إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

وآداب البحث والحكمة ، وفيها قرأ شيئا من منلا زاده وحاشية العمادية ، ومنها الكلام والأصول وفيه أشياء من العضد وحاشيته الشريفية غير ما أخذه من «شرح المنار» لابن الملك وما ألقيته عليه من حاشيتي المسماة «بأنوار الحلك» ، ومنها الفرائض ، وفيه قرأ الشرح الشريفي على فرائض السراجي وشرح فرائض المجمع للزين قاسم بن قطلوبغا الجمالي ، ومنها علوم الحديث والتفسير ، وفيه سمع شيئا من البيضاوي إلى غير ذلك من الفنون ، وأجزت له جميع ما يجوز لي وعني روايته من الكتب الستة وغيرها من تأليف لي ، ونظم ونثر بشرطه ، وكتبت له إجازة حافلة بخطي في سنة تسع وستين وتسعمائة.

ثم جاور بمكة سنة فأخذ فيها عن السيد قطب الدين عيسى الصفوي شيئا من المطوّل وعاد إلى حلب فلازم منلا أحمد القزويني السعيدي وهو بها في الكلام والتفسير من غير إكمال كتاب فيهما ، وعني بالقراءة عليه في كليهما.

ثم لما كانت سنة إحدى وسبعين تولى تدريس الشهابية تجاه جامع الناصرية [جامع الحيات] بحلب وهي من مدارس الحنفية ، كما ذكره المحب أبو الفضل بن الشحنة في تاريخه قال : وكان تدريسها لبني البرهان ، ثم نزل لي عنه زين الدين عمر بن البرهان وهو الآن بيد أولادي. انتهى.

ولازم الشيخ شمس الدين مجالس الشيخ الزين مدة جيدة وطالع كتب القوم وتواريخ من غبر ونظم ونثر. ا ه.

وترجمه الغزي في كواكبه بنحو ما تقدم ، قال : ومن شعره قوله مقتبسا :

يا غزالا قد دهاني

لم يكن لي منه علم

لا تظنن ظنّ سوء

إن بعض الظن إثم

ومدح شيخه ابن الحنبلي بقصيدة حين قدم من الحج سنة أربع وخمسين حيث قال :

هنيئا لقلب عاش وهو متيم

بأهل النقا مذ فيه حلوا وخيّموا

هم عرب قد ضاء نور فنائهم

وضاع شذاهم للحجيج فيمموا

إلى أن قال :

فيا عربا سادوا وشادوا وخيموا

بوادي الغضا وهو الفؤاد المتيم

٨١

جذبتم فؤادي مذ رفعتم حجابكم

ونومي جفاني مذ هواكم نصبتم

فرقّوا لعبد رقّ في الحب جسمه

وفي الرقّ أضحى مذ دماه أرقتم

فأنتم كرام قد علوتم إلى العلا

كما قد علا ابن الحنبلي المكرّم

إمام رقى فوق الثريا بعلمه

همام بحلم ساد فهو المعظّم

إلى أن قال :

هو العالم الحبر المكمل في الورى

هو العالم البحر الإمام المقدّم

غدا مجمع البحرين في الفقه صدره

فلا عجب أن يلفظ الدر مبسم

٩٠٩ ـ كمال الدين محمد ابن الموقع المتوفى أواخر هذا القرن

محمد بن أبي الوفا الشيخ كمال الدين ، المصري الأصل ، الحلبي المولد ، الشافعي الصوفي المقري المعروف بابن الموقّع ، لأن أباه وكان أسلميا كان موقعا عند خير بك كافل حلب.

ولما انهدمت الدولة الجركسية هاجر الشيخ كمال الدين إلى القاهرة وجد في طلب العلم النقلي والعقلي حتى وجد ، فأخذه رواية ودراية عن جماعة ، منهم من علماء الطريق صاحب الكرامات أبو السعود الجارحي ، وأزهد أهل زمانه سيدي محمد بن عراق الدمشقي ثم المكي ، وصاحب الحال ابن مرزوق اليمني ، ومنهم القاضي زكريا الأنصاري والشرف عبد الحق السنباطي والسيد الشريف كمال الدين محمد (بن حمزة الحسيني الدمشقي ، والشيخ كمال الدين الطويل ، والمسند المقرىء أمين الدين محمد) * بن أحمد إمام وخطيب الجامع الغمري بالقاهرة والإيجي والصاني وأبو الحسن البكري.

