا ، ولبيتنا باب آخر إلى الجراكسية وإلى الموضع الذي طلبته ، وما خرج المذكور قط من ذلك الباب ، فزارنا ودخل إلى بيتنا وفتح ذلك الباب وتوجه إلى ذلك المكان وأسند إليه ظهره زمانا طويلا ، ثم عاد إلى بيتنا وخرج إلى زاويتنا. ففي اليوم الثاني جاءني مستحق الوقف يطلب مني ما كنت ذكرته له ، وقضى الله المصلحة.

ومنها أنه يوما من الأيام طلب ديوان حافظ * ، واستمر عنده نحو شهر وهو ينظر إليه ويقبله ، فبعد ذلك تواترت الأخبار أن الحافظ صار وزيرا أعظم وكان حينئذ في آمد.

وكانت الهدايا والنذورات تأتيه على التوالي ، وتعطيه أرباب الدول المئآت من القروش بحيث إذا شفع في أعظم شفاعة تقبل ، مع أنه لا يدرك شيئا بالكلية لغلبة الجذب عليه ، حتى بنى له خليفته سيدي علي دكاكين وبيوتا ، وأخذ له خان الكتان ، واتخذ له قهوة بعض الدكاكين وقف ناصر الدين بن برهان ، وبعضها وقف زاوية بيت الشيخ دامان الشيخ إبراهيم الحبال وكتبها (علي جلبي) لنفسه ، فالخلوات ملك له ، ثم وقفها. وأما الأرضية فإنها للغير ، بعضها لجامع ناصر الدين بيك وبعضها لزاوية بيت الشيخ دامان في سويقة الحجارين ، واتخذ هذا البناء في زمن يسير ، وزاره الحافظ وهو الوزير الأعظم ، فأعطاه ألف دينار.

ومن عجيب أمره أنه قبيل موته حضر لديه إنسان يشبهه من كل وجه بحيث لو رآه الصغير الذي لا يدرك شيئا وقيل له من هذا لقال أخو أصلان دده ، فادعى أنه أخوه وجلس هناك ، وسيدي علي ينكر ذلك ، فأحضر سيدي علي نائب المحكمة الصلاحية وأحضر هذا الرجل فقال : من أنت؟ فقال : أنا فلان بن فلان وأمي فلانة ، فسمى أباه وأمه ،

__________________

(*) يقصد حافظ الشيرازي الشاعر الفارسي المتوفى سنة ٧٩٢.

٢٣٦

وسئل صاحب الترجمة وهو لا يدرك شيئا من الأمور فقال : أنا فلان وأبي فلان وأمي فلانة ، فسمى أباه وأمه بغير ما سماه ، وأثبت النائب أنه ليس أخاه. ثم لم يفدهم ذلك شيئا.

واستمر يأخذ من وقف التكية حتى مات.

ومنها ما شاهد الناس منه أنه لما كان السلطان يطلب بغداد كان صاحب الترجمة في تعب باطني عظيم.

وكانت وفاته بعد فتح بغداد بقليل والفتح كان في سنة ثمان وأربعين وألف ، وقد عاش نحو مائة سنة رحمه‌الله تعالى ا ه.

أقول : وهو مدفون بالخانكاه البلاطية التي قدمنا الكلام عليها في الجزء الرابع (ص ٢٠٧) ويعرف هذا المكان الآن باسم المترجم.

٩٦٦ ـ القاضي محمد بن محمد بن بهرام الكوراني المتوفى سنة ٧٠٥

٩٦٧ ـ والقاضي محيي الدين الكوراني المتوفى سنة ٩٨٢

٩٦٨ ـ والقاضي سعد الدين الكوراني المتوفى سنة ٩٨٣

٩٦٩ ـ والقاضي صلاح الدين بن محيي الدين الكوراني المتوفى سنة

١٠٤٩

بنو الكوراني عائلة قديمة في حلب يرجع عهدها إلى ما قبل سبعمائة سنة ، وربما كانت أقدم عائلة لها ذرية باقية إلى الآن.

وأول من سكن منهم حلب على ما أعلم محمد بن محمد بن بهرام قاضي حلب المتوفى سنة ٧٠٥ ، ويغلب على ظني أن بني الكوراني الموجودين الآن هم من ذرية محمد المذكور ، وقد فاتني أن أذكر ترجمته في موضعها ، وهو من رجال «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» للحافظ ابن حجر. قال ثمة :

محمد بن محمد بن بهرام بن حسين الكوراني المدني ثم الدمشقي شمس الدين الشافعي قاضي حلب.

