إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

للصلاة عليها إماما ، فكبر خمسا ، فقال فيه السيد أحمد بن النقيب هذه :

ومذ مصطفى صلى صلاة جنازة

وكبّر خمسا أعلن الناس لعنه

فقلت اعذروه إنه قلّد الندى

ومن قبل في الفتوى لقد قلّد ابنه

يشير إلى قول أبي تمام في قصيدته التي رثى بها إدريس بن بدر ومطلعها :

دموع أجابت داعي الحزن همّع

توصّل منا عن قلوب تقطّع

إلى أن قال :

ولم أنس سعي الجود خلف سريره

بأكسف بال يستقيم ويطلع

وتكبيره خمسا عليه معالنا

وإن كان تكبير المصلين أربع

وما كنت أدري يعلم الله قبلها

بأن الندى في أهله يتشيع

وقوله : ومن قبل في الفتوى إلخ إشارة إلى كاتب أسئلته الذي ذكرناه على طريق الاستخدام ، وهذا المقطوع من سحر الكلام.

٩٧٩ ـ محمد بن عبد الوهاب المهمندار المتوفى سنة ١٠٦٠

محمد بن عبد الوهاب بن تقي الدين المعروف بابن المهمندار الحلبي الحنفي ، والد شيخنا العالم الفهامة أحمد مفتي الشام الآن ، وزبدة من بها من العلماء ذوي الشان. لا برحت فضائله ملهج ألسنة الوصاف ، وفواضله مظنة الإطراء والإتحاف.

كان المذكور من أشهر مشاهير العلماء ، له بسطة باع في الفنون ، ويد طائلة في التحرير والتهذيب. قرأ بحلب على علمائها الأجلاء ، منهم الشيخ عمر العرضي ، وخرج وهو متقن متضلع. ودخل دمشق في سنة أربع وثلاثين وألف ، ثم هاجر إلى الروم وتوطنها ودرس بها العلوم وانتفع به جماعة. ثم لازم من المولى يحيى وصيّره شيخا لابنه المولى عبد القادر ، ثم استخلصه المولى صادق محمد بن أبي السعود لنفسه وقرأ عليه وانتفع به ، وبه شاع ذكره واشتهر بين موالي الروم. ثم درس بمدارس الخلافة إلى أن وصل إلى مدرسة والدة السلطان مراد فاتح بغداد ، وولي منها قضاء مدينة أيوب.

٢٨١

وله من التآليف رسالة في المعاني ، وله تحريرات كثيرة وتنميقات لطيفة.

وكانت وفاته وهو قاض بأيوب في سنة ستين وألف عن اثنتين وستين سنة رحمه‌الله تعالى.

٩٨٠ ـ محمد بن أبي بكر التقوي الحراكي المتوفى سنة ١٠٦١

السيد محمد الشهير بالتقوي الحلبي الفاضل ، الأديب الحكيم البارع.

ذكره البديعي وقال فيه : حديث مجده قديم ، يغني عن الكاس والنديم ، ودر كلمه النظيم ، جار على أسلوب الحكيم. وقد عام في لجج دراية الأفلاك ، ووقف على ساحل نهاية الإدراك ، وابتدع من الأشياء العجاب ، ما لم يبتدعه قبله ابن داب. وله خط كأنه در ، تزينه ألفاظه الغر. ثم أنشد قوله :

قد جدد الشوق الشديد خيالكم

بجوارحي وضمائري وسرائري

فإذا نظرت إلى الوجود رأيتكم

في كل موجود عيان الخاطر

وقوله :

قد قسّم الحب جسمي في محبتكم

حتى تجزّا بحيث الجسم ينقسم

وما تصورت موجودا ومنعدما

إلا خيالكم الموجود والعدم

وقوله من قصيدة طويلة مدح بها الوزير نصوح باشا ومطلعها :

حيّاك سرحة دارة الآرام

وحباك ديمة مزنة وغمام

إلى أن قال فيها :

ذاك النصوح أبو الوزارة من رقى

فلك العلا وعلا على بهرام

ومنها :

تجري الأمور بوفق ما يختاره

ويطيعه العاصي بكل مرام

فكأنما الأقدار طوع يمينه

بعد المهيمن في قضا الأحكام

قطب تدور عليه دولة أحمد

ملك الدنا بالحل والإبرام

٢٨٢

هابته أنفاس النفوس بأسرها

في الناس بعد العالم العلام

ولبأس شدّته الأسود تشردت

وتسترت في الغاب والآجام

ومنها :

يلقاك بالبشر الذي من نشره

ريح المنى يسري بطيب بشام

بخلائق تكسو الرياض خلائقا

فتضيع ريا مندل وخزام

ويريك من رضوان عدل جنة

فيها لحرب البغي نار ضرام

ومنها :

يا أيها الطود العظيم وصاحب

الطول الجسيم وجوشن الإسلام

ألبست من حلل الوزارة خلعة

قنع الألى منها بطيف منام

ومنها :

ما دار في فلك المدير مداره

إلا لنصرك في ألذ خصام

إلى أن قال في آخرها :

كتبت مدائحك الليالي أشطرا

تبقى بقيت على مدى الأيام

وقلت أنا الفقير في ترجمته : حكيم أخذ حظه من الحكمة فنطق بها والحكمة حظ النفس الناطقة ، فما سرى ذهنه في استقصاء غرض إلا وكانت الصحة له موافقة؟؟؟ عالج نسيم الصبا لما اعتل في سحره ، والجفن المريض لزانه وزاد في حوره.