وألف كتبا منها «شرح تصحيح المنهاج» لابن قاضي عجلون ، وقد شهد له أبناء عصره في مذهبه بأنه عالي الذروة في التحقيق ، ومنها «الشمعة المضية بنشر قراءة السبعة المرضية» ، و «التلويح بمعاني أسماء الله الحسنى الواردة في الصحيح» ، و «والفتح لمغلق حزب الفتح» وهو شرح وضعه على حزب أستاذه أبي الحسن البكري ، وله رسالة سماها «إلهام الفتاح بحكمة إنزال الأرواح من عالمها العلوي وبثها في الأشباح» ، وله «الحكم اللدنية والمنازلات الصديقية الصدقية» التي أولها : من أدمن الاستسلام والرياضة أتحفه

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

٨٢

بعرائس لطيفة المعارف ، وبوأه من فردوس المشاهدة رياضه رافلا في أثواب الحكم واللطائف ، ومنها : من أدمن الجوع والسكوت ، يصير للحكم ينبوعا والمعارف له قوت ، ومنها : أهمل عين قلبك بدفع لفظ الأغيار تشهد حال حبك ، ومنها : صلاة الأسرار طهارة الباطن من شهود الأغيار. وله تائية عدتها نيف وأربعون بيتا ادعى كما وجدته بخطه في بعض الأبيات أنها في الحقيقة عصارة الطريق ، يرشف المتخلق بمعانيها عذب ذلك الريق ، من عطر شفاه عرب ذلك الفريق ، الأحلى من كل رحيق.

قال في الكواكب السائرة بعد أن ترجمه بنحو ما هنا : وله تائية مطلعها :

أأنوار ليل يستضيء لمهجتي

أم الحبب الثغري يبدو لمقلتي

أم البرقع النوري أسفر عن حمى

سعاد سحيرا ضاء في كل بقعة

نعم كل ذا قد كان مذ رمقت لنا

عيون عنايات بأحسن رمقة

ورقّت لنا كاسات خمر إلهنا

بحان صفاء العيش في وقت خلوة

ودقّت لنا كوسات وصل حبائبي

مبهرجة في حلّة بعد حلّة *

تجلت لنا الأخوان في خلع الهنا

تسامرنا والعين في حين غفلة *

ولم يؤرخ ابن الحنبلي وفاته لتأخره عنه. ووقفت له على إجازة في سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة.

٩١٠ ـ أبو بكر بن محمد بن قرموط المتوفى أواخر هذا القرن

أبو بكر بن محمد بن محمد بن أحمد بن شمس الدين محمد ، الرئيس الفاضل تقي الدين ابن الأمير ناصر الدين ، المصري الأصل الحلبي المولد والدار ، الشافعي المعروف بحلب

__________________

(*) رواية «در الحبب» :

تجلت لنا الأكوان في خلع الهنا

وغاية إدخال السرور بمنحتي

وبعده :

فأسلبت عقلي إذ شهدت حبائبي

تسامرني والغير في حين غفلة

وفي مطبوعة «الكواكب السائرة» :

وزفّت لنا كوسات وصل حبائبي

مبهرجة في حلة بعد حلة

تجلت لنا الأكواب في خلع الهنا

تسامرنا والعين في حين غفلة

٨٣

بابن قرموط ، وإن كان أقرباؤه بمصر يعرفون ببني قريميط بالتصغير.

تفقه على الجلال النصيبي ، واشتغل في العربية على غيره ، وكتب الخط الحسن ، وحج وجاور. ثم دخل الهند وأطراف اليمن كالشحر وعدن وغاب عن حلب فوق ثماني سنين. ثم عاد إليها بشهامة ورياسة وحشمة زائدة ، واستمر بها على مهيع جميل ، تاركا للقال والقيل ، متفكها بمطالعة ما عنده من الكتب العلمية ، منطويا على مودة العلماء الصوفية ، مترفها بدور أبيه الجميلة التي أنشأها بحلب وهو إذ ذاك معلم دار الضرب بها.

