إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

فقال البدر :

فالصبر مرتحل والجسم منتحل

والدمع منهطل والقلب في علل

مهلا فإن يك دمعي سال ممتزجا

دما فمن ذا الذي يخلو من الزلل

٩٢٦ ـ عبد اللطيف الأنطاكي المتوفى أواخر هذا القرن

عبد اللطيف بن عبد الرزاق ، الأنطاكي الأصل ، الحلبي المولد ، الحنفي ، المعروف بأنطاكية بابن الباشا ، سبط الحاج محمد ابن الشيخ المحدث أقضى القضاة برهان الدين إبراهيم الرهاوي الشافعي.

قرأ النحو والكلام على الشيخ المعمر ملا جمال القصيري الحنفي تلميذ الشهاب أحمد ابن كلف الأنطاكي ، وشيئا من الفقه على محمد جلبي بن رمضان خطيب الجامع الكبير بأنطاكية.

ثم رحل إلى حلب فلازمنا في علم البلاغة مدة ظهر فيها فرط ذكائه وشدة شغفه بالعلم واعتنائه.

ثم عاد إلى بلده ، ثم رجع إلى ما كان بصدده ، فشرع في أخذ أصول الفقه عنا.

ثم عاد إلى بلده وتزوج ببنت الشيخ أحمد بن الشيخ عبدو القصيري وأخذ عنه الطريق. ثم صار يعظ الناس بأنطاكية ويدرس بها ويخطب بجامعها ا ه.

٩٢٧ ـ فتح الآمدي المشهور بفتحي جلبي المتوفى أواخر هذا القرن

فتح الله أبو الفتح بن عبد اللطيف جلبي بن حسين جلبي ، الآمدي الروشني الخرفة كأبيه وجده ، المشهور بفتحي جلبي.

مكث بحلب سنين ، وجعل حلقة الذكر بجامع الحدادين خارج بانقوسا ، وبها قرأ على الشيخ أبي الهدى النقشواني ، وصار خليفة أبيه وهو قاطن بها.

ثم مكث بعينتاب وعمر بها مدرسة وجامعا وتكية من ماله ، واعتقده أركان الدولة

١٠١

بالباب العالي السليماني ونال منهم نوالا كثيرا. وعني بالحج حتى حج إلى سنة أربع وستين وتسعمائة ثلاث عشرة حجة.

الكلام على جامع الحدّداين :

هذا الجامع من آثار علي بن معتوق الدنيسري الذي قدمنا ترجمته في الجزء الرابع (في صحيفة ٥٣٤). وقد ذكره أبوذر قبل الكلام على الجامع الجديد ببانقوسا وسماه الجامع العتيق. ومما يؤيد أنه هو ما ذكرناه ثمة عن ابن الوردي أنه عمر جامعا بطرف بانقوسا ودفن بتربته بجانب الجامع ا ه. وهو كما قال بطرف هذه المحلة ويعرف الآن بجامع الحدادين.

هذا الجامع بابان باب من جهة الشرق وباب من جهة الغرب. وعن يسار الداخل من هذا الباب حجرة في وسطها قبر مكتوب على ستاره أنه قبر الشيخ علي الحدادي بن المغربية نزيل مكة المكرمة ، وهذه الكتابة من تصرفات الخدمة ، والصواب أنه قبر بانيه كما تقدم نقله عن العلامة ابن الوردي.

وعن يمين هذا الباب قبو تنزل إليه بدرج فيه حوض ماء جار من ماء قناة حلب أصلح سنة ١٣٠٤. وكان هذا الحوض في وسط الصحن ينزل إليه بدرج أيضا فنقل هذه السنة إلى هذا المكان. وعرض صحن الجامع ٤٢ قدما وطوله ١٠٥ أقدام ، وفيه بئر لا ينزح ماؤها مطلقا مهما قل الماء في آبار حلب أيام الصيف. وجدد جدار قبليته سنة ١٣١٠ وكتب عليه هذان البيتان :

جهة لها بعد الدثور تجدّد

لا زال فيها ذو المعارج يعبد

حسنت عمارتها فقلت مؤرخا

هذا جدار بالبهاء مشيّد

١٣١٠

وكانت عمارته في زمن متوليه الحاج مصطفى الحلاق ، وعرض قبليته ٣٩ قدما ، وهي مبنية على ٨ سواري وفيها منبر من الرخام الأصفر في أعلاه قبة مركوزة على أربعة عواميد وقد بني سنة ١٣٠٧ ونقش عليه تاريخ بنائه.

وهو الآن تحت يد دائرة الأوقاف وأوقافه وافرة ، وهي أربعة دور ونصف دار وثلث دار وفرن وستة وعشرون دكانا ونصف ومخزن ، وهو عامر بالمصلين أيضا لعناية أهل تلك

١٠٢

المحلة بالمواظبة على الصلاة الجماعة.

وبالقرب من هذا الجامع الجامع المعروف بجامع بانقوسا ، وقد ذكره أبو ذر بعد ذاك فأحببنا ذكره بعده فنقول :

الكلام على الجامع الجديد ببانقوسا :

قال أبوذر : هذا الجامع يقال إن خاص بك الخواجا عمره ولم يكمله ، وإنما أكمله بعد وفاته أهل الخير فعمروا له منارة ورخموا صحنه بالرخام الأصفر ، وفيه بركة ماؤها كثير لأن القناة جارية بقربه. وهو جامع عليه وضاءة ، ووقفه يسير لكن يقيض الله تعالى من يقوم بكفايته ا ه.

أقول : لما عمر هذا الجامع وكان بالقرب من الجامع المتقدم صار يعرف بالجامع الجديد وذاك بالعتيق ، ويقال له الآن جامع بانقوسا أيضا. وله بابان باب من جهة الغرب وباب من جهة الشمال تجاه السوق ، ومنارته بجانب هذا الباب وهي مرتفعة لكنها خالية من الزخرفة.

وطول صحنه مائة قدم وعرضه ٧٢ ، وفي وسطه حوض ينزل إليه بدرج ، وماؤه جار لمرور قناة حلب منه. وفيه رواقان من جهتي الشرق والغرب وبعض رواق من جهة الشمال ، وباقي هذه الجهة اتخذت حجازية. وفي آخر الرواق الغربي من جهة الشمال ضريح ملاصق للجدار كتب عليه :

(١) يا حضرت نبي الله بنقوسا على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام

(٢) قد أخبر بهذا العلامة المحدث الرباني الشيخ مرتضى اليماني شارح الإحيا والقاموس

(٣) قال شيخنا العلامة محمد بن التكمجي نزيل مصر إن الشيخ مرتضى إمام في علم التاريخ ا ه.

ومحرر في الذيل : سنة ١٢٢٤.

