إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

بصريح وحروف أعجمت

وحروف أهملت مختبئه

عم حول وسرور العرس

وهو ثلاثون وألف ومئه

وقلت مؤرخا العرس المذكور وكتبت به إليه في ذلك الحين :

إليك يا من بغيث فيض الإله يمدد

ومن إليه وجود جود العلا تعدد

إنها نهنيك بالأماني التي تجدد

وبالكمال الذي تبدى وماله حد

نقول فيمن يقول عمن لديك يشهد

أرخ لطه در التهاني لعرس أحمد

ا ه.

وقال المرادي في ترجمة الأديب الشيخ إبراهيم الدكدكجي : ومن شعره هذه القصيدة ممتدحا بها الشيخ السيد طه الحلبي ومهنئا له بعرس ولده أحمد وهي :

أترع الكاس يا نديم وهاته

ثم نهنه كرى جفون سقاته

واجتل البشر من وجوه التهاني

فصفاء الزمان من مسعداته

زمن اللهو والخلاعة والبس

ط حريّ بالحر بعد فواته

قم بنا نفترع فدتك المعالي

ونسارع فالروض طاب فواته

نجتلى فيه أكؤس الود فالرا

حة والأنس في اجتلا زهراته

وبشير الإسعاد أضحى ينادي

إن داعي السرور قام بذاته

وغدا الأنس كاملا والأماني

صرن للوعد فيه من منجزاته

كيف لا والزمان لا زال فيه

الشهم طه ممتعا بحياته

الإمام الهمام من قد تسامى

للمعالي وصرن من حسناته

والأعز الأغر من شاد مجدا

في ذراها بمقتضى عزماته

والنبيل النبيه والأروع الأو

رع غيث الأنام في مكرماته

والحسيب النسيب محيي ربوع ال

جود بعد اندراسها بهباته

آل بيت الرسول حزتم مقاما

تجتلي الناس باجتلا نيراته

يا وحيد الأفضال إني أهني

ك بعرس زهت جميع جهاته

عرس عين الكمال روح المعالي

أحمد المتقين في مسعداته

واحد الدهر ثاني الروح حقا

ثالث النيرين في هالاته

٤٤١

دام بالأمن والمسرة يزهو

بالرفا والبنين طول حياته

يا سليل الأمجاد ساجع شكري

لهج بالثناء في نغماته

ولغرّيد روضة البشر يشدو

بمديح كالدر في كلماته

فأعره سمع الرضى وتجاوز

عن قصور يلوح في أبياته

إن بيتا حوى بدائع تاري

خ أحرى بالعفو عن سيئاته *

نم قرير العيون بالعرس أرخ

وتنعم بالجود من طيباته

واسلم الدهر بالهنا وتسنم

ذروة المجد لا جتنا ثمراته

وفي آخر الثبت المسمى «الأمم لإيقاظ الهمم» للشيخ إبراهيم الكوراني الشهرزوري ثم المدني ، وهو من مخطوطات المكتبة الأحمدية (نسبة لابن المترجم) إجازة من الشيخ إلياس الكوراني للمترجم ، قال فيها : وكان ممن سعى في ذلك وأفاد ، واستفاد ما هنالك وأجاد ، فخر الأشراف العارف ، بالله الغارف من يم المعارف ، السيد الحسيب النسيب السيد طه بن السيد مصطفى إلخ.

وممن رثاه الشيخ عبد الرحمن البيري بقصيدة طويلة مطلعها :

هي الأيام للأعمار نهب

وللأعمال أسفار وكتب

تقلبها سرور ثم حزن

وأفراح وتضييق وكرب

إذا ركب ترحل عن مناخ

بحكم البين عرّس فيه ركب

إلى م تحث أنفسنا المنايا

على دهم وبيض ليس تكبو

كوامن بين أحشاء المنايا

إذا هي شارفت فرصا تهب

خلقنا والفنا حتم علينا

فلولا خلقنا لم يقض نحب

فنحن أمانة والحزر صعب

فإن ردت كما هي زال صعب

موارد هذه الأيام ملح

ومرآهن للمعروف عذب

طمعنا في مسالمة الليالي

ولم نعلم بأن السلم حرب

خدعنا بالمنا منها غرورا

بصنعة خاسر إذ بان غلب

إلى كم كل يوم فقد خل

تجود عليه بالآماق سحب

ومنها :

__________________

(*) لعل الصواب : لأحرى.

٤٤٢

فيا ليت النعاة بموت طه

خرسن وكان في الآذان عطب

إمام كامل بحر تقي

لدائرة الطرائق فهو قطب

وعين المرشدين إذا أضيعت

نفوس في الهوى أو ضل قلب

وترياق النفوس غدا إذا ما

بدا من غاسق الشيطان وقب

بصير في خلاص النفس آس

خبير في علاج الروح طب

مربي الطالبين بحسن رأي

إذا اقترف القلوب الغلف ذنب

مرقّي السالكين إذا استحقوا

وزلت عن بصائرهن حجب

له قدم بطرق القوم ثبت

له في مأخذ العزمات دأب

له التسليم للأقدار خلق

ولو كان القضا نارا تشب

صبور في النوائب ذو احتمال

أخو جلد إذا ما لذعبّ

ومنها :

إذا السلوان دنس ثوب حزن

يغسله من العبرات سكب

فقل لنوائب الأيام تفعل

كما شاءت فهذا الرزء حسب

حباك الله في الفردوس ملكا

كبيرا ناضر الأرجاء خصب

له المسك العبير النشر ترب

له من خالص الكافور كثب

وولدان وحور في يديهم

ثياب سندس خضر وقشب

لهن إلى قدومك عين بشر

بهن إلى اللقا مرح ولعب

يقلن الكل يا رضوان أرخ

لطه منزل في الخلد رحب

ودفن في حجرة مخصوصة داخل المدرسة في صدر المدفن المعد لدفن آل الجلبي ، ولها شباكان على الجادة ، وهناك لوح كتب عليه القصيدة المتقدمة التي رثاه بها الشيخ عبد الغني النابلسي ، وله في مكتبة الأحمدية ثبت كتب عليه (مشيخة طه زاده) وهو في قسم كتب الحديث كنت رأيته وتصفحته وأردت الآن أن آخذ عنه من أخذ عنهم من المشايخ فلم أجده في المكتبة ، ولا أدري فقد أولا ، وهو كتاب صغير.