ولد كما ذكر لي في صفر سنة ست وتسعين وثمانمائة. وأنشدني لشيخنا العلا الموصلي بيتين كتب بهما إلى أبيه بعد هفوة مقالية صدرت منه إليه فندم عليها :

يا ناصر الدين ظني

فيك الجميل وأكثر

وأنت لا شك بحر

والبحر لا يتكدّر

أقول : كان بنو قرموط تجارا ذوي ثروة واسعة ، منهم عبد القادر بن قرموط. ومن آثاره هذا المسجد المعروف بالقرموطية في محلة باحسيتا ومكتوب على بابه الغربي من جهة السوق على حجرة من الرخام المرمر :

(١) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر

(٢) أنشأ هذا المكان المبارك العبد الفقير

(٣) عبد القادر بن قرموط سنة اثنين وثمانين

(٤) وجدده عبد الرحمن بن قرموط سنة ثمان وسبعين وتسعماية.

وكان في صحن الجامع في طرفه الشرقي عدة قبور درست منذ عشر سنوات ، وهو الآن في تولية عمر القمري من سكان هذه المحلة ، وله من الأوقاف قيسارية في هذه المحلة.

٩١١ ـ الطبيب جمال الدين الأتروني المتوفى أواخر هذا القرن

جمال الدين ابن قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن أحمد الأتروني الأصل الحلبي.

عني بالطب فأخذه عن الرئيس محمد بن القيسوني المصري طبيب السلطان الغوري وعن غيره ، وباشر مصالح المرضى بحلب مباشرة حسنة وصار رئيس الطب بها ، وعادت

٨٤

بيده مقاليد البيمارستان الأرغوني مدة تولية المقر البدري الحسن النصيبي عليه وانتفع به ضعفاؤه ، وحظي بمصالح أركان الدولة.

ثم حج وجاور ، وأصيب بمكة في ولد له نجيب ، ثم عاد إلى حلب.

٩١٢ ـ أبو بكر بن يحيى بن العديم المتوفى أواخر هذا القرن

٩١٣ ـ وترجمة والده يحيى المتوفى سنة ٩٥٤

أبو بكر بن يحيى بن أبي بكر بن إبراهيم الأصيل العريق متى فاخر فريقا فريق ، أقضى القضاة تقي الدين العقيلي الحلبي الحنفي ، المعروف بابن العديم وبابن أبي جرادة ، ابن خالتي.

ولد بحلب سنة عشر ، وآل أمره إلى أن صار ديوانا على أوقاف السلطان الغوري بحلب بعد اضمحلال دولته. ثم ولي نيابة القضاء بمعرة مصرين ولم يزل مقيما بها سخيا نخيا يداري الناس ، ولما كان من ملاطفتهم غير ناس ، كيف وقد قيل : الناس أجناس ، وأكثرهم أنجاس ، فهم أحقاء بالمداراة ، وحسم مادة المجادلة والمماراة ا ه.

وقد سهونا عن ذكر ترجمة والده يحيى المتوفى سنة ٩٥٤ في محلها فوجدنا من المناسب ذكرها هنا.

وهو يحيى بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد ابن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هرون بن موسى بن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عامر ، الأصيل العريق النسيب شرف الدين العقيلي الحلبي الحنفي المعروف بابن أبي جرادة وبابن العديم.

من بيت علم ورياسة ، حسن الشكالة نير الشيبة كثير الرفاهية رغد العيش. دخل تحت نظره في الدولة الجركسية المدرستان الشاذبختية والمقدمية وغيرهما.

وكانت ولادته كعمي النظام الحنبلي ، وكان من إخوانه وخلانه ، سنة إحدى وسبعين وثمانماية ، ووفاته سنة أربع وخمسين وتسعماية.

وهو سبط الشريف زين الدين عبد الرحمن بن الشريف برهان الدين إبراهيم الجعفري

٨٥

الحنفي ، وجده يحيى هو الذي ينسب إليه بنو العديم ، وجده عيسى هو الذي دخل الشام من البصرة واستوطن حلب سنة خمسين ومائة من الهجرة ، وجده عامر هو أبو جرادة حامل لواء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يوم النهروان ا ه.

أقول : هما آخر من وقفت عليه من تراجم بني العديم تلك العائلة العريقة في العلم والمجد ، وقد كان العلم والفضل متسلسلا فيها كما رأيت في تاريخنا منذ القرن الثاني أو الثالث إلى أواخر هذا القرن. ولا أدري بعد ذلك أنقرضت تلك العائلة أو لا زال منها ذرية ، لكن تغيرت ألقابها فضاعت لذلك أنسابها ، وسبحان المتفرد بالبقاء.

