إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

وما رق لو لم يدر * وجدي ولا سرى

على البعد في ثوب الحداد المرقّد

فأعجبه شوقي إليه على النوى

كذا كان حيث الشمل لم يتبدّد

وعاتبته والظن أيأس طامع

فجاوبني والقلب أطمع مجتد

ولا طفته حتى استملت فؤاده

فيا لك سعدا بعضه لين جلمد

وبت كأن الدهر ألقى زمامه

إليّ وصافاني فأحرزت مقصدي

وحكّمني من جيده وهو عاطل

فحلّاه دمعي بالجمان المنضّد

إلى أن نعى بالبين صبح كأنه

غراب النوى لكنه غير أسود

وقد جدد التذكار ما أخلق الضنى

وأي عهود مثلها لم تجدد

فيا ليت أبقى ذكرها لي عبرة

لأبكي لها أو ليت أبقى تجلدي

خليليّ ما آليتما جهد ناصح

ولكن حيران القضا كيف يهتدي

أما تصلح الأيام بعد فسادها

فلم تبق من عيشي صلاحا لمفسد

وقد زادني ظلما وأوسعني أذى

يدا عصبة لم تخش لله من يد

فأكبادهم للنحر في جوف جلمد

وألسنهم للشر في فم أسود

عسى يهدم الإحسان ما شيد الأذى

إذا لذت بالركن الشديد المشيّد

إمام أقال الدهر من عثراته

وأحيت مساعيه شريعة أحمد

كأن أماليه الرياض ثمارها

الدراريّ والأقلام صوت المغرد

منها :

يجود الحيا بالماء باك وجوده

مع البشر يهمي من لجين وعسجد

تقلدت الشهباء صارم عدله

ولو لا مضاء السيف لم تتقلد

ولو كلّف المخلوق ما فوق وسعه

سعت للقاه سعي صاد لمورد

أتى وظلام الظلم ** فيها كأنه

وساوس شرك في فؤاد موحد

فأشرق بدر العدل في عرصاتها

بوجه أغرّ مبرق العزم مرعد

تردّت بثوب بالصبابة معلم

وحفت ببحر بالمكارم مزيد

عزائم باتت فاختفى كل جاحد

وقامت فألفى وفرها كل مقعد

__________________

(*) في خلاصة الأثر : لم يرع.

(**) في خلاصة الأثر : وظلام الشرك.

٣٤١

وساخت أياديه فشردت الردى

وردت من العلياء كل مشرد

غدت تقرأ التحميد سورة حمده

سجودا ومن يستوجب الحمد يحمد

وقوله من أخرى يمدح بها ممدوحه المذكور فقال :

عوجا على رسم ذلك الطلل

نقضي حقوق الليالي الأول

لعل نثني أعطاف ثانية

وقد ترجيت غير محتمل

فالدهر يأبى بقاء مغتنم

فكيف يرجى لرد مرتحل

لكل ماض من شبهه بدل

وما لعهد الشباب من بدل

سقى لييلاتنا بذي سلم

كل ملثّ الرباب منهمل

معاهد طالما اقتطفت بها

زهر الهنا من حدائق الجذل

وأطلع السعد في معالمها

بدر المنى في غياهب الأمل

حيث قطوف اللذات دانية

ومورد الأنس مغدق النهل

تعثر تيها في ذيل لذتها

في هضبات العناق والقبل

بكل مستوقف العيون سنا

يدعو فراغ القلوب للشغل

أثقل أعطافه بخفته

لطف التصابي فخف بالثقل

وعطلت من حلي النبات

عذاراه فحلاه الحسن بالعطل

ألقى عليه الجمال حلته

وحلة الحسن أحسن الحلل

إذا رمتنا من قوس حاجبه

سهام جفنيه ما بنو ثعل

وارحمتا العاشقين قد دهمتهم

المنايا في صورة المقل

وقد تفاءلت من مصارعهم

إن تلافي بالأعين النجل

أسى لقد أزعج الأسى وهوى

أهويت من أجله على أجلي

فذا الذي حجبت محاسنه

عنا مساوي الصدور والنقل

من كان عني قبل النوى صلفا

أبعد من مسمعي عن العذل

ما زدت عنه بعدا بفرقته

لا واخذ الله البين من قبلي

وفي امتداحي ليث العرين غنى

عن الغنا بالغزال والغزل

مولى غدا في علاه عن رجل

أبعد عن حاسديه من زحل

الندب عبد الرحمن من فضحت

غر سجاياه الشمس في الحمل

٣٤٢

أقام للفضل دولة حسنت

ودولة الفضل أفضل الدول

فأغدقت للورى مناهله

من بعد ما كان غائض الوشل

قد انتضى الله منه في حلب

سيف سداد لها من الخلل

حتى كسا عدله الليالي

والأيام ثوب الأسحار والأصل

واستتر الظلم من عدالته

بين جفون الظباء بالكحل

بأبيض العدل ما تركت بها

سواد ظلم إلا من المقل

واعتدلت حتى ما استمر بها

لو لا قدود الحسان ذو ميل

ما كنت أدري من قبل رؤيته

كيف انحصار الأنام في رجل

حتى رأيت امرأ يقوم به

الدهر على ساقه من الوجل

إن ادعى مبصر له شبها

فاحكم على ناظريه بالحول

وإن يكن في العيون بدر علا

فبأسه في القلوب سيف علي

رام السهى شأو مجده فسها

جزي بطرف بالسهد مكتحل

واعتل من لطفه الصبا حسدا

لا برحت حاسدوه في علل

وزوّر الغيث سح راحته

حتى اعتزى للسخاء بالحيل

وحصن البأس بالندى فغدا

أمن الأماني وغالة الغيل

يا سيدا أصبحت مكارمه

أشهر بين الأنام من مثل

كادت معاني الثناء تسبقنا

إليك والحق واضح السبل

يهنيك عيد به الهناء له

كما أهنّيك والهنا بك لي

وهاكها روضة لقد صبغت

منها خدود الربى من الخجل

لو نال فصل الربيع بهجتها

ما سلبت عنه حلة الخضل

وإنما المجد دولة جعلت

لها معاني الثناء كالخول

وله هذه النونية يمدحه أيضا :

