إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

بخديك ما في مهجتي من لظاهما

بجسمي المعنى ما بخصرك من وهن

ومنها :

لثمت له جيدا طلى الظبي دونه

وثغرا لماه العذب أحلى من المن

وألصقته بالصدر عند عناقه

كما ضمت الأحلام جفنا إلى جفن

وله من أخرى :

كأن زهور الروض حين تساقطت

لتقبيل أقدام الأحبة أفواه

وله من أخرى :

ربيع عدل به أيامه اعتدلت

فالشاة والذئب في أيامه اتفقا

لا تختشي الطير من ملقي الشباك لها

ولو إليها بألفي مقلة رمقا

ومما أنشدنيه أيضا قوله :

ما إن عصيت العين بعدهم سدى

إلا لأمر طال منه سهادي

لما قضى نومي بأجفاني أسى

لبست عليه العين ثوب حداد

ومنها :

رمدت جفوني عندما فارقت من

قد كان كحلا في نواظر عبده

وسرقت حمرة ناظري وسقامه

عند النوى من مقلتيه وخدّه

ومنها :

حين خبّرت أن في الطرف منه

رمدا زاد في ذبول المحاجر

جئت كيما أزور من وجه بدري

كعبة الحسن تحت سود الستائر

ومنها :

ما احمرّ طرف العين ضعفا ولا

نرجسه بدّل منه الشقيق

لكنه من حمرة الخد قد

أصبح سكرانا فلا يستفيق

ومما أنشده لي قوله في بخيل :

٣٢١

بخيل لو بثوم منه جادت

أنامله لغالته الندامة

ولو في النار ألقي ألف عام

لما عرفت له يوما سلامه

ولو صارت بسفرته رغيفا

ذكاء لما بدت حتى القيامة

وقوله :

أفدي حبيبا تفوق البدر طلعته

لأنها لغريب الحسن قد جمعت

حال الجمال عذارا فوق وجنته

غزالة الصبح في أشراكه وقعت

٩٨٨ ـ الشيخ مصطفى داده القصيري المتوفى سنة ١٠٧٤

ترجمه الشيخ يوسف الحسيني في كتابه «مورد أهل الصفا» فقال : هو الشيخ العارف ، ذو الفضايل والمعارف ، المربي المرشد. كان رحمه‌الله تعالى شيخا كاملا لطيف الطبع خلوقا مجللا ، معظما بين الكبار والأعيان ، ذا حشمة ووقار ، وله عند أهل عصره كمال الاعتبار ، عارفا باللغات الثلاث العربية والفارسية والتركية ، وقد تلمذ له في اللسانين جماعة كبار ، وحظي عندهم بذلك ، منهم مفتي السلطنة العليا المولى أبو سعيد وغيره من علماء الروم وأعيانها.

وقد سار في مشيخته على التكية (تكية الشيخ أبي بكر ابن أبي الوفا خارج مدينة حلب) سير الفرقدين ، وهو ثالث القمرين وتابع نهج الشيخين ، وهو ثاني الخلفاء للشيخ الكبير (أبي بكر) وثالث المشايخ ذوي القدر الخطير. وقد خلفه الشيخ أحمد القاري قبل وفاته بموجب وثيقة محررة سنة أربعين وألف (وهنا ساق الحسيني صورتها وصورة ما كتبه تقريظا لها علماء عصره ، وفي نقل ذلك طول ، ثم قال) :

ولم يزل الشيخ مصطفى داده شيخا على الفقراء والدراويش في التكية المذكورة مدة تزيد على الثلاثين سنة ، قائما بحقوقها ولوازمها ، محسنا للفقراء والدراويش ، مكرما للصادرين والواردين والضيوف والمسافرين والمجاورين. والوزراء والأمراء والموالي يسعون إليه ، والمعتقدون منهم يقبلون يديه ، محترما عند أهل حلب وحكامها وخاصتها وعامها.

وكانت وفاته سنة أربع وسبعين وألف ، ودفن في المدفن السماوي قبلي حائط مزار الشيخ الكبير غربي الجامع ، وخلفه في المشيخة على التكية الشيخ حسين داده ابن الدرويش

٣٢٢

محمد داده بن الدرويش عثمان داده. وكانت وفاته غرة شهر صفر سنة تسع وتسعين وألف ، ودفن في التكية في التربة التي دفن فيها سلفه الشيخ مصطفى داده خلف مزار الشيخ الكبير.

٩٨٩ ـ الشيخ إسماعيل الكلشني المتوفى سنة ١٠٧٦

الشيخ إسماعيل الكلشني ، خليفة الطائفة الكلشنية بحلب.

كان من خيار الخيار. ذكره أبو الوفا العرضي في تاريخه وقال في وصفه : أعطي مزمارا من مزامير آل داود ، وصار سمير العبادة والزهادة والركوع والسجود ، نشأ في العبادة والتقوى مذ كان طفلا ، واستمر على حالة واحدة شابا وشيخا وكهلا.

قرأ على العرضي المذكور في «المصابيح» للإمام البغوي مدة مديدة ، ثم استجازه فأجازه بما يجوز له وعنه روايته. وقرأ على النجم الحلفاوي في النحو والفقه مدة طويلة.

وكان أولا من المريدين للكلشنية ، وكانت زاويتهم أول من أصلحها وأنشأ هذه الطريقة في الديار الحلبية درويش رجب ، ثم إنه فعل أوضاعا مذمومة ، ثم تولى المشيخة رضوان دده فجلس مدة ولم يقبل الناس عليه ، ثم أدركته الوفاة. ثم قدم صاحب الترجمة مجازا في الديار المصرية من صاحب السجادة أحد أعيان ذرية الكلشني ، فوجده الناس ذا هيئة حسنة وشكل حسن وقراءة حسنة مجودة ، فإنه قرأ على الشيخ عبد الرحمن اليمني أحد أئمة القراءة في الديار المصرية ، وكان صاحب الترجمة يقرأ بالألحان والأوزان والأنغام من غير أن يخرج الحروف والكلمات عن حقوقها ، فاستحلى جميع الناس قراءته ، وكانوا في ليالي شهر رمضان يأتون إليه من نواحي حلب للتلذذ بسماع قراءته ، مع المحافظة على الدين والشريعة ، ويعرف الفقه معرفة لا بأس بها وبعض شيء من النحو ، ويقرىء المخاديم الصغار القرآن بالتجويد ، ويعلمهم مقدمات الفقة واللسان الفارسي ، مع الضبط لفقرائه بحيث إن غالبهم محافظون على الشريعة.

وكان لا يموت أحد من الأعيان وغيرهم إلا أحضروه يذكر أمام الجنازة تبركا به ويعظمونه ويعطونه أكثر من غيره.

وكانت الأكابر ترسل بالإحسانات فيبذلها للمريدين ولا يختص بها.

٣٢٣

وصار لزاويته بعض خيرات وصدقات حتى انتظم أمرها. وكان يقيم حلقة الذكر ليلة الجمعة ، فيقرأ مع الجماعة سورة تبارك على أسلوب لطيف تستحليه الناس أرباب الأذواق السليمة ، ثم يذكر مع القوم على أسلوب حسن مع الرضى بالقناعة.

ثم إنه لما مات شيخه في مصر توجه إلى مصر ليأخذ البيعة على الشيخ الجديد ، فقدر الله أن الشيخ الجديد مات وهو في خلال الطريق ، وتولى غيره ، وحضر صاحب الترجمة فعظموه وأجلّوه وأعطوه إجازة أيضا ، فرجع عزيزا جليلا وأقام بحلب إلى أن توفي.

وكانت وفاته في سنة ست وسبعين وألف. ا ه.

٩٩٠ ـ صالح بن نصر الله الطبيب المتوفى سنة ١٠٨١

صالح بن نصر الله ، ويعرف بابن سلّوم بفتح السين المهملة وتشديد اللام ، الحلبي ، رئيس أطباء الدولة العثمانية ونديم السلطان محمد بن إبراهيم ، سيد الأطباء والحكماء وواحد الظرفاء والندماء.

أظهر في فنون الطب كل معنى غريب ، وركبها بمقدمات حسه كل تركيب عجيب ، فأنتج استخراج الأمراض من أوكارها ، وكان كل طبيب يعجز عن إظهارها. كان للطفه إذا جس نبضا يعطيه روح الأرواح ، ويفعل لرقته في النفوس مالا تفعله الراح ، وهذا التعريف لغيري احتجته ، ففي محله أدرجته.

ولد بحلب ونشأ بها وأخذ عن أكابر شيوخها ، واشتغل بالعلوم العقلية وجد في تحصيلها ، حتى برع وغلب عليه الطب.

وكان حسن الصوت ، عارفا بالموسيقى ، صارفا أوقاته في الملاذ ومسالمة أبناء الوقت. ثم تولى مشيخة الأطباء بحلب ، ولم يزل على تلك الحالة حتى رحل إلى الروم واختلط بكبرائها واشتهر أمره بينهم ، ونما حظه حتى وصل خبره إلى السلطان ، فاستدعاه وأعجبه لطف طبعه ، فصيره رئيس الأطباء وأعطاه رتبة قضاء قسطنطينية ، وقربه وأدناه. وبلغ من الإقبال ونفوذ الكلمة مبلغا رفيعا.

وكان في حد ذاته أعجب من رؤي وسمع في لطف البداهة والنكتة والنادرة ، وله رواية

٣٢٤

في الشعر والأخبار واسعة. وكان ينظم الشعر ، ولم أر له إلا هذا المقطوع ، وقد جاء فيه بمضمون لطيف ، وهو :

سقاني من أهوى كلون خدوده

مداما يري سر القلوب مذاعا

ومذ شبب الإبريق في كاس حاننا

أقامت دراويش الحباب سماعا

وألف في الطب تأليفا سماه «برء ساعة». وسمت همته في اقتناص شوارد المكرمات حتى نفع بجاهه كثيرا من أهل دائرته.

ومدحه شعراء العصر ، وأحسن ما رأيت من مدائحه قصيدة مدحه بها صاحبنا المرحوم عبد الباقي بن أحمد السمان الدمشقي ، مستهلها :

بذكرك بعد الله يستفتح الذكر

فما لسواك الآن نهي ولا أمر

(أقول : ثم سرد في الخلاصة أبياتا منها اقتصرتها خوف الإطالة ثم قال) : ومنها :

أمولاي إقبالا لعبد توجهت

إليك به الآمال وصلته الشكر

إذا ما جرى ذكراك في مجلس غدا

يميل كما النشوان مالت به الخمر

ويبخل بالتصريح باسمك غيرة

وحبا وإجلالا وإن علم الأمر

وهل تختفي الشمس المنيرة في الضحى

ويكتم نور البدر أو يستر الفجر

وكانت وفاته بينكي شهر وهو في خدمة السلطان في سنة إحدى وثمانين وألف. ا ه.

٩٩١ ـ محمد غازي الخلوتي المتوفى سنة ١٠٨١

السيد محمد غازي الخلوتي ، الأستاذ العارف بالله تعالى ، خليفة الشيخ إخلاص المقدم ذكره بحلب.

وكان من خلّص عباد الله تعالى ، كثير التعبد والمجاهدة.

ورد دمشق مرتين ، وفي كلتيهما ألقى الله تعالى محبته في قلوب الناس ، وأقبلوا بكليتهم عليه ، وأخذ عنه الطريق جل أهل دمشق ، وكانوا يزدحمون عليه لأجل الطريق فلا يمكنه المبايعة باليد ، فيمسك بيده شاشا طويلا ويرسله إلى خارج الحلقة المزدحمة عليه ، فيقبض

٣٢٥

عليه الناس ويبايعهم. وكنت أنا الفقير ممن جدّد عليه العهد.

وكان نوراني الشكل ، أخذت مهابة الصلاح بجميع أطرافه.

وكان سافر في قدمته الأولى إلى القدس وأخذ عنه بها جمع عظيم أيضا. ولم نر في عصرنا من مشايخ الطرق من أخذ عنه الناس مقدار هذا الشيخ. وبالجملة فهو مسك الختام لحزب الخلوتية في جلالة الشأن والحال والقال.

وكانت وفاته سنة إحدى وثمانين وألف بحلب رحمه‌الله تعالى. ا ه.

٩٩٢ ـ عبد الرحمن بن حسام الدين قاضي حلب المتوفى سنة ١٠٨١

عبد الرحمن بن حسام الدين المعروف بحسام زاده الرومي ، مفتي الدولة العثمانية وواحد الدهر الذي باهت بفضله الأيام ، وتاهت بمعارفه الأزمان.

وكان عالما متبحرا ، كثير الإحاطة بمواد التفسير والعربية ، جم الفائدة ، ممدحا ، كبير الشان. وكل من رأيته من الفضلاء يغلو في تقديمه وحفظ محاسنه ويقول : إنه لم تخرج الروم مثله. (ثم قال) :

ولي تفتيش الأوقاف وباشره أحسن مباشرة ، فاشتهر بالفقه ، حتى نما خبره إلى السلطان مراد فاتصل بجانبه. وبلغني أن العلة في تقربه إليه إتقانه للرمي بالسهام ، ومنه تعلمه السلطان المذكور وأتقنه. ولم يزل مشمولا بعنايته وهو يترقى في المدارس إلى أن وصل إلى المدرسة السليمانية وولي منها قضاء حلب ، فقدم إليها ، وسيرته بها مذكورة مشهورة ، ولأدبائها فيه مدائح كثيرة. وكان الأديب يوسف البديعي الدمشقي نزيل حلب إذ ذاك من خواصه وندماء مجالسه ، وباسمه ألف كتابيه «ذكرى حبيب» و «الصبح المنبي عن حيثية المتنبي» وترجمه بترجمة مستقلة ، وذكر أنه كان بينه وبين النجم الحفاوي مودة أكيدة.

ولم يتفق له نظم شيء من الشعر إلا هذين البيتين قالهما في حق النجم المذكور وهما :

عليك بنجم الدين فالزمه إنه

سيهدي إلى جنس العلوم بلا فصل

بنور اسمه السامي هدي كل عارف

ألا إنه شمس المعارف والفضل

٣٢٦

قال : ولما أنشدهما قلت بديهة مخاطبا شيخنا الحلفاوي بقولي :

كفاك افتخارا أيها النجم إن ذا

المآثر بدر المجد شمس ضحى العدل

حليف العلا نجل الحسام المهذب الذي

عزمه ما زال أمضى من النصل

ومن أشرقت شهباؤنا بعلومه

وزحزح عنها ظلمة الظلم والجهل

حباك ببيتي سودد بل بدرّتي

فخار على أهل المآثر والفضل

ثم نقل من قضاء حلب إلى قضاء الشام ، وقدمها في منتصف شعبان سنة إحدى وخمسين وألف ، وله فيها مآثر ما زالت تتداولها الشفاه وتتناقلها الرواه. ولما وردها صحبة البديعي المذكور فصيره نائبا بالمحكمة العونية. وكان في خدمته أيضا الأديب الفائق المشهور مصطفى بن عثمان المعروف بالبابي ، وهو القائل فيه من قصيدة مستهلها :

هو الشوق حتى يستوي القرب والبعد

وصدق الوفا حتى كانّ القلى ودّ

يقول من جملتها في مدحه :

همام تناجينا مخايل عزمه

بأن إليه يرجع الحل والعقد

وأن على أعتابه تقصر العلا

وأن إلى آرائه ينتهي الجد

همت راحتاه للعدا وعفاته

فمن هذه سم ومن هذه شهد

من القوم قد صانوا حمى حوزة العلا

طريفا وصانتهم معاليهم التلد

هنالك ألقى رحله البأس والندى

وألقى عصا التسيار واستوطن المجد

حديقة فضل لا يصوّح نبتها

ونهر عطاء ما لسائله رد

ورقة أخلاق يسير بها الصبا

وبأس له ترمي فرائسها الأسد

قطفنا جنى جدواه حينا ولم يزل

علينا له ظل من السير ممتد

وغاب وعندي من أياديه شاهد

وواعجبا من أين لي بعدها عند

وآب فلا ورد البشاشة ناضب

لديه ولا باب المكارم منسد

فيا أوبة ذابت لها كبد النوى

لأنت برغم البعد في كبدي برد

وفاء بلا وعد من الدهر حيث لم

يكن قبل قسطنطينة باللقا وعد

أروض اللقا والله يبقيك أخضرا

أبن لي هل آس نباتك أم ورد

هنيئا لقسطنطينة الروم قد قضت

لبانتها واسترجع المنصل الغمد

٣٢٧

أرانيه فيه الله والدهر لائذ

بأعتابه ما الوفد يزحمه الوفد

وهي قصيدة لطيفة المسلك ، وستأتي تتمة غزلها في ترجمة البابي. (ثم قال) :

وصار قاضي دار السلطنة ، ثم قاضيا بعسكر أناطولي ، ثم قاضيا بولاية الروم. وتولى في عدة مناصب آخرها قضاء مصر ، وبها توفي سنة إحدى وثمانين وألف. ا ه.