١٠٣٩ ـ حسن بن محمد التفتنازي المتوفى سنة ١١٣٧

ترجمه حسن أفندي الكواكبي في كتابه «النفائح واللوائح» فقال :

٤٤٣

هو العالم الكبير والجهبذ الشهير الإمام الهمام حسن بن محمد التفتنازي. ولد في حدود السبعين ، واشتغل بعلوم الدين وفنون الأدب حتى برع وفاق ، وذكر من المبارين في حلبة السباق ، وألف مؤلفات حسانا ، أودع في مكنونها بيانا وتبيانا ، منها «نظم السراجية» وشرحها ، وله منظومات أخر لم نقف عليها. توفي بمكة المشرفة سنة تسع وثلاثين بعد المائة.

ومما قاله مادحا جناب الجد المولى أبي السعود أفندي الكواكبي رحمه‌الله :

ما هيج الشوق من صب وما وجبا

به الغرام وصافي دمعه وجبا

إلا وزاد اشتياقي للتي سلبت

عقولنا واستباحت في الهوى السلبا

قامت فأزرت بخوط البان وانعطفت

بمحزم كل من داناه إنثغبا

في حبها كل أرباب الهوى ثملوا

ولم ينل أحد من وصلها أربا

فلو تبدت وكان البدر في شرف

والشمس راد الضحى من حسنها احتجبا

يصيد أسد الشرا صاد بوجنتها

من صادها صيد بالأشراك وانتكبا

كم من شجاع شجا في حبها ولها

أذابه عقرب الصدغين فاضطربا

إن حاربت بظبا ألحاظها بطلا

أضحى يحرب بين الركب واحربا

خطّية سحرت بالطرف إن حسرت

عن اللثام ترى في ثغرها العجبا

ومنها في التخلص إلى المدح :

قوضت عن حب ذات الكشح منقلبا

إلى مديح ابن من قد شيدوا حلبا

بالعلم والحلم والأفضال محتدهم

مجد ورفد وقد فاقوا الورى حسبا

أبو السعود الذي من أم ساحته

يؤم ركنا تظل في ظله النجبا *

وهي طويلة تربو على أربعين بيتا اقتصرنا منها على هذه الأبيات.

وله أيضا مادحا السيد نعمة الله أفندي الكواكبي عم السيد حسن أفندي الكواكبي :

نسيم الصبا هيجت شوقا تشعبا

إلى مربع عهدي به زمن الصبا

وذكرتني أطلال من قد عهدتهم

بأرغد عيش ثم أهناه مشربا

__________________

(*) هكذا في الأصل.

٤٤٤

ألا بلغا عني تحية مغرم

وسورة أشواق لهاتيكم الربى

أريج شذاها يشرح الصدر نشره

بها البان والنسرين والرند والكبا

تهيج إلى تلك الربوع جوانحي

ومن يبتلى بالعشق يمسي معذبا

أحن إلى ليلى وإن شط ربعها

وكانت بروق الوعد بالوصل خلّبا

لقد عاد رأسي كالثغام ولمتي

شميطى ولم أبلغ مراما ومأربا

إلى الله أشكو حر ما بي من الجوى

ومن لم يساعده القضا يبق متعبا

وهي طويلة أيضا اكتفينا منها بما تقدم.

١٠٤٠ ـ إسحق بن محمد البخشي المتوفى سنة ١١٤٠

إسحق بن محمد البخشي الحنفي الحلبي الخلوتي ، العالم الجليل الفاضل النبيل.

مولده بحماة في حدود السبعين. وألف واشتغل على والده وارتحل معه إلى مكة المشرفة في أواخر القرن الحادي عشر ، وجاور بمكة مدة ، وتفقه على والده. وأخذ عن علماء الحرمين في وقته وعن علماء بلدته. وبرع في سائر العلوم واشتهر بلطائف التحريرات في المنثور والمنظوم ، وله سياحات كثيرة ، وابتلي بالاغتراب بسبب القضاء.

وله في علوم العربية والأدب ، ما يملأ الدلو لعقد الكرب. وله نظم القدوري وغيره من الرسائل المفيدة والمراسلات الفريدة. ولما اصطحبه معه الوزير قبطان إبراهيم باشا لسفر المورة من البحر وحصل لهم الفتح والنصر أنشأ مقامة بحرية ووصف فيها كيفية الذهاب والإياب ، وكيفية القتال برا وبحرا وما يسره الله من الفتح والنصر ، بألفاظ عذبة وعبارات أنيقة ، وشاع ذكرها بين أدباء العصر. وكان له نظم كالدر النظيم ، وتحريرات تفصح عن فضله الجسيم ، لو دونت لبلغت مجلدات. وعاقبة أمره عدل عن القضاء.

وكانت وفاته في حلب الشهباء في سنة أربعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٤١ ـ حسن بن علي الطبّاخ المتوفى سنة ١١٤٠

حسن بن علي الشهير بالحنبلي الشافعي القادري الشريف لأمه المعروف بالطباخ الحلبي ،

٤٤٥

الشيخ العالم العامل المحقق الكامل المتقن الخطيب بجامع الخسروية ، والمدرس بأموي حلب.

ولد بحلب في سنة ثمانين وألف ، وكان والده طباخا فأثرى حاله واقتنى من أنواع أواني النحاس شيئا كثيرا ، وكان يؤجرها إلى الناس في الأفراح واتخذها حرفة ، ثم ولده المترجم نشأ في حياته موفر الدواعي مرفه البال ، وكان ذكيا نجيبا ، فاشتغل بطلب العلم واكتساب الكمال ، فلازم الشيخ مصطفى الحفسر جاوي وأكثر عنه وانتفع به وعليه تخرج وبرع في الفقه وأخذه وسائر العلوم عنه.

وقرأ التفسير على المولى أحمد الكواكبي ، والحديث وفقه الحنفية والأصول على ولده أبي السعود الكواكبي ، وقرأ على الشيخ أحمد الشراباتي وعلى الشيخ سالم المكي وعلى غيرهم من علماء عصره وأكثر عن الواردين ، وبرع في المذهبين ، وكان سريع الاستحضار لأكثر المسائل.