أفي كل يوم لوعة وحنين

ومن كل فج للفراق كمين

وكل طريق هكذا غير موعر

فلي طرق كانت إليك تهون

نقضت عهودا باللوى وتصرمت

وعود وخابت يابثين ظنون

وولت لذاذات عهدت وأسفرت

نوى غربة ما تنقضي وشطون

٣٤٣

كأن لم تدر تلك المناجاة بيننا

ولا هصرت ذاك القوام يمين

ولا أخضلت تلك المعاهد بعدنا

يضج لها صلد الصفا ويلين

عليّ لهذا الخطب إيقاظ همة

يضج لها صلد الصفا ويلين

ووجبة إرقال ينكّث بأسها

قوى البأس تدري العزم كيف يكون

فإنّ فؤادا بين جنبيّ حشوه

أمان ولي عند الزمان ديون

وسائلة عتبي أعنّي من الهوى

غنى وعتاب الغانيات شجون

أجل من تقصى المجد يا ابنة مالك

تولى شمال شمله ويمين

فلا تعتبيني واعلمي أنما العلا

أسير على وخد القلاص رهين

أتلك المطايا البزل أم سفن طغى

بها الآل تخفى مرة وتبين

تمور لرجع الحدي مورا كأنما

عراها بأصوات الحداة جنون

إذا لمحت برق العواصم لم تكد

مناسمها تقوى بهن حزون

تلفّت تلقاء الشآم كأنما

تخلّى لها بالرقمتين جنين

إذا أبصر الخالي بها قال علّقت

مشافر هاتي بالغبيط يمين

وصلنا السرى بالسير حتى شكالنا

من الوخد أخفاف لها ومتون

فرينا بها أوداج كل مطوق

من السحب ممنوع الفناء حصين

جبال تمطّت للعلا لو رأيتها

لقلت لها بين النجوم ديون

أشابت نواصيها الثلوج فما رقت

لها بعد فقدان الشباب عيون

ويا رب ليل ضل فيه دليلنا

فيهديه من نجل الحسام جبين

فتى لا ضلال بعد رؤية وجهه

ولا بارق الإفضال منه يمين

علاه رقى نسر السما بجناحه

وعرض بعيد الغايتين مصون

ورقة خلق راح يحسدها الصبا

فأضحى عليلا يعتريه أنين

وبذل تذوب السحب منه خجالة

وبأس به يمضى القضا ويدين

وعلم لو ان الناس قامت ببعضه

وهى الجهل حتى لا يكاد يبين

من القوم شادوا ذروة البأس والندى

ليوث لهم قضب اليراع عرين

هنيئا حسام الدين يا خير ماجد

به شيّدت للمكرمات حصون

بمقدم مولى قد هدت بقدومه

قلوب وقرب للكرام عيون

أناخ بأرض الروم أكرم قادم

له السعد خدن والعلاء قرين

٣٤٤

وقد وفدت أخباره الغرقبله

تطوّق أعناق العلا وتزين

ألا هكذا في الله من يك سعيه

تدين له أيامه وتلين

فيا آل عثمان تهنوا بماجد

يذب لكم من عرضكم ويصون

رغمتم به أنف العدوّ وإنما

الزمان به من غيركم لضنين

أطلاب مسعاه هلموا أدلكم

عليه فإني في المقال أمين

ضعوا يدكم في جنح عنقاء مغرب

وأرجلكم في الريح فهو متين

وهام السهى فارقوا إذا حلقت بكم

إليه فما رمتم هناك يكون

أجاذب ضبعي إذ قواي ضئيلة

ومأمن روعي والزمان خؤون

أما إنه لولاك ما فتقت بنا

إلى الروم رتق الراسيات ظعون

ولا كنت أدري كيف تكتسب العلا

ولا كيف صعب الحادثات يهون

أقلت عثار الحال مني إذ همى

عليّ سحاب من علاك هتون

وإني لأدري أن فضلك كافل

لبانات طلاب الكمال ضمين

ومالي بعد الله غيرك مسعد

من الناس في نيل المراد معين

وفي بابكم حطت رحال مطامعي

وما تم لي إلا إليه سكون

وحاشاك أن ينتاشني برح غلة

ووردك صاف لا يغيض معين

وإنك أدرى من فؤادي بحاجتي

وحسبي بهذا كاشف ومبين

وكان وقف على هذه القصيدة أديب الزمان محمد القاسمي فاتهم البابي بانتحالها ، فكتب إليه البابي هذه القصيدة وهي :