ولو أنه طب الزمان بعلمه

لبرّاه من داء الجهالة بالعلم

حكى لي المرحوم السيد عبد الله الحجازي قال : رأيته وقد ملك كامل الصناعة ، وبلغ الغرض في البلاغة والبراعة ، وأملى مالا يسع ، واعتدلت معه الطبائع الأربع ، وفصل الموجز بفصيح العبارات ، وعلم الأسباب منها والعلامات ، فأويت منه إلى فاضل جمع شمل الفضل بعد شتاته ، وردّ في جسد الأدب روح حياته ، وأخذت عنه جملة من فنونه ، وتمتعت حينا بمصونه ومخزونه. وكان على أسلوب الحكيم ، ومشرب النديم ، ولهذا كثر القول في اعتقاده ، حتى صرح كثير بإلحاده. وقد وقفت له على قصيدة أثبت منها هذا القدر ، ومستهلها قوله :

٢٨٣

سرت والليل محلول الوشاح

ونسر الجو مبلول الجناح

وعقد الزهر منتظم الدراري

كثغر البيض يبسم عن أقاح

وزاهي الروض أسفر عن زهور

بها ظمأ إلى ماء الصباح

كأن كواكب الظلماء روم

على دهم تهب إلى الكفاح

إذا انعكست أشعتها تردت

على صفحات غدران البطاح

تحاول ستر مسراها بوهن

وقد أرجت برياها النواحي

فوا عجبا أتخفى وهي بدر

وشمس في الحظائر والضواحي

أما علمت عبير المسك منها

ينم بها إلى واش ولاح

مهفهفة يغار البدر منها

ويخجل قدها هيف الرماح

تمازج حبها بدمي وروحي

مزاج الراح بالماء القراح

فأصبح في الملا طبعي وخلقي

وما في الطبع عنه من براح

كأن الله لم يخلق فؤادي

لغير الوجد بالخود الرداح

أحن إلى هواها وهو حتفي

كما حن السقيم إلى الصلاح

وأصبر والصبابة برّحتني

وأنحلت الجوارح بالبراح

فلولا الطمر يمسك من خيالي

لطار من النحول مع الرياح

أبث لطرفها شكوى فؤادي

وهل يشكو الجريح إلى السلاح

وأطمع أن يزايلني هواها

وهل حذر من المقدور ماحي

فلا تأوي لكسرة ناظريها

فكم ألوت بألباب صحاح

أفق يا حب ليس الحب سهلا

فكم جدّ تولّد من مزاح

رويدك كم تبيت تئن وجدا

كما أنّ الطعين من الجراح

وقائلة أرى نجما تبدّى

بليل عوارض كالصبح ضاح

أبعد الشيب تمزح بالتصابي

وتمرح في برود الإفتضاح

فما ماضي الشباب بمسترد

ولا الخسران يسمح بالرباح

فدع حب الغواني فهو غي

وتفنيد يحيد عن الفلاح

وكانت وفاته في سنة إحدى وستين وألف بأسحقلي قريب من قونية وهو راجع من قسطنطينية. ا ه.

٢٨٤

ورأيت له ترجمة في مجموعة عند الشيخ يوسف الجمالي قال فيها :

السيد محمد تقي الدين بن أبي بكر بن إبراهيم بن أحمد بن محمد الحراكي السيد الشريف ، وبقية النسب نجدها في ترجمة جده إبراهيم بن أحمد المتوفى في أوائل القرن العاشر. كان جوادا فياضا ذا حشمة ورياسة وملقى رحب وصدر واسع ، لا يشك من يراه أنه من السلالة الطاهرة ، له السماحة الزائدة والثروة العظيمة والخدم الزائد والحشم. بنى دارا بالقرب من حمّام الذهب داخل باب النيرب وأحكم بنيانها وشيد أركانها ، فهي دالة على شرف بانيها وعلو شأن أهاليها. نشأ في حجر والده أبي بكر ، ثم سافر إلى مصر وتكرر سفره إليها واشتغل بها على الشيخ محمد السهلي في فقه الشافعية ، واعتنى بمطالعة كتب التواريخ حتى كان يحفظ غالب أخبار السلف. ثم جلس بحلب وأخذ له حجرة بخان الخرّاطين وصار يهرع إليه الأخوان والمحبون ، وجعل له واحدا يسافر إلى مصر وآخر يسافر إلى اليمن. ثم أصيب بماله بأن فتحت حجرته بالخان المذكور. عرض عليه الجمالي يوسف في مرضه الذي مات فيه أن يكون نقيبا عن السادات الأشراف من بعده فأبى. ا ه. (من مجموعة عند الشيخ يوسف الجمالي).

وترجمه الشيخ محمد العرضي في كتابه الذي ترجم فيه أعيان عصره ونقل عن نسخة نقلت عن خطه قال : التقوي الحراكي الحسيني ، هو في عصرنا ثاني كشاجم لأنه كاتب شاعر جواد منجم ، صرف نقد عمره على اقتناء الكمالات والكتب الممتعة ، وتدبير أمر المعاش مع الراحة والدعة. وفي اقتبال شبابه وقبل أنه لاق * سيف المشيب من قرابه أخذ طرفا من علم الفلك والميقات ورصد الكواكب والنظر في الساعات والبنكامات عن السيد علي الحنبلي بحلب. ثم سافر إلى الروم فلقي بها الدرويش طالب الفلكي المشهور ، فاقتبس من مشكاته جذوة ، وملأ من ركاياه إلى عقد الكرب دلوه. وقرأ من النحو ما يصون لسانه من الغلط ، وعنده أن ما زاد على ذلك ضرب من العبث واللقط. ونظر في الطب والأدب من غير شيخ يريه الرموز ، ويفتح له ما انغلق من المطالب والكنوز. وكتب الخط الحسن وحلّى عاطله بفصاحة اللسن ، فكأنما عجنت طينته بالعنبر الورد ، وكأنما أقلامه قضبان شجر الورد. وله كلمات تسحب على وجه سحبان مروط الفخار ، ويجنى من حلاوتها العسل المشار ، ومن زكاوتها الزبد والعرار. فمن ذلك قصيدته الميمية التي هي

__________________

(*) هكذا في الأصل.