٩٩٣ ـ محمود بن عبد الله الموصلي المتوفى سنة ١٠٨٢

محمود بن عبد الله الموصلي الحنفي ، مفتي الموصل ورئيسها المشهور عند الخاص والعام بالعلوم الشرعية والفنون العقلية.

ولد بالموصل وبها نشأ ، واشتغل بالعلوم وتفنن في علم النظر والكلام والحكمة ، وبرع في جميع ذلك.

ورحل إلى حلب وأقام بها مدة ، وأخذ بها عن النجم الحلفاوي وإبراهيم الكردي وأبي الوفا العرضي والجمال البابولي وغيرهم وأجازوه.

ورجع إلى بلده ومكث مدة ، ورحل إلى الديار الرومية وحظي عند الصدر الفاضل وبقية كبرائها ، وأخذ عن جمع بها. وولي إفتاة بلده الموصل ، ورجع إليها وأقام بها يشتغل بإقراء العلوم ، وتخرج به جماعة. وكانت المسائل المشكلة ترد عليه فيجيب عنها بأحسن جواب وأتقن خطاب.

وكان عارفا بالعربية والفارسية والتركية. وله تصانيف ، منها «حاشية على التلويح» و «حاشية على البيضاوي» ونظم حسن.

وكان سهلا ذا دين متين وتقوى ويقين ، صادق اللهجة ، مواظبا على السنن النبوية والنوافل الشرعية ، حسن السمت رقيق القلب كامل العقل معتقدا للسادة الصوفية.

وحج في سنة إحدى وثمانين وألف ، وأخذ عنه جماعة بالحرمين ، منهم صاحبنا الفاضل الأديب والكامل الأريب الشيخ مصطفى بن فتح الله وطلب منه أن يجيزه ، فأجابه بديهة بقوله :

إني أجزت المصطفى الفتحي بما

أرويه عن أشياخ أهل الموصل

٣٢٨

ومحققي أهل العراق وجلّق

والروم والشهباء أكرم منزل

وبكل ما ألفته ونظمته

ونقلته عن كل عذب المنهل

وبما يطول إذا ذكرت جميعه

بل بعضه فكفايتي بالأفضل

أعني البخاريّ الصحيح ومسلما

وبقية الست الشهيرة فانقل

عن شيخنا العرضي وهو أبو الوفا

عن عالم الشهبا الإمام الأفضل

عمر أبيه عن أبيه ذي التقى

عبد لوهّاب عن الشيخ الولي

زكريّنا عن حافظ الدنيا

شهاب الدين أحمد ابن سيدنا علي

العسقلاني الحافظ الحبر الذي

ينهى إليه كل ذي سند علي

وجميع ما يرويه في فهرسته

أطلبه فيه تجده ثمة وادع لي

ولما رجع من الحج توفي بحلب ودفن بها. وكانت وفاته في سنة اثنتين وثمانين وألف عن ثلاث وثمانين سنة تقريبا. ا ه.

٩٩٤ ـ محمد بن فتح الله البيلوني المتوفى سنة ١٠٨٥

محمد بن فتح الله بن محمود بن محمد بن محمد بن حسن البيلوني الحلبي القاضي أبو مفلح.

كان غرة في جبهة الفضل ، كثير الأدب ، راوية للشعر والوقائع ، خبيرا بصنعة النقد ، غواصا على دقائق الأدب.

ولد بحلب وبها نشأ وتأدب بوالده فتح الله المقدم ذكره. ورحل إلى الروم وسلك طريق القضاء ، فولي المناصب الستة في إقليم مصر.

وقد ذكره الفيومي في المنتزه فقال في وصفه : فاضل ركعت أقلامه في المحابر ، وسجدت في محاريب الدفاتر ، فطرّزت فلك الأوراق ، بما لذ وراق ، من نثر تغار منه النجوم ، وشعر كأنه عقد الدرّ المنظوم. ثم أورد له قوله من قصيدة مطلعها :

وجه يقابلني لكنه قمر

في الليل يطلع لكن ليله شعر

نظرته فسطا في القلب ناظره

ورب حتف به قد أوقع النظر

لله ما صنعت بي وجنتاه ومن

للنار يقرب لا ينفك يستعر

٣٢٩

ظبي سبى اللب إلا أنه ملك

من الملائك لكن طبعه بشر

ولم يزد على هذا القدر ، وأنا رأيت القصيدة في مدائح يحيى التي جمعها التقي فاخترت منها قدرا وهو :

علقته بدويا راق منطقه

ورق حتى استعارت دلّه أخر

للسحر من لحظه معنى بقوته

عن العقول صواب الرأي مستتر

ما شاقني قبل رؤيا شكله قمر

ولم يشم بعد ريا نعله عطر

جم المحاسن معسول الدلال له ال

قد الذي خصره لا يدرك البصر

لا عيب فيه سوى أن المحاسن من

دون الأنام جميعا فيه تنحصر

عن كأسه خده سل يا نديم لكي

ينبيك أن الحميّامنه تعتصر

وانظم محاسنه درا كمبسمه

منه كدمعك در اللفظ ينتثر

الله أكبر ما هذا الفتى بشر

ولا تشاكله في ذاته الصور

لكنه سر صنع الله أبرزه

فلا يحيط به عقل ولا فكر

كم ليلة بت والأشواق تلعب بي

والفكر سامرني والنجم والسهر

تعذب القلب آمال الوصال دجى

حتى فؤادي كضوء الصبح ينفجر

لا الحب دان ولا وعد أسر به

ولا فؤاد عن الأشواق ينزجر

إذا تذكرت أيام الألى سلفت

يسيل من عبراتي السهل والوعر

أيام أنسي التي كان الزمان بها

في غفلة ليس تدري شأنها الغير

وكلما خطرت أمنية قضيت

ويكمل السعد لما يحصل الوطر

هذا الذي ذكره أنسى الحياة إلى

أن صرت حيا مع الأموات أدّكر

لا الشوق ينسي ولا دهري يعود بما

قد كان منه وليس القلب يصطبر

لكنها حسرة تبدو لسفك دمي

بها وإن دما أهل الهوى هدر

منها في المدح :

يكاد بدر الدجى ينمى لطلعته

لو كان يمشي على وجه الثرى القمر

قضى الإله بأن يفدى بحاسده

فما له حاسد باق له عمر

والدهر لو أنه ناواه لانقلصت

ظلاله ورأينا الناس قد حشروا

٣٣٠

وله من قصيدة أخرى أولها :

دمت يا مربع الأحبة تندى

كاسيا بالزهور بردا فبردا

يا له مربعا إذا جاده

النوء فساقي الصبوح يقطف وردا

وإذا انساب في جداوله الماء

حساما جلى النسيم الفرندا

جنة والغصون في حلل

الأزهار حور بها ترنح قدا

وتهادى معاطف البان سكرا

بتهادي العناق أخذا وردا

وتدير الصبا كؤوس شذا النور

على نغمة البلابل سردا

كيف جزت الطريق جوزا ومن

خوفك دمعي بالسيل يسلك سدا

لو رعيت العهود أحسنت لكن

قلما تحفظ المليحة عهدا

وله من أخرى مطلعها :

صبابة لا اصطبار يضمرها

ومهجة لا خليل يعذرها

ودمعة لا الزفير ينضبها

وزفرة لا الدموع تضمرها

وعشقة قد أبان أولها

أن هلاك المحب آخرها

فكل نار إذا علت خمدت

سوى التي جمره تسعرها

ويح جريح اللحاظ علته

في الطب حيث الطبيب خنجرها

تبات عين الحبيب ليلته

كالنجم لكن أبيت أسهرها

لو لا الكرى قامت مرنحة

لم تك أيدي الجفون تهصرها

لي زفرة لم أزل أصعّدها

ودمعة لم أزل أقطّرها

ما العشق إلا كالكيمياء أنا

دون جميع الأنام جابرها

تبسم إن كلمت مشاكلها

ودر دمعي غدا يناظرها

هيفاء ما الغصن مثل قامتها

لكن أعطافه أشايرها

أعشق من أجلها الكثيب إذا

تضم أمثاله مآزرها

وأحسد البدر في محبتها

فغيره لا يكاد ينظرها

وألثم المسك والعبير عسى

يكون مما فتت ضفائرها

لله ما في الهوى أعالج من

لواعج في الهوى أصابرها

يا حبذا خلسة ظفرت بها

في غفلة للزمان أشكرها

٣٣١

حيث لعهد غدت تمدّيدا

لم تدر أسرارها أساورها

يسألها خاطري الوصال ولا

يجيب عنه إلا خواطرها

ليت ليالي الوصال لو رجعت

أو ليت قلبي معي فيذكرها

ومن مقطوعاته قوله :

لا تلم من شكا الزمان وإن لم

تشف شكواه علة المجهود

إنما يحوج الكرام لشكوى

شوق ما في طباعهم من جود

وله غير ذلك.

وكانت وفاته في سنة خمس وثمانين وألف. والبيلوني تقدم الكلام عليها في ترجمة والده.

ا ه.

٩٩٥ ـ موسى الرامحمداني المتوفى سنة ١٠٨٩

السيد موسى الرام حمداني الحلبي البصير الشافعي المذهب ، فاضل حلب وأديبها.

ولد برام حمدان من قرى حلب ، ثم توطن حلب واشتغل بتحصيل الفنون حتى تفنن في العلوم الرياضيات وبرع في العلوم الحكمية ، وأما معرفته بعلم الحرف فإنه المتصرف فيه. وكان مطلعا على مواقع العرب وغرر الأخبار ، وهو في ذلك بحر زاخر ليس له قرار ، وأما علم الأدب والشعر فقد أبدع فيه غرائب أنواع السحر.

وكان من المنتصرين لأبي العلاء المعري ويحفظ أكثر شعره ويرويه ، ويكره كل من يذم أو يسيء الظن فيه ، وإذا ذكر في مجلسه يمدحه غاية المدح ويقول : هل خلا كامل غيره من القدح ، ويقول : جميع ما نسب إليه من الأقوال المذمومة افتراء عليه ، ويقيم الأدلة على ذلك وينشد له من الشعر ما يناقض ما هنالك.

وله مؤلفات منها «نظم الأسماء الحسنى» يدل على علو مقامه.

وذكره البديعي فقال في وصفه : فاضل تقتبس مشكاة الصلاح من نوره ، وتطلب الهداية من جانب طوره. وموشحاته وشحت كل جمع ، وقرعت كل سمع. ومن خوارقه أنه بعد ما بلغ أشدّه ، خاض بحر القريض واستمده ، والشاعر يقول في المعنى :

٣٣٢

وماذا يطلب الشعراء مني

وقد جاوزت حد الأربعين *

وقد أشار إليه السيد أحمد بن النقيب في مكاتبة كتبها إليه يقول فيها :

قسما بمن جعل الفضائل والمعالي حشو بردك

وحباك منه قريحة كعصا سميّك في أشدك

أبطلت سحر بني القريض بها فكنت نسيج وحدك

فتلقفت ما يصنعون فآمنوا رغما بمجدك

إن القوافي قد ملكت زمامها بعلو جدّك

وأخذت كل فريدة منها تضيء بسمط عقدك

وبلغت منه ما تروم فلم يصل أحد لجدك

فلأنت في شهبائها ملك القريض برغم ضدك

فاسلم ولا رميت بنو الآداب في حلب بفقدك

فأجابه بقصيدة طويلة منها :

فوق الشداد تشرّعت يا ابن النقيب قباب مجدك

وأطاعك الشرف الرفيع فأنت فيه نسيج وحدك

أتعبت جد بني العلوم فقصروا عن نيل جدك

وغدوت ترفل في العلا تيها وترغم أنف ضدك

قال : وأخبرني السيد يحيى الصادقي أن السيد موسى انتحل شيئا من شعره فقال يداعبه :

أقسمت بالسحر الحلال

وحرمة الأدب الخطير

ومجالس الأنس التي

عقدت على عقد السرور

إن كان موسى ذو الأيادي

البيض والأدب الغزير

لم يرجع المغصوب

من شعري وما أبدى ضميري

لأذيقه مر العتاب

لدى الكبير مع الصغير

بل والخصام لدى الهمام

رئيسنا صدر الصدور

وأصوغ من درر القوافي

عقد لوم مستنير

__________________

(*) البيت لسحيم بن وثيل ، وروايته : وماذا يدّري ...

٣٣٣

ينسي أولي الألباب ما فعل الفرزدق مع جرير

فأجابه بقصيدة طويلة منها :

مالي وللقنص الصريح وهمتي صقر الصقور

وعصاي طوع يديّ تلقف كل سحر مستطير

إن ألقها انبجست عيون المجد من صم الصخور

وبها على الدر الثمين أغوص في لجج البحور

ولي اليد البيضاء بين الجمع والجم الغفير

أستغفر الرحمن حاضرة لدى المولى الكبير

نجل الحسام المستبد برأيه الليث الهصور

من شرّفت حلب به وعلت على هام النسور

إن كان ما زعموه حقا فهو أدرى بالأمور

ومما وقفت عليه أنا الفقير من شعره هذه القصيدة يمدح بها النجم محمد الحلفاوي خطيب حلب فقال :

حيا الحيا حلب العواصم والقلاع الأعصميّه

وسقى معالمها الممنعة المحصنة الأبيّه

وتداركتها بالعناية كل ألطاف خفيّه

بلد تكنفها الحدائق والرياض الأريضيه

فاحت على أرجائها نفحات أنهار زهيه

وترنحت عرصاتها بالرائحات المندليه

وتقمصت أبناؤها حللا من الزلفى العليه

ولمائها وهوائها وبنائها أوفى مزيه

فاقت على الدنيا فوافق إسمها حلب العديه

بلد هي الملك المطاع وكل مملكة رعيه

زهر النجوم لنجمها السامي الذرى خضعت وليه

نجم الهداية والدراية والأسانيد القويه

٣٣٤

واللوذعي الألمعي السيد الوافي العطيه

لما استهل نواله الغمر الذي غمر البريه

صدحت بلابل روضها سرحا بأصوات شجيه

عقدت بأعناق العفاة شوارد المنن الخفيه

غرر القلائد والقصائد والعقود الجوهريه

ضاهى بها السبع الشداد على منازله العليه

وكواكب الجوزاء تشهد أن رتبته سنيه

وتلوّنت شمس الظهيرة عند غرته المضيه

وتواضع القمر المنير لحسن طلعته البهيه

وتمنت الأفلاك لو دارت بحضرته المليه

ألقت أعنتها العلوم إليه وانقادت أبيه

وسعت لناديه أبيّات العلوم الفلسفيه

فالفضل كل الفضل من فحوى فتاويه الجليه

والجود كل الجود من جدوى أياديه النديه

مولى يعامل من أساء بحسن أخلاق رضيه

ويصدّ عن كيد الحسود رجا الحظوظ الأخرويه

ويرد من خوف الإله عن الأمور الدنيويه

ماتت بغيظهم العدا كمدا وأنفسهم سخيه

يا زهرة الدنيا فداؤك كل نفس موسويه

وكما تحب وقتك آرام الظباء العيسويه

ومنحت ما تختار من لثم الشفاه الألعسيه

وسقتك من خمر اللمى كأس الثغور الأشنبيه

وسلمت يا مولاي من سحر اللحاظ البابليه

ومنيت ما تهواه من هصر الخصور الخاتميه

وغنتك سودات المحاجر بالبنان العندميه

وتمايلت شوقا لجبهتك القدود السمهريه

٣٣٥

ورنت لرؤيتك اللحاظ الناعسات الجؤذريه

يا عالم الدنيا نداك على البوادي والبريه

واذكر حليفك بل أليفك في الديار الأجنبيه *

وانظر نديمك بل خديمك في الربوع الأنعميه

واعذر كليمك ما طوى تلك الدروس الطورويه

وادي المزار ولا مزار إذا تعرّضت المنيه

واجمع تبدد شملنا بك والليالي الأسعديه

فهوا كما لم يبق لي فرط الغرام به بقيه

فإذا تشاء منازلي يا غايتي منه الدنيه

وعلام أعتب إن رضيت لي المقامات القضيه

بجوار قوم مرملين من الخلال الآدميه

لا مصر داري يا همام ولا مرابعها العليه

كلا ولا لي ما حييت بجلّق والكرخ نيه

إلا جوارك منيتي وكذا مراتعه الشهيه

حيث الأخلاء الكرام ذوو المروءات الوفيه **

راق النسيم تلطفا بهم ورقّتهم سجيه

لا خانك الدهر الخؤون ولا منتك يد المنيه

وسلمت من غدر الزمان ولا مليك به مليه

فعليك مني ما ترنم طائر أزكى تحيه

مفتوقة بشذا العبير ونافحات عنبريه

واسلم ودم يدم الزمان فأنت ميزان البريه

وله أيضا في وصف الأخوة :

خليلي من إن جئت طالب مقصد

كفاني مؤونات المطالب والقصد

وإن صممت خيلي على شن غارة

وقى شرها مما يشين وما يردي

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : الديار الأحسنية.

(**) في الأصل وفي خلاصة الأثر : ذوي ...

٣٣٦

وإن نابني خطب من الدهر هائل

تولى معاناة الخطوب بما يجدي

وإن أسلمتني للردى شقة الردى

أقام بأقوام جرت بيننا بعدي

فذاك خليلي إن ظفرت بمثله

فرشت مراعاة لمرضاته خدي

وأشغلت بالي في منامي ويقظتي

بما يرتضيه حالة القرب والبعد

وأسهرت ليلي في صلاح شؤونه

وعنه جبال الضيم أحملها وحدي

وكنت له حصنا منيعا وموئلا

وصنت بنفسي نفسه صولة الأسد

فإني ما أديت ما يستحقه

ولو طاقتي فيه بذلت مع الجهد

ومن أين للأيام عين بأن ترى

لذلك مثلا لا يكون بلا ندّ

ومن مقاطيعه أيضا قوله وأجاد :

أشد من الموت الزؤام مرارة

وأصعب من قيد الهوان وحبسه

معاشرة الإنسان من لا يطيقه

وحشر الفتى مع غير أبناء جنسه

وله غير ذلك (١).

وكانت وفاته في سنة تسع وثمانين بعد الألف بحلب رحمه‌الله تعالى.

٩٩٦ ـ رجب بن حجازي المتوفى سنة ١٠٩١

رجب بن حجازي ، الحمصي الأصل الدمشقي المولد ، المعروف بالحريري ، الشاعر الزجّال.

كان صحيح التخيل في الأشياء ، إلا أنه يغلب عليه جانب الهجو في تخيله والإزراء حتى بنفسه ، جيد النقد في الشعر مع أنه لا يعرف العربية ، وزّانا بالطبع وإن عرف شيئا من العروض ، وأميل ما كان في أقسام الشعر إلى الهجاء ، وله فيه نوادر عجيبة ، وله كثير من الأزجال والرباعيات والمواليا والموشحات والتواريخ والأحاجي ، وكل ذلك كان يقع له من غير تكلف روية بحيث إنه في ساعة واحدة ينظم مائة بيت ، ومثلها قطعة أو قطعتين من الزجل والموشح ، وقس على ذلك البواقي.

__________________

(١) منها مجموع قصائد في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكتبة برلين ، ذكره جرجي زيدان في آداب اللغة العربية (ج ٣ ص ٢٧٨).

٣٣٧

وكان قليل الحظ كثير السياحة ، لم يسعه مكان ولم يقر له قرار ، وكانت سياحته مقصورة على حلب ومصر ودائرة الشام. وحج وجاور بالحرمين سنتين.

ولم يزل شاكيا من دهره باكيا على سوء بخته. ورأيت له أشعارا كثيرة غالبها شكاية وهجو ، وأما غزله فقليل ، ومن أعذبه قوله من قصيدة مطلعها :

فيض المدامع نار وجدي ما طفا

بل زدت منه تلهبا وتلهفا

وجوى أذاب جوانحي وجوارحي

وهوى على السلوان صال وألفا

ومن النوى لي لوعة لو بعضها

في يذبل أمسى رغاما أو عفا

رق الصبا لصبابتي وبكى على

حالي الحمام ولان لي قلب الصفا

والسقم واصل مهجتي لفراق من

أحببته لو عاد لي عاد الشفا

من راحمي من مسعفي من مسعدي

أفديك مالك مهجتي زر مدنفا

يا من بطلعته وسحر جفونه

بهر الغزالة والغزال الأوطفا

بشمائل فوق الشمول لطافة

منها ثملت وما شربت القرقفا

وبورد خد فوق بانة قامة

يحميه نرجس ناظر أن يقطفا

وبراحة بين العقيق ولؤلؤ

إسمح ودعني كأسها أن أرشفا

أرفق بصب قد أصبت فؤاده

ودع التجنب والتجني والجفا

ونباكر الروض الأريض فقد حكى

طيب الجنان نضارة وتزخرفا

والمزن أضحكه ونضّر وجهه

وكساه بردا بالزهور مفوّفا

وقوله من قصيدة أخرى مستهلها :

أبى القلب إلا غراما ووجدا

وطرفي إلا بكاء وسهدا

فلم يبرح الصب تبريحه

ولا الدمع راق ولم يطف وقدا

فلو لا النوى ما ألفت البكا

ولا كان بالسقم جسمي تردّى

ولا بت أرعى نجوم الدجى

ولا كان عني منامي تعدّى

فأواه صبري مضى لم يعد

وأما اشتياقي فلم يحص عدا

ومالي معين سوى أدمعي

وقلب لصد الهوى ما تصدّى

فلو بالكواكب ما بي هوت

وإلا على يذبل كان هدّا

يذكّرني ساجعات الرياض

حبيبا وربعا ربيعا وودّا

٣٣٨

وما كنت أنسى ولكن تزيد

ولوعي قربا وصبري بعدا

رعى الله ربعا نعمنا به

وعهدا ألفناه حياه عهدا

فما راقني بعده منزل

ولا طاب عيشا ولا راق وردا

وله غير ذلك.

وكانت وفاته بحلب سنة إحدى وتسعين وألف. ا ه.

٩٩٧ ـ عطاء الله بن محمود الصادقي المتوفى سنة ١٠٩١

السيد عطاء الله بن محمود المعروف بالصادقي الحلبي القاضي.

كان من أدباء العصر الفائقين ، وله منادمة مبهجة ، وشعره بديع الصبغة والصنعة رقيق النادرة.

ولي القضاء في عدة بلاد إلى أن وصل إلى قضاء الموصل ، وفيها نظم أبياته المشهورة اللطيفة الموقع يشير فيها إلى بيتين للأمير شرف الدولة أبي الفضل بن منقذ ، وأبياته هي قوله :

ومعذّر حلو اللمى قبلته

نظرا إلى ذاك الجمال الأول

وطلبت منه وصله فأجابني

ولّى زمان تعطّفي وتدللي

نضبت مياه الحسن من خدي وقد

ذهب الروا من غصن قدي الأعدل

قلت الحديقة ليس يحسن وصفها

إلا إذا حفّت بنبت مبقل

ويك اتبع قول ابن منقذ طائعا

واعلم بأني صرت قاضي موصل

وبيتا ابن منقذهما :

كتب العذار على صحيفة خده

سطرا يحيّر ناظر المتأمل

بالغت في استخراجه فوجدته

لا رأي إلا رأي أهل الموصل

وأصل هذا ما شاع عن أهل الموصل أنهم لا يهوون إلا المعذّر ، وربما بالغ بعضهم فقال : نحن قوم إذا سمحنا في طريق المحبة بنوال لا نسمح إلا لمن ينفق على عياله.

وكانت وفاة الصادقي في سنة إحدى وتسعين وألف. ا ه.

٣٣٩

٩٩٨ ـ مصطفى بن طه المتوفى سنة ١٠٩١

مصطفى بن طه الحلبي ، نقيب الأشراف بحلب وأحد رؤسائها.

وكان شهما جسورا خبيرا بأمور الناس ، له أنفة وحرمة. ورأس بحلب مدة ، وكان يراجع في المهام ، وولي قسمة العسكر بها وسما ، وكان الباعث لسموه مصاهرته للمولى صالح رئيس الأطباء ونديم السلطان محمد. ا ه (لم يذكر مولده ووفاته) وقد كانت سنة ١٠٩١.

٩٩٩ ـ مصطفى بن عبد الملك البابي الشاعر المشهور المتوفى سنة ١٠٩١

مصطفى بن عبد الملك ، وقيل عثمان ، البابي الحلبي الأديب المتمكن من المعارف.

وكان من أجلّ فضلاء الدهر ، وأوحد أدباء العصر ، وبالجملة ففضله يجل عن التعريف ، وأدبه غير محتاج إلى التوصيف.

نشأ بحلب وأخذ بها العلوم عن جمع من أجلهم الشيخ أبو الجود البتروني والنجم الحلفاوي والشيخ أبو الوفا العرضي والمنلا إبراهيم الكردي والشيخ جمال الدين البابولي. ودخل دمشق صحبة ابن الحسام قاضي القضاة بدمشق في سنة إحدى وخمسين وألف ، وأخذ بها عن الشيخ عبد الرحمن العمادي والنجم الغزي وأجازه مشايخه.

ورحل إلى الديار الرومية فدرس بها وانتفع به جماعة من فضلائها. ثم سلك طريق الموالي وتولى قضاء طرابلس الشام ثم مغنيسا ثم بغداد ثم المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام في سنة إحدى وتسعين. وحج في هذه السنة فتوفي بمكة.

وأشعاره كلها نفيسة فائقة مطربة رائعة ، وهي في الجزالة والفصاحة فوق شعر المفلقين من المتقدمين ، وفي الرشاقة وحسن التخيل تفوق قول المجيدين من المحدثين (١). وها أنا أتلو عليك منه ما به الأرواح تنتعش ، والجمادات ترتعش ، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها ابن الحسام القاضي :

سرى عائدا حيث الضنى راع عوّدى

سرى البدر طيف بالدجنة مرتد

__________________

(١) أقول : طبع ديوانه في بيروت سنة ١٨٧٢ م في ٦٠ صحيفة ، وهو الآن نادر.

٣٤٠