إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

رجعت عن هذا العزم وهذه النية ، وأبرم عليه أن يدخل إلى عنده فأبى ، ورجع الشيخ رضي‌الله‌عنه إلى مكانه ، وصار الشيخ خالد يعتقده ويزوره ويلتمس الدعاء منه.

ونظير هذه الحكاية ما حكاه لي الشيخ عبد القادر بن الحجار أنه كان في هذه الديار رجل عالم كبير شافعي المذهب ومفتي الشافعية يقال له الشيخ إبراهيم العمادي (المتوفى سنة ٩٥٤) ، وكان في جواره رجل من المشايخ يقال له الشيخ محمد الخاتوني ، وكان يقيم حلقة الذكر مع الفقراء بالأصوات العالية ، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وكان الشيخ إبراهيم العمادي دائما يطعن فيه وينكر عليه كإنكار الشيخ خالد على الشيخ أبي بكر ، فاتفق أن وقعت حادثة سؤال علمي في بلاد الشام ، ووقع الاختلاف بين علمائها في الجواب عنها ، ثم اختاروا أن يرسلوا إلى الشيخ إبراهيم العمادي من الشام إلى حلب هذا السؤال في كتاب حتى ينظروا بماذا يجيب ، فلما وصل الرسول إليه بالمسألة أخذها وتأمل فيها مليا ، فخطر في باله أنها مذكورة عنده في أحد كتبه ، وكان عنده كتب كثيرة نحو ألف مجلد ، فجعل يفتش ويقلب الكتب يمينا وشمالا ولم يظفر به مدة أيام والرسول يلح عليه في الجواب ليذهب به إلى الشام ، فبينما هو متحير ذات يوم إذا بالشيخ الخاتوني داخل عليه ولم يكن بينهما اجتماع واقع قط ، فتلقاه الشيخ إبراهيم العمادي متعجبا مترحبا به ، فجلس الشيخ الخاتوني في عتبة المكان ، فقال له الشيخ إبراهيم : يا سيدي ، اطلع إلى فوق المكان ، فأبى إلا الجلوس في العتبة وقال : إني جئت إليك لتفتح لي فالا في أحد الكتب ، فقال له الشيخ إبراهيم : انظر إلى ما تريد من الكتب ، فنظر إلى جانب من جوانب الكتب وقال له : أنزل هذا الكتاب ، فأنزله الشيخ إبراهيم ، فأخذه الشيخ الخاتوني وقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، وفتحه وناوله وقال له : اقرأ ، فنظر الشيخ إبراهيم المسألة وجوابها في هذا المحل الذي فتحه الشيخ الخاتوني ، فتعجب الشيخ إبراهيم من ذلك واعتقد على الشيخ الخاتوني من ذلك الوقت وصار يزوره ويسأله الدعاء. ا ه.

أقول : وفيما نقلناه كفاية إذ ليس هنا موضع استقصاء أحوال المترجم وذكر جميع مناقبه لأنها كما قلنا أفردت بالتآليف.

بقي شيء يجدر أن نذكره هنا وهو أنه قد كثر في زمننا منكرو كرامات الأولياء وما يخبر به هؤلاء المجاذيب من الأمور الغيبية ، إذ لا يرون وراء المحسوس شيئا ، ويعتقدون أن خرق النواميس الطبيعية من الأمور المستحيلة. ولو أنصف هؤلاء لما ذهبوا إلى القول

١٢١

بذلك ولا اعتقدوا هذا الاعتقاد ، فإن الأمور الخارقة للعادة من حيث هي أثبتها التاريخ ورواها على طريق التواتر بحيث لا يمكن ردها ، ومؤرخو الإسلام في مشارق البلاد ومغاربها قد دونوها في تواريخهم التي لا تحصى من قديم الزمن وحديثه ، وكتبهم طافحة بذلك ، ويستحيل أن يتواطأ هؤلاء جميعهم على الكذب ، فلا ريب أن مجموع ذلك يفيد العلم الضروري بوقوع هذه الكرامات وحصول تلك المكاشفات ، فهل يسعنا بعد ذلك أن نقول : إن هؤلاء كلهم كانوا كاذبين أو نحكم على الجميع أنهم كانوا قوما بسطاء ينخدعون بهذه الأوهام ، تالله لا يقدم على هذا القول ولا يحكم هذا الحكم الجائر من يجعل التروي رائده والإنصاف هو الحكم الفاصل.

إنك إذا تيقنت أن الله على كل شيء قدير واستحضرت في قلبك مقدار عظمة الله جل جلاله واعتقدت أنه لا يعجزه شيء في عالم الغيب والشهادة ، وأن هذا الإنسان قد انطوى فيه العالم الأكبر ، وأن مظاهره لا تتناهى ولا تقف عند حد لما أودع فيه من جوهر العقل ونور الحكمة ، وأن مزايا البشر بعدد البشر ، هان عليك حصول الأمور الخارقة للعادة من المعجزة والكرامة والإخبار بالمغيبات وسلمت بوقوعها تسليم إيقان.

وها نحن نسوق لك في هذا الموضوع ما يأخذ بيدك إلى مهيع الصواب والحق إذا أمعنت النظر وأطلقت للعقل زمام التدبر بعد أن تستخلصه من شائبة هوى النفس والإعجاب بالرأي ، وإذا لم تثب بعد هذه البراهين الواضحة والدلائل الظاهرة إلى سبيل الرشاد ولم تعد إلى الطريق السوي القويم فأنت معاند مكابر ولا كلام لنا مع المعاندين والمكابرين.

قال العلامة ابن خلدون في مقدمته في بحث حقيقة النبوة وغير ذلك من مدارك الغيب : إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس ، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا من غيرها ، إنما تجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها ، وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء ، والناظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها ، وأهل الزجر في الطير والسباع ، وأهل الطرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنوى ، وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحد جحدها ولا إنكارها ، وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها ، وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب ، وكذلك أهل الرياضات من المتصوفة لهم

١٢٢

مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة.