أقول : أما وجود نبي في هذا الضريح وأن اسمه بنقوسا بحيث سميت المحلة باسمه وأنه أخبر بذلك الشيخ مرتضى اليماني فهو من الأمور المختلقة. هذا أبوذر الذي عمر الجامع

١٠٣

في زمنه أو قبيل زمنه بقليل لم يذكر ذلك ولم يزد في الكلام عليه على أكثر مما تقدم ومما سيأتي قريبا من الكلام على الزاوية التي بنيت شرقي قبليته ، كذلك لم يذكر ذلك أبو الفضل ابن الشحنة المتوفى سنة ٨٩٠ في تاريخه «نزهة النواظر» ، ولم يذكر ذلك من انتزع من هذا التاريخ تاريخا آخر وسماه «الدر المنتخب» ، مع أن كل واحد من هؤلاء قد اعتنى ببيان المزارات التي في حلب وما حولها أشد الاعتناء. وكذلك المتقدمون من المؤرخين مثل الهروي في كتابه «الإشارات إلى الزيارات» وابن العديم في تاريخه الكبير وغيرهما ، فإنا لم نجد أحدا ذكر أن لنا نبيا اسمه بنقوسا وأنه مدفون في هذا المكان.

والذي وجدته في التواريخ ما يفيد أن هذا المكان كان خاليا من الأبنية ومنتزها ، فقد قال الصنوبري من شعراء القرن الرابع في قصيدته الهائية التي ذكرها صاحب المعجم في كلامه على حلب :

حبذا الباءات باءت

وقويق ورباها

بانقوساها بها با

هى المباهي حين باهى

وقال ياقوت في المعجم : (بانقوسا : جبل في ظاهر مدينة حلب من جهة الشمال ، قال البحتري :

أقام كل ملثّ القطر رجّاس

على ديار بعلو الشام أدراس

فيها لعلوة مصطاف ومرتبع

من بانقوسا وبابلّى وبطياس

وفي آخر البيت الثاني من الدر المنتخب قال ابن الخطيب المتوفى سنة ٨٤٣ : وكانت حلب كثيرة الأشجار ، وكان موضع بانقوسا أشجار كثيرة. (ثم قال) : أخبرني الحاج ياروق بن آشود وكان من المعمّرين أنه أدرك في بيت والده مجلسا مسقوفا بالخشب : وأن والده قال له : يا ياروق ، سقف هذا المجلس من مخشبة بانقوسا ا ه.

وقال في الباب الرابع والعشرين في ذكر ستزهات حلب : ومنها بابلّى ، وهي قرية قريبة متصلة أرضها بأرض بانقوسا بها عدة جواسق وبحرات وجنينات وغير ذلك.

وقال المرتضى الزبيدي في شرحه للقاموس : ومما يستدرك البناقيس ، أهمله الجوهري وصاحب اللسان. وقال ابن عباد : هو ما طلع من مستدير البطيخ ، الواحد بنقوس بالضم ، وبناقيس الطرثوث شيء صغير ينبت معه أول ما يرى. ومما يستدرك عليه بانقوسا :

١٠٤

جبل في ظاهر حلب من جهة الشمال. قال البحتري : (أقام كل ملثّ القطر رجّاس) إلخ الأبيات المتقدمة.

فكل ذلك يفيد أن بانقوسا اسم للجبل الذي هناك (١) ولما حوله من الأراضي التي كانت مغروسة بالأشجار ليس إلا ، وبقيت على ذلك إلى أواخر القرن السابع ، وفيه ابتداء العمران فيها إلى أن صارت محلة واسعة بل بلدة كبيرة واتصلت بباب البلد الذي هناك المسمى قديما بباب القناة.

قال في الدر المنتخب في الكلام على الأبواب : ويلي هذا الباب أي باب النيرب باب القناة التي ساقها الملك الظاهر من حيلان تعبر منه. (قلت) : ويعرف الآن بباب بانقوسا لأنه يخرج منه إليها ، وهي حارة كبيرة ظاهر حلب من جهة الشرق والشمال بها جوامع ومساجد وحمامات وأسواق وخانات ، وهي الآن بندر عظيم. ا ه.

أقول : ويعرف هذا الباب الآن بباب الحديد.

وما أعرق في الوهم ما يقوله بعض العوام أن بانقوسا أصله (بان قوسها) والضمير يعود لامرأة كانت هناك وراء الصخور في بعض الحروب ، ثم رفعت رأسها وكانت متنكبة قوسها فقال الناس : بان قوسها ، ثم داخلها التحريف فصارت بانقوسا ، فهذا لا ريب من مخترعات العوام ، والصواب ما حققناه *.

وطول قبلية الجامع (٤٥) ذراعا وعرضها نحو (٢٠) ذراعا ومحرابه من الحجر الأصفر لكنه خال من الزخرفة ، وعن يسار المحراب حجرة مبنية في الجدار لونها أزرق فيها أثر كف يقولون إنها كف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثرت في هذا الحجر ، ومكتوب على الحجرة كتابة محيطة بالكف هذا البيتان :

لأصابع المختار في هذا الحجر

آثار خيرات يقينا في البصر

فالثم مواضع كفه إن كنت من

أهل المحبة مرتج كلأ الضرر

ويحكون عن سبب وصول الحجرة إلى هنا وبنائها في هذا الجدار حكاية تشبه الحكاية التي قدمناها في الجزء السابق (ص ٢٨٨) في الكلام على القدم التي في جامع الكريمية ،

__________________

(١) أي الذي بنى فوقه إبراهيم باشا المصري الثكنة العسكرية العظيمة ويتصل بها المقبرة التي تعرف بجبل العظام.

(*) انظر «موسوعة حلب المقارنة» للأسدي.

١٠٥

لكن يفترق هذا الأثر عن ذاك أن أثر الكف هنا على ما حدثت طبيعي والحجر لونه أزرق يشبه الحجر الذي في بلاد الحجاز ، وأما الحجرة التي فيها القدم فهي صفراء وآثار الصناعة بادية فيها كما قدمنا والله أعلم.

ومنذ سنة أعني سنة ١٣٤٤ وضع فوق هذه الحجرة دف وسمر منعا للنساء من المجيء قبيل صلاة الجمعة للتبرك بهذه الكف وغسلها بالماء وأخذ هذا الماء لتكثير الحليب.

وفي الجدار الشرقي من القبلية شباك مسدود وقد كتب عليه :

(١) أنشأ هذا الرباط فقير رحمة ربه الكريم أحمد بن موسى السعدي على نفسه مدة حياته

(٢) ثم من بعده على الفقراء الأبايزيدية الغرباء الأفاقية بتاريخ شهور سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ا ه.

وهو شباك لزاوية كانت ملاصقة لهذا المكان. قال أبوذر بعد العبارة التي ذكرناها في أول الكلام على هذا الجامع : وقد أحدث الشيخ أحمد الحنفي القصير ، وله اشتغال وميل إلى التصوف ، وهو لبق حسن السمت ، زاوية شرقي هذا الجامع وفتح منها شباكا إلى الجامع المذكور ، وكان يعتكف في هذه الزاوية وينزل الفقراء عنده ، وجعل لنفسه مدفنا فيها فدفن فيه ، وكان يتردد إلى والدي رحمهما‌الله تعالى. وهذا الرجل كان له جنينة في بابلّى ، وكان بها عمارة ، فدعانا إليها مع الفقهاء الحنفية فمضينا إليه وكان له وظائف بحلب ، فتوفي عن غير ولد فأخذ وظائفه الناس ا ه.

وهذه الزاوية دخلت الآن في الخان الذي هو شرقي الجامع المعروف بخان القطن. وإنك إذا دخلت إلى القبو الداخلي في هذا الخان وهو القبو الثالث تجد قبوا واسعا مربعا مرتفع السقف هو مكان الزاوية ، وتجد الشباك الذي ينفذ إلى قبلية الجامع مسدودا والقنطرة هناك بادية. وقبلي هذا القبو قبو آخر تجد عن يساره بابا صغيرا مسدودا هو باب التربة التي دفن فيها الشيخ أحمد السعدي باني الزاوية ، بل في هذه التربة قبر أو قبران لم أقف على صاحبيهما ، وظهر لي من القناطر التي على طرفي القبوين الأول والثاني أن هذا المكان كان سوقا أو سوقين ، فإن قناطر الدكاكين بادية فيه. وبلغني أن هذين السوقين كانا وقفا لهذا الجامع ولا أعلم الوقت الذي تغلب فيه على هذه الأمكنة ، ثم بيعت واتخذت خانا أصبح ملكا تتداوله الأيدي. وشمالي هذا الجامع مراحيض ينزل إليها بدرج تسمى الباسطية

١٠٦

لها باب من جهة الغرب ومكتوب على هذا الباب :

(١) أنشأ هذا المعروف المقر الأشرف العالي المولوي المالكي المخدومي السيفي

(٢) سودن المظفري الظاهري مولانا ملك الأمراء كافل الممالك الحلبية المحروسة أعز الله

(٣) أنصاره وذلك بتاريخ شهر شعبان المكرم سنة ثمان وثمانين وسبعماية ا ه.

وكان المتولى على هذا الجامع الشيخ أحمد الحجار المتوفى سنة ١٢٧٨ ، وكان خطيبا فيه أيضا ، وبعد وفاته ولي الشيخ يحيى النعسان ثم صالح آغا الملاح ، وفي أثناء توليته فرش أرض الجامع وأرض الرواق الشرقي بالرخام وعمر الباسطية وقد كانت متخربة وترس المنارة ، ثم ولي أحمد آغا الملاح ، وفي أثناء توليته جدد الرواق الغربي وذلك سنة ١٣٠٣ كما هو منقوش على جداره وفرش أرض القبلية بالرخام.

وبعد وفاته ولي وحيد آغا الملاح وهو الآن تحت توليته والناظر عليه سعادة مرعي باشا الملاح حاكم حلب. وله من العقارات نحو ٤٠ عقارا ووقفه عامر ، كما أن الجامع عامر بالمصلين أيضا لما قلناه في الكلام على جامع الحدادين من أن أهل هذه المحلات لهم عناية تامة بالمحافظة على الصلاة بالجماعة في الأوقات كافة.

٩٢٨ ـ نصوح بن يوسف الأرنؤوطي المتوفى سنة ٩٨١

نصوح بن يوسف ، الأرنؤوطي أصلا السلانيكي بلدا ومولدا ، الحنفي ، مفتي حلب ومدرس الخسروية بها بعد الشيخ تاج الدين إبراهيم الصونسي المتقدم ذكره.

رحل من بلدته سلانيك وهي البلدة المشهورة التي افتتحها السلطان مراد بن عثمان إلى القسطنطينية لطلب العلم وهو يومئذ قريب من درجة المعيدين ، فحصل ، ثم صار تذكر جيا عند بعض قضاة العسكر ، ثم مفتيا بلارنده من مملكة قرمان ، ثم مفتيا ومدرسا بآمد ثم بحلب. وبقي بها على سمت التواضع وطرح النفس ، يدرس فيها بمدرسته التلويح فما دونه ، والناس منه راضون ، ومحمد باشا ابن توقكين المتقدم ذكره يعظمه جدا وهو يومئذ باشا حلب لقرابة كانت بين أبويهما ، إلا أن قاضي حلب أحمد بن محمود كان يمزق بعض فتاويه ، ففر من يده إلى الباب العالي ليخلص من فتوى حلب ويترقى أسوة أقرانه

١٠٧

الذين ترقوا عليه بدرجات ، فخاب فرجع إلى حلب وصار لا يفتي فتوى ترفع إلى قاضي حلب. نعم قد قصر إذ كان يفتي بعدم وقوع الطلاق على من قال : عليّ الطلاق لا أفعل ففعل ، لشبهة أن المراد بعليّ الطلاق أن طلاق امرأته واقع عليه ، فهو مثل طلاقك عليّ ، وبه لا يقع الطلاق ، مع أنه درى من بعد أن عرف أهل حلب قد فشا بينهم بأنهم لا يريدون بعليّ الطلاق إلا أن طلاقه لازم له لزوم الدين للمديون إذ قال : لفلان عليّ درهم ، ولا ينوون إلا ذلك ، فيلزم أن يقع الطلاق بذلك كما يقع بالكنايات إذا نوى ، بل أولى لمكان لفظ الطلاق.

على أنا نقول : قد جزم الخاصي * في «الفتاوي الكبرى» بالوقوع في طلاقك عليّ واجب أو ثابت ، لأن الطلاق لا يكون واجبا أو ثابتا بل حكمه حكم لا يجب ولا يثبت إلا بعد الوقوع. قال المحقق ابن الهمام : وهذا يقبل أن ثبوته اقتضى التوقف على نية ** إلا أن يظهر عرف فاش فيصير صريحا فلا يصدق قضاء في صرفه عنه ، وفيما بينه وبين الله إن قصده وقع وإلا لا ، فإنه قد يقال : هذا الأمر عليّ واجب بمعنى ينبغي ، وقد تعورف في عرفنا في الحلف : الطلاق يلزمني لا أفعل كذا ، يريد إن فعلته لزم الطلاق ووقع ، فيجب أن يجري عليه لأنه صار بمنزلة قوله : فإن فعلت فأنت طالق ، كذا تعارف أهل الأرياف الحلف بقوله : عليّ الطلاق لا أفعل. انتهى كلامه ا ه.

توفي الشيخ نصوح مفتي حلب سنة ٩٨١ ، ذكر ذلك الشيخ عمر العرضي في أوراق منقولة عن تاريخه.

٩٢٩ ـ ياسين بن إبراهيم البكفلوني المتوفى سنة ٩٨١

قال العرضي في حوادث هذه السنة : فيها مات صاحبنا الشيخ الفاضل ياسين بن إبراهيم البكفلوني عالم بلاد أريحا بقريته بكفلون ودفن بها بزاوية بناها لنفسه وصلينا عليه بحلب صلاة الغائب ا ه.

__________________

(*) في الأصل : القاضي.

(**) في «در الحبب» : وهذا يفيد أن ثبوته اقتضاء ويتوقف على نية.

١٠٨

٩٣٠ ـ محمد باشا اللالا المتوفى سنة ٩٨٢

قال العرضي في حوادث هذه السنة : وفيها في رمضان مات محمد باشا بن مصطفى باشا اللالا بداء الإسهال بعد أن تقدم له في زمن صحته الإكثار من الخمر وغيره. ثم إنه لما مرض هذا المرض تاب توبة نصوحا وكسر أواني الخمر وآلاته ، ودفن في الخسروية التي بناها عمه خسرو باشا رحمه‌الله ا ه.

٩٣١ ـ إبراهيم بن الخواجا قاسم الحلبي المتوفى سنة ٩٨٣

قال العرضي : فيها تواصلت الأخبار إلى حلب بموت العالم الفاضل إبراهيم بن الخواجا قاسم الحلبي بالقسطنطينية بعد أن عزل من قضاء أزمير وأنه مات في جمادى الأولى.

٩٣٢ ـ عبد الرحمن الأماسي بن قاضي حلب المتوفى سنة ٩٨٣

عبد الرحمن بن علي قاضي القضاة ، محيي الدين الرومي الحنفي ، قاضي حلب.

دخلها قاضيا في أواخر سنة ثلاث وخمسين ، وكان في أحكامه الشرعية سيفا قاطعا وللمدلسين والملبسين قامعا يا له قامعا. وهو الذي أبرم على متولي الجامع الأعظم بحلب في تجديد تبليط شرقيته بعد دثوره وتبرع فيه بشيء من ماله. ولما توفي خطيبه شيخنا الشهاب الأنطاكي في السنة المذكورة اجتمع رأيه ورأي صاحبنا إسكندر بك الدفتر دار يومئذ وأنا بالحجاز على شرف العود مع الركب الحجازي إلى حلب إلى أن يعرض لي في الخطابة إذا عدت ، فلما عدت رام أن يعرض فأبيت ، فصمم عليّ فصممت على الإباء واعتذرت له بما يقال في كلام الناس : خشبتان وقصبتان تصيّران العالم جاهلا ، مبينا له أن المراد بالخشبتين خشبتا المنبر وبالقصبتين قلم القضاء وقلم الفتوى ، فقبل عذري وعني بأمري.

ثم آل أمره إلى أن صار قاضي عسكر روملي ، وقدم حلب مع المقام الشريف السليماني سنة إحدى وستين ، وساعد الحلبيين من أرباب الأوقاف والأملاك في إبطال ما جدد على جهاتهم من خراج لم يكن أو زيادة فيه لم تكن ، فقبل قوله المقام الشريف وسامحهم ، ثم عزل سنة خمس وستين.

١٠٩

وذكره صاحب الكواكب السائرة بنحو ما هنا وقال : إنه توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة.

وكذا ترجمه في العقد المنظوم بترجمة طويلة ، لكنه لم يحمد سيرته لميله إلى جانب الأمراء ومداهنته مع الأكابر والوزراء ، ثم ذكر وفاته في هذه السنة.

٩٣٣ ـ الشيخ أبو بكر بن أبي الوفا صاحب المزار المشهور

شمالي حلب المتوفى سنة ٩٩١

إذا أرسلت طرفك للشمال الشرقي من مدينة حلب تجد جبلا صغيرا فيه عدة بنايات في وسطها أربع قباب مرتفعة ، وهناك أشجار من السرو ، تحت إحدى هذه القباب ضريح الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا رضي‌الله‌عنه ، وقد اشتهر هذا المكان باسمه ، وقد مر ذكره في تاريخنا غير مرة.

وقد اعتنى أفاضل الشهباء بترجمة الشيخ أبي بكر بحيث أفردت بالتآليف ، وذلك ولا ريب دليل على عظم شأنه وجلالة قدره.

وأول من وضع تأليفا في ترجمته وترجمة بعض أعيان الشهباء من الصوفية الشيخ أحمد الحموي العلواني في كتاب له سماه «أعذب المشارب في السلوك والمناقب» وألف كتابا آخر في مناقبه خاصة. وتلاه العالم الأديب صلاح الدين الكوراني ، فإنه ألف في مناقبه كتاب سماه «منهل الصفا في مناقب ابن أبي الوفا». ثم وضع الشيخ يوسف بن السيد حسين الحسيني مفتي حلب من أعيان القرن الثاني عشر كتابا حافلا في مناقبه وأحواله سماه «مورد الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا». وقد اطلعت على هذه الكتب الأربعة وتصفحتها والأخيرة أوسعها وهو في ٢٦٧ صحيفة ، لذا جعلت اعتمادي عليه ، وقد ذكر فيه ترجمة خليفة الشيخ وهو الشيخ أحمد القاري وخلفاءه ، وترجمة جد الشيخ أبي بكر وهو تاج العارفين الآتي ذكره في عمود النسب.

قال : وبعد فإني أردت أن أسطر في هذه الوريقات ترجمة الشيخ الكامل العارف الواصل الولي الصديق ، الذي شهدت بولايته وكراماته أهل الصدق والتحقيق ، سيدي شيخنا الشيخ أبي بكر الوفائي الشهير بابن أبي الوفا صاحب المزار المشهور في تكيته المشهورة

١١٠

خارج حلب الشهباء في الجبل الأوسط قدس الله تعالى روحه. وقد وقفت على عدة كتب ألفت في شأن هذا الشيخ الجليل رضي‌الله‌عنه ، منها كتاب «أعذب المشارب في السلوك والمناقب» تأليف الشيخ أحمد الحموي العلواني ، ومنها كتاب آخر باللغة التركية ألفه مؤلفه برأي خليفة الشيخ أحمد القاري ، وكتاب آخر ألفه العالم الأديب صلاح الدين بن محمد الكوراني الحلبي ذكر فيه جملة من المناقب والكرامات ، إلى غير ذلك مما ألف فيه أو سمعه من الثقات في شيء من أحواله وكراماته ومناقبه ونسبه الشريف.

وهنا عقد المؤلف فصلا طويلا في الكرامة وجوازها وما قاله فيها العلماء المحققون من المتكلمين والصوفية الكاملين من أهل السنة والجماعة ، وقال بعد هذا الفصل :

فصل في ذكر نسب الشيخ رضي‌الله‌عنه :

هو السيد أبو بكر بن السيد محمد بن السيد إبراهيم بن السيد علي أبي الوفا بن السيد علي بن السيد أحمد الكريدي الملقب بالكبريت الأحمر ، يعني عديم النظير ، المدفون بزاوية الشرفات ابن السيد بهاء الدين ابن السيد داود ابن السيد عبد الحافظ ابن السيد محمد ابن السيد بدر الملقب بأبي الأنوار ، المدفون بوادي النسور ، ابن السيد يوسف ابن السيد بدران ابن السيد يعقوب ابن السيد مطر ابن السيد سالم ، وهو أخو الشيخ الجليل سيدي أبي الوفاتاج العارفين قدس الله سره ، وهما ابنا السيد محمد ابن السيد محمد ابن السيد زيد ابن السيد زين العابدين علي بن الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

مولده ونشأته وتاريخ وفاته :

أما مولده فهو في مدينة حلب الشهباء في محلة سويقة علي في بيتهم المشهور بقاعة الأفراح قرب المدرسة الشرفية سنة ٩٠٩ تسعمائة وتسعة ، وتوفي سنة تسعمائة وإحدى وتسعين ، ودفن خارج حلب شماليها في المكان المشهور بالجبل الأوسط ، وقبره مشهور يزار ويتبرك بزيارته الأخيار.

ثم بنيت تكيته المشهورة واتخذ حواليها وفي جوانبها البساتين والكروم ، وأجري إليها الماء من قناة حلب ، وعمر فيها المسجد والأماكن المتعددة على يد شيخها خليفة الشيخ الشيخ أحمد القاري.

١١١

وفي سنة ٩٢٠ توجه به والده إلى الشام فتوطن فيها ، وكان قد حصل في حلب الفقه والفرائض ، وأخذ هناك في الاشتغال بالطريق على الشيخ أحمد المنباوي ، وتآخى مع الشيخين الجليلين الشيخ محمد الزغبي المدفون في سفح جبل قاسيون والشيخ الحليق ، واختلط بالعلماء العارفين والأولياء الصالحين.

ثم لم يزل رضي‌الله‌عنه في ترق من الأحوال حتى ظهرت عليه آثار الكشف ولاحت لديه لوائح الكرامة وتحقق خساسة الدنيا ورذالة أهلها ، وتيقن نفاسة الآخرة ونزاهة ذويها ، ولزم الخلوة والعزلة ، وكان فيها العزّله ، وهجر الطعام وترك المنام ، وساح في الجبال والأودية والآكام ، وتوالت عليه أنوار آبائه وأجداده وأسلافه أهل بيت النبوة والعرفان ، وصار الناس يترقبون ما يصدر عنه من المكاشفات ، فحينئذ يظهر من فمه المبارك كلمات تنبي عن كل ما أضمره مترقبه مما أسره بإذن الله تعالى.

ثم لما عاد مع والده من الشام اشتهر بين الناس بالولاية والاعتقاد ، وصار الناس يعتقدونه ويهرعون إليه ويتبركون به ويترددون إليه لينالوا بركته ويكاشفهم بما في خواطرهم بالمكاشفات الصريحة.

وكان رضي‌الله‌عنه يتردد غالبا إلى الجبل الأوسط الذي هو مكان تكيته الآن قبل بناء شيء فيه. وسبب تردده إليه أن بعض أجداده وهو السيد عبد الحافظ مدفون ثمة ، وسبب دفنه في هذا الجبل أن السيد المذكور كان وطنه ببيت المقدس في زاوية أجداده بوادي النسور المشهورة بزاوية الشرفات ، فحصل له ولد مبارك سماه السيد بهاء الدين داود ، واشتغل بالعلم والعبادات والطاعات ، وتحلى بالرياضات والمجاهدات ، فحينئذ خلفه والده ، وتوجه إلى زيارة جده الأعلى سيدي أبي الوفا تاج العارفين بجهة العراق ، فمر في طريقه على مدينة حلب الشهباء فمرض بها فسأل عن مكان معتدل الهواء فدلوه على الجبل الأوسط ، فذهب إليه لتعليل مزاجه. ثم إنه بعد أيام انتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى ودفن في الجبل المذكور ، فكان الشيخ أبوبكر يتردد إلى هذا الجبل لزيارة جده السيد عبد الحافظ ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن دفن الشيخ أبو بكر في هذا المكان ، وعمرت عليه هذه القبة العظيمة ثم هذه التكية المباركة العديمة النظير ، وصارت مأوى لفقراء الوفائية ومحط رحال السادة الصوفية.

ثم بعد وفاة الشيخ وظهور خليفته الشيخ أحمد القاري بعده عمرت هذه التكية على

١١٢

يده وبسعيه شيئا بعد شيء حتى صارت إلى ما تراه ، فإن الشيخ أحمد المذكور بقي في المشيخة بعد وفاة شيخه المومى إليه خمسين سنة. ولم يزل مدة حياته يسعى في تعمير أماكنها وإحداث أماكن فيها وجلب الماء إليها وعمارة المسجد ومحل زيارة الشيخ وإنشاء الحدائق والبساتين والكروم وحواليها وتجديد الأوقاف لها إلى غير ذلك.

ثناء المشايخ عليه :

قال : وقد أثنى على شيخنا جماعة من معاصريه وغيرهم من مشايخ الإسلام وعلماء الأنام ، وترجموه بالولاية والكشف والكرامة ، منهم العلامة الرضي ابن الحنبلي ، يحكى عنه أنه كان يكتب في أثناء تاريخه في حياة الشيخ ، فتردد هل نذكره في التاريخ أم لا ، ثم ذهب إلى زيارة الشيخ فكاشفه الشيخ بذلك وقال له : اكتبيها في تاريخك ، لأي شيء لا تذكريها أو كلاما معناه ذلك ، فإن الشيخ رضي‌الله‌عنه كان يخاطب الجميع بخطاب التأنيث كما هو مشهور عنه.

ترجمة الرضي الحنبلي له في تاريخه :

قال : هو أبو بكر بن وفا ، مجذوب كثيرا ما يرى بين القبور ويكاشف الواردين عليه ، وتراه تارة يخلط في كلامه وأخرى يورد معارف ومواعظ ومذام للدنيا ، وحينا ينقبض وأحيانا ينبسط. وكثيرا ما ترى على رأسه طاقية ثالثة فتوضع فوقها وهو لا يكترث بما وضع ، وكذا يصنع به تارة أخرى وهو لا يقول ماذا صنع.

وكان قبل أن يجذب معاملا لواحد من حكام الروميين حتى أثر من جهته ، واتفق له أن سافر معه إلى دمشق فرأى بها واحدا من الواصلين ، فأخذ يتردد إليه ودعا أن يصرف الله تعالى عنه الدنيا ، فلم يسعه إلا أن بذل ما كان معه من حطامها إذ حصلت له الجذبة الحقيقية ، ثم عاد إلى حلب مجذوبا وصار يأوي إلى محلة مقابر الغرباء وما والاها.

وكان أبوه من صالحي المؤذنين يؤذن بمنارة مسجد سويقة علي بحلب. ا ه.

قال في «أعذب المشارب» : أخبرني رجل من أعيان أصحاب الشيخ أن الشيخ العالم ابن الحنبلي كتب تاريخا وتردد هل يذكر فيه الشيخ أبا بكر أم لا ، ثم إنه زاره بعد ذلك فقال : لأي شيء ما تذكريها؟ أما هي مسلمة من المسلمين؟ فما وسع الشيخ بعد ذلك

١١٣

إلا أنه ذكره بما وصل إليه فهمه ، وإلا فالشيخ جليل المقدار عظيم الاعتبار في أعين النظار خلقا وخلقا وحالا وكشفا وعرفانا.

ومن جملة من أثنى عليه أيضا من معاصريه شيخ الإسلام مفتي السادة الشافعية بمدينة حلب العلامة الشيخ عمر العرضي ذكره في تاريخ حلب الذي ألفه ، قال : الشيخ أحمد الحموي العلواني نزيل حلب في كتابه «أعذب المشارب في السلوك والمناقب» قال : أخبرني شيخ الإسلام الشيخ عمر بن الشيخ عبد الوهاب العرضي بواسطة رسول أرسلته إليه فأملى عليه عبارته التي عبرها في حق الشيخ فكتبها وأجازني في نقلها عنه وهي : الشيخ أبو بكر ابن وفا العبد المجذوب الذي لا ريب في ولايته ، وهو أحد من انتفعنا بمصاحبته وتلذذنا بمنادمته ومكالمته من أرباب الكشف الذي هو كالشمس الظاهرة والتصرف التام في مراتب القلب ، لم ير في عصرنا من يبارز في خرق العوايد مثله ، مع التعلق التام بمحبة الله وشهود الوحدة في كل أحيانه ، والسكر الذي لم يصح منه إلا قليلا ، وتربية المحبين بحاله وهو الأغلب عليه وقاله ، وخرق العوائد مع الزهد التام في الدنيا وتساوي الأمير والفقير عنده ومكالمة الإنسان جهرة بأمر يخطر في قلبه بحيث إن غالب أهل حلب اطلعوا على مكاشفات أدت إلى أن يقطعوا بولايته ، ابتلي بأمور يقصر الكلام عنها ، وحلف بسره الرجال والشبان والنساء والصبيان بحيث إذا بصق تبادر الناس إلى بصاقه. وشاع ذكره بالولاية حتى إن الشيخ محمد البكري شهد له بها ، ولعمري إني لمن أكبر معتقديه وأعظم محبيه.

مرض أياما ومات في شهر ربيع الثاني سنة ٩٩١ إحدى وتسعين وتسعمائة وصار له. جنازة لم ير مثلها من كثرة الناس ، ولم أر من تباكى عليه الناس كبكائهم على هذا الرجل.

وقال شيخ الإسلام الشيخ وفا ابن الشيخ عمر العرضي في تاريخه ما ملخصه : أبو بكر بن أبي الوفا المجذوب صاحب المزار المشهور بالذروة الوسطى ، خلع العادات وعاداها وتقاصر عن زينة الدنيا مع سعة مداها. خرج من حلب إلى دمشق الشام وصحب الشيخ محمد الزغبي في دمشق ، وبعد مدة مديدة رجع إلى حلب يألف المقابر والأماكن الخربة ، أينما أدركه الليل نام بغير غطاء ولا وطاء ، ولا يلقي جنبه إلى الأرض ، وتوقد بين يديه النيران الهائلة وتألفه الكلاب.

١١٤

واجتمعت عليه المجاذيب من أقطار الأرض يخاطب الرجال بخطاب النساء ، وجميع أهل حلب والمترددون إليها يبالغون في اعتقاده والتبرك به والأخذ من أنفاسه المباركة. ما اجتمعنا بأحد اجتمع به إلا أخبرنا عن مكاشفاته ومناقبه المرات المتعددة.

وكان والدي يحبه ويعتقده ويلازم زيارته وتقبيل يديه ، حتى قال لي : يا شيخ وفا ، ما رأت عيني في الكشف والإخبار عن الغائبات مثل الشيخ أبي بكر. قال : وأخبرنا الوالد أنه طلب منه علي أفندي بن سنان الاستسقاء بالناس لقلة المطر ، قال : فقلت : تصبر إلى أول الشهر ، ثم سرت إلى الشيخ أبي بكر فجئت لأقبل يديه ، فامتنع وأظهر الغضب الشديد عليّ وكدر من في المجلس ، ثم احمر وجهه وتفجرت عيناه فكان يصفق ويقول : آه آه ، فما مضى ساعة إلا والمطر كأفواه القرب ينصب من السماء ، فأخرجني في الحال ولم يصبر علي وأخذ يصفق ويصفق معه الناس فرحا ، ثم أخرج والدي شدة المطرة.

وأخبرنا الشيخ يوسف الأنصاري أنه سلط عليه علي باشا ابن الوند سبعا كان جوّعه يومين أو أكثر وأطلقه عند باب مسجد الشيخ أبي بكر والشيخ ثابت ، حتى جلس السبع بين يديه والشيخ يضحك عليه ، ثم أعطى بعض دراويشه دراهم ثمن معاليق وحلاوة ، فجيء بهما فأعطى الشيخ الحلاوة للسباع * وأطعم المعاليق بيده للسبع ، حتى كان الشيخ رضي‌الله‌عنه يلقم السبع المعلاق من غير مبالاة.

مناقبه وكراماته :

قال : اعلم أن الشيخ رضي‌الله‌عنه قد أجمع الخاص والعام في حياته وبعد مماته على محبته واعتقاده ، ولم يبق في الشهباء ودائرتها من ينكر عليه ، واتفق الجميع على محبته وإكرامه وتعظيمه خصوصا في حال حياته ، فقد أقبل عليه أهل بلدته قاطبة عالمها وجاهلها وكبيرها وصغيرها وغنيها وفقيرها وحكامها من الوزراء وغيرهم ، فإنهم كانوا جميعا يهرعون ويتبركون بتقبيل يديه ، وظهرت كراماته عندهم ظهور الشمس في رابعة النهار. وكان إذا ذكر في المحافل والمجالس ذكر له كل واحد من الحاضرين كرامة وقعت له معه أو سمعها ممن شاهدها أو سمعها منه. وأجمع الناس على كونه ولي الله بلا نزاع.

وشهد بولايته القطب الكبير سيدي الشيخ محمد البكري الصديقي المصري والشيخ

__________________

(*) لعل الصواب : للأتباع.

١١٥

عمر العرضي من معاصريه وغيرهم ممن أدرك حياته أو بعد وفاته.

ومن مناقبه ما حكاه الأديب الكامل صلاح الدين الكوراني الحلبي في مصنف له مخصوص بمناقب شيخنا قال : كنت أيام قراءتي يافع السن على شيخ الإسلام ومفتي الشافعية في ديار حلب الشيخ عمر العرضي حاضرا مع طلبة العلم في زاويته المعروفة بالحيشية المطل شباكها على الجامع الكبير بحلب ذات يوم ، وشرع الشيخ المذكور في إقراء شرح الشمسية في علم المنطق في بحث القضايا المختلطة ، وتأمل في أثناء الإقراء طويلا وتفكر مليا في تقريره ، ثم قال لنا : إن صدري ضيق وما طالعت هذه الليلة هذا المحل وهو في غاية الإشكال ، فاتركوا الدرس وقوموا بنا إلى زيارة الشيخ أبي بكر قدس‌سره حتى ينشرح صدرنا ، فلما ذهبنا معه ودخلنا على الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه قال للشيخ عمر : تعالي اقعدي ، الله أعطاكي ، فجلس الشيخ عمر من ناحية من المكان والطلبة حوله ، وكان مكان الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه في جامع بمحلة تربة الغرباء بحلب ، فأخذ الشيخ أبو بكر يتكلم بكلام يفهم وكلام لا يفهم. كأنه يخاطب الغير به ، والشيخ عمر ساكت مطرق الرأس ، ثم إن الشيخ عمر نهض على قدميه وقال : الفاتحة ، فقرأناها وقمنا ، فلما صار خارج الجامع قال لنا : هل فهمتم ما قال الشيخ؟ قلنا : الله أعلم ، فقال : إنه قد قرر لي الدرس وبين إشكال القضايا وأفهمني إياها فارجعوا بنا إلى الدرس ، فرجعنا إلى الزاوية المذكورة فقرر لنا الدرس كما ينبغي وقال : هكذا قرره لي الشيخ رضي‌الله‌عنه.

قال الكوراني : وحكى لي شيخ الإسلام الشيخ أبو الجود البتروني أنه كان يسمع بمكاشفات الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه ومناقبه من الناس ، وأنه كان يشتاق إلى زيارته ، فسمع أن مجلسه غير خال عن الكلاب فتأنف نفسه ويتأخر عن الزيارة. ثم إنه صمم يوما من الأيام على زيارته وذهب إليه ، فلما دخل عليه رأى فرشه نظيفا ومكانه مكنوسا خاليا عن الكلاب ، فلما رجع الشيخ أبو الجود من زيارته جاءه رجل وقال له : أنا كنت عند الشيخ رضي‌الله‌عنه قبل مجيئكم بساعة في هذا اليوم فرأيته قد صاح على الفقراء وقال لهم : اطردوا عنا الكلاب واكنسوا وافرشوا فرشا نظيفا لأجل الذي يزورنا حتى لا يقرف فتعجبت من هذا الأمر من كشف ما خطر بالبال قبل وقوعه.

قال الكوراني : وحكى لي الشيخ زين المؤذن بجامع الخسروية بحلب ، وكان رجلا صالحا ، وكنت إذ ذاك خطيبا به بعد أن قلت له : إني أرى جامع الخسروية مشرقا مضيئا

١١٦

يشرح الصدر بالنسبة إلى غيره من الجوامع ، فقال لي : أما تعلم سبب ذلك؟ فقلت : الله أعلم ، قال : سبب هذا الإشراق ببركة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا ، قلت : وكيف ذلك؟ فقال : إن الشيخ لما كان في عالم السياحة حين الشروع في عمارة هذا الجامع كان يذهب مع العجلة إلى الجبل ويأتي راكبا على العجلة وعليها الحجارة المقطوعة لأجل بناء الجامع المذكور ، إلى أن يأتي بها إلى الجامع ويحث البنّائين على العمارة ويقول لهم : أسرعوا إلى العمارة حتى يأتوا أصحابنا ويعيطوا فوق السطوح ، قال الشيخ زين المذكور : فلما فرغت العمارة صار المتولي عليها يطلب مؤذنا حسن الصوت صالحا متدينا ، فدلوه علي فأرسل أناسا يطلبونني إليه وكنت إذ ذاك عند الشيخ رضي‌الله‌عنه ولم يظفر بي أحد من رسل المتولي ، فقال لي الشيخ : قومي روحي وعيطي فوق السطوح طلبوكي لا تقعدي ، وأخرجني من عنده ، فلما خرجت رأيت الطلب ورائي وقيل لي : اذهب إلى متولي الجامع فإنه طالبك ، فجئت إليه فجعلني مؤذنا به فعلمت أن الشيخ أشار إلي بذلك.

وقال الكوراني : حكى لي شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي قال : كان في حلب قاض اسمه علي بن سنان ، وكان يسمع بأحوال الشيخ وينكر عليه ، ثم أراد أن يزور الشيخ ليلا مختفيا حتى لا يعلم الناس أنه زاره ، فلما فات وقت العشاء من تلك الليلة وكان مكان الشيخ رضي‌الله‌عنه خارج البلد ، ففتح القاضي باب المدينة وذهب بجماعته متوجها إلى الشيخ ، فجاء إلى مكان الشيخ فرأى بابه مقفلا من الداخل وليس فيه حس ، فطرق الباب مرارا فما أجابه أحد ، فرجع غضبان ، فجاء رجل من الذين كانوا عند الشيخ تلك الليلة وأخبر بأن الشيخ لما فات وقت العشاء تلك الليلة قام على قدميه وصاح بالفقراء : سكروا الباب ولا تفتحوه لأحد ولو كسروا الباب واسكتوا كلكم لا أحد منكم يتكلم وأطفئوا الضوء ما لنا حاجة بزيارة الظالمين ، فبينما نحن على هذا الحال إذ جاء القاضي وطرق الباب مرارا فلم يفتح له ولا أجابه أحد امتثالا لأمر الشيخ رضي‌الله‌عنه ، فرجع القاضي غضبان.

قال الشيخ عمر العرضي : فلما سمعت من ذلك الرجل هذا الخبر أسرعت في الذهاب إلى القاضي وأعلمته أن الشيخ رضي‌الله‌عنه صاحب كشف ولا شك في ولايته ، وإنما فعل ذلك معكم تنبيها لكم على النظر في أحوال الرعايا وإنصاف المظلوم من الظالم. وسليت خاطره ، فاعتقد صحة كلامي وأرسل إلى الشيخ قربانا ، فلما وصل إليه القربان قال الشيخ للرسول الآتي به : قول لها تدعي للذي نصحها وإلا كنت أفرّجها ، فكان الشيخ يشير

١١٧

إلى الشيخ عمر العرضي أنه هو الناصح للقاضي حتى أزال إنكاره عنه ، وهذه كرامة وكشف صريح من الشيخ رضي‌الله‌عنه.

قال : وسمعت من أناس متعددة أن رجلا أعجميا كان يربي السباع ، وكان معه سبع في زنجير من الحديد يدور به في الأسواق والطرق ويفرّج الناس عليه فيعطونه الدراهم ويرتزق به ويجعل ذلك كالحرفة له ، فمر ذلك السبّاع يوما من الأيام على مكان الشيخ ، فثار السبع وجذب الزنجير من يد السبّاع بقوته وهرب ولا زال هاربا والناس يفرون منه ، حتى دخلوا مكان الشيخ ودخل السبع ، فقال الشيخ : لا تخافوا من هذه القطيطة ، فجاء السبع وجلس بزنجيره قدام الشيخ وصار يلحس يديه ورجليه كالمقبل لها والشيخ يقول : يا مسكينه جو يعينه ، هاتوا رأس غنم ، فجيء به وجعل السبع يأكل ويهمهم ويهدر ، فجاء صاحب السبع فقال له الشيخ رضي‌الله‌عنه : لأي شيء تجوعيها ، خطيّة عليك ، فلما أتم أكل الرأس ضربه الشيخ بالعصا وقال : قومي روحي مع صاحبك ، فأخذه صاحبه وخرج به.

قال : وحكى بعض المترددين إلى الشيخ عند أخ لي كان نائبا في المحكمة الشافعية بحلب ، وكان أخي من المنكرين على الشيخ رضي‌الله‌عنه ، فرغبه ذلك الرجل في زيارة الشيخ فأبى أن يجيبه إلى ذلك ، فألحيت أنا عليه حتى طاوعني ، فذهبنا إلى زيارته ، وكنت إذ ذاك صغير السن ، فلما دخلنا على الشيخ قال لأخي : قفي يا قحبة لا تدخلي لا تقعدي روحي عنا ، فوقف أخي في ناحية المكان ودعاني الشيخ إليه وأدخلني بين رجليه وأخرج لسانه وحركه كأنه يريد بذلك تخويفي على سبيل الممازحة والملاطفة ، وقال لي : لأجل خاطرك ما ننكد عليها ونخليها تروح في شفاعتك ، والتفت إلى أخي وهو واقف على قدميه وقال له : روحي عنا وخليها لنا ، هذه مثلنا. ا ه.

وقال العلواني في «أعذب المشارب» : أخبرني الشيخ الكامل الشيخ عمر العرضي أنه عرضت له مصلحة دنيوية من جهة وظيفة وتعذر أمرها وتعسر ، قال : فذهبت إلى الشيخ أبي بكر أستمد منه ومن بركاته حل تلك القضية ، قال : وما كنت أذهب قبل ذلك إليه في أمر دنيوي ، قال : فلما حضرت عنده كلح في وجهي ، ثم بعد ذلك قال : قضيت المصلحة وانحلت العقدة ، فلما عدت من زيارته وجدت الأمر قد تم وانحلت القضية بعد تعسرها. (ثم قال) :

قال العلواني : وكان الشيخ رجلا جسيما وجيها مستدير الوجه كأن السكّر يقطر

١١٨

من حلاوة وجهه المبارك ، وكان سنه قد فاق الثمانين ومع ذلك فيه القوة والطراوة وقوة الحال ، وكل إنسان يعبر عما يكشف له من الحال على مقدار حبه وعلى مقدار حسن اعتقاده. ا ه. (ثم قال) :

وقد كان هذا الأستاذ رضي‌الله‌عنه يحيي الليل كله جلوسا متوجها إلى ربه جل وعلا مراقبا لسره مرتقبا ما يرد عليه منه عزوجل ، فإذا حصل له تعب كلي من السهر اتكأ على أمتعة مرفوعة من غير أن يضع جنبه على الأرض ، وكان للفقراء والمساكين والمهمومين كالبحر العذب الفرات يرده كل وارد.

انتهى ما نقلته من «مورد أهل الصفا» للشيخ يوسف الحسيني مفتي حلب ، وقد نقل الكثير من كتاب «منهل الصفا» لصلاح الدين الكوراني كما رأيت ، ومع هذا فإنه لم يستوعب ما فيه ، وها نحن ننقل لك البعض مما لم ينقله ، قال :

حكى لي الشيخ شمس الدين النقشبندي ابن المعمار ، وكان رجلا صالحا وشيخ حلقة ذكر على طريقة النقشبندية ، بأنه كان يثني على الشيخ رضي‌الله‌عنه ويحبه ، وكان له ابن عم من الزعماء والأكابر ، وكان يحب الفرش النظيف ولبس الأثواب الحسنة ورش داره بالماء وكنس بلاطها ، ويحرض غلمانه على ذلك بحيث إنه كان بعد ذلك يمسح البلاط بالسفنج والخرق ، وكان إذا رأى قشاشة واحدة يضرب غلمانه كل واحد مائة عصا ، وكان لا يأكل إلا النفائس في الصحون المفتخرة ، وكانت نفسه تأنف من أدنى شيء ، فقال له ابن عمه الشيخ شمس الدين : يا بن العم ، قم بنا نزور الشيخ رضي‌الله‌عنه ، فقال له : أعوذ بالله من كلابه ونجاسة مكانه ، فأبرم عليه مرارا في أيام عديدة حتى أذعن له أن يذهب معه ، فلما ذهبا ورآه الشيخ صرخ في وجهه مغضبا وقال له : لا تقعدي ، قومي هناك ، والتفت الشيخ رضي‌الله‌عنه يمينا وشمالا فرآى في مكانه رجلا بدويا رث الثياب والهيئة فقال له رضي‌الله‌عنه : طالعي الذي في عبك ، فأخرج البدوي من عبه قطعة من الجبن المعفن المروح فقال : أعطيها لهذا ، وأشار إلى هذا الزعيم ، فناوله البدوي تلك الجبنة ، فلم يأخذها منه ، فقال له الشيخ : ويلكي خذيها وكليها ، لأي شيء ما تأكليها ، طلعي إلى هذه المنافس المقعرة البلاط بالسفنج والخرق ، هذه قشاشة ، هذه شعرة ، اضربوا الملوك مائة عصا ، هاتوا النفايس ، ويلكي أنت ما عرفت أيش يطلع من عقبك يا قحبة. قال الشيخ شمس الدين : فاستلقيت على قفاي ضاحكا عليه ، وعبس

١١٩

ابن عمه وجهه وخرج من عند الشيخ رضي‌الله‌عنه مغضبا شاتما. ولا شبهة في أن هذه الواقعة من الكشف.

وحكى لي الشيخ زين مؤذن الخسروية فقال : إن الشيخ خالد بن عبس الذي كان ساكنا بمحلة باحسيتا بحلب كان منكرا على الشيخ رضي‌الله‌عنه ، وكان شيخ فقراء يعظ الناس على الطريقة العلوانية بحيث إن تشكى إليه الخواطر في المسجد الكائن بالمحلة المذكورة بالقرب من باب الفرج فيقول له أحد الواردين : إنه قد خطر في نفسي أن أفعل كذا فيأخذ الشيخ خالد ويتكلم بما يناسب قوله من كلام العلماء والآيات والأحاديث النبوية وكلام أهل الله ، وكان رجلا كبير السن بلغ الثمانين محترم القدر وعظيم الهيبة والناس يهرعون إلى زيارته لأجل شكوى الخواطر من كل فج عميق ، وكان معاصر الشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وكان الناس يأتون إلى الشيخ خالد المذكور ويذكرون أحواله وأقواله ، فيقول : هذا خارق الشريعة ولا تذهبوا إليه ، وكان دائما يطعن فيه ويحذر الناس من زيارته ، فاتفق أنه قد تولى إمارة هذه الديار أحد الأمراء ، فسمع بوعظ الشيخ خالد وزهده وصلاحه ، فذهب إلى زيارته واجتمع به وسأله عن حاله وحرفته وسبب رزقه ، فقال له : أنا فقير على باب الله ، والمحبون والمعتقدون علينا يتكلفون برزقي ، ولا أطلب من أحد شيئا ، ومالي علوفة ولا وظيفة ولا صنعة أحترف بها غير كتاب الله وحديث رسوله ونصيحة المسلمين والانقطاع في هذا المسجد ، فقال له سرا في أذنه : أما تسمع مني وتذهب إلى إستنبول ، فإن السلطان إذا سمع بك يعين لك علوفة وافرة ، فقال له الشيخ خالد : إن شاء الله نذهب. ثم إن الشيخ خالدا صمم وعزم في خاطره أنه يذهب إلى إستنبول ، وأراد أن يتعاطى أهبة السفر ، فبينما هو في مسجده ونية السفر في خاطره وإذا بالشيخ أبي بكر رضي‌الله‌عنه قد جاء إليه والفقراء معه وبيده العصا ، وكان الشيخ رضي‌الله‌عنه ذات يوم قاعدا في مكانه وكان من عادته لا يذهب إلى أحد أبدا ، فقال لفقرائه : قوموا بنا نزور الشيخ خويلده ، بالتصغير ، فلما جاء إلى الشيخ خالد ووقف على باب المسجد ولم يدخل فخرج إليه متعجبا من مجيئه ومترحبا به ، فقال له الشيخ أبو بكر رضي‌الله‌عنه : أنا جئت إليك حتى أسئلك عن عمرك ، قولي أيش قدر عمرك؟ فقال له الشيخ خالد : عمري ثمانون سنة ، فقال له : يا مجنونة ، أي يوم خلّاك عريانه أو جوعانه ، إلى أين أنت رايحه ، أما تستحي من الله ، فبكى الشيخ خالد حتى بل لحيته من البكاء وقال : لا تؤاخذني فإني

١٢٠