٢٨٥

واسطة قلايد قصائده ، ويتيمة عقد فرائده ، يمدح بها الوزير الكبير نصوح (باشا) وقد قرظ له عليها علماء الوقت وأفراد الدهر ، مطلعها :

حيّاك سرحة دارة الآرام

وحباك ديمة مزنة وغمام

ومنها :

ويحوك توشيع الروابي أقمصا

من زاهرات الزهر والأكمام

ومنها :

فلقد عهدت بك الغزالة في الضحى

وبدور تمّ في هلال لثام

ومنها في وصف العناق :

ويضمنا برد العفاف تضمنا

بتلازم وتطابق الأحكام

كالجزء لا متجزأ ومحيزا

ومقسّما ينفك للأجسام

أو واحد يدعى بصيغة أقبلا

أو ماء مزن في مزاج مدام

قلت : قد أجاد في تشبيه المتعانقين بالواحد إذ خوطب بصيغة الاثنين كما ذكره البيانيون في قوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)* وفي قول امرىء القيس : (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) وكما في قول الحجاج : يا شرطي اضربا عنقه. (وهنا أطال العرضي الكلام في هذا المقام ثم قال) : ومن شعره بل عقد سحره قصيدة يمدح بها المولى صنعي زاده وهو إذ ذاك قاضي حلب ، ومطلعها :

طافت بنا ونطاق الأفق مشدود

وهدب جفن الرجا بالنجم معقود

وثغر أشنب ألمى الجو نظّمه

من أزهر الزهر منثور ومنضود

وعسكر الليل قد لاحت طلائعه

وخفق راياتها بالزحف مصفود

ومن بدائعه بل روائعه قصيدة يمدح بها المولى جشمي زاده وهو إذ ذاك مقتعد قضاء الشهباء وهي :

سرت والليل محلول الوشاح

ونسر الجو مبلول الجناح

__________________

(*) ق : ٢٤.

٢٨٦

إلى آخر القصيدة التي تقدمت ، وهنا بعد البيت الأخير :

ولذ بالمصطفى فحماه أمن

من اللأواء والقدر المتاح

قوله في المطلع : ونسر الجو المصراع وقوله : كثغر البيض المصراع الأخير برمتها وقعا في شعر أبي الفضل بن شرف أحد رجال قلائد العقيان للفتح بن خاقان حيث يقول :

خيال زارني عند الصباح

وثغر النجم يبسم عن أقاح

وقد حشر الصباح له فنادى

فأصغى النجم منه إلى الصياح

وفاض على الكواكب وهو طام

فطار النسر مبلول الجناح

انتهى. فلم أدر هل هو من توارد الأفكار ، أم من المصالتة وشن الغارة على الأشعار.

وله وقد استصعب عليه الزمن الموات حتى حبب إليه الممات :

ما لذلي من بعد منزلة اللوى

عيش ولا خطر السرور بخاطري

كلا ولا آنست أنسا بعدها

بمؤانس ومحاضر ومسامر

ذاك الزمان هو الحياة فإن يفت

يا موت زر بقوادم وحوافر

ا ه.

٩٨١ ـ محمد حجازي بن عبد القادر الشهير بابن قضيب البان المتوفى سنة ١٠٦٩

محمد حجازي بن عبد القادر بن محمد الشهير بابن قضيب البان ، الحنفي الحلبي ، نقيب حلب.

كان عالما فاضلا جسورا كثير العرفان فصيح اللسان في اللغات العربية والفارسية والتركية ، وكان ذا همة علية مغبوطة ، ويد للخيرات مبسوطة ، ولي بعد أبيه نقابة الأشراف بحلب مدة وقصدته الناس في المهمات ، ثم سلك طريق الموالي ، ووجه إليه قضاء أريحا طريق التأبيد ، وأعطي رتبة القدس ، ورأس في حلب.

وكان ينظم الشعر وشعره لا بأس به ، فمن ذلك من قصيدة يمدح بها البهائي المفتي

٢٨٧

المقدم ذكره لما كان قاضيا بحلب ، ومستهلها :

ألا منجدا في أرض نجد من الوجد

فما عند أهليها سوى لوعة تجدي

وقفت بها مستأنسا بظبائها

كما يأنس الصب المتيم بالوجد

أسائل عمن حل بالجزع والحمى

وأنشد عمن جاز بالأجرع الفرد

خليليّ إن الصدر ضاق عن الجوى

فلا تعجبا من طفرة النار في الزند

ففي الجسم من سعدى جروح من الأسى

وفي القلب من أجفانها كل ما يعدي

بثغر يزيد الوقد من خمرة اللمى

وصدغ يثير الوجد من جمرة الوجد

تقرب لي باللحظ ما عز دركه

وتنفر عمدا كي تصاد على عمد

تلاعب في عقل الفحول بطرفها

ملاعبة الأطفال من غرة المهد

رمت مهجتي أهدابها عن تعمّد

نبالا فزادت من توقدها وقدي

دنوت إليها وهي لم تدر ما الهوى

وما علمت ما حل بي من هوى نجد

فقلت أما لي من رضابك رشفة

معللة أروي بها علة الوجد

وهل للتداني ساعة أستمدها

وأبذل في إنجاز وصلتها جهدي

فقلت أما يكفيك وعدي تعلّة

لقلبك فاقنع يا أخا الود بالوعد

ولا ترج مهما تقصد النفس نيله

فإن الرزايا في متابعة القصد

ولا تستمح من كل خدن وصاحب

إخاء فقد يفضي الإخاء إلى الزهد

فما كل إنسان تراه مهذبا

ولا كل خل صادق الوعد والعهد

ولا كل نجم يهتدى بضيائه

ولا كل ماء طيب الطعم والورد

ولا المسك في كل المهاة محله

ولا ريح ماء الورد من عاصر الورد

ولا فضل مولانا البهائي محمد

كفضل الموالي السابقين على حد

وقوله من أخرى في مدح البهائي المذكور :