وبعد أن تكلم على هذه الإدراكات واحدة واحدة قال : ومن الناس من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتا صناعيا بإماتة جميع القوى البدنية ، ثم محو آثارها التي تلونت بها النفس ، ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها. ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع. ومن المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس وحجابه واطلعت النفس على ذاتها وعالمها ، فيحاولون ذلك بالاكتساب ليقع لهم قبل الموت ما يقع لهم بعده ، وتطلع النفس على المغيبات. ومن هؤلاء أهل الرياضة السحرية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات والتصرفات في العوالم ، وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا خصوصا بلاد الهند ، ويسمون هناك الحوكية ، ولهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة ، والأخبار عنهم في ذلك غريبة.

وأما المتصوفة فرياضتهم دينية وعريّة عن هذه المقاصد المذمومة ، وإنما يقصدون جمع الهمة والإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق العرفان والتوحيد ، ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التغذية بالذكر ، فبها تتم وجهتهم في هذه الرياضة ، لأنه إذا نشأت النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله ، وإذا عرّيت عن الذكر كانت شيطانية. وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أول الأمر ، لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله ، وإنما هي لقصد التصرف والاطلاع على الغيب ، وأخسر بها صفقة ، فإنها في الحقيقة شرك. قال بعضهم : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ، فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا شيء سواه ، وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم ، وكثير منهم يفر منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنما يريد الله لذاته لا لغيره. وحصول ذلك لهم معروف ، ويسمون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا ، وما يقع لهم من التصرف كرامة ، وليس شيء من ذلك بنكير في حقهم.

(ثم قال) : ومن هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء ، وهم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية وأحوال الصدّيقين ، وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين ، ويقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه

١٢٣

بالعجائب ، وربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم ، والولاية لا تحصل إلا بالعبادة ، وهو غلط ، فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولا يتوقف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها ، وإذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه.

وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين ، وإنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف ، وهي صفة خاصة للنفس ، وهى علوم ضرورية للإنسان يشتد بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله ، وكانه إذا ميز أحوال معاشه واستقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده ، وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته ، فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش ، ولا استحالة في ذلك ، ولا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف. وإذا صح ذلك فاعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء المجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة ويلتحقون بالبهائم ، ولك في تمييزهم علامات ، منها أن هؤلاء البهاليل تجد لهم وجهة مالا يخلون عنها أصلا من ذكر وعبادة ، ولكن على غير الشروط الشرعية لما قلناه من عدم التكليف ، والمجانين لا تجد لهم وجهة أصلا. ومنها أنهم يخلقون على البله من أول نشأتهم ، والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية ، فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة. ومنها كثرة تصرفهم في الناس بالخير والشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم ، والمجانين لا تصرف لهم ا ه.

وقال فريد وجدي في كتابه «كنز العلوم واللغة» : من الناس من يزعم أن النواميس الطبيعية لا تتخلف عن إحداث آثارها مطلقا ، وكل ما يروى لهم من الخوارق يكذبون به أو يؤولونه ، وليس لهم على ذلك من حجة ناهضة إلا دعواهم بأن لا موجود غير المادة المحسوسة وما غاب عن حسهم فما هو إلا قواها وحركاتها.

وهذه دعوى لا تليق أن تقال على هذا الأسلوب الكبريائي إلا ممن يكون قد حضر خلقة الكون من أوله إلى آخره (١) وعلم أن لا موجود فيه غير ما تحسه مشاعرنا القاصرة ، ولكن هنالك رجال قام الوجود نفسه بالشهادة لصدقهم ، قالوا : إن لله ملائكة ومخلوقات

__________________

(١) والله تعالى يقول في كتابه المبين : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ).

١٢٤

أخرى غير مرئية لنا كالجن وما لا نعلم غيرهم. ثم تلاهم رجال آخرون من عباد الله الصالحين قالوا مثل مقالاتهم عن رواية ومشاهدة. فإن زعم زاعم بعد هذا كله أن هذه المقالات لم يتوفر فيها الأسلوب العلمي تماما فيصعب عليهم قبولها فهؤلاء علماء المادة في أوروبا قاموا يثبتون أنهم يرون أرواحا تتجسد وخوارق أخرى لا يسع هذا المقام بسطها كإدخال الحيوانات الحية والمنقولات الضخمة من خلال الحائط ، وإحداث تيارات هوائية في المحال المغلقة ، وإيجاد أنوار من غير سبب ظاهر ، وإبطال قانون الثقل والجاذبية الأرضية بدون مؤثر مشاهد ، وغير ذلك كما أثبته الأستاذ كروكس رئيس الجمعية العلمية الإنجليزية سابقا في كتابه الذي طبعت ترجمته الفرنسية اثنتي عشرة مرة. وقد أثبت غيره من العلماء ملايين من حوادث أخرى رأوها بأعينهم وجربوها بأيديهم في أصقاع الأرض كافة. فإن جمد جامد بعد هذا البيان وكذب تلك الملايين من العلماء والأذكياء وادعى أنهم كلهم مجنونون فليعش هو بعقله ، ولكن ليعلم أن قفص هذه المادة المظلمة لو راق له وأنس به فلا يروق لغيره ، فإن لكل فؤاد مطلبا لا يهنأ إلا به. ا ه.

وفي ذلك كفاية للمستبصرين والله الهادي إلى سواء السبيل.

وصف مكان الشيخ أبي بكر :

هو كما ترى رسمه في الصحيفة الآتية مشتمل على إيوان كبير في صدره قبلية صغيرة تقام فيها الجمعة ، وعن يمينه حجرة واسعة لها قبة مرتفعة طولها نحو (١١) ذراعا وعرضها مثل ذلك ، في وسطها ضريح الشيخ قدس‌سره ، وفي صدرها محراب من الرخام الأصفر يتخلله أحجار من الرخام الأسود والأبيض ، وجميع رخامه الأصفر منقوش نقشا بديعا داخل المحراب وخارجه ، ولا تسل عن حسن ذلك ومقدار العناية في هندسته وتنوع الأشكال في تلك النقوش.