٢٣٧

ولد سنة ٦٢٥ ، وأخذ بمصر عن ابن عبد السلام وغيره ، ومات سنة خمس وسبعمائة ، نقلته من كتاب العثماني * قاضي صفد. وبرع في المذهب وأفتى ودرس ، ثم ولي قضاء حلب فأقام بها دهرا طويلا. وكان محمود الأحكام على ضيق خلقه إلى أن عزل بسبب كثرة مخالفته لقراسنقر وبقيت معه الخطابة ، واستمر شيخ الجماعة ومفتي البلد إلى أن مات في جمادى الأولى سنة خمس وسبعمائة ا ه.

والعبارة كما ترى صريحة في أنه قطن حلب إلى أن توفي في السنة المتقدمة.

ثم رأيت في قطعة من تاريخ الشيخ عمر العرضي في حوادث سنة (٩٨٢) قال فيها : في جمادى الأولى مات القاضي محيي الدين ابن القاضي شمس الدين الكوراني الشافعي ودفن في تربة أعدها لنفسه بأرض الرحبي ، ذكرناه في المعجم.

وقال في حوادث سنة (٩٨٣) : وفيها وقفت على بيتين أسندا إلى القاضي سعد الدين الكوراني الشافعي سائلا الشاب الفاضل عمر بن الشيخ محمود البيلوني وهما :

أيا خير من أبدى القريض بشعره

وأحسن من خط الكتاب ومن أملى

إذا قصد المحبوب قتلي ببعده

أطالبه بالروح في شرعنا أم لا

فأجابه الشاب المذكور :

سعدت بحكم الحب يا من به حلّا

إذا أخذ المحبوب شيئا له حلّا

ولكن شينا أن نطالبه بها

ليمنحه في كل حين بها وصلا

ويظهر أن سعد الدين هو أخو محيي الدين المتقدم ، ولم أقف على تاريخ وفاته.

وخلف القاضي محيي الدين ولدين هما القاضي محمد تاج الدين والقاضي صلاح الدين ، أما الأول فإن المحبي لم يقف على تاريخ وفاته ، وكذا العرضي لم يذكرها في مجموعته ، وستأتيك ترجمته مع ترجمة ولده أبي السعود المتوفى سنة ١٠٥٦. وأما القاضي صلاح الدين وهو واسطة عقد هذا البيت فكانت وفاته سنة ١٠٤٩ ، وإليك ترجمته :

قال المحبي : (القاضي صلاح الدين) المعروف بالكوراني الحلبي مولدا وتربة ، شيخ

__________________

(*) في الأصل : العمادي.

٢٣٨

الأدب ومركز دائرته بقطر الشهباء. وكان رئيس الكتاب بمحكمة قاضي قضاتها ، وله أخ اسمه تاج الدين كان يتولى النيابة بها.

والقاضي صلاح الدين هذا من مشاهير الأدباء ، له شعر مطبوع ونظم مصنوع مع مشاركة في فنون عديدة وخبرة بمفاهيم عجيبة. وهو من المكثرين في الشعر ، فليس لأحد من أبناء عصره عشر ماله منه الشعر ، وناهيك بمن لم يخل بياض يوم ولا سواد ليلة من تبييض وتسويد ، ولم يبق أحد يتوسم فيه النجابة إلا مدحه أو راسله أو طارحه إلى أن صعد درج الثمانين ورقي التسعين.

وذكره البديعي فقال في وصفه : شاعر إن ذكر المجيدون فهو الواحد الكامل ، وناثر إن وصف المنتمون إلى الآداب فهو القاضي الفاضل ، ومن محاسن إنشائه ما كتبه إلى السيد أحمد بن النقيب الحلبي المقدم ذكره ملغزا في اسم عندليب :

وهو الشريف الفاضل واللطيف الكامل ، قد تمسك الأحباء بأرج أعتابك ، وتمسك الألباء بأهداب آدابك ، وخلصت المشكلات بالتلخيص ، ولخصت المعضلات بالتخليص ، وملكت الاستعارات فأعرت ما ملكت ، وسبكت الكنايات فأنكيت بما سبكت ، وانعقدت على عفتك الخناصر ، وقيل للخائن إلى الخناصر ، وكيف تنصرف عن سلامة الطبع والصفة ، وفيك اجتمع الوزن والمعرفة ، وقد ارتاح الصلاح إلى خفض الجناح لديك وعوّل عليك ، وطلب أن يعذر ويقال فيما أطال وقال.