قطب السماء هو الطريق الأقصد

دارت عليه نجومه والفرقد

والمشتري والزهرة الزهراء في

أوج السعود هبوطها والمصعد

والشمس ما شرفت على أقرانها

إلا بنسبته إليها العسجد

والله لا تحصى شؤون كماله

فالويل ثم على الذي لا يشهد

ولقد أبيت الدهر غير مغادر

في حالة منها أقوم وأقعد

٢٨٨

فسألته من بالحمى فأجابني

مفتي الأنام أبو البهاء محمد

وقوله في الصهباء وتعليل نشأتها :

لا ترض بالإضرار للناس

إن رمت أن تنجو من الباس

وانظر إلى الخمر وما أوقعت

في شاربيها بعد إيناس

لما رضوا في دوسها عوقبوا

بضربة منها على الراس

وله غير ذلك.

وكانت ولادته بمكة المكرمة سنة إحدى بعد الألف ، وتوفي بحلب في صفر سنة تسع وستين وألف.

٩٨٢ ـ أحمد بن محمد البتروني المتوفى سنة ١٠٧١

الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الرحمن البتروني الحلبي ، وهذا هو المعروف بابن مفتي ، الفقيه الحنفي ، أحد كبراء حلب وأحد رؤسائها.

وكان من أسخياء العالم ، ذا مروءة وهمة عالية وشهامة باهرة. ولي القضاء مدة مديدة ، ثم تقاعد عن رتبة قضاء الشام ، وتصدر بحلب وانقاد إليه أهلها ونفدت فيما بينهم كلمته وجلت حرمته. وحصل أموالا كثيرة وجاها وافرا ، إلا أن بضاعته كانت كبضاعة أبيه مزجاة. وفاته في سنة إحدى وسبعين وألف.

٩٨٣ ـ أبو الوفاء بن عمر العرضي المتوفى سنة ١٠٧١

أبو الوفاء بن عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد ابن محمد بن الحسين الشافعي الحلبي العرضي ، مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها وأحد أعيان العلماء في المعرفة والإتقان والحفظ والضبط.

وكان إماما عالما خيرا متواضعا حسن السمت لطيف تأدية الكلام واعظا ، إليه النهاية في التفهم وجودة الأسلوب.

٢٨٩

روى العلوم النقلية والعقلية عن والده ، ولزم العلامة أبا الجود البتروني وغيره من الشيوخ ، واستجاز كثيرا ، وتصدّر للإقراء مدة حياته في دار القرآن الحيشية المنسوبة إلى أبي العشائر المطل شباكها على الجامع الكبير بحلب. وله شعر حسن ونثر بارع. واعتنى بجمع تاريخ سماه «معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب» رأيت منه قطعة ونقلت منها بعض تراجم لزمني ذكرها. وله رسائل كثيرة وتآليف ، منها كتاب «طريق الهدى» في التصوف ، و «شرح على ألفية ابن مالك» ، و «حاشية على شرح المفتاح» للسيد ، و «حاشية على البيضاوي» ، و «حاشية على شرح المنهاج» للمحلي ، و «شرح البديعيات» (١) ، و «شرح سورة والضحى» على لسان القوم. وله لامية تضاهي لامية العجم ، ومطلعها قوله :

جلالة الفضل تنفي زلّة الرجل

وذلة الجهل توهي صولة البطل

منها :

واضرب على العقل أسوارا محصنة

تقيك فتنة أحداث أولي حيل

ولا يروقك ماء الحسن قطّره

نار الحياء على الخدين كالشعل

ولا حلاوة ثغر حشوه درر

فكامن السم في العسّال والعسل (٢)

وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وقال في وصفه :

عالم الشهباء وابن عالمها ، ومن شد بالفضائل دعائم معالمها. وهو في الزهد كأويس وعروة ، وللسادة الصوفية قدوة وأنعم به من قدوة. اشتغل بالتصنيف والتدريس ، والإفتاء على مذهب محمد بن إدريس ، وهو الآن لناظرها بصر ، ولناضرها نور وثمر ، يعظ الناس في كل يوم جمعة بعد صلاة العصر ، بزواجر لو استقضي بها أهل الضلال لما كان مضل

__________________

(١) هو شرح البديعية التي قال في مطلعها :

براعتي في ابتدا مدحي بذي سلم

قد استهلت لدمع فاض كالديم

سماه «فتح المانح البديع في حل شكل الطراز البديع» وقد اطلعت عليها وهي محررة سنة ١٠٣٧ أي في حياة المؤلف ، وعليها خط حسين الوفائي الحلبي المتوفى سنة ١١٥٦ وخط الشيخ حسن البخشي الحلبي شيخ التكية الإخلاصية ، وقد أدرج الشيخ قاسم البكرجي هذه البديعية في شرحه لبديعيته المسمى «حلية البديع في مدح النبي الشفيع»

(٢) بحثت عن هذه؟؟؟؟؟؟ فلم أعثر عليها ولو عثرت عليها لنشرتها بتمامها.