وفي صدر هذه الحجرة شباكان مطلان على التربة التي هناك ، وفي مصراعي كل شباك في أعلاه من صنعة النجارة ما يدهش الناظر لدقتها. وفي الجهة اليمنى ثلاث نوافذ وفي الشمال كذلك ، وفي الغرب نافذتان أيضا ، وهناك الباب ، ويعلو كل شباك تاج مرخم ترخيما حسنا. وفي كل جدار كوة واسعة وضع فيها شبابيك من الجبسين مرخمة ترخيما بديعا يدلك على براعة صنعه ، إلا أن الكوة التي فوق المحراب ذهب منها ذلك. وباب الحجرة

١٢٥

١٢٦

فيه من حسن الصنعة في النجارة ما تقدم ، ومكتوب فوق بابها هذا البيت :

باب إذا ما أمّه ذو حاجة

وجد الذي يرجوه في الدارين

والإيوان جميعه من الرخام الأصفر والأبيض ، وهو مقبو بالحجارة ، وفيه ثلاث قناطر مبنية على عمودين من الرخام ، وعن يسار هذا الإيوان حجرة صغيرة في وسطها ضريح خليفة الشيخ وهو الشيخ أحمد القاري المتوفى سنة ١٠٤١.

وفي شرقي الإيوان رواق صغير له ثلاث قبب مبنية على عمودين عظيمين من الرخام الأصفر ، وفي صدر هذا الرواق قاعة كبيرة لها قبة مرتفعة السقف كتب في وسطها بخط بديع (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)* عدة مرات.

وفي وسط هذه القاعة حوض صغير يأتيه الماء من دولاب هناك ، ويظهر أن هذه القاعة هي مكان إقامة الأذكار أو استراحة الدراويش ، وأرضها مرخمة بالرخام الملون ، ولها خمس نوافذ على البرية مطلة على البلد ، وهذه القاعة النفيسة في حاجة إلى الترميم حفظا لها من التداعي.

وعن يمين هذه القاعة حجرة صغيرة للاستراحة ، وهناك مدخل فيه درج يصعد منه إلى بيت وحجرة. وشرقي هذه القاعة قصطل بني سنة ١٠٠٥ يأتيه الماء من الدولاب. ويحكون في سبب بنائه حكاية غريبة ، ووراءه قبو كبير فيه الدولاب الذي ذكرنا عمقه عشرون باعا يستخرج ماؤه بواسطة دابة تدور. وأمام البنايات التي ذكرناها صحن واسع الأطراف ، وهناك حوض كبير ومصطبة معدة للصلاة ، وشمالي هذا الصحن بيوت لسكنى من يلوذ بالتكية ، وقد بني في ذلك الموقع عدة دور تبلغ (١٥) دارا.

وفي التربة الذي قدمنا ذكرها عدة قبور ، أحدها قبر قديم يغلب على الظن أنه قبر القصيري خليفة الشيخ أحمد القاري ، لكن دفن فيه بعد ذلك بعض الدراويش كما هو محرر على ألواحه.

وفي غربي هذه التربة قبة دفن فيها عدة أشخاص من أمراء الأتراك ونسائهم ، وفي وسطها ضريح باني التكية الصدر الأسبق (أو كوز محمد باشا) المتوفى سنة ١٠٠٢ ، ومكتوب على باب هذه القبة بالتركية :

__________________

(*) الإسراء : ٨٤.

١٢٧

حلب واليسي إيكن

ارتحال إيدن إشبو دركاه

شريفك بانيسي صدر أسبق

أو كوز محمد باشا روحيجون

ومن هذه الحجرة تدخل إلى حجرة أخرى فيها قبران أحدهما قبر حاجي أحمد باشا والي حلب المتوفى سنة ١١٦٦ كما قدمناه في الحوادث ، والثاني قبر واليها سليمان باشا الفيضي المتوفى في ١١ رمضان سنة ١٢٠٨ ، وقد فاتنا أن نذكر في الحوادث أن وفاته كانت بحلب إذ لم نعلم ذلك إلا بعد رؤية قبره في هذا المكان ، وعلى هذا يكون بين سليمان باشا هذا وبين عبد الله باشا المتعين لولاية حلب سنة ١٢١٠ وال آخر لم يذكر في السالنامة. وهناك ثلاثة أشجار من السرو عظيمات جدا كما تراه في الرسم يقال إنها غرست من نحو مائتي سنة.

وفي شرقي التكية ساحة واسعة في شرقيها جدار كان متصلا من جوانبه الأربع. وكان هناك قصطل من آثار خورشيد أحمد باشا بناه سنة ١٢٣٣. وفي شرقي التكية على بعد نحو (٤٠) مترا إصطبل كبير بناه إبراهيم المصري حين وجوده في حلب.

وفي الجملة فإن هذا المكان من أنزه الأمكنة في مدينة حلب يؤمه الناس للزيارة والتنزه خصوصا أيام الربيع.