أيشعر هذا البرق أي المناسم

سرى فيذكرنا بآي المعالم

وكم دونها من سبسب دون وطئه

سرى دونه وخد القلاص الرواسم

بريق الغضى هلا درى كيف حالنا

على البعد أخدان لنا بالعواصم

أسائلهم مالا تطيق قلوبهم

صدعت إذن بالظلم قلب المراحم

سقى الله أرضا خيموا بفنائها

وباكرها صوب الحيا المتراكم

ولا زال طفل النبت في مهد تربها

تدر عليه من دموع الغمائم

ولو سقيت أمثالها قبلها دما

لقلت سقاها من دموعي السواجم

معاهد كان اللهو فيها مساعدي

على وفق قصدي والزمان مسالمي

٣٤٥

أأيامنا بالأجرع الفرد هل لنا

سبيل إلى عهد الصبا المتقادم

ليالي لا أقداح ترضي * مدارة

علينا سوى أحداق ظبي ملائم

ولا الخمر إلا من رضاب مبرّد

ولا الورد إلا من خدود نواعم

وسل أثلاث الجزع تخبرك أننا

نعمنا بعيش في ذراهن ناعم

إذ الروض مخضل الربى وغصونه

تقلد من قطر الندى بتمائم

وفي خلل الأغصان نور كأنه

مجامر ند في حجور الكمائم

يصافح بعضا بعضه بيد الصبا

كباسم ثغر راشف ثغر باسم

محاسن غطتها مساو من النوى

وأعراس لهو بدلت بمآتم

سل اليعملات البزل كم فتقت لنا

بأيدي السرى من رتق أغبر قاتم

وكم شدخت أخفافها هام سامد

من الشم تيها توجت بالغمائم

وكنا إذا فل السرى غرب عزمنا

تشحّذه ذكرى لقاء ابن قاسم

مقل لواء الفضل غير مدافع

وحامي ذمار المجد غير مزاحم

حديقة فضل لا يصوّح نورها

وبحر بأمواج الذكا متلاطم

عنت لمعانيه الكواكب واقتدت

بها فاغتدت ما بين هاد وراجم

ولو لا مقال جاءني منه أطرقت

حياء له الآداب إطراق واجم

وقطع أمعاء القريض لهوله

ورد القوافي وهي سود العمائم

إمام العلا إني أحاشيك أن ترى

بعين المعاني عرضة للوائم

زعمت بأني سارق غير شاعر

صدقت بمعنى ساحر غير ناظم

لقد قالها من قبل قوم فألقموا

بأيدي الهجا حاشاك صم الصلادم

رأوا مثل ما عاينت إبداع أحمد

وبادرة الطائي وطبع كشاجم

حنانيك بعض البغي لا بدع أن أتى

بشعر حبيب من رأى جود حاتم

وإن ندى نجل الحسام لروضة

أينكر فيها طيب سجع الحمائم

فدونكها أبكار فكر تزفها

يد الشوق عن ود من الريب سالم

مشيدة البنيان لا يستريبها

حسود ولا يقوى بها كف هادم

ومن مختاراته قصيدته التي مدح بها السيد محمد العرضي ومطلعها قوله :

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : مرضى.

٣٤٦

هو الفضل حتى لا تعد المناقب

بل العزم حتى تطلبنك المطالب

وما قدر الإنسان إلا اقتداره

أجل وعلى قدر الرجال المراتب

أقام الفتى العرضي للفضل دولة

لها قائد من ناظريه وحاجب

بها اعتذرت أيامنا عن ذنوبها

وأقبل جاني دهرنا وهو تائب

يجددها رأي من العزم صائب

ويحرسها بأس مع الحلم عاطب

وللمجد مثل الناس سقم وصحة

وفيه كما فيهم صدوق وكاذب

أنيط به حتى لو اختار نزعه

لحن إليه وهو ثكلان نادب

ومن لم يوفّي للمعالي حقوقها

فإن مساعيه الحسان مثالب

ألم ترها كيف اقتناها محمد

تجاذبه أذياله ويجاذب

إذا الناس لم تشتق لشارب عذبها

فلا عذبت يوما عليه المشارب

فساس طواغيها وراض شماسها

وأضحى له منها وزير وحاجب

حوى سؤددا تبدو ذكاء بوجهه

وترنو لعينيه النجوم الثواقب

تغرّب لا يرضى ذرى المجد موطنا

وأمثاله حيث استقرت غرائب

دعاه العلا شوقا إليه وغيره

دعته فلباها النساء الكواعب

ومن يخسر الراحات يكتسب العلا

وبعض خسارات الرجال مكاسب

فآب بما يشجي العدا ويسره

فوائد قوم عند قوم مصائب

ليهن علاه منصب طالما صبا

له بل تهنى إذ رضيها المناصب

من القوم أما عرضهم فممنع

حصين وأما عرفهم فهو سائب

يدين لهم بالمجد دان وشاسع

وينعتهم بالفضل ساع وراكب

ففيهم وإلا لا تقال مدائح

ومنهم وإلا لا ترام الرغائب

إليك إمام الفضل منا توجهت

كتائب إلا أنهن مواكب

معان تعير العين سحر عيونها

وتسخر منها بالعقود الترائب

قد انسدلت بين الطروس سطورها

كما انسدلت فوق الصدور الذوائب

لها من براح الشوق حاد وقائد

إليك ومن لقياك داع وخاطب

محملة منّي الهناء بمنصب

تسير ببشراه الصبا والجنائب

وإن سرني أخبار أنك قادم

فقد ساءني تقدير أني غائب

قد اتسعت ما بيننا؟؟؟ النوى

وضاقت على وجه اللقاء المذاهب

٣٤٧

فيا للموالي للعبيد بأوبة

ليهدا بها قلب من البعد واجب

وتسعد آمال وتسكن لوعة

ويفرح محزون ويبسم قاطب

ومن مبتدعاته أبياته المشهورة التي توسل بها وهي هذه :

هوت المشاعر والمدارك عن معارج كبريائك

يا حي يا قيوم قد

بهر العقول سنا بهائك

أثني عليك بما علمت وأين علمي من ثنائك

متحجب في غيبك الأحمى منيع في علائك

فظهرت بالآثار والأفعال باد في جلائك

عجبا خفاؤك من ظهورك أم ظهورك من خفائك

ما الكون إلا ظلمة

قبس الأشعة من ضيائك

وجميع ما في الكون فا

ن مستمد من بقائك

بل كل ما فيه فقير مستميح من عطائك

ما في العوالم ذرة

في جنب أرضك أو سمائك

إلا ووجهتها إلي

ك بالافتقار إلى غنائك

إني سألتك بالذي

جمع القلوب على ولائك

نور الوجود خلاصة ال

كونين صفوة أنبيائك

إلا نظرت لمستغي

ث عائذ بك من بلائك

قذفت به من شاهق

أيدي امتحانك وابتلائك

ورمته من ظلم العنا

صر والطبائع في شبائك

وسطت عليه لوازم الإ

مكان صدا عن فنائك

فإذا ارعوى أو كاد نادته القيود إلى ورائك

فالطف به فيما جرى

في طي علمك من قضائك

واسلك به سنن الهدا

ية في معارج أصفيائك

وله غير ذلك من البدائع.

وكانت وفاته في أواخر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وألف ، ودفن بالمعلاة بعد أن قضى مناسكه.

٣٤٨

والبابي نسبة إلى الباب : قرية من قرى حلب ، لها واد مشهور بطيب الهواء وكثرة الرياض ، وفيه يقول زين الدين عمر ابن الوردي هذه الأبيات وهي :

إن وادي الباب قد ذكرني

جنة المأوى فلله العجب

فيه دوح يحجب الشمس إذا

قال للنسمة جوزي بأدب

طيره معربة في لحنها

تطرب الحي كما تحيي الطرب

مرجه مبتسم مما بكت

سحب في ذيلها الطيب انسحب

فيه روضات أنا صب بها

مثل ما أصبح فيها الماء صب

نهره إن قابل الشمس ترى

فضة بيضاء في نهر ذهب

ا ه أقول : في بلدة الباب نهر يدعى نهر الذهب ، ماؤه كالفضة البيضاء ، فيكون قوله : فضة بيضاء في نهر ذهب من المعاني البديعة.

ومن شعر المترجم كما وجدته في مجموعة بخط الشيخ محمد المواهبي الحلوي :

أود الكرى إن زار خشية نظرة

إليه فيدمى رقة خده القاني

وأسهر خوفا أن يمر خياله

بعيني فيؤذي أخمصاه بأجفاني

وله :

كأنما وقف الله العيون على

مرآى محاسنه لا شانها نظر

ولو تجلى ورا المرآة لانحرفت

إلى محياه عن أربابها الصور *

ا ه وله كما وجدت في بعض المجاميع :

ليت شعري ما الذي سحر السمع

لصوت السنطير حتى أصاخا **

ثم ماذا الذي أشار به الناي

لركب الأرواح حتى أناخا

__________________

(*) رواية البيتين في «نفحة الريحانة» :

كأنما أوقف الله العيون على

رؤيا محاسنه لاصابها ضرر

فلو بدا من ورا المرآة لا نحرفت

عن أهلها حيث دارت نحوه الصور

(**) هكذا ورد البيت في الأصل وهو مختل الوزن. ولعل الصواب :

ليت شعري ماذا الذي سحر

السمع لصوت السنطير حتى أصاخا

وأضاف في النفحة بيتا خامسا هو :

وترقى به إلى قاب قوسي

ن فألقى العصا ورام المناخا

٣٤٩

ثم ماذا الذي به استشعر

الحسن لشد الأرواح حتى تراخى

ذاك معنى يذوقه من ترقى

عن ذرى عالم القيود انسلاخا

١٠٠٠ ـ قاضي الآستانة الشيخ محمد الكواكبي المتوفى سنة ١٠٩٣

العالم الفاضل الشيخ محمد الكواكبي. ترجمه القاضي راشد في تاريخه التركي قال :

كانت ولادته في حلب ، وحصل العلم فيها وبرع وفضل ، ثم توجه إلى إستانبول وسلك في مسلك المدرسين ، ثم صار قاضيا فيها ، وعند انتهاء مدته عزل عن القضاء فانزوى في بيته إلى أن وافاه أجله المحتوم في سنة ثلاث وتسعين وألف ، ودفن في الآستانة وقد كان حائزا أوفى نصيب من العلم والفضل والفقه والورع ، رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٠١ ـ السيد أسعد البتروني المتوفى سنة ١٠٩٣

السيد أسعد بن عبد الرحمن بن أبي الجود بن عبد الرحمن ، وتقدم تمام النسب في ترجمة إبراهيم بن أبي اليمن ، البتروني الحلبي الأديب البارع الحلو العبارة.

قرأ ودأب بموطنه ، ثم خرج في صباه إلى الروم فسلك طريق القضاء. ودخل دمشق ومصر وحظي في دنياه كثيرا وسمت همته حتى ولي إفتاء الحنفية بحلب عن مفتيها العلامة محمد بن حسن الكواكبي مدة يسيرة ، وبعد ذلك ترقى في مناصب القضاة بالقصبات حتى ولي أرقاها ، ومات وهو معزول عن أزنكميد.

وكان فاضلا أديبا حسن الهيئة ، فكها لطيفا طيب المحاورة ، شريف النفس متواضعا ، وفيه تودد وبشر وانبساط ، وهو مع ذلك شاعر مطبوع إلا أن شعره قليل وأغلبه في الهجاء وكان في هذا الباب أعجب ما سمع ، يخترع كل معنى غريب ومضمون عجيب. وأما وقائعه ومجرياته فهي من أعذب ما يحاضر به ، وكنت وأنا بالروم أسمع أشعاره ووقائعه ، ولم تتفق لي رؤيته مع المجاورة وقرب المحل إلا بعد مدة. ثم إني لزمت مجلسه وكنت مشغوفا بملازمته ومؤانسته مستعذبا أسلوبه ، ومدحته بقصيدة مطلعها :

حنانيك هل يلوى الحبيب المماطل

فتنجح آمال وتقضى وسائل

٣٥٠

وهي طويلة جدا فلا حاجة إلى إيرادها. ومما أخذته من شعره قوله وكتب بها إلى السيد موسى الرامحمداني :

قد حل أمر عجب

شيب بفودي يلعب

نجومه لا تغرب

فأين أين المهرب

أرجو بقاء معه

ما أنا إلا أشعب

هذا الشباب قد مضى

وبان مني الأطيب

هل عيشة تصفو لمن

قد غاب عنه الطرب

دهر أرانا عجبا

وكل يوم رجب

أندب أياما مضت

فيها صفا لي المشرب

في حلب بسادة

قد خدمتهم رتب

من كل سمح ماجد

تخجل منه السحب

أفناهم الموت الذي

لكل بكر يخطب

وما بها بعدهم

من للمعالي ينسب

سوى جهول سفلة

عن كل فضل يحجب

وهو إذا أملته

كلب عقور كلب

أستغفر الله بها

أستاذنا المهذب

موسى الذي لفضله

مد رواق مذهب

حلّال كل مشكل

وحاتم إذ يهب

وإن جرى في محكم

يخال قسّا يخطب

وقد حوى معاليا

تنحط عنها الشهب

من سادة أحسابهم

تنطق عنها الكتب

مولاي أشكو غربة

طالت وعز المطلب

وتحت أذيال الدجى

حاملة لا تنجب

إلا بأولاد الزنا

هذا لعمري العجب

إليكها خريدة

منالها يستصعب

جآذر الروم لها

تسجد أو تنتسب

٣٥١

فاسلم ودم في رفعة

للسعد فيها كوكب

ما حركت متيّما

ورقاء حين تندب

فأجابه عنها بقوله :

ما الدهر إلا عجب

فمنه لا تستعجب

أعمارنا تنتهب

يوما فيوما تذهب

ونحن نلهو أبدا

في غفلة ونلعب

أواه من يوم يجي

وشمسه لا تغرب

صائلة فيه المنى

بصولة لا تغلب

تسطو على أرواحنا

فأين أين المهرب

تبا لدنيانا التي

لم يصف فيها المشرب

كم سيد غرت به

واراه لحد أحدب

للدود فيه مرتع

وللهوام ملعب

والويل يوم العرض إن

لم ينج منها المذنب

ومن لظى نار بها

أجسادنا تلتهب

لا عمل يرجى ولا

غوث إليه ينسب

إلا الكريم ربنا

ومن به نحتسب

مع الشفيع من إلى

جنابه ننتسب

محمد خير الورى

مقصدنا والمطلب

الحمد لله فلا

يكون مالا يكتب

والخير فيما اختاره

حتم علينا يجب

نسأله يبقى لنا

سيدنا المهذب

أسعد من ساد الورى

به وساد العرب

جوهرة العقد الذي

جوهره المنتخب

نجل الألى تجمّلت

بهم قديما حلب

علم وحلم وتقى

وحسب ونسب

يخجل من أخلاقه

زهر سقته السحب

٣٥٢

ومن جميل صنعه

له المعالي تخطب

طلق المحيا بهج

مبجّل محجّب

ولطف أنفاس الصبا

إلى علاه ينسب

ومن إلى المجد يجا

ريه فلا يصوّب

زيد بنانا كفه

إن ضاق عما يهب

فسيب صوب جوده

يخجل منه الصيّب

لم يحل خل غيره

مودد محبب

وله غير ذلك.

وابتلي في آخر أمره بمرض المراقيا وعالجه مدة ، وكان بسببه كثير المراجعة للأطباء وكتب الطب حتى صار له في الطب مهارة كلية ، ثم بعد مدة قوي عليه المرض فكان سبب هلاكه. وتوفي بقسطنطينية ودفن بها. وكانت وفاته سنة ١٠٩٣. ا ه.

١٠٠٢ ـ باكير بن أحمد بن النقيب المتوفى سنة ١٠٩٤

السيد باكير بن أحمد بن محمد المعروف بابن النقيب الحلبي ، السيد الأجل الفاضل الأديب الناظم الناثر.

كان عارفا باللغة والأدب حق المعرفة ، ولم يكن في حلب من أدباء عصره أكثر رواية منه للنظم والنثر. قال البديعي في وصفه : له كلمات من النمط العالي ، فكأنما عناه بقوله الميكالي :

إن كلام ابن أحمد الحسني

آسى كلام الهموم والحزن

سحر ولكن حكى الصبا سحرا

في لطفه غب عارض هتن

قال : وجرى ذكر نجابته ليلة في مجلس شيخنا النجم الحلفاوي فرأى في منامه كأن رجلا ينشده هذين البيتين :

باكير فاق على الأقران مرتقيا

أوج المعالي فلا قرن يدانيه

والفرع إن أثمرت أيدي الكرام به

فالأصل من كوثر الإفضال يسقيه

٣٥٣

قلت : وقد مدحه بعض الأدباء بقوله :

إذا رمت تلقى ذات علم تكونت

وتروي حديث الفضل عن أوحد الدهر

فعرج على ذات العواصم قاصدا

سليل المعالي نجل الكرام أبا بكر *

دأب في تحصيل المعارف حتى رقي ذروة في الفضل علية ، وكان أكثر اشتغاله على والده ، وقرأ على غيره ، وتعانى صناعة النظم ، وشعره حسن الرونق بديع الأسلوب. وأخبرني من كان يدعي معاشرته وله وقوف على حاله أن أكثر شعره منحول من شعر والده.

ومن جيد شعره قوله من قصيدة :

لاح الصباح كزرقة الألماس

فلتصطبح ياقوت در الكاس

من كف أهيف صان ورد خدوده

بسياج خط قد بدا كالآس

فكأن مرآة البديع صحيفة

للحسن جدولها من الأنفاس

في روضة قد صاح فيها الديك إذ

عطس الصباح مشمّت العطّاس

ضحكت بها الأزهار لما أن بدت

عين الغمام القاتم العباس

ورقى بها الشحرور أغصانا غدت

بتموج الأرياح في وسواس

والورد تحمده البلابل هتّفا

من فوق غصن قوامه المياس

ويرى البنفسج عجبه فيعود من

حسد لسطوته ذليل الراس

والطل حل بها كدمع متيم

لمعاهد الأحباب ليس بناس

فتظن ذا ثغرا وذا عينا وذا

خدا لغانية كظبي كناس

واحمّر خدّ شقائق مخضلة

حميت بطرف النرجس النعاس

حسدا لخد الطرس لما أن غدا

خط القريض بمدح فضلك كاس

وقوله مضمنا :

بك صرح العلاء سام عماده

وكذاك الكمال وار زناده

إن كل الأنام من ناظر الدهر

بياض وأنت منه سواده

قد غرقنا من فيض فضلك

في أمواج بحر تتابعت أزباده

__________________

(*) هكذا في الأصل. ويستقيم بقولنا : سليل المعالى والكرام أبا بكر.

٣٥٤

وإذا الفكر لم يحط بمعاليك

جميعا وخاب فيك اجتهاده

فاعتذاري ببيت ندب همام

ماكبا في ميدان فضل جواده

إن في الموج للغريق لعذرا

واضحا أن يفوته تعداده

ومن مقاطيعه قوله في تشبيه ثلاث شامات على نمط :

في جانب الخد وهي مصفوفة

كأنها أنجم الذراع بدت

وقوله :

في خده القاني المضرج شامة

قد زيد بالشعرات باهر شانها

كلهيب جمر تحت حبة عنبر

قد أوقدت فبدا زكي دخانها

وأنشد له البديعي قوله من قصيدة في المدح :

تهلل وجه الفضل والعدل بالبشر

وأصبح شخص المجد مبتسم الثغر

ومنها :

فيالك من مولى به الشعر يزدهي

إذا ما ازدهت أهل المدائح بالشعر

فريد المعالي لا يرى لك ثانيا

من الناس إلا من غدا أحول الفكر

معنى البيت الأول مطروق وأصله قول أبي تمام :

ولم أمدحك تفخيما بشعري

ولكني مدحت بك المديحا

وأبو تمام أخذه من قول حسان في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ما إن مدحت محمدا بمقالتي

لكن مدحت مقالتي بمحمد

والبيت الثاني مأخوذ من قول بعضهم :

إن من يشرك بالله جهول بالمعاني

أحول الفكر لهذا ظن للواحد ثاني

وله ويروى لوالده :

صدر الوجود وعين هذا العالم

وملاذ كل أخي كمال عالم

أيضا :

٣٥٥

إن لم تكن لذوي الفضائل منقذا

من جور دهر في التحكم ظالم

فبمن نلوذ من الزمان وباب من

ننتاب في الأمر المهم اللازم

فبحق من أعطاك أرفع رتبة

أضحى لها هذا الزمان كخادم

وحباك من سلطاننا بمواهب

تركت حسودك في الحضيض القاتم

فإذا تتوج كنت درة تاجه

وإذا تختم كنت فص الخاتم

إلا نظرت بعين عطفك نحونا

وتركت فيهم كل لومة لائم

ورعيت في داعيك نسبته إلى

خير البرية من سلالة هاشم

فالوقت عبدك طوع أمرك فاحتكم

فيما تشاء فأنت أعدل حاكم

قلت : هكذا أنشدني هذه الأبيات صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن السمان الدمشقي ، وذكر لي أنه أخذ قوله : فإذا تتوج إلى آخره من قول أبي الحسين العرضي العلوي :

كأنما الدهر تاج وهو درته

والملك والملك كف وهو خاتمه

ولم يدر مع سعة اطلاعه أن البيت برمته لأبي الطيب في قصيدته التي أولها :

أنا منك بين فضائل ومكارم

ومن ارتياحك في غمام دائم

وقد أطلنا الكلام حسبما اقتضاه المقام ، وبالجملة ففضل صاحب الترجمة غير خفي ، بل هو أجلى من الجلي.

وكانت ولادته في سنة ثلاث وثلاثين وألف ، وتوفي في سنة اربع وتسعين وألف بحلب رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٠٣ ـ محمد بن حسن الكواكبي المتوفى سنة ١٠٩٦

محمد بن حسن بن أحمد بن أبي يحيى الكواكبي الحلبي الحنفي ، مفتي حلب ورئيسها والمقدم فيها في الفنون النقلية والعقلية ، مع سعة الجاه والمال وشهرة الصيت والأناة والحلم. وكان أعظم رجل جمع كل صفة حميدة وألم بكل منقبة سامية. انتهت إليه مكارم الأخلاق والبشاشة وصدق الوعد.

٣٥٦

وكان مع علمه الزاخر وعلو سنه وقدره لين قشرة المعاشرة مخالطا يحضر مجالس المداعبة والغناء ويقول : رب معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا.

نشأ بحلب وأخذ بها عن جمع من محققي عصره ، منهم الشيخ جمال الدين البابولي (١) ، وجد كثيرا حتى نال الرتبة العظيمة. وكان حديد الفهم سريع الأخذ للأشياء الغامضة. حكي أنه دخل يوما إلى مجلس النجم محمد بن محمد الحلفاوي خطيب حلب ، فسأله عن مسألة في الأصول فلم يدرها ، وكان النجم قصد أن يظهر زيفه ويعرف أنه لم يشتغل في الأصول ، فقام من المجلس وانفرد بنفسه مدة في داره وانكب على مطالعة الأصول حتى عرف من نفسه أنه حصله وأخذ بأطرافه ، ثم ذهب إلى النجم وناظره في مسائل كثيرة من هذا العلم فأربى عليه وشهد له النجم بمعرفته. وكان النجم المذكور في هذا العلم ممن لا يدرك شأوه.

وما زال بعد ذلك يترقى في الفضل حتى انفرد ، وولي إفتاء حلب وتصدر بها وأفاد ودرس وألقت إليه علماؤها أعنة التسليم ، وتواتر خبر فضله.

وبلغني أن السيد عبد الله بن الحجازي الآتي ذكره كان طلب من الوزير الفاضل أيام انضمامه إليه أن يشفع له في منصب الفتيا عن الكواكبي عند شيخ الإسلام يحيى المنقاري ، فلما فاوضه الوزير في ذلك قال له المنقاري : إذا عزل الكواكبي نضطر إلى أن نوجه إليه منصبا يليق به ، ولا يليق به إلا منصبي ، وقصد بذلك أن يكف الوزير عن هذا الأمر ، فلم يذكر له بعد ذلك ، وبقيت عليه الفتوى إلى أن مات.

وألف المؤلفات العديدة ، منها «نظم الوقاية» في الفقه وشرح نظمه شرحا مفيدا ، وله «نظم المنار» وشرحه في الأصول ، و «حاشية على تفسير البيضاوي» التزم فيها مناقشة سعدي (٢) ، وأخرى ناقش فيها عصام الدين ، و «حاشية على شرح المواقف» للسيد ،

__________________

(١) ومنهم عم أبيه المولى العلامة محمد أفندي ابن العارف بالله تعالى سيدي الشيخ محمد الكواكبي ، ذكر ذلك الشيخ يوسف الحسيني في ثبته «كفاية الراوي والسامع وهداية الرائي والسامع» في ترجمة المولى المذكور.

(٢) نسخة من هذه الحاشية في الأحمدية بحلب ورقمها ٣٥ ، ونسخة في مكتبة نوري باشا الكيلاني في حماه الموضوعة في جامع الشيخ إبراهيم ورقمها ١٩ وناسخهما واحد وخطهما حسن ، ونسخة في مكتبة سليم آغا ورقمها ٩٢ ، وفي مكتبة قره مصطفى باشا ، وفي مكتبة داماد إبراهيم باشا ، وفي مكتبة عموجه حسين باشا ، وهذه المكاتب في الآستانة.

٣٥٧

وغير ذلك من التحريرات (١). وله نظم ونثر في غاية اللطافة ، فمن شعره قوله :

أورقاء عن عهد الحبيب تترجم

ليهنك إلف بالغوير مخيم

لئن تندبي إلفا وماشط حيه

فإني على شط المزار متيم

وهب سجعك الموزون باللحن مطرب

فدمعي أوفى صامت يتكلم

لكي مثل ما في العندليب وسجعه

ولي بالفراش الشبه والفرق يعلم

وقوله :

يا أيها البدر المنير إذا بد

وإذا رنا يا أيها ذا الريم *

كم ذا تموّه عن صبابة عاشق

صب على طول الصدود مقيم

فارحم ضنى جسدي وحسن تصبري

وارع الجميل فما الجمال يدوم

وله هذا المفرد :

فلا تعجبوا من لكنة في لسانه

فمن حلو فيه لا يفارقه الحرف

وهذا المعنى أصله بالتركية ، وكنت عربته قبل أن أرى بيت الكواكبي بقولي :

ما لكنة فيه تشين وإنما

تأبى الحروف فراق شهد لسانه

وللكواكبي مضمنا بيتي أبي العباس المرسي.

حتام في ليل الهموم زناد فكرك تقتدح

قلب تحرق بالأسى

ودموع عين تنسفح

ارفق بنفسك واعتصم

بحمى المهيمن تنشرح

واضرع له إن ضاق عنك خناق حالك تنفسح

ما أمّ ساحة جوده

ذو محنة إلا منح

أو جاءه ذو المعضلات بمغلق إلا فتح

__________________

(١) منها مجموع أبحاث تتعلق بسورة الأنعام موجودة في المكتبة الأحمدية في قسم التفسير ، ومنها رسالة في المنطق ذكر فيها وجه تقدم المتصوّر على التصديق وهي حاشية على الشمسية على هذا البحث وهي في كراسة.

(*) بعد هذا البيت كما في «خلاصة الأثر» :

ومعلم الغصن الرطيب تمايلا

رق النسيم لها فكاد يهيم

٣٥٨

فدع السوى وانهج على

نهج السويّ المتضح

واسمع مقالة ناصح

إن كنت ممن ينتصح

ما تم إلا ما يريد

فدع مرادك واطرح

واترك وساوسك التي

شغلت فؤادك تسترح

وله غير ذلك (١).

وكانت ولادته في سنة ثمان عشرة وألف ، وتوفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة سنة ست وتسعين وألف. ا ه.

وترجمه الشيخ يوسف الحسيني الحنفي الدمشقي ثم الحلبي من رجال القرن الثاني عشر في ثبته الذي سماه «كفاية الراوي والسامع وهداية الرائي والسامع» ، رأيته بخطه عند الأستاذ الفاضل الشيخ كامل الهبراوي نقتطف منها ما يأتي : قال :

هو خاتمة المحققين على الإطلاق ، وفذلكة مفردات المفسرين بالاتفاق ، سلطان العلماء الأعلام في عصره ، وواحد أساطين الإسلام في مصره ، محرر المعقول ، ومقرر المنقول بيت الولاية والعلم ، وكنز الهداية والحلم ، شمس الدين محمد بن الحسن الكواكبي. (قال) :

وأنا وإن لم أتشرف برؤيته والاجتماع به فقد أدركت حياته وأنا بدمشق الشام وهو إذ ذاك مفتي حلب الشهبا وعالمها ورئيسها المقدم فيها في الفنون النقلية والعقلية مع سعة الجاه والمال وشهرة الصيت ونفوذ الكلمة وسعة العقل وحدة الفكر. وكان ودودا حلو المداعبة مع الوقار والحلم والأدب مع من هو دونه فضلا عن غيره ، يخاطب كل أحد على قدر عقله ، ويكلم كل إنسان بما يناسب طبعه ، مع الوقوف على حدود الشريعة والتكلم بالحق ، زاده الله بسطة في العلم والجسم والجاه والمال. وكانت حكام الشرع والعرف

__________________

(١) من ذلك ما رأيته على وقفية عبد القادر جلبي ابن الحاج عمر الشهير بجورباجي زاده ، وهي محررة سنة ١٠٩٣ وقد وقع عليها المترجم نظما قوله :

وقف صحيح لازم مؤبد

بالحكم في لزومه مؤيد

انعقدت خناصر الإجماع

على لزومه بلا نزاع

فعاد وقفا ساطع البرهان

مشيد الأركان والمباني

والله يولي الواقف الكرامه

بعفوه في موقف القيامه

ثم ذيل ذلك بإمضائه بخطه.

٣٥٩

تجله وتهرع إليه وتتمثل أمره ونهيه ، وجميع أهل بلدته يهرعون إليه ويقبلون يديه ويسمعون كلمته وهو يحميهم مما يضرهم ، ويسوقهم إلى ما ينفعهم. وكانت كبراء الدولة من أهل الروم وزراؤهم ومواليهم وقضاة عسكرهم ومشايخ إسلامهم يعتبرونه ويحترمونه ويكاتبونه ، ويراجعونه ويعتمدونه كل الاعتماد. هكذا كانت تنقل إلينا الركبان أخباره في حياته ونحن في دمشق ، ثم لما وردنا حلب وتوطناها بعد وفاته سمعنا من أهلها بعد انتقاله أضعاف ما كنا نسمع حال حياته ، فهذا هو الفخر الذي لا ينال بالجد والاجتهاد ، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. (ثم قال) :

وبقيت عليه الفتوى إلى أن مات وإن تخلله عزل ما في أثناء ذلك لكنه كان لا يعد.

وكانت وفاته يوم الخميس ثالث ذي القعدة سنة ١٠٩٦ ودفن عند جده الشيخ محمد أبي يحيى في جامعهم المشهور. ا ه.

أقول : ووجدت بخط بعض الفضلاء أنه دفن في الرواق الصغير.

وممن مدحه قاضي مكة الشيخ محمد زين العابدين الصديقي سبط آل الحسن كما وجدته في مجموع في مكتبة المدرسة الطرنطائية في مدينة حلب بخط أحمد أفندي الكوراني تلميذ المولى الكواكبي قال :

أآفاق حسن أشرقت بالكواكب

وإلا بدور تنجلي في الغياهب

وإلا شموس بالسناء تشعشعت

فعم الضيا في شرقها والمغارب

وإلا رياض الزهر فتح نورها

كزهر السما والطيب عرف الأطايب

وإلا سطور في طروس تنظمت

كنظم عقود في نحور الكواكب *

بمنثور فضل قد طوى كل درة

من العالم النحرير عالي المناقب

كتاب كريم من كريم أصوله

كرام سموا مجدا ببيت الكواكبي

بلاغته السحر الحلال ولفظه

زلال حلا ذوقا لأهل المشارب

فلا زال منشيه بخير ونعمة

ودولة إقبال وعزة جانب

وإني ابن زين العابدين محمد

ومن آل ثاني اثنين أفضل صاحب

وسبط رسول الله أشرف مرسل

نبي أتانا من لؤي وغالب

__________________

(*) لعل الصواب : في نحور الكواعب.

٣٦٠