٢٩٠

في العصر. وله أخلاق تخلقت منها نسمات الأسحار ، وسجايا تنسمت عنها نفحات الأزهار ، وقد حوى زمام مكارم الأخلاق من طارف وتليد ، فأصبح مصداق قول أبي عبادة الوليد :

شجو حساده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واعي

ثم ذكر له طرفا من النثر وأورد له شيئا من الشعر ، فمن ذلك قوله :

عود الأراك قال خوف حاسد

لما ارتوى من رشف ثغر عابق

إن الذي قد شاقني من ثغرها

ذكر العذيب والنقا وبارق

ومثله للشهاب بن تمراس :

أقول لمسواك الحبيب لك الهنا

برشف فم ما ناله ثغر عاشق

فقال وفي أحشائه حرق النوى

مقالة صب للديار مفارق

تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى

أعلله بين العذيب وبارق

وله أيضا :

سألتك يا عود الأراكة إن تعد

إلى ثغر من أهوى فقبّله مشفقا

ورد من ثناياه العذيب فمنهلا

تسلسل ما بين الأبيرق والنقا

وقوله :

أسر الناس باللحاظ حبيب

كل مضنى بسجنه محبوس

فكأن القلوب منا حديد

وعيون الحبيب مغناطيس

ويقرب منه قول بعضهم :

ومغنطيس الخال في خده

يجذب بالسحر حديد العيون

ومنه :

نصب الحمام لقوتي شرك الردى

في غرّة وأنا به لا أعلم

فطفقت ألقط حبة الأمل الذي

راودته والشيب مني يبسم

٢٩١

فيه شمة من قول أبي تمام :

ولا يروعك إيماض المشيب به

فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب

ومنه فيمن دق على يديه بالزرقة :

البدر حين حكى ضياء جبينه

فاحمر من غضب على هفواته

شفق ومن جهة اليمين سماؤه

فأرتك زرقتها على حافاته

وأنشد له الخفاجي قوله :

بورد الخد ريحان محيط

وتركي حبه لا أستطيع

وقلت النفس خضرا يا عذولي

كما قد قيل والزمن الربيع

قال : وهذا مثل عامي ، يقولون : النفس خضراء تشتهي كل شيء ، وقولهم : تشتهي إلى آخره جملة مفسرة لخضراء ، وكان أصله ما ورد في الحديث : «إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترتع في الجنة». انتهى. والأصوب أن يقال إن أصله : ثلاثة تذهب عنك الحزن ، الماء والخضرة والوجه الحسن. ومعنى أن النفس خضراء أي تميل إلى الخضرة بالطبع.

ومن لطائفه في حق رجل يدعى منصورا : رذيل المرء ما نهض به حظه الحر مقهور ، والعلق منصور.

وذكره الحسن البوريني في تاريخه وأثنى عليه وذكر أنه اجتمع به في منصرفه إلى حلب في سنة سبع عشرة بعد الألف ، وذكر قصيدة كتب بها أبو الوفاء إليه مطلعها قوله :

شموس العلا من فوق مجدك تشرق

وغصن النقا من فيض فضلك يورق

فأجابه عنها بقصيدة مطلعها :

فؤاد بأسباب الهوى يتعلّق

ودمع له رسم على الخد مطلق

والقصيدتان في غاية الطول فلا حاجة بنا إلى إيرادهما.

وظفرت له بقصيدة قالها مادحا بها السيد أحمد النقيب استحسنتها فأوردتها وهي :

٢٩٢

من النوى من مجيري

يا رحمة المستجير

والصبر جد ارتحالا

على نياق المسير

يوم الوداع أضاعوا

حشاشتي من ضميري

يا ليت شعري فؤادي

هل سار لا بشعوري

يقفو حداة المطايا

في ظعنهم كالأسير

رفقا بقلب كوته

أيدي النوى بسعير

والجسم كلّت قواه

من حادثات الدهور

وهدّ ربع التسلّي

مغيب أنس الحضور

قديم حكم قضته

حوادث التقدير

والشوق يغلو ضراما

بدمع جفن مطير

أجرى عقيق دموعي

جداولا كالبحور

نهرت سائل جفني

عن نوء دمع غزير

ففاض دمع عيوني

وفاض * كالتنّور

غوثاه من ذا التنائي

من شره المستطير

ومن فراق مثير

للوعة وزفير

من حاكم في فؤادي

يعتو عليه بجور

وا رحمة لمشوق

إلى التداني فقير

يهزه كل برق

إيماضه كالثغور

إن فاح نشر الخزامى

أو ضاع عرف العبير

يكسو الرياض فتجلى

في نورها والنور

يهيج كامن وجد

بين الحشا والضمير

يذكّر الصب عيشا

صفا صفاء النمير

أوقات أنس أضاءت

كالبدر في الديجور

نجني ثمار المعاني

من روض مجد نضير

والمشكلات علينا

تجلى بغير ستور

__________________

(*) لعل الصواب : وفار. وفي خلاصة الأثر :

فغاض ماء عيوبي

وفاض كالتنور

٢٩٣

ندير راح الخفايا

على سرير السرور

وحيث غاب غزال ال

حمى وأنس الحضور

مولاي أحمد تاج ال

ملا وصدر الصدور

كشاف مشكل بحث

برأيه المستنير

السابق القوم فهما

في حومة التقرير

أقلامه في جدال

تطول بالتحرير

فذّ بتوأم فضل

بالنظم والمنثور

قد فاق كل لبيب

وعالم تحرير

يا مفردا في جميع ال

علوم لا بنظير

له بلاغة سحبا

ن بل نظام جرير

آدابه في انسجام

تفوق وشي الحرير

مدى الزمان سلامي

مع الدعاء الكثير

يهدي إليك ويبدو

في طيّه المنشور

خلوص حب صفا من

شوائب التكدير

سلساله العذب يحكي

معتّقات الخمور

وله غير ذلك.