وكان في التكية مكتبة حافلة أسسها الشيخ أحمد القاري الذي قدمنا ذكره وأودع فيها نفائس المخطوطات ، لكن لعبت بها بعد ذلك أيدي العابثين فمزقتها كل ممزق ، شأن المكاتب الكثيرة التي كانت في مدارس الشهباء وجوامعها وتكاياها ، وقد بقي منها بقية قليلة موضوعة في خزانة صغيرة في الحجرة التي فيها ضريح الشيخ. ومن نفائس هذه البقية «أنوار القلوب في جوامع أسرار المحب والمحبوب» للقاضي أبي المعالي عزيزي بن عبد الملك سيد له ، ونسخة من «تفسير البيضاوي» جلدها نفيس جدا ، و «شرح أسماء الله الحسنى» تأليف أبي الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بابن برجان المراكشي (١) محرر سنة ٥٧٦ ، وهو مجلد كبير ضمنه جزءان كتب في طرفه : من كتب الفقير عمر بن عبد الوهاب العرضي الشافعي القادري ، وستأتيك ترجمته في أوائل القرن الآتي إن شاء الله تعالى ، ومجموعة في الأدب لبعض بني الكوراني ، ومما أورده فيها هذان

__________________

(١) ابن برجان هذا تقدم ذكره في الجزء الثاني (في صحيفة ١١٧) وأنه لما قال محيي الدين ابن الزكي (وفتحك القلعة الشهباء في صفر) إلى آخر البيت قيل له : من أين لك هذا فقال : أخذته من تفسير ابن برجان فهو ممن له عناية بهذه العلوم.

١٢٨

البيتان وأظنهما له :

يقول عذولي قهوة البن مرة

وشاربها يوما من الإثم لا يخلو

فقلت له دع عنك لومي فإنني

قد اخترتها فاختر لنفسك ما يحلو

ومما جاء فيها : قال المرحوم أبو الوفا العرضي : سمعت أبياتا للمرحوم يحيى أفندي مفتي دار السلطنة بالتركية فجعلت هذه الأبيات بالعربية وهي :

يقول البلبل المشتاق إني

حكيت لهم غرامي فوق غصن

فما فهموا صباباتي وهمي

ولا علموا إشاراتي وفني

ومنهم رمت كشف الضر عني

وأن يرثوا لحالاتي وحزني

فما شاهدت منهم غير سوء

وطول الأسر في قفص وسجن

ومنذ عهد قريب حررت دائرة الأوقاف هذه البقية من الكتب (بعد خراب البصرة) وفي عزمها أن تنقلها إلى المكتبة التي أسست في المدرسة الخسروية.

والتكية الآن تحت يد دائرة الأوقاف ، وأوقافها الباقية الآن أراض في جوار التكية وفي جوار الشيخ مقصود وكرمان وسهم الزهراوي وداران وثلثا ثلاثة دور في محلة آقيول يبلغ مجموع وارداتها نحو ١٥٠ ليرة عثمانية ذهبا.

٩٣٤ ـ أحمد بن الشهاب الأسدي المتوفى في هذا العقد ظنا

أحمد بن الحسن بن علي بن أبي بكر ، الشيخ شهاب الدين الحلبي الأسدي الحنفي ، أحد بني الأستاذ بحلب ، المشهورين الآن ببني دريهم ونصف ، من بيت قديم بحلب.

ذكره الشيخ أبوذر في تاريخه فقال : بيت الأستاذ وهم أسديون من أسد بن خزيمة. ومنازلهم بباب أربعين ، وفيهم الفضلاء والعلماء والصلحاء. قال : وعرفوا بذلك لأن جدهم يعلم الناس القرآن العظيم وانتفع به خلق. قال : وقال الصفدي : هم بيت معروف في العلم والدين والتقدم والسنة والجماعة. وقد ولي قضاء حلب من بيتهم جماعة. انتهى كلامه.

ولد الشيخ شهاب الدين بحلب في شعبان سنة سبع وثلاثين ، وكان قد تفقه وهو بمكة

١٢٩

على الشيخ الصالح إسماعيل الهندي ، ثم قرأ علي بحلب في العربية في كتب آخرها «الوافية» و «توضيح ابن هشام» وفي شرحي إيساغوجي للكاتبي والفناري في المنطق ، وسمع عروض الأندلسي. واتفق له معنا فيه أن القارىء شرع في قراءة بيت الضرب الثاني من الكامل قائلا : (وكملت لا أحد يفوقك في علا). فقال لي : هذا البيت في شأنكم ، فقلت له : لا تغالط ، فإنما آخره (وطلعت في أفق الكمال شهابا) وأنت الشهاب لا أنا.

وقرأ علي «أشكال التأسيس» في الهندسة وكذا «مخايل الملاحة في مسائل المساحة» من تأليفي ، وقرأ شرح إيساغوجي للكاتبي وسمع شرح الشمسية مع قراءة حاشيته للسيد الجرجاني في المنطق إلا جانبا منها ، وقرأ «شرح السراجية» له «ونزهة الحساب» وقطعة من «منازل السائرين إلى الحق» في التصوف لمزيد رغبته فيه ولطف مشربه لصافيه ، حتى حداه فرط شغفه به إلى ملازمة مجالس الشيخ الزين ورفع خواطره إليه وعرض أحد وثات نفسه عليه وإلى مطالعة كتب القوم لما احتوى عليه من لطف الذوق وصفاء الباطن ، مع ما عنده من الميل إلى السماع ولطف العشرة ونقد الشعر وقرضه وحفظ أحسن ما سمعه منه. سمعت من لفظه لبعضهم :

أربعة مذهبة

لكل هم وحزن

لذيذة يحيا بها

روحي وجسمي والبدن

الماء والخضرة والدينار

والوجه الحسن

وأنشدني لذي الرمة :

خليليّ إني للثريا لحاسد

وإني على ريب الزمان لواجد

تجمّع منها شملها وهي سبعة

ويؤخذ مني مؤنسي وهو واحد

فأنشدته لنفسي :

حسدت الثريا وهي سبعة أنجم

منحن اجتماعا والحبيب مفارق

وقالت أصخ إني وأنت على الهوى

وقد شاب منه رأسنا والمفارق

ألم أهو بدرا أنت تهوى جماله

فطورا ألاقيه وطورا أفارق

وأنشدته مرة لنفسي :

كيف أسلو من لو حباني مرارا

لم أكن؟؟؟ لمغناه مرّه

١٣٠

ثم لولا جلالة الشرع عندي

كنت قبلت ثغره ألف كرّه

فقال : ينبغي أن لا يراد بالكرّة هنا معنى المرّة كما هو مقتضى اللغة ، بل الكرّة المتعارفة عند أرباب الديوان الدفترداري ، فكان ذلك من لطيف ذوقه.