واقتنى الكتب النفيسة النافعة كثيرا ، واعتنى بتصحيحها وضبطها لملازمته إقراءها. وكان يخبر عن نفسه أنه أكثر لياليه لا يضع جنبه على الأرض للنوم بل يتكىء في زاوية البيت ويضع الإحرام على ركبتيه والمصباح عند رأسه ويطالع ، فإذا استيقظ تناول الكتاب واشتغل بالمطالعة ، ويقول إن هذه الكيفية في المطالعة فائدتها كلية ، لأن الإنسان إذا نام عقب المطالعة وأعادها حين استيقاظه من النوم علق ذلك في ذهنه بحيث إنه لا يزول. وكان له تقرير بتحقيق وتدقيق من غير حشو ولا تلعثم ولا توقف ، وانتفع عليه خلائق كثير.

ولما انحلت خطابة الخسروية عن الشيخ عبد اللطيف الزوائدي وجهت على صاحب الترجمة ، وكان من الخطباء المحسنين.

وكان شديد الإنكار والتعصب على الدخان وشاربه حتى كاد أن يقول بحرمته ، وكان إذا حضر في مجالس من يحتشمونه لا يشربون أبدا ، وإذا شرب في مجلس أمسك أنفه بأصابعه وتأنف وقال : يا أخي اكفف أذاك عنا ، واستمر على ذلك إلى قبيل موته بنحو عامين حتى اعتراه حادر حار فعالجه فلم يفده شيئا ، فوصف له الدخان فتوقف برهة وزاد به الألم فشربه وترك الاعتراض. وكان معاصره الشيخ قاسم البكرجي مثله بل أشد تعصبا منه ، فحصل له قبل موته حادر ذهبت به عينه الواحدة ، فأمره الطبيب بشرب الدخان خوفا على عينه الثانية فشربه. وقد شاهدته في بلدتنا دمشق الشام وقع لبعض أحبابنا من

٤٤٦

الأفاضل وكان كما ذكر ، فبعد مدة صار ديدنه شربه.

وكانت وفاة صاحب الترجمة بعد إيابه من الحج ، وكان سبق له قبل ذلك مرتين. توفي في بدر بختام ذي الحجة ختام سنة أربعين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : بعد البحث كثيرا وقفت على دلائل متعددة غلبت على ظني أن المترجم جد عائلتنا الأعلى ، ولا زلت آخذا في البحث والتنقيب لعلي أصل إلى ما يجعل هذا الظن يقينا.

١٠٤٢ ـ سليمان بن خالد النحوي المتوفى سنة ١١٤١

سليمان بن خالد بن عبد القادر المعروف بالنحوي الحنفي الحلبي ، العالم الفاضل البارع المفضال النحوي المفنن المحقق الماهر.

كان والده من أمراء الأكراد الكائنين في ناحية حلب ، وولده المترجم نشأ بحلب وقدم دمشق وقرأ بها وحصل الفنون وحضر دروس مشايخها وأخذ عنهم ، منهم الشيخ يحيى المغربي نزيلها وغيره ، ثم رجع بعد تحصيل الفضل التام لحلب وتوطنها واشتهر بها بالنحو. وتولى تدريس جامع الفردوس وغيره وأخذ عنه الأفاضل وتفوق واشتهر.

وترجمه الأمين المحبي الدمشقي في ذيل نفحته وقال في وصفه : روض فضل مطير ، عرفه فواح عطير ، يتطاير الجد عند انقداحه ، فيورى زند النجاح قبل اقتداحه ، صحبته بدمشق إبان التحصيل ، والهمة تعقد بيننا وبين التفريع والتأصيل ، ونحن في بلهنية هنية ، نقطف زهر الحياة جنية ، فلم أعثر منه على ريبة ، ولم أعهد منه حالة غريبة. وكان له بيننا حظوة ، لم تقصر له عن سابقنا خطوة ، فثوب الاعتبار لباسه ، ونور التوفيق اقتباسه. ثم رحل إلى بلده حلب بفضل وافر ، وكمال يهون به كل صعب متنافر.

فتنازع البلدان فيه صبابة

وكلاهما جم الغرام طروب

فاجتنى الآمال لدنة الفروع ، وامترى حلوبة العيش ملآنة الضروع ، وأحرز قصب اليراع ، فحاك وشيا ما يحاك بالابتكار والاختراع ، فالأرجاء بأضوائه مؤتلقة والأراجي من الآملين به معتلقة. وله شعر مختار ، كأنه جنى نحل مشتار. انتهى ما قاله.

ومما وصلني من شعره قوله من قصيدة أولها :

٤٤٧

روّى الملثّ بسيبه الفياض

ربعا به زمن الشبيبة ماضي

ورعى ظباء فيه قد طارحتها

ذكر الغرام بأعذب الأحماض

في روضة غنا بغوطة جلّق

يجري اللجين بها على الرضراض

مع كل معسول الثنايا لحظه

عند الفتور أحدّ عضب الماضي

يفتر عن حبب يجول خلاله

ماء الحياة لميت الأعراض

وله مضمنا :

يا مليكا قد سبى كل الورى

وعزيزا عز من رام حماه

كيف لا أزداد شوقا إذ غدت

قبلتي وجهك في كل صلاه

وقوله في القرنفل مشبها :

ألا حبذا في الروض زهر قرنفل

ذكي الشذا فاني الأديم مورد

إذا ما بدا للناظرين حسبته

مجن عقيق فوق غصن زمرد

وكانت وفاته في حلب في سنة إحدى وأربعين ومائة وألف عن نيف وثمانين سنة ، ودفن خارج باب قنسرين بتربة الشيخ نمير رحمه‌الله ا ه.

١٠٤٣ ـ علي بن بيان المتوفى سنة ١١٤٣

علي بن * المشهور بابن بيان ، أحد بحار الشهباء وأجوادها.

كان سمحا ووالده مغرما بتحصيل المعارف والصنايع الظريفة وحسن الخط حتى بلغ من ذلك الغاية ، ومن خطه الحسن الكتابة التي بأموي حلب على مرقد سيدنا نبي الله زكريا عليه‌السلام ومن داخل المرقد فوق ، وله اليد الطولى في النقوش العجيبة والدهان العجيب.