وكانت ولادته ليلة الاثنين المسفر صباحها عن عيد الأضحى من سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ، وتوفي في اليوم الرابع من المحرم سنة إحدى وسبعين رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وله مضمنا ، وقد أوردهما الأديب عمر الخشابي من معاصري المترجم في مجموعته :

رأيت جميع العالمين مظاهرا

شخوصا وأشباحا ومولانا فاعل

فأضحى لسان العقل بالحق ناطقا

(ألا كل شيء ما خلا الله باطل)

* وله مضمنا :

سويدا عينه جذبت سويدا

فؤادي فهو رهن في يديه

فقلت تعجبوا من صنع ربي

شبيه الشيء منجذب إليه

__________________

(*) صدر بيت للشاعر لبيد ، وعجزه : وكل نعيم لا محالة زائل.

٢٩٤

وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة فقال : (أبو الوفاء بن عمر العرضي) لقيني منه حبر مجيد ، وشاعر مجيد ، وأديب يضع القلادة في الجيد ، له فضل لم تنظر عين الدهر لمنافيه ، بل كلما أجال طرفه رأى كل المنى فيه. فإذا واد خصيب النوى والثمر ، وحديقة منمنمة الأطراف والطرر ، سقتها غمائم نداه ، وباكرها صيب جدواه ، بلا منة لحوامل السحائب ، ولا انتظار لقوافل الصبا والجنائب. صرف نقد أوقاته ، ورأس مال عمره وحياته ، في تحصيل ربح الفضل والعبادة ، وترك فضل العيش وفضول الناس لما رأى من تركهما من السعادة ورأى في كل بكرة وعشية ، حبلى جنين نوائبهما في مشيمة المشيّة. ولما شمت كرمه وسيبه ، وردت ربيعا زر عليه جيبه ، انتدب لملاقاتي وابتدر ، وخير أنوار الربيع ما بكر ، وكتب إلى مادحا ، ولزند فكري قادحا قوله :

أرى الشهباء للعليا قبابا

ألم تر أفقها أبدى شهابا

وقبل كست معالمها الدياجى

مسربلة ذراها والهضابا

وكدّر صفو منهلها قتام

أحال شرابها الصافي سرابا

وجرعها كؤوس الجور صرفا

ولو سقي الغراب بها لشابا

وكان الجهل متسع الفيافي

يضل الألمعي بها الصوابا

وضاق العلم ذرعا حين سدّت

مناهجه وضاق بها رحابا

تعللها المطامع كاذبات

وكم عادت سحائبها ضبابا

إلى أن حلها روح المعالي

وطوّق عقد منّته الرقابا

إمام العلم بحثا واكتسابا

مشيد الفضل إرثا وانتسابا

فواصلها بغير سباق وعد

وفاجأها بنعمته احتسابا

فأهلا بالذي منه استنارت

معالمها وقد عزّت جنابا

وقد وطئت على هام الثريا

ونظّمت النجوم لها نقابا

فقرّبها وقرّ بها ودادا

وقرّ عيون أهليها اقترابا

وقد ظفرت بكنز المجد حتى

أحال التبر للذهب الترابا

أفاض بحار كفيه علوما

وأتبعها بمنطقه عبابا

ونضر وجه روض الفضل لما

سقاه من مواهبه ربابا

قد ازدحمت بمورده عفاة

الفضائل حين ما سال انصبابا

وقد ملؤوا ركاياهم وراموا

ذخائره انتهازا وانتهابا

٢٩٥

إذا جال السؤال بفكر شخص

قبيل النطق لبّاه جوابا

فياذخر العلوم فدتك نفسي

ونادتك العلا تبغي الثوابا

أقل قلمي عثارا زل فيه

فما وفّى المديح ولا أصابا

وكنت نبذت شعري في قفار

نسيت الأنس منه حين غابا

إذا الأيام قد رفعت بغاثا

فخالت أنها ترقي العقابا

وظنوا أنهم كنزوا علوما

وأيم الله ما ملكوا نصابا

أأمدح من بنظمي ليس يدري

حبيبا قد أردت أم الحبابا

وكان القصد من قصدي نجازي

من الممدوح لو فهم الخطابا

ولو لا أنك السامي مقاما

له الأفلاك طأطأت الرقابا

وكان بمدحك العالي افتخاري

لما أذهبت بالمدح الكتابا

فدم يا زينة الدنيا بمجد

تقنعت العلا منه احتجابا

ثم كتب بعدها : لقد طفحت أفئدة العلماء بشرا ، وارتاحت أسرار الكاملين سرا وجهرا ، وأفعمت من المسرة صدور الصدور ، وطارت الفضائل بأجنحة السرور ، بيمن قدوم من اخضرت رياض التحقيق بإقدامه ، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه ، وتلألأت غرر المباحث إشراقا ، وأجريت مسائل الطالبين في ميادين التوضيح سباقا ، أعني به جهينة أخبار العلوم ، وخازن أسرار المنطوق والمفهوم ، المؤسس لدعائم الأحكام فرعا وأصلا ، والسابق في مضمار التحقيقات منذ كان طفلا. وقد خدمته بهذه القصيدة التي كتبتها عجلا ، وكنت أضمرت أن لا أفوه بكلمة منها خجلا ، لكن ظننت بالمولى كل جميل ، ورأيت سترها بذيلي السماح والصفح من فضله الجزيل. هذا وإن العبد كتب تاريخا سماه «معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب» سيعرض بعضه عليكم ، ويأتي بأنموذج منه لديكم ، وجل القصد أن تكتبوا إلي نسبكم وأشياخكم ومقروءاتكم وبعض شيء من المنظوم والمنثور ، ولنطرز حلله بطراز المأثور ، والسلام. ا ه.

وقدمنا في المقدمة الكلام على تاريخه «معادن الذهب». وكتابه «طريق الهدى» منه نسخة في الأحمدية والمولوية بحلب ، وعند الشيخ علي أفندي العالم قاضي حلب الآن ، وفي مكتبة أسعد أفندي العينتانبي ، وفي مكتبة خليل أفندي المرتيني في حلب.

ورأيت في آخر شرح «الكوكب المنير» في أصول الفقه الحنبلي ، وهو في المكتبة

٢٩٦

الأحمدية بحلب ، في مسألة عرضت على شيخ الإسلام أبي الوفا العرضي رحمه‌الله تعالى : ما قول الأئمة الأعلام أئمة الدين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في رجل شافعي المذهب وانتقل إلى مذهب الحنفي ، هل يترتب عليه شيء ، والحنفي إذا صار شافعيا هل يترتب عليه شيء ، وإذا قال أحد من علماء الحنفية : إذا انتقل أحد إلى مذهب الحنفية يلبس خلعة ، وإذا انتقل أحد إلى مذهب الشافعية يعزّر ، فهل هو كما قال أم لا؟ أفتونا ولكم بذلك جزيل الثواب من الملك الوهاب.

(الجواب) :

جميع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلزمهم التمذهب بمذهب واحد ، فلكل واحد أن يكون حنفيا أو شافعيا أو مالكيا أو حنبليا. فلو فرضنا أن الآن ظهر ببلاد الإسلام عالم له قوة الاجتهاد فاتخذ مذهبا مستقلا مستنبطا من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحو ذلك ، وقلده أحد من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاز له ذلك ، فإن الله تعالى لا يعذب أحدا عمل بمسألة فيها قول بعض الأئمة. فمن تحنف بعد ما كان شافعيا أو مالكيا أو حنبليا ، أو تشفع بعد ما كان حنفيا أو مالكيا أو حنبليا ، أو تملك بعد ما كان حنفيا أو شافعيا أو حنبليا ، أو تحنبل بعد ما كان حنفيا أو شافعيا أو مالكيا فلا ملام عليه في الدنيا ولا في الآخرة. وأما قول هذا الحنفي العالم القائل من تحنف بعد ما كان شافعيا يخلع عليه ، ومن تشفع بعد ما كان حنفيا يعزّر فكلامه باطل ونقله باطل ، وهو الكلام الخصم ، وكلام الخصم لا يكون حجة بطريق الحق ، والدليل لا يكون بالعصا ولا بالسيف ، ومن كان دليله ذلك فلا كلام لنا معه ، فكلامنا مع من يقول من غير تعصب. ولما دخل ابن بنت أبي حنيفة إلى البصرة قاضيا فقال : أريد أن أعزّر كل من خالف مذهب أبي حنيفة ، فقيل له حينئذ عزّر نفسك لكونك خالفت أبا حنيفة ، لأنه ما عزّر من خالف مذهبه. فمن كان حنفيا يعتقد مذهبه صوابا مع احتمال الخطأ ، ومن كان شافعيا عليه أن يعتقد أن مذهبه صواب مع احتمال الخطأ ، وكذلك المالكي والحنبلي رضوان الله عليهم أجمعين. كتبه أبو الوفا العرضي المفتي بمدينة حلب ، كذا وجد بخطه. ا ه.

وفي أوراق عندي فيها عدة قصائد يغلب على الظن أنها من ديوان سرور بن سنين المتقدم ذكره ، وهي بخط ناظمها ، من جملتها قصيدة في مدح المترجم ، وقد توّجها بقوله : وكتبت بها للعلامة التاجي أبي الوفا ابن شيخ الإسلام وعلم العلماء الأعلام ممتدحا له ،

٢٩٧

وذلك في أوائل ذي الحجة سنة ١٠١٩ :

سفرت وأرخت في الظلام ذوائبا

فأرت صباحا ساطعا وغياهبا

ورنت مغازلة بألحاظ الظبى

فنضت من الأجفان عضبا قاضبا

وغزت جيوش الإصطبار وصيّرت

أهل الهوى في الحب عنها جانبا

ورمت بسهم من كنانة جفنها

عن قوس حاجبها لصب صايبا

حوراء ترفل في مروط جمالها

وتجر من فرط الدلال جلاببا

صبّ الصبا ماء الشباب بعطفها

فتمايلت طربا وملت مطاربا

نشوانة الأعطاف تلعب بالنهى

وترى الحسان الغانيات لواعبا

من فرقها فلق الصباح ووجهها

شمس الضياء بدت وأبدت حاجبا

تفترّ عن شنب وظلم بارد

تحويه في ثغر يريك كواكبا

ما شمت بارق ثغرها إلا ولي

دمع من الأجفان يهمي ساكبا

رقّت حواشيها وراق حديثها

فهما كنظمي رقة وتناسبا

فرّطت في قلبي وأفرط عجبها

فازددت فيها رغبة ورغائبا

تختال في قشب البرود وتنثني

كالغصن أثمر بالملاحة كاعبا

سمح الزمان بليلة من وصلها

وتراه يحبو فرصة ومواهبا

بتنا ويجمعنا العفاف كأننا

خمر بماء المزن أصبح شائبا

حتى إذا سطع الصباح بنوره

كأبي الوفاء يريك رأيا صايبا

العالم العلم الذي أفكاره

تنهلّ شرعا للورى ومذاهبا

كنز الدقايق بحر كل فضيلة

يبدي بمنهاج البيان مطالبا

صدر الشريعة جامع لأصولها

مفتاح حل المشكلات له نبا

وترى سهام جداله برهانها

قلب البغيض يغيض منه ذاهبا

ويغوص منه الفكر لجة غامض

فتراه يذري درّه وعجائبا

ما سابق جاراه في ميدانه

إلا انثنى لجواد كرب راكبا

فخم سما أسنى العلا حتى ارتقى

من فوق فرق الفرقدين مراتبا

يلقاك مبتسما بثغر ضاحك

وبمنطق يبدي رحيقا ذايبا

يا بن الذي خضع الزمان لفضله

والعلم جاء إليه يسعى طالبا

هيهات يحصر حد فضلك ضابط

وتراه يعجز فيلسوفا كاتبا

٢٩٨

إن زان قوما واصف بمناقب

فهي التي أثنت عليه مناقبا

طهرت طباعك في مقالة قائل

وظهرت فردا للمحامد كاسبا

إني رأيت بني الزمان جواهرا

وأراك واسطة حويت غرايبا

فرض الثناء على جنابك مثلما

فرضت صلاة الخمس أمرا واجبا

ومديحكم كالتبر إن كررته

يزداد رونقه ويرغب راغبا

٩٨٤ ـ محمد بن عمر العرضي المتوفى سنة ١٠٧١

محمد بن عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين العرضي الحلبي.

أنا أقول في حقه : إنه لم تنجب الشهباء منذ بنيت بمثله. كان من الفضل من مرتبة الآحاد ، ومن الأدب في مرتبة لا تنال بالاجتهاد. وحاصل ما أقول ، أني عاشق له ، والعاشق معذور فيما يقول ، وهيهات أن تستوعب مزاياه ولو فشا القول والمقول. وكان له سيادة من جهة أمه ، فهو سيد قومه.

وقد ولي القضاء مدة طويلة ، ثم درس بالمدرسة الكلتاوية والسعيدية. وولي إفتاء الحنفية بحلب مدة سنين. ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة مديدة وأخذ بها عنه الأدب جماعة من الصدور. ولما مات أخوه أبو الوفا صار مكانه مفتي الشافعية بحلب وواعظا بجامعها. وحصل له جذب إلهي وتكلم في وعظه برموز ودقائق على لسان القوم ، ووعظ أربع مرات ثم مات.

وذكره الخفاجي وأجاد في مدحه وبث فضائله ثم قال : وكتب لي مع هدية أهداها إليّ :

مولاي من يوم لقياه الأغر غدا

هدية من زمان قبل ضنّ بكا

لو كان تنصفني الأقدار آونة

وكنت أنصف فيما أرتضيه لكا

لكنت أهدي لك الدنيا وزينتها

والشمس والبدر والعيوق والفلكا

وذكره البديعي وقال في وصفه : فاضل روض فضله أريج ، دبّج حدائق معلوماته أدبه البهيج ، وشاعر رقت طباعه ، وكثر اختراعه وإبداعه ، يسترق القلوب بألفاظه الزاهرة ،

٢٩٩

ويسكر العقول بمعانيه الساحرة ، ينظم فيأتي بكل عجيبة ، ويشنف الأسماع بكل غريبة ، وينثر فيفتض أبكار الدقائق بنظره الثاقب ، ويجلي غياهب المشكلات بفكره الثاقب ، وقد تقمص جلابيب المعارف في عنفوان عمره ، فأسبغت عليه ظلها الوارف من ابتداء أمره. وقد توجه إلى الروم مقدرا أن يبلغ كل مروم ، ولم يعلم أن الحظوظ ليست بالعلوم.

قال : لما ضاقت رقاع بلادي ، ونفدت حقيبة زادي ، فوّقت سهام الاحتيال ، وأجلت قداح الفال ، فكان معلاها السفر ، سفينة النجاة والظفر ، طفقت أتوكأ على عصا التيسار ، وأقتحم موارد القفار ، أفري فلاة يبعد دونها مسرى النعيّ ، وألطم خدود الأرض بأيدي المطيّ ، فكنت فتى قذفته رقة الحال على بريد النوى ، وأعتقته الهمة العاقرة وألقحت بعزمه لواقح المنى ، أساير عساكر النجوم والأفلاك ، وقد ركز الليل رمح السماك ، فأنخت بمخيم المجد ، وقرارة ماء السعد ، كعبة الأفاضل إلا أنهم يحجون إليها كل آن ، وسوق عكاظهم إلا أنها تنصب فيها مصاقع الروم لا مصاقع عدنان. فلما ألقتني فيها أرجوحة المقادير ، فإذا هي فلك العز ومطلع التدبير ، إلا أن حالي تقسمت فيها بين الاغتراب والاضطراب والاكتئاب أثلاثا ، فما نزلت منها منازل إلا حسبتها عليّ أجداثا ، وسقتني الدردي من أول دنها ، وسوء العشرة من باكورة فنها. كل هذا وأنا أستلين مس خشونتها ، وأسيغها على كدورتها ، وأقول إذا لم تتم الصدور فتتم العواقب ، وإن لم تريّش القوادم فستريّش الخوافي والجوانب.

ثم أنشد له قوله من قصيدة نبوية مطلعها :

سقى الله ذات الشيخ والعلم والفردا

وحيا الحيا وجه البشامة والزندا

وما طلبي السقيا لها عن ظما بها

ولكن بسقياها بقلبي أرى بردا

ومنها :

وحلت خيوط الغاديات يد الصبا

على أنها من قبل قد أحكمت عقدا

وقد أوقدت في مجمر الزهر عنبرا

يمين شمال من براد الندى أندى

ذكرت بها ريا الحبيب وساعة

بها ابيضّ وجه الدهر من بعد ما اسودّا

حبيب زنت عيني بعين جماله

فصيرت تزويج السهاد لها حدّا

ومنها :

٣٠٠