ومن شعره :

خلعت عذاري في هوى شادن له

عذار كمسك سال من فوق خدّه

ولست بسال عن هوى طرفه الذي

أسال دماء المقلتين بحدّه

ومن شعره :

نقش الغرام جمالكم في خاطري

فلذاك شخصك لا يفارق ناظري

قمر له في القلب مني منزل

ما حلّ فيه سوى الغزال النافر

ملكت سيوف لحاظك البيض الحشا

وتطاولت لسواد حظّي القاصر

والقدّ قدّ تصبّري لما بدا

يهتز عجبا خاطرا في خاطري

وهواك أصبح مالكا لظواهري

وضمائري حتى سرى في سائري

قد صحّ مني الشوق لما أن بدا

سقم الجفون بناظريه لناظري

نفثت لنا السحر الحلال لحاظه

فغدت لعقل الصب أعظم ساحر

جمع المحاسن وجهه لما غدا

متبسما عن زهر روض زاهر

الخد ورد واللواحظ نرجس

وبنفسج الصدغين خير مسامر

وعذاره الآسي هو الآس الذي

ألقى محبيه بنار السامري

والقدّ بان بان فيه تهتّكي

فإلى متى هذا الجفا يا هاجري

٩٣٥ ـ سعد الله بن علي الملطي المتوفى سنة ٩٤٦

فاتنا أن نذكر ترجمته في محلها وهو جدير بالترجمة لما له من الآثار الهامة الكثيرة ، فاضطررنا أن نذكرها هنا وهو من رجال «در الحبب».

قال في ترجمته : هو الخواجه سعد الله بن علي بن عثمان الملطي.

كان من عين أعيان التجار بحلب ، وكان معمرا جدا ، حصلت له حظوة تامة عند

١٣١

الأمراء والوزراء وصيت في المال ، ذو كمال ورفعة. وهو الذي عمر جسر يغرا من ماله بعد موته ، فكان قدر المصروف عليه عشرة آلاف دينار سلطاني أوصى بها له. ومات بالوخم في عمارة الجسر اثنان ممن تولوها من بعده سوى جماعة من معماريته ماتوا بالوخم أيضا إلى أن انتهت عمارته. وعمر قبله جسر دركوش فصرف عليه ما يزيد على نصف ذلك ، وكان قد شرع فيه فوضع الجسر رجلا واحدة ، ثم بدا للمعمار أن يجعل الجسر في غير ذلك المكان فوق أو تحت ، فلم يخالفه ، وجدد على تلك الرجل مسجدا لله تعالى.

وأنشأ في محلة البياضة مسجدا وقسطلا تحتانيا سوى حياض له أخرى في محلات أخر ، ومكتبا فوق القسطل لتعليم الأطفال ، وجعل مكانه الذي كان يجتمع به الناس تكة صغرى يمد فيها بعد موته كل ليلة من وقفه سماط للفقراء من طلبة العلم وفقراء المحلة وغيرهم.

وعمر له مدفنا داخل باب المقام ملاصقا لجامع الطواشي بعد أن وسعه بما لا مزيد له ، وزاد في وقفه فصار جامعا عظيما.

ثم توفي ودفن في مدفنه هذا رحمة الله عليه سنة ست وأربعين وتسعماية ، ولم يخلف ولدا ذكرا ولكن ذكرا حسنا. وكان صديقنا رحمة الله عليه ا ه.

أقول : المسجد الذي ذكره هو في آخر محلة البياضة ، وهو مسجد صغير وله من الأوقاف أربعة دور وأربعة دكاكين ومخزن ، وهو تحت يد دائرة الأوقاف. والقسطل التحتاني هو أمام هذا المسجد ويعرف بقصطل الطويل لأنه ينزل إليه بدرجات كثيرة ، وهو معطل. وفي العام الماضي (أي سنة ١٣٤٣) بني في أول الدرجات جدار ووضع ثمة. حنفية يأتيها الماء من عين التل.

الكلام على جامع الطواشي وزاوية الجيّة :

قال أبوذر : هذا الجامع داخل باب المقام أنشأه جوهر العلائي الطواشي ، وهو مطل على خندق قديم داخل البلد الآن. وهذا الجامع لطيف وله خزانة خلف منبره ، فإذا قضيت صلاة الجمعة أدخل هذا المنبر إلى هذه الخزانة. وذكر لي أن واقفه كان قد أسسه خانا ، فمر به شخص فقال له : ماذا تبني هذا؟ فقال : خانا ، فقال : تبنيه لأولادك ، فاستيقظ الطواشي وبناه جامعا ، وفي قبلته انحراف.

١٣٢

وقال في الكلام على الزوايا : (زاوية الجية) : هذه الزاوية داخل باب المقام ملاصقة لجامع الطواشي المتقدم ذكره في الجوامع أنشأها (بياض قدر أربعة أسطر).

وذكرها في الدر المنتخب في الباب الحادي والعشرين ، لكنه سماها المدرسة الألجانية حيث قال : (المدرسة الألجانية) : لصيق جامع الطواشي صفي الدين جوهر داخل باب المقام عن يسرة السالك بالطريق الأعظم عند نهايته. ا ه.

المكتوب على بابه :

(١) البسملة. أنشأ هذا الجامع العبد الفقير إلى الله صفي الدين بن عبد الله الطواشي ثم جدده الفقير إلى الله

(٢) الحاج سعد الله ابن الحاج علي بن الفخري عثمان الملطي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين بتاريخ عام أربعة وأربعين وتسعمائة ا ه.

وللجامع بابان : باب من جهة الشرق وباب من جهة الغرب ، وله منارة قديمة قصيرة يظهر أنها من جملة ما جدده الحاج سعد الله المذكور. وصحنه واسع في وسطه حوض وراءه مصطبة ، وله أروقة من الجهات الثلاث.

وقبيلته واسعة طولها نحو (٢٧) ذراعا وعرضها نحو (١٥) ما عدا الجدران ، وفيها منبر من الحجر الأصفر ، ويتخلل جوانبه حجارة من الرخام الأسود والأبيض على شكل مثلث ، ومكتوب على الحجرة التي على باب المنبر :

(١) لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى

(٢) ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.

وفي القبلية محرابان : أحدهما عن يمين المنبر والثاني عن يساره ، وهذا مؤلف من أحجار نافرة إلى داخل المحراب مضلعة الشكل ، وهو على شكل محراب الجامع العمري في محلة بحسيتا ، ويظهر أنهما بنيا في عصر واحد ، وهو يشبه طرز البناء الرومي بقنطرته وبقية أوضاعه.

وعن يسار هذا المنبر شعرية قديمة حسنة النجارة جدا تدخل منها إلى حجرة مقبوة

١٣٣

في وسطها قبر مجدد الجامع الخواجه سعد الله الملطي كما تقدم ذلك عن در الحبب. ومن غريب الأمور أن هذا القبر جددت أحجاره منذ سنوات قلائل وكتب عليه أنه قبر الشيخ علي القاشاني المتوفى سنة ٨٦٧ مؤلف «نور الإيضاح» ، ولا وجود لرجل من علماء الشهباء مسمى بهذا الاسم ، و «نور الإيضاح» كتاب صغير في الفقه الحنفي كثير التداول ومؤلفه الشيخ حسن الشرنبلالي وهو مصري ، ولدى التحقيق تبين أن البعض من العوام البله فعل ذلك ، فأخبرت دائرة الأوقاف بالحقيقة ووعدت أن تمحو ما كتبه هذا الجاهل وتكتب موضعها اسم مجدد الجامع رحمه‌الله.

وفي شرقي القبلية إيوان واسع كان الزاوية أو المدرسة المتقدمة الذكر ، ولها باب من صحن الجامع ، وهي الآن داخلة في عموم البناء الذي بناه المجدد الخواجه سعد الله. وهناك سدة وهي مدهونة دهانا جميلا جدا تستدل منه على رقي هذه الصنعة في ذلك العصر ، وكان لها سلم مدهون على شاكلتها كسره العسكر الذين قطنوا في هذا الجامع أثناء الحرب العامة منذ ثمان سنوات.

وكان المتولي على هذا الجامع الشيخ إبراهيم السلقيني تولاه سنة ١٣٢٢ ، وفي أثناء توليته عمر الرواق الغربي ، ثم استلمته منه دائرة الأوقاف سنة ١٣٤١. وفي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٤ اهتمت بترميم أروقته وتبليطها وترميم أسطحته ، ولا زال العمل قائما فيه. والباقي له من العقارات أربعة دور وتسعة دكاكين وفرن وأرض.

١٣٤

أعيان القرن الحادي عشر

٩٣٦ ـ الشهاب أحمد بن محمد بن الملا المتوفى سنة ١٠٠٣ (١)

أول من ترجمه ونوه بفضله شيخه الرضي الحنبلي في تاريخه ، وتلاه الغزي في «كواكبه» وفي ذيله المسمى «لطف السمر وقطف الثمر».

قال الرضي : أحمد بن محمد بن علي بن أحمد الشيخ شهاب الدين أبو العباس الحصكفي الأصل الحلبي المولد والدار الشافعي ، السابق ذكر والده وجده ، وجده لأمه الشرف يحيى ابن المحب بن آجا.

ولد سنة سبع وثلاثين ، ونشأ في كنف أبيه فاشتغل بالعلم فلازمنا مدة في «مغني

__________________

(١) اعلم وفقك الله لما فيه السداد أن ما أذكره في هذا القرن بدون عزو هو مأخوذ عن التاريخ الموسوم «بخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» للعلامة الشيخ محمد المحبّي الدمشقي ، وما كان من غيره فإني أعزوه لموضعه. ولا بأس أن نذكر هنا المآخذ التي أخذ عنها العلامة المحبّي حيث قال في خطبة تاريخه المتقدم : وقد وجد عندي مما أحتاج إليه من المعونة والآثار المتعلقة بهذه المؤنة ذيل النجم الغزي ، وطبقات الصوفية للمناوي ، وتاريخ الحسن البوريني ، وذيله لوالدي المرحوم ، وخبايا الزوايا ، والريحانة للخفاجي ، وذكرى حبيب للبديعي ، ومنتزه العيون والألباب لعبد البر الفيومي ، هذا ما عدا المجاميع والتلقيات من الأفواه والمكاتبات. وذيل الجمالي محمد الشبلي المكي الذي ذيّل على النور السافر في أخبار القرن العاشر للشيخ عبد القادر العيدروس ، والمشروع الروي في أخبار آل علوي ، وذيل الريحانة للسيد علي بن معصوم الموسوم بسلافة العصر في شعراء أهل العصر ، وذيل الشقائق النعمانية الذي ألفه ابن نوعي بالتركية وضمنه معظم أهل الدولة العثمانية ا ه.

وفات المحبّي هنا رحمه‌الله أن يذكر القطعة التي ظفر بها من معادن الذهب للشيخ أبي الوفا العرضي ، فقد كانت من جملة مآخذه وقد ذكرها في ترجمة الشيخ أبي الوفا الآتي ذكره في هذا القرن.

١٣٥

اللبيب» فما دونه من كتب النحو ، وفي «شرح المفتاح» للشريف الجرجاني فما تحته من كتب البلاغة ، وفي حاشيته على شرح «الشمسية» وشرح «الغرة» لشيخنا السيد عيسى الصفوي بإشارته أن يقرأ عليّ ، فما دون ذلك في المنطق وفي سماع شيء من البخاري وغيره في الحديث ، وفي سماع قطعة حافلة من «شرح الشاطبية» للجعبري ، وقراءة أخرى من «شرح ألفية العراقي» لمؤلفها. وأخذ عني «شرح النخبة» لمؤلفها و «شرح الورقات» للمحلي.

وقرأ عليّ من مؤلفاتي «كحل العيون النجل في حل مسألة الكحل» و «الكنز المظهر في استخراج المضمر» ، و «كنز من حاجى وعمّى في الأحاجي والمعمّى» وغير ذلك عن دراية لا محض رواية. وأجزت له أن يروي عني جميع ما يجوز لي وعني روايته. وأخذ عني الكثير من شعري.

وصحب سيدي محمد بن سيدي علوان وهو بحلب سنة أربع وخمسين ، وسمع منه قريبا من ثلث البخاري وأجاز له ، وفاز بحضور مواعيد له بها. وسمع من البرهان العمادي المسلسل بالأولية وأجاز له روايته ، وقرأ بها على الشيخ إبراهيم الضرير الدمشقي للكوفيين وابن عامر من أول القرآن العظيم إلى آخر الأعراف ، ثم لأهل سما إلى آخر الأنعام ، ثم للسبعة إلى آخر الكهف ، كل ذلك بما تضمنه الحرز وأصله ، ثم للثلاثة إلى سيقول السفهاء ، ثم للعشرة إلى آخر الحديد ، كل ذلك من طريق التحبير للإمام الجزري ، وأجاز له ذلك بما له من الأسانيد عن شيوخ شاميين ومصريين ، وذلك في سنة ست وخمسين.

ورحل إلى دمشق رحلتين فقرأ بهما شرح ملا زاده على «هداية الحكمة» على الشيخ الصوفي محب الله التبريزي مجاور التكية السليمية مع سماع بعض تفسير البيضاوي عليه ، وقرأ قطعتين صالحتين من «المطوّل» و «الأصفهاني» على الشيخ أبي الفتح الشبستري وقطعا من الصحيحين وأبي داود على ابن رضي الدين الغزي وأجاز له أن يروي ما قرأه وسمعه وما رواه وما أجيز له وما له من تصانيف وشروح ومتون ، بل جميع ما تجوز له وعنه روايته قائلا في محل إجازته : وحضر دروسي بالشامية وغيرها وبحث بها بحوثا حسنة مفيدة أبان فيها عن يد في الفنون طولى ، وكلما انتقل من مسألة إلى غيرها تلا علينا لسان الحال (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)*. وقرأ على النور السيفي نزيلها قطعة جيدة من

__________________

(*) الضحى : ٤.

١٣٦

البخاري رواية ودراية وأخرى من مسلم رواية ، وحضر عنده دروسا من «المحلّى الفرعي» و «شرح البهجة» للقاضي زكريا وأجاز له ، وكذا أجاز له فقه الشافعي حسب ما أخبره به البرهان بن أبي الشريف عن الزين القباقبي عن ابن الخباز عن الإمام النووي رضي‌الله‌عنه. وقرأ على الموفق الجراعي الحنبلي شيئا من البخاري رواية وأجاز له جميع ما يجوز له وعنه روايته كالشيخ المعمر نجم الدين الكناني الماتاني المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي بعد أن قرأ عليه شيئا من البخاري وجانبا من مسند أحمد رواية أبي علي الحسن بن المذهب عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي عن أبي عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه رضي‌الله‌عنهما ، وكتب عنه ثبتا له حافلا.

ورحل في سنة ثمان وخمسين إلى القسطنطينية فأخذ رسالة الأسطرلاب عن نزيلها الشيخ غرس الدين الحلبي ، واجتمع بشيخ الإسلام الشريف عبد الرحيم العباسي فمدحه بقوله :

لك الشرف العالي على قادة الناس

ولم لا وأنت الصدر من آل عباس

حويت علوما أنت فيها مقدم

وفي نشرها أصبحت ذا قدم راسي

وفقت بني الآداب قدرا ورتبة

وسدتهم بالجود والفضل والباس

فيا بدر أفق الفضل يا زاهر السنا

ويا عالم الدنيا ويا أوحد الناس

إلى بابك العالي أتاك ميمما

كليم بعضب عدت أنت له آسي

فتى عادم الآداب يا ذا الحجى فما

سواك لعار عن سنا الفضل من كاسي

فأقبسه من مشكاة نورك جذوة

وعلله من ورد الفضايل بالكاس

وسامحه في تقصيره ومديحه

فمدحك بحر فيه من كل أجناس

فلا زلت محمود المآثر حاوي ال

مفاخر مخصوصا بأطيب أنفاس

مدى الدهر ما احمرت خدود شقايقي

وما قام غصن الورد في خدمة الآس

ثم استجازه رواية البخاري فأجاز له.

ثم عاد إلى حلب وعرض عليّ رسالة ضمنها عشرين مسألة في عشرين علما على أسلوب رسالتي «أنموذج العلوم لذوي البصاير والفهوم».

ثم أطلعني على رسائل له أدبية منها «طالبة الوصال من مقام ذاك الغزال» المنسوجة على منوال «عبرة الكئيب وعبرة اللبيب» للصفدي و «شكوى الدمع المراق من سهام

١٣٧

قسيّ الفراق» ويا لها من مقامة عظم فيها مقامه وأزيح عمن أبيح له شرابها سقامه.

ووضع كتابا سماه «عقود الجمان في وصف نبذة من الغلمان» على أسلوب كتابي «مرتع الظبا ومربع ذوي الصبا» ، وآخر سماه «الروضة الوردية في الرحلة الرومية» وأودعه من صنعة الإنشاء ما غلا نضاره وعلا شأنه ومقداره من نثر تلالا نثاره وشعر دثاره اللسن وشعاره.

ونظم من المقاطيع والقصائد والموشحات الحسنة شيئا كثيرا كقوله في مليح لابس أسود :

ماس في أسود الثياب حبيبي

ورمى القلب في ضرام بعاده

لم يمس في السواد يوما ولكن

حلّ في الطرف فاكتسى من سواده

وكقوله في مليح منطقي :

ومنطقي وجهه روضة

تزيّنت بالنور والنور

له عذار دار من أجله

نقول صحّ الحكم بالدور

وكقوله في التضمين :

ظبي كساني حلّة وأدار لي

كاس الرحيق على رياض الآس

وغدا يقول عذاره اشرب يا فتى

واجعل حديثك كلّه في الكاس

وهو أصنع من قولي في الاستعانة بالبيت كله :

بالله إن نشوات شمطاء الهوى

نشأت فكن للناس أعظم ناسي

متغزلا في هاتك بجماله

بل فاتك بقوامه الميّاس

واشرب مدامة حبّ حبّ وجهه

كاس ودع نشوات خمر الطاس

وإذا جلست إلى المدام وشربها

فاجعل حديثك كلّه في الكاس

وقوله :

وغدير روض أشرقت في مائه

زهر النجوم وبدرها لم يغرب

فكأنها درر تقطّع سلكها

فيه ووافتها يد المتطلّب

١٣٨

وقوله ملغزا في سكر مما كتبه إليّ :

جنابك مخضر الرياض منوّر

وغصن العلا في روض مجدك مزهر

ومن جود يمناك استهل الحيا ومن

عقود مبانيك اللآلىء تنثر

فما أنت إلا كنز علم وقد بدا

لنا منه ياذا المجد درّ وجوهر

أقمت خباء الفضل بعد انحطاطه

فصار له شأن غدا بك يذكر

فها روضة الآداب أينع زهرها

وأفق المعالي من ضياك منوّر

طويت بنشر الفخر ذكر الألى مضوا

فيا لك من طيّ به المدح ينشر

وأوليت طلاب الندى الجمّ في العطا

عطاء يد الطائيّ عنه تقصّر

فيا منهل الإفضال يا قبلة الندى

ويا من له في العلم حظّ موفّر

إلى فهمك الراقي الرفيع مقامه

أتت منك تبغي العفو والستر أسطر

تروم جوابا عن سؤال أتت به

أسرّته لكن بامتداحك تجهر

فما كلمة من أربع قد تركبت

وتصحيفها منه الثلاثة يظهر

بنية مصر قد جلا ريقها وفي

رضى عاشقيها طال ما تتكسّر

إلى أن قال :

أدرنا بحان العشق أقداح خمرها

فعدنا سكارى وهي بالسكر تذكر

محجبة يسقى المريض شرابها

فيشفى وبالأفراح إياه تغمر

إذا وصلت فالعيش أخضر يانع

وإن هجرت فالربع أقفر أغبر

لها والد عالي القوام مهفهف

مليح التثني دونه السمر تقصر

تحلّى الثياب الخضر أهيف قدّه

فيا حبذا العيش الذي هو أخضر

وأرخى ذؤابات الدلال قوامه

فيا حسنه من مائس يتبختر

وما زال في الروضات يزهى بحسنه

تلاعبه أيدي النسيم فيخطر

إلى أن رماه الدهر بالقطع والأسى

فها دمعه من خدّه يتحدّر

وعذّب بالإحراق أبيض قلبه

وأيقن أن الموت لا شك أحمر

إلى أن قال :

فأنعم بأبيات أرق من الصبا

فنظمك هذا الدر قطر مسكّر

١٣٩

تبيّن ما أخفيت يا مورد الهدى

فأنت بكشف الستر أجدى وأجدر

فنظمنا في جوابه :

نهارك في فن البلاغة نيّر

وليلك في شأن الفصاحة مقمر

وشعرك بحر قد بدت منه أبحر

على أنه قد سيق لي منه جعفر

وهب أن بحرا فيه جمّ جواهر

فمالي ألقى جعفرا فيه جوهر

وها أنا ذا أبدي قريضا مقللا

لدي وإن تقبله فهو مكثّر

خليا عن التحسين معنى وصورة

يطيش إذا مرت على الدوّ صرصر

كتمت به ما إن حللت عويصه

ففي لفظه سر لمثلك يظهر

ألا يا لبيبا بالفضائل يذكر

ويا ألمعيّا بالفراسة يشكر

أبن لي ما من شأنه السحق لا الزنا

على أنه عند الإناث مذكّر

يساحق ليلا مثله فترى له

وليدا كما نور الحباحب يسفر

ويبدو لنا ركس إذا بان قلبه

وقالبه في أحسن السمت يخطر

على أربع تلقاه وهو بلا يد

ومن غير ريب رأسه يتكسّر

يعلّق في الأسواق من غير حرمة

ويستر بالأوراق والغصن مثمر

لوالده قدّ رشيق مهيّأ

لقصف وبسط ثوبه صاح أخضر

تبخّره من بعد تجريد ثوبه

ونرشف منه الريق وهو مبخّر

ولكنما العشاق لا يرغبون أن

يضموا له قدا بدا يتخطّر

إذا قيل شهد ريقه قلت باطل

أفيقوا لعمري إنما هو سكّر

وإن قيل بان قده وقوامه

أقل وقنا لدن وسرو وسمهر

ألا فأمط عما كنزت لثامه

وكن عاذرا لي إنّ مثلك يعذر

طوى كشحه عني القريض معرّجا

وكم قد حلا إذ مر لي فيه أعصر

ونال شعار القدح شعري وقد مضى

له من ثياب المدح برد محرر

فكن عاذري واكتم قصوري فإن يبن

يناد الأعادي إن زيدا مقصّر

وقوله من موشح مبسوط :

ربّ ريم رام قلبي فرمى

فيه سهما جاء من غير قسي

١٤٠