ما اسم بالظرف موصوف ، وبالحب مشغوف ، وتصحيف شطره بعد التحريف من الظروف ، على أنه بعض الأحيان مظروف ، وإن قلت ظرف مكان ، فهو في حيز الإمكان ، ويضاف إليه ظرف الزمان ، على أنه من وصف الآرام ، اللاتي هن المرام ، أو على أنه أنالك ، كما لي أن أعرف كمالك. وتصحيف شطره الأول والثاني جيد لأغيد ، وإن قلت أسد فهو للإيضاح ليث أسد ، وإن شئت قلت موضع ليث القلائد من الصدور ، أو ما استرق من رمل الصخور ، وإن أردت المجاز فالخمر من صروفه ، وإن أردت الحقيقة فظرفه من مظروفه ، وكيف يخفى وأوله اسم سنام الأنعام ، وثانية حيوان في البحر عام ، وثالثه اسم امرأة ذات سمن ، ورابعة اسم شجر ذي فنن ، وخامسة اسم ناحية من نواحي البقاع ، وسادسه اسم رجل كثير الوقاع ، على أن أوله والثالث والرابع ، ينبىء عن قلب

٢٣٩

سقط الزند الواقع ، والثاني والثالث عن أطيب العرف نافث ، وهو نديم الملوك في القصور ، وخديم ربات الشنوف في الخدور ، وحقير المقدار ، جليل الاعتبار ، وأقواله مؤثرة في قلب عنتر ، مع أنه صغير ضعيف الجثمانية مغتر ، فهل يخفى بعد شرح هذه الأمور ، ولكن الخفاء في شدة الظهور ، فجد مجيبا مجيدا ، لا برحت مفيدا سعيدا.

فأجابه ملغزا له في بازي بقوله :

راسلتني لأبرح عندليب الفصاحة صادحا على أفنان رياض مراسلتك ، وقمر البراعة لائحا من أفق أفلاك عبارتك ، وحمى الفضل محميا بسمهري أقلامك ، وجيد الأدب محلّى بدرر عقود نظامك ، وإن لي قريحة قريحة بصروف حوادث الزمن ، وفكرة جريحة من معاناة خطوب هذه المحن ، وأدرت على سمعي من سلاف ألفاظك ما هو عندي أرق من نسيم الصّبا ، وأهديت إلى فكرتي من نفائس صنائعك ما ذكرتني به زمان اللهو والصّبا ، وأتحفتني ببدائع ما أحمر الورد إلا خجلا من بهجتها ، ولا اصفرت الصهباء إلا حسدا لما شاهدته من استيلائها على العقل وسطوتها ، لا غرو أنها صدرت من قس الفصاحة وقاضيها الفاضل ، وأتت من رئيس هذه الصناعة وإمامها المشار إليه بالأنامل ، فادخرتها تحفة للوارد والصادر ، ورقمتها بقلم الفكر على لوحة الخاطر ، فأماطت النقاب وأزالت الحجاب عن اسم مطرب ما زال يغرد في الرياض بين الأفنان ، ويحرك بصوته الشجي ما سكن في خواطر الولهان ، ويتعشق الورود لشبهها بخدود الملاح ، ويراقبها مرا قبة المهجور في الاغتباق والاصطباح ، طالما جنى عليه لسانه فحبسوه وضيقوا عليه ، ومن عجيب أمره أنه لم يحبس إلا لزيادة محبته وشدة الميل إليه ، صحف النصف الأول منه تجده عبدا عن الخدمة لا يحول ، وإذا شئت قلت عيد بالمسرة والهناء موصول ، وربما أظهر لك غيداء ممنعة الحجاب ، وأبدى لك بقلب بعضه عذب الرضاب واحذف ثلثا منه تجده عندي موجودا ، كما أن ذلك الثلث المحذوف ما زال مني في هوى الحسان مفقودا. وإن صحفت ثلثيه وقلبتها قلب كل أرتك لديغا بعقرب السالف ، أو قلبتها قلب بعض أبدت لك اسم شاعر من شعراء الزمن السالف ، وإن صحفت نصفه الأخير قلت ليته من هذا التصحيف خالص ، فإنه يظهر لك ليثا ترتعد منه الفرائص. وربما ظهر لك بأوله ورابعه وخامسه أنه عليّ المقام ، وبثانيه وثالثه وخامسه ندى عرف يحسن فيه الختام. فأجبر جابر هذه الصناعة كسر هذا الجواب ، وألق عليه من أكسير قبولك ما يروج به عند بني الآداب.

٢٤٠