وكان في أوائل عمره قل ما في يده ، فتوجه إلى مصر إلى ابن عم له صاحب ثروة ، فاتفق بعد وصوله بأيام قليلة وفاة ابن عمه عن زوجة وبنت ، فورثه معهما ، ثم تزوج

__________________

(*) فراغ في الأصل.

٤٤٨

بزوجة ابن عمه المذكور وعاد إلى حلب وزوج ولده محمدا بالبنت ، وتصدر في بيته للأحباب في وعاية * أرق من ماء المفاصل ، ولطافة أشهى من الحبيب المواصل ، وبيته أحد البيوت المشهورة بحلب بسويقة حاتم بحسن البناء ، وكان سكن الشيخ المرشد الكامل العارف الشيخ قاسم الخاني بالشراء بعد وفاة الشيخ لصاحب الترجمة من ولده. وأخبر ولد صاحب الترجمة محمد بن بيان أن جدهم مولده خوارزم ، وقدم لبلاد الشام في تجارة ودخل حلب ، ومن ذريته صاحب الترجمة والعهدة عليه.

توفي سنة ١١٤٣ وله من العمر اثنتان وستون بتقديم المهملة على المثناة فوق ، ودفن خارج باب الفرج ، وأعقب ثلاث بنين محمد الفاضل الحنفي وعمر كما عمر والده ٦٢ وتوفي سنة ١١٧٦ ودفن عند والده ، ومصطفى صاحب الخط الحسن والذكاء العجيب والملكة التامة في النقوش العجيبة والصنايع الغريبة ومعرفة تامة بالموسيقى ، وبالجملة فهو من أفراد زمانه مع دماثة أخلاق وعفة وصيانة ، توفي سنة ١١٧٧ ودفن عند والده وله من العمر ٧٤ سنة وأعقب ، وأصغرهم أخوهم أحمد وهو في الأحياء الآن. ا ه. (من مجموعة منقولة عن خط ابن ميرو).

١٠٤٤ ـ الوزير إسماعيل بن إبراهيم العظم المتوفى سنة ١١٤٥

إسماعيل بن إبراهيم العظم ، الوزير الشهير. كان والده إبراهيم هذا جنديا سكن بمعرة النعمان من أعمال حلب ، وكان لأهلها مع التركمان التي ترد إلى جبلها شتاء وقايع جرح في بعضها والد المترجم ، فحمل إلى بليدته المذكورة فتوفي في تلك الجراح ، وأعقب المترجم وسليمان الوزير الشهير وموسى ومحمدا ، وكلهم تولى الوزارة خلا محمدا.

وكانت ولادة المترجم قبل السبعين وألف بالمعرة وبها نشأ ، وتقلبت به الأحوال إلى أن صار حاكما ببلده ثم بحماة ، وأنعمت عليه الدولة العلية بعناية والي حلب عارفي أحمد باشا بطوخين رتبة روملي ومالكانة حماة وحمص والمعرة عليه وعلى أخيه سليمان ، ومنصب طرابلس عليه وسر عسكر الجردة ، فبعد عوده من الجردة سنة ثمان وثلاثين وماية وألف تولى الشام وإمرة الحاج بالوزارة ، وحج ست سنين ، وفي السنة السادسة قعدت للمحاربة

__________________

(*) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب دعابة.

٤٤٩

معه طائفة حرب بين الحرمين في إيابه ، فما دخل المدينة المنورة بل توجه على طريق ينبع البحر إلى آبار الغنم ، وكتب الشريف وأهل المدينة في هذا الشان للدولة العلية ، فعزل وامتحن سنة ثلاث وأربعين وحبس بقلعة دمشق واستأصلوا أمواله مع أموال ذويه ، وأفرج عنه سنة أربع وأربعين وولوه خانيه (في كريد) فذهب إليها وبها أدركه الحمام سنة خمس وأربعين ، وأعقب السيد إبراهيم وأسعد سعد الدين ومصطفى وكلهم تولوا الوزارة خلا الأول ، فإنه توفي بحماة سنة ١١٥٩ في أوائلها وهي برتبة روملي معزولا من صيدا ، فإنه ولي أطرابلس قبل الامتحان وذهب مع والده إلى خانيه (في كريد) وولي بها بعض المحال ، وبعد وفاة والده عاد وولي صيدا مرارا وجده الأعلى لأمه الحراكي الولي المشهور. وأعقب المترجم بنتين زوج إحداهما في حياته من ابن أخيه مصطفى بن فارس فولدت له محمدا ، وهو الآن أبقاه الله واسطة عقدهم وزير شهم صدر متحل بالفضل والأدب ، وولي صيدا بالوزارة في رجب سنة ست وسبعين وماية وألف. ا ه (ميرو).

١٠٤٥ ـ مصطفى بن منصور الطبيب المتوفى بعد سنة ١١٤٥

مصطفى بن منصور الطبيب الحاذق المصيب.

كان ذكيا جدا ، قرأ على العالم الفاضل الشيخ قاسم البكره جي وعلى العالم الكامل علي الميقاتي ، وقرأ على والده فريد عصره علم الطب وألف فيه رسالة في علم النبض.

خرج من الشهباء سنة خمس وأربعين ومائة وألف وهو من أبناء الثلاثين ، ودخل دار الخلافة إسلامبول ، فسمع به أطباؤها ، فدعوه يوما إلى بعض الباليّات ، والباليّ هناك عبارة عن البستان ، فلما قدم عليهم استرحبوا به وأجلّوه ، وكان قدم إليهم من مكان بعيد ، وكان يوما شديد الحر ، فلما جلس عرضوا عليه بعض الأشربة موضوعا فيه ثلج ، فأبى شربه ، فقالوا : لم لم تشرب؟ فقال : هذا شيء مضر ، فأنكروا عليه ، والحال أنهم ما عرضوا ذلك عليه إلا للاختبار ، فاندفع يذكر لهم ما يتولد من شرب البارد على التعب ما لو جمع لبلغ كراسة أو كراستين ، فانبهرت عقولهم لاستحضاره وذكائه فأجلوه قرى *

وله رحلة ذكر فيها من لقي في طريقه من الأفاضل والأدباء.

__________________

(*) هكذا في الأصل.

٤٥٠

ولم يلبث إلا قليلا في إسلامبول حتى انتقل إلى رحمة الله مطعونا فرحمه‌الله تعالى.

فمن شعره الذي له في رحلته قوله في عتب الزمان :

هو الدهر ما شمنا لأكداره صفوا

ولا برحت فيه بنوه على شكوى

ومنها :

ولا ذنب فيه للبليغ أخي الذكا

سوى أنه لم يعطه عرضه رشوى

وما هو إلا الصاب في كل حالة

ولكن سليم (١) الذوق يحسبه حلوى

فتبا لأيام لهت بذوي الحجا

على أنهم لم يعرفوا ضمنها لهوا

ومنها :

وما أسفي إلا تساوي كرامها

بأنذالها عند الرواية إذ تروى

ومنها :

وقد سودت شوم القرود كأنما

قد انقطع النسل الذي كان من حوا

ويأمرنا بالصبر فيهم أخو الذكا

سمعنا ولكن بين ذا القوم من يقوى

فلا تعجبي يا ميّ إنا لفي عنا

وإن كان كلّ جانب الرتبة القصوى

ولا تمتري فالموت للحر راحة

إذا أصبحت فيه الحياة بلا جدوى

ا ه (تاريخ ابن ميرو).

١٠٤٦ ـ عثمان بن ميرو المتوفى سنة ١١٤٥

عثمان بن يحيى بن عبد الوهاب بن الحاج ميرو الشافعي الكامل.

ولد بمكة ، وأمه أم ولد كرجية ، مولده قبل الثمانين. وبعد وفاة والده بمكة نقله عمه حسين لحلب مع إخوته وهم أبو بكر لأبويه ومحمد وعمر لأبيه.

وسافر المترجم إلى جهان أباد من بلاد الهند واستقام بها مدة ، ثم عاد لحلب وتزوج

__________________

(١) السليم لديغ الحية كما هو معروف.

٤٥١

بابنة عمه عائشة بنت مصطفى الميرو ، ومولدها مدينة إسلامبول ، وكان أتى بها لحلب بعد وفاة والدها عمها الحسين أيضا ، وولدت بنتا وتزوجت وماتت في حياة أبويها ، ثم تسرى بجارية وانقطع في داره منعكفا على تلاوة القرآن والتقوى والصلاح وحضور المسجد ، وكتب بخطه الكثير من الكتب.

وكانت وفاته سنة خمس وأربعين ومائة وألف ودفن بالتربة الأمينية بحلب. ا ه.

١٠٤٧ ـ الشيخ رمضان العطّار المتوفى سنة ١١٤٧

رمضان ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ أحمد العطّار ، الفاضل الكامل الشافعي.

كان يعاني صنعة العطارة بحانوت في سوق العطارين قبلي جامع أموي حلب. مولده في حلب قبل المائة.

قرأ على فضلاء بلدته كالعلامة الشيخ مصطفى الحفسر جاوي ، والفاضل الشيخ جابر ، والعلامة السيد محمد الكبيسي ، وأخذ عن العارف الشيخ قاسم الخاني طريقة القادرية وأفاد ، وقرأت عليه في الفقه الغاية وشرحها لابن قاسم الغزي والخطيب الشربيني ، وشرح التحرير لشيخ الإسلام زكريا ، وشرح الأجرومية للشيخ خالد ، وشرح الأزهرية له.

توفي سنة سبع بتقديم السين المهملة على الموحدة وأربعين وماية وألف وأعقب ، ودفن في التربة الشهيرة بالشيخ أبي نمير ، وكانت جنازته حافلة.

كان عفيفا سخيا حلو المنادمة كثير الذكر ملازما للعبادة والإفادة والاستفادة ، يقري بين العشائين تجاه سكنه بجامع منكلي بغا الفقه وينفع الناس رحمه‌الله تعالى. ا ه (ميرو).

١٠٤٨ ـ الشيخ محمد هلال الرامحمداني المتوفى سنة ١١٤٨

محمد هلال بن عمر ، الصالح الورع المسلّك الشافعي القادري الرامحمداني : قرية غربي حلب ، مولده بها ، وقرأ القرآن بها.

أخذ الطريقة الشريفة القادرية عن العارف الشيخ قاسم الخاني وانتفع به وعن الشيخ محمد بن الشكعة ، وعن السيد ياسين الكيلاني الحموي ، وعن العارف مصطفى اللطيفي

٤٥٢

المشهور ، وتصدر للإرشاد سنة (لم يذكر) وتوفي سنة ثمان وأربعين وماية وألف ودفن في صحن المسجد الذي كان يقيم الذكر فيه بمحلة الجلّوم وقد ناهز التسعين. ا ه (ميرو).

أقول : وقد كنت اطلعت على مؤلف له شرح به حكم الشيخ محيي الدين بن العربي قدس‌سره ، وهذا الكتاب الآن في مكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ، وقد ذكر في هذا الكتاب مجيء شيخه الشيخ يسين الكيلاني إلى حلب ، وقد علق بفكري من تلك الحكم قوله : (لن ترى الحلال إلا في شواهق الجبال) وقوله : (الشيخ من أصلحك حاله أو دلك على الله مقاله).

١٠٤٩ ـ عمر بن مصطفى طه زاده المتوفى سنة ١١٤٨

عمر بن مصطفى الشهير بطه زاده ، وهو أخو طه المتقدم وأخو يسين الآتية ترجمته. ولم أقف له على ترجمة خاصة ، غير أني وقفت على وقفيته لمسجده ومدفنه اللذين عمرهما جنوبي البيمارستان النوري في محلة الجلّوم ووقف عليهما وعلى ذريته وقفا ، ويعرف المدفن بمدفن الجلبي. وصف في وقفيته بالعالم العلامة ثمرة الدوحة المحمدية ، ذو الحسب الطاهر والنسب الباهر ، حضرة السيد عمر أفندي ابن مصطفى أفندي الشهير نسبه بطه زاده ، قايم مقام حضرة نقيب السادة الأشراف والقاضي بالقدس الشريف سابقا قال : عمرت مسجدا ملاصقا لداري الكائنة بمحلة الجلّوم ، وعمرت شمالي المسجد مدفنا لي ولذريتي ، وعمرت حوشا سماويا للمسجد والمدفن ، ويحيط بهذا المسجد والمدفن جدران ؛ فالجدار الغربي به شباكان محددان مطلان على الطريق السالك بأحدهما سبيل ماء لشرب العطاش المارين ، وبجانبه قصطل يجري إليه الماء من قناة حلب. (ثم قال) : ويصرف في كل يوم من غلة الوقف تسعين عثمانيا فضيا لثلاثين رجلا من القراء ليقرؤوا مجتمعين في كل يوم عقيب صلاة الصبح بالمسجد والمدفن. وتاريخ الوقفية سنة ١١٤١.

وكانت وفاته سنة ١١٤٨ ودفن بمدفنه هذا ولا زال قبره موجودا.

وللمترجم أخ ثالث اسمه محمد توفي عقيما سنة ١١٧١ ، وهو مدفون بهذا المدفن ، فيكون لمصطفى بن طه زاده والد المترجم المتوفى سنة ١٠٩١ أربعة أولاد.

ومما يجدر ذكره هنا أن على يسار القبلية في هذا المسجد حجرة فيها ثلاثة قبور لا كتابة

٤٥٣

عليها ، غير أن المتوسط منها عليه ضريح من خشب المشهور أن المدفون فيه الشيخ صالح الكيلاني ، ولم أقف له على ترجمة. وكان هناك لوحة مكتوب عليها أبيات أولها :

ضريح به العرفان والزهد والتقى

وبحر الرضى فيه مدى الدهر سائح

لقد حله شهم كريم وفاضل

وبالعلم مشهور وبالجود صالح

ولا غرو في ذاك الهمام لأنه

بوالده فجر المعارف واضح

فذا صالح نجل لعبد لقادر

نتيجة جيلان له النور لائح

ووجود هذه القبور الثلاثة في هذه الحجرة يفيد أن المكان كان مسجدا أو زاوية قبل أن يعمره عمر أفندي الجلبي ، ولعله كان داثرا لم يبق فيه سوى هذه الحجرة فجدده المترجم والله أعلم.

ومدحه الشاعر الأديب مصطفى أفندي البيري بقصيدة غراء طويلة قال في مطلعها :

هل المجد إلا ما تسنمت غاربه

أو الفخر إلا ما امتطيت جنائبه

كفى المجد فخرا أن شمس علا كمو

لقد زينت للناظرين كواكبه

وأقسم ما جاراك في المجد نيّر

من الأفق إلا كان مجدك غالبه

لك النسب الوضاح والشرف الذي

يمزق من ليل الشكوك جلاببه

رفعت منار الجود بعد عفائه

وأظهرت منهاج السخا ورجائبه

وفضيت عن بكر المعالي ختامها

وصفيت من ورد الكمال مشاربه

وناديت للعليا فلبت مجيبة

وغيرك لو نادى بها لن تجاوبه

وهي طويلة قال في آخرها :

وشكرك في بث المحامد واجب

فمن لي بأن أقضي من الشكر واجبه

ودمت مهنا بالسعيد فإسمه

لحظكمو وصفا أتى بالمناسبه

ومن حظه أضحى سميّا لنجله

فذاك سعيد الدهر ما فيه شائبه

وبالعيد فاهنأ بل يهنا لأنه

أتاك ليملي من ثناك حقائبه

وخذ غادة غراء يسبيك حسنها

وتحمد أن وافتك منك المصاحبه

وخذني في روض امتداحك بلبلا

لأمليه تغريدا وأجني أطايبه

ودع كل شعر غير شعري فدرّه

يروقك حسنا مثل ما رق ثاقبه

٤٥٤

ودم وابق واسلم كلما هبت الصبا

وذكّرت المضنى المشوق حبائبه

ولا زلت محسود الجناب ولم تزل

سهامك أهداف المكارم صائبه

١٠٥٠ ـ عمر بن عبد القادر الأرمنازي المتوفى سنة ١١٤٨

عمر بن عبد القادر ، الشافعي الأرمنازي الأصل الحلبي المولد ، المقرىء الفرضي العالم العامل الفاضل الكامل.

ولد بحلب في سنة خمس ومائة وألف ، وكان والده ورعا صالحا وخطيبا وإماما بجامع قسطل الحرامي بحلب ، فنشأ ولده المترجم وقرأ القرآن على والده ، وقرأ الفقه والنحو وعلم الفرائض على جابر بن أحمد الحوراني وعبد اللطيف بن عبد القادر الزوائدي وبرع في ذلك ، وقرأ علم الميقات على مصطفى بن منصور الطبيب ، وأخذ الحديث عن محمد ابن عقيلة المكي حين قدومه إلى حلب ، وأخذ العربية والصرف والمعاني والبيان والأصول على عدة شيوخ.

وكان رأسا في كتابة الوثائق الشرعية بحيث إن شهود المحاكم عادوه لذلك وراموا منعه مرارا فلم يقدروا ، إلى أن قدم الفاضل الأديب حسين بن أحمد الشهير بالوهبي الرومي قاضيا لحلب ، فوصل إليه وثيقة إبراء بين ذميين بكتابة المترجم ، فلما رآها القاضي قال ما أبقى هذا الكاتب حيثية للمحكمة ، فوجد الكتّاب فرصة ووشوا به إلى القاضي وقالوا : إنه قد سد أبواب المحاكم وتعطل حالنا ، فأحضره القاضي وهدده بعد التوبيخ التام بقطع أصابعه إن كتب مرة أخرى وثيقة لأحد ، فحلف له على ذاك ثم قال للقاضي : يا سيدي أرجو من فضلكم أن تأمروا بتحرير تاريخ هذا التنبيه عليّ في السجل المحفوظ ، ربما تقفوا على وثيقة مقدمة فيصير معلومكم أنها إنما كتبت قبل أمركم بمعني ، وإلا فتذهب أصابعي ظلما ، فضحك القاضي وأعجبه وأمر له بالجلوس وهش له وبش وقال : يا شيخ ، أنت تحرم نفسك وتحرمنا المحصول ، فلو أخذت كثيرا كان أنفع لك ، ثم أسر إليه أن اضرب بكلامي الحائط واكتب ما شئت وخذ كثيرا ولا عليك من هؤلاء الجهلة يعني الكتّاب ، فخرج من عنده وامتنع من كتابة الوثائق ولم يغتر بكلام القاضي لأنه كان يتلون كالحرباء.

ثم إن صاحب الترجمة حفظ القرآن العظيم قبل وفاته بعامين أو ثلاثة ، وحفظ الشاطبية

٤٥٥

على الأستاذ محمد بن مصطفى البصيري ، ثم شرح الشاطبية شرحا مختصرا أسماه «الإشارات العمرية في حل رموز الشاطبية» لكن أعجلته المنية عن إتمامه وتبييضه ، فبعد وفاته أتمه وبيضه المتقن عمر بن شاهين إمام الرضائية ، وهو شرح لطيف نافع للمبتدي ولاستحضار المنتهي.

وجرت للمترجم محنة عظيمة قبل وفاته وكانت سببا لمرضه الذي مات فيه ، وذلك أنه لما كان سنة سبع وأربعين بعد المائة صار غلاء وقلت الأقوات ، فتحركت العامة والرعاع يوما لينهبوا الخبز من الأفران ، فصادفوا خليل المداري دائرا على الأفران يقبض ثمن الطحين ، ورأوا معه دراهم كثيرة ، فطمعوا في أخذها ولحقوه ، فساق دابته فأدركوه عند جامع قسطل الحرامي ، فنزل عن الدابة ورام الدخول للجامع المزبور ليحتمي به ، فمنعه المؤذن والقيم وغيرهما ، وكان صاحب الترجمة أمرهم بمنعه خوفا أن يقتل في الجامع ، وأغلقوا باب الجامع في وجهه ، ففر نحو البرية فأدركوه هناك وقتلوه ولم يعلم له قاتل. وفي تلك الغضون قدم إلى حلب كافلا وحاكما الوزير أحمد بن برهان الشهير بالبولاد ، فاشتكى أولاد خليل المذكور على أهل المحلة عموما وعلى صاحب الترجمة والمؤذن والقيم خصوصا ، فاختفى صاحب الترجمة عند بعض أصحابه مدة والطلب بالتفحص الشديد عليه ، إلى أن قضيت القضية وأخذ المذكور جريمة كثيرة من أهل المحلة ، فظهر المترجم لكن أثر فيه الرعب بحيث إنه كان يمرض مدة ويبرأ مدة حتى دنا أجله.

وكانت وفاته في أوائل شعبان سنة ثمان وأربعين ومائة وألف ، ودفن بمقبرة جب النور رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٥١ ـ مصطفى بن محمد البتروني المتوفى سنة ١١٤٨

مصطفى بن محمد المعروف بابن بيري ، الحنفي الحلبي البتروني أخو عبد الرحمن الآتي.

وهذا هو الأديب الذي سقى رياض الطروس بمياه براعته ، فأنبت في الصحائف أزهار البلاغة والفصاحة واشتهر بالأدب النفيس.

قدم دمشق مرارا وخالط أربابها وأفاضلها واشتهر بينهم. وكان وحيد أقرانه في زمانه.

وترجمه السيد الأمين المحبي في ذيل نفحته وقال في وصفه : ماجد امتطى بأخمصه فرق

٤٥٦

الفرقد ، واتخذ الصهلة والصهوة أنعم المنعم وأفعم المرقد ، رقي من الفضل أسمى المراقي ، وأترع دلوه من السودد إلى العراقي ، فخبره قد أخذ من الكمال بالمجامع ، ومخبره تفتر منه ثغور الأماني في وجوه المطامع ، وبيني وبين أبيه في قسطنطينية ، وأنا وإياه عقيدا وداد في بلهنية هنية ، ذمم لا ترفض ، وعصم لا تنقض ، فعهده نقش على صخر ، ووده نسب ملآن من فخر. وأما كماله فقد تجاوز حده منه ما تم له ، فأصابته عين فيما أمّ له ، فأخطأه ما أمله ، فلئن أصلته الأيام بنار نوائبها ، ونفرت عن يده الطولى بذوائبها ، فلولا السبك ما عرف للتبر صرف ، ولو لا النار ما عرف للعود عرف. وولده هذا أرجو له حظا وافيا ، وعمرا يكون ما بقي من الكدر صافيا ، فهو للمعالي ملء نواظرها ، وللأماني مطمح مناظرها ، وللدهر فيه عداة إنجازها مضمون ، وآخرها كأولاها من شوائب الزمان مأمون. وقد ذكرت له ما تستجليه بكرا ، وتصقل به روية وفكرا. انتهى مقاله فيه وفي أبيه.

ومن شعره قوله وكتبها إلى الشيخ سعد العمري الدمشقي وهي :