٩١٤ ـ حسين بن عبد القادر الكيلاني المتوفى أواخر هذا القرن

حسين بن عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن علي بن محمد بن سيف الدين يحيى بن أحمد بن محمد بن نصر بن عبد الرزاق بن قطب الدائرة الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله تعالى عنه ، السيد الشريف الحسيب النسيب ، الشيخ عفيف الدين ابن الشيخ عفيف الدين ابن الشيخ محيي الدين الحلبي ثم الحموي الشافعي ، سبط عمي النظام الحنبلي.

ولد بحلب في رجب سنة ست وعشرين ، ثم توطن بحماة وأخذ في قراءة الفقه ، وسمع الحديث بقراءة خاله ولد عمي على الشيخ المعمر شهاب الدين أحمد البارزي الجهني الشافعي الحموي سنة خمسين وأجاز لهما.

وسافر مرة إلى دمشق وخاله بها فتلقاه المشايخ والفقراء وبعض الأعيان ، وحصل له القبول من أمير الأمراء عيسى باشا ابن إبراهيم باشا ، ولبس بها منه الخرقة القادرية جماعة ، وصار له بجامعها الأموي حلقة ذكر بعد صلاة الجمعة.

ثم عاد إلى حماة فودعوه إلى القابون الفوقاني في يوم مشهود.

ثم سار إلى الباب العالي فطلبه المقام الشريف السلطاني السليماني ، فدخل عليه فأمر بجلوسه وأبرز أمره له بنفقة وبعشرين درهما عثمانيا من زوائد عمارة والده بدمشق ، فأبى ثم قبل بعد التصميم عليه ، ثم أخذ أركان الدولة في إعظامه فأعطوه عطايا كثيرة فقبلها.

٨٦

ثم عاد فدخل حلب في أثناء سنة اثنتين وخمسين وبين يديه الفقراء الحلبيون يذكرون الله تعالى إلى أن وصل إلى محل نزوله.

٩١٥ ـ أبو السعود النحريري المتوفى أواخر هذا القرن

أبو السعود بن أحمد بن محمد النحريري الأصل الحلبي الشافعي المتقدم ذكر والده.

ولي نيابة الحكم بعزاز ثم بحلب ولم يكن الثناء عليه جميلا ، ثم عزل فتملك قاعة البيبرسية التي كانت ملاصقة للمدرسة الحلاوية ، وشرع في عملها قاسارية يسكن فيها المسلمون ، فحسن في نظره الفاسد أن يجعلها خانا للفرنج وقنصلهم لداع لهم حملهم على ذلك ، هو أن يكونوا في قفا المدرسة الحلوية التي هي من آثار الملك العادل نور الدين الشهيد رحمه‌الله (التي كانت قديما كنيسة للنصارى أنشأتها هيلانة أم قسطنطين) * ، فقووه بمال أضافه إلى ماله لبلوغ قبيح آماله ، وجعلها على أسلوب أرادوه إلى أن سكنوها مع قنصلهم.

وزينت مرة حلب فزينوا باب هذه العمارة وعلقوا على بابها أقمشة فيها صورة الصليب.

وفي هذا الزمان سكن بعض الفرنج في بعض محلات حلب ولم يكونوا ليسكنوا من قبل إلا في بعض الخانات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

٩١٦ ـ عمر بن إبراهيم الأرمنازي المتوفى أواخر هذا القرن

عمر بن إبراهيم بن أبي الوفاء بن أبي بكر الشيخ زين الدين ، الأرمنازي الأصل الحلبي ، الشافعي أولا ، الحنفي آخرا ، أحد أكابر قراء القرآن العظيم بالجماعة بحلب ، بل رئيس قرائه بالجماعة بعد الشيخ محيي الدين عبد القادر الحموي ، ورئيس قراء السبع بالجامع الأعظم بحلب.

انحصرت فيه بحلب كلتا الرياستين ، وحظي به أهلها الحظوة التامة لما له من حسن الأداء تجويدا ونغما بمقتضى الطبع لا عن مدخل في الموسيقى. وتولى خطابة الجامع الأعظم ، وقبلها خطابة الجامع الخسروي ، وقبلها خطابة القرناصية.

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «در الحبب».