أفاتن بالألحاظ أهل الهوى فتكا

فقد صال في العشاق صار منها فتكا

وكف سهام اللحظ عن مهجتي فقد

هتكت حجاب الصبر عن صدرها هتكا

تركت بقلبي لاعجا وسلبتني

هجوعي فهلا تحسن السلب والتركا

هواك لقد أجرى دموعي صبابة

وصدّك نيران الجفا في الحشا أذكى

رويدك يا من بالهوى قد أذابني

وأنهك جسماني بتبريحه نهكا

ومذ همت لما شمت بارق ثغره

لدرّ غدا الياقوت في نظمه سلكا

أسر الهوى خوف الوشاة ومقلتي

بدر ثنايا الدمع تفضحه ضحكا

وفي هتك سر العاشقين شواهد

ولكن فيض الدمع أكثرهم هتكا

وكان مجال الصبر متسع الحمى

بحلبة صدري فانثنى ضيقا ضنكا

وشاركني كل الأنام بحبه

وتوحيده في القلب لا يقبل الشركا

وقد زان ورد الخدّ في روض حسنه

بنقطة خال قد حكى عرفه المسكا

من الترك يسطو في القلوب بلحظه

فلا تسألوا عن حال من يعشق التركا

رأى غرب جفني سافكا بمدامع

تباري الحيا المدرار فاستوقف النسكا

تملك قلبا من تجنيّه قد عفا

فما ضره بالوصل لو عمرّ الملكا

٤٥٧

ولما جلالي وجهه بعد بعده

وطور اصطباري عن محاسنه دكا

سبكت بنار العتب فضة خده

فأذهب أكسير الحيا ذلك السبكا

فيا مالكا لم أدّخر عنه مهجتي

أجبني فدتك النفس لم سمتها الهلكا

وإني ألفت الذل فيك وطالما

بعزة نفسي كنت استصغر الملكا

متى تجل عني ظلمة الصد علها

بصبح وصال تستنير به وشكا

هناك ترى قد حي من الحظ عاليا

وسعدي في أفق العلا جاور الفلكا

همام غدا في ذروة المجد ضاربا

له خيم العلياء من رفع السمكا

ومد رواقا للكمالات فوقه

وصاغ لها من درّ أوصافه حبكا

تبوأ من بحبوحة الفضل رتبة

بغير سناها نيّر الفضل لن يزكى

إذا رمت تلقى المجد شخصا ممثلا

فشمه تراه لأمراء ولا شكا

تود الدراري عند بث صفاته

تطاولها فخرا وتلزمها سدكا

فتى * خطبته المكرمات لنفسها

وفي فض ختم المجد قد أحرز الصكا

فلم يحكه مذ شب في الفضل فاضل

ولكنه عن حسن آدابه استحكى

وضوع عرف الفضل منه بجلّق

فيا فضل ما أنمى ويا عرف ما أذكى

ونظم أشتات المعالي إصابة

بعامل فكر قد أبى الطعنة السلكا

وأصبح في روض البديع مغردا

بأفنان أفنان تعز بأن تحكى

من العمريين الأولى شاع ذكرهم

وقام مقام الفضل في الليلة الحلكا

فمن ذا يجاريه بفضل وسودد

وآدابه تلك التي بهرت تلكا

فما الروض غب القطر حركه الصبا

قدودا زهت من قضب باناته فركا

وسوط المثاني والمثالث قد غدا

برجع الصدى يستنطق العود والجنكا

وترجيع عتب من محب بدت له

بروق الرضا ممن يعاتب فاستشكى

ودادك في قلبي لقد ضاع عرفه

بمدحك لما جال في القلب واحتكا

فخذ بكر فكر غادة قد زففتها

تجر حياء ذيل تقصيرها منكا

ودم وابق واسلم ما بكى من شجونه

أخو لوعة في رسم دار أو استبكى

فأجابه بقوله :

__________________

(*) في الأصل : متى ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

٤٥٨

أتت والدراري الزهر تعترض الفلكا

وطوق الثريا كاد أن يقطع السلكا

أقول : وهي قصيدة طويلة ذكرها المرادي بتمامها اقتصرت على مطلعها خوف الإطالة وللمترجم :

زوّد الصب نظرة من لقائك

واشف مضنى الهوى برشف لمائك

وانقذ المغرم الذي شفه

الوجد بوصل يذوده عن قلائك

إنما الليل من فروعك و

الصبح (غدا) * يستمد من لألائك

وكذا المسك ما تضوع إلا

حين وافته نفحة من شذائك

أنت في الحل من دم سفكته

في مجال الغرام بيض ظبائك

يا فؤادا أمسى جريحا بسهمي

لحظه ثغره شفاء لدائك

كف يا لحظه عن الفتك فينا

إننا في السقام من نظرائك

وكذا يا قوامه الغصن من ذا

اطلع البدر مشرقا في ذرائك

ومنها :

يا غزالا إذا رنا سلب الأنفس

رفقا على حشا مضنائك

أترى ما نفى الكرى عن جفوني

وشجاني من الهوى برضائك

أعذار بدا بخدّيك هذا

أم لصيد الألباب أضحى شرائك

أم حروف الدلال قد خطها الحسن

على وجنتيك من إملائك

أم على البدر هالة قد تراءت

لعيون الورى بأفق سمائك

أم مشى النمل فوق نور محيا

حار فيه اللبيب من شعرائك

بل غدا في البها سلاسل مسك

فوق جمر تقودنا لهوائك

ويك يا قلب كم تعاني التصابي

أو بلّغت طائلا بمنائك

فابتدىء وامتدح سليل المعالي

إنني في الرشاد من نصحائك

كوكب الفضل أحمد ذو الأيادي

من له في سما الفخار أرائك

يا إمام الهدى إليك حثثنا

طرف فكر مناخه بفنائك

يا رفيع الذرا وسامي الأراكي

وعليّ المنار في عليائك

__________________

(*) إضافة من سلك الدرر ليست في الأصل.

٤٥٩

فبهذا الوجود والعلم الفر

دوعين الكمال في فتوائك

فقت من قد تسربلوا برد المجد

وثوب الفخار من آبائك

أنت كالشمس رفعة وبهاء

وكبحر العباب في جدوائك

إن قسا وأكثما وإياسا

مثلا مضربا غدا لذكائك

صمت شهرا بالبر قد خولتنا

منن فيه من ندى نعمائك

وابق ما حنّ مغرم لمحب

وتغنى الحمام فوق الأرائك

تتمنى الغيد الحسان عقودا

نظمت باللآل من إنشائك

بلغوا في العلا السماك ولكن

دون ما نلت من علو ارتقائك

لك عزم حكى الحسام انتضاء

وبإيماضه حكى آرائك

سيدي جئت قاصرا حيث أمسى

كل فضل وسودد من حلائك

وأتى العيد مؤذنا بالتهاني

عائدا والسرور في أحيائك

رافلا في ثياب عز مقيم

ونعيم مخلد ببقائك

وله قوله :

بشذا عنبر خال

ضاع في جمرة خدك

وبما يقضى على الأنفس من صعدة قدك

وبما يسطو به طر

فك من مرهف حدك

وبما يستلب الألباب من ملعب بندك

وبما ضلت به الآراء من فاحم جعدك

وبما يجنيه كف الوهم من رمان نهدك

وبما أودع في فيك الشهي من درّ عقدك

لا تدعني والهوى يو

ردني مورد صدك

لا ولا تخلف لمجروح الهوى ميثاق عهدك

يا هلالا ته من الحسن ببرد دون بردك

أنا ما أوليت ودّا

مع أني عبد ودّك

كم أناديك بما يشتق من أحرف حمدك

عد بوصل واشف مضنى القلب في إنجاز وعدك

٤٦٠