٨٧

٩١٧ ـ محمد بن عبد الله بن القطان المتوفى أواخر هذا القرن

محمد ابن القاضي علاء الدين (علي) بن عبد الله ، الحلبي المولد العشاري الأصل ، الشافعي ، المشهور كأبيه بابن القطان.

كان في أول أمره عند عمه الحاج محمو الشرايحي يكتب له أسماء من يتناول أسطال الأطعمة من عنده. ثم كان بمحكمة عمي الكمال الشافعي مع أبيه ، وهو يومئذ كاتب المحكمة يكتب له الوثايق فيرقم هو بها شهادته فينتفع بها إذا أريد منه أداؤها أسوة من كان بمحاكم القضاة الأربعة من العدول.

ثم لما زالت الدولة الجركسية وصار أبوه يكتب بعض الوثائق لا في محاكم القضاة الروميين ، بل في داره بإذن منهم ويحكم نيابة بفسوخ الأنكحة في مواضع الخلاف صار هو يقرأ المنهاج على البرهان العمادي مدة ، فلما توفي والده دخل إلى القاضي عبيد الله سبط ابن الفناري قاضي حلب وسعى في النيابة وكتابة الوثائق على ما كان عليه والده ، فولاه ، فحسن له بعض الناس أن يجلس بمحكمة جدي بمسجد النارنجة بجوار المصابغ ويتعاطى الأحكام الشرعية الخلافية والوفاقية ، فاستأذن وجلس وراجع الفروع وكتب الشروط واستفتي عند الاحتياج ، فمهر في صنعة القضاء ، وظهر له مزيد الذكاء ، وجمع أموالا عديدة ، وأنشأ عمائر جديدة ، كالعمارة التي وسع بها مزار ولي الله تعالى الشيخ يونس خارج باب المقام.

وثبت في منصبه مدة طولى ، غير أنه ساء خلقه ونفرت عنه قلوب الخصوم واتسع بطنه وانبسطت كفه. كأن يقول : أنا غير معصوم ، حتى قيل فيه ما قيل بعض قول من قيل :

تلطف مع الأخصام واستغن ذاكرا

نوالا به أثرى أبوك وإحسانا

لجدك وصف لو وصفت بقلبه *

لكنت وحق الله عندي إنسانا

ثم عزل مرات عن عدة شكايات وأخرجت فيه أحكام ، وأبى أن لا يكون من الحكام ، فاحتال وعاد على حسب ما أراد بعد أن اختفى مرارا ، حذرا عن أن يرى إضرارا. وطالما

__________________

(*) في در الحبب : بمثله.

٨٨

جعل منزله للحجازيين المتوجهين إلى الباب العالي وخدمهم بأنواع القرى ليحسنوا له بالباب ذكرا.

ثم لما عزل في بعض المرات مدة مديدة وضاقت يده لم يقبل عليه أحد منهم ولم يرد إليه خبر عنهم. وقد عزل حينا من الأحيان بأمر من السلطان ، ثم عاد ولم ينتطح في أمره عنزان ، ثم أيد عزله مرة أخرى وشدد على قاض يعيده أو صنجق يساعده أو يريده * ، فرحل إلى القاهرة ثم إلى الباب العالي فأعطي تدريس العصرونية عن ابن شيخنا البرهان العمادي.

٩١٨ ـ إبراهيم بن محمد الماسلوني المتوفى أواخر هذا القرن

إبراهيم بن محمد بن محمد الماسلوني الأصل الصهيوني المولد الحلبي الدار الشافعي ، صاحبنا. والماسلوني نسبة إلى ماسلون بفتح المهملة وضم اللام : قرية من قرى دمشق الشام.

ولد سنة ثمان وتسعين بتقديم التاء على السين وثمانمائة بالتقريب ، ثم انتقل به أبوه إلى حلب فاشتغل بها في العربية والعلوم الدينية على جماعة منهم البرهانان اليشبكي والعمادي والشمس السفيري والشهاب الأنطاكي.

وأكب على الطاعة والمطالعة ، ونسخ كتب العلم لنفسه والتصحيح لها ومذاكرة الطلب بخلوتيه بالعصرونية وجامع ابن أغلبك مع المداومة على الصيام في غالب الأيام والانزواء عن أرباب الدنيا وعدم السعي في المناصب والقناعة بفقاهة أعطيها بالمدرسة المذكورة معلومها في اليوم درهم واحد. وأعطي تدريس البلقاسية ** بالإبرام عليه ، فتركه ، ثم أحسن إليه طائفة من أهل الخير وزوجوه واعتقدوا بركته محقين في ذلك ، بل قد خطب وزوج امرأة أخرى وكفي من معتقديه المؤونة لإمداد الله تعالى إياه بالمعونة. ثم أصيب في ابنين له في الطاعون سنة اثنتين وستين فباشر بيديه غسلهما صابرا محتسبا ، وصار لهما يوم دفنهما مشهد عظيم ، ثم هاجر إلى مكة وجاور بها بعد حجة له أولى ، ثم عاد إلى حلب.

__________________

(*) في الأصل : يؤيده.

(**) لعلها القلقاسية.

٨٩

٩١٩ ـ محمد بن محمد الأنصاري المتوفى أواخر هذا القرن

محمد بن محمد بن الحسن الشيخ الفقيه شمس الدين الأنصاري السعدي العبادي الحنفي ، المتقدم ذكر والده.

لازمنا في الفقه وغيره ، ثم لما توفي والده أخذ في كتابة الوثائق الشرعية عند جمع من قضاة حلب ونوابهم وصار يراعي فيها الشروط ، ويكسوها من تحبير التعبير المروط ، فوق ما كان يفعل والده ، فانتفع به الناس.

وتداول مطالعة كتب الفقه بحسب تجدد الوقائع بالمحاكم الشرعية ، فمهر في الفقه وارتقى ، ثم تولى تدريس الرواحية مع أنها مشروطة للشافعية ثم تدريسا بالأرغونية مع أنها كما قال الشيخ أبوذر في تاريخه تربة أرغون الدوادار الناصري. قال : وبها دفن وكان متقيا. انتهى.

ثم توجه إلى الباب العالي وصحب معه رسالة ألفها وسماها «حلية الأبصار في فضائل الأنصار» ، فولي تدريس الصلاحية ثم القرناصية مع أنها مشروطة في أمر التدريس للشافعية ، ثم تدريس الجاولية للحنفية.

ولما توجه نصوح جلبي مفتي حلب إلى الباب العالي سنة أربع وستين وتسعمائة استنهضه بعض الناس في الكتابة على بعض صور الفتاوي ، فكتب لبعض الواردين عليه من غير أهل حلب كثيرا ومن أهلها قليلا.

٩٢٠ ـ مسعود بن يوسف الشرواني المتوفى أواخر هذا القرن

مسعود ابن الشيخ الفاضل المفتي جمال الدين يوسف ، الحلبي مولدا الشرواني محتدا ، الحنفي ، أحد سكان محلة جامع البكرجي بحلب.

تلمذ للشمس ابن بلال ، وتولى في الدولة السليمانية تدريس السلطانية.

وإنما كان من سكان هذه المحلة لكونها مسقط رأسه بواسطة أن أباه تزوج بنت بنت الشيخ الصالح أحمد الرهاوي البكرجي الذي ينسب إليه الجامع المذكور لما حكي أنه لما قدم حلب في طريق الحج نزل بأرض فيها محراب مجرد لاعمارة حوله ، فلاح له أن يعمر

٩٠

في تلك الأرض جامعا ، فحكى الخاطر لبعض من حضر فاهتم الناس بعمارته على أن كلا يجدد شيئا ، فكملوه عمارة ، ولهذا كان شيخنا الشيخ حميد الدين المتقدم ذكره ابن خال أمه.

وأما أبوه الشيخ جمال الدين فإنه كان مفتي الديار البرسوية في الدولة البايزيدية.

٩٢١ ـ جان بلاط بن عربو المتوفى أواخر هذا القرن

جان بلاط بك ابن الأمير قاسم الكردي القصيري المشهور بابن عربو ، أمير لواء أكراد حلب.

كان منصبه هذا أولا بيد الأمير عز الدين ابن الشيخ مند ، ثم بيد واحد من ذرية الملك خليل ، ثم كان بيده ، وذلك أنه لما غدر الأمير عز الدين بأبيه عند قراجا باشا أول من كان باشا حلب في الدولة العثمانية السليمية على ما ذكر في ترجمة الأمير عز الدين رفعه الباشا إلى سجن قلعة حلب ، فاتفق له أن أرسل ولده هذا وكان شابا مع ملا حسن الكردي مدرس الصاحبية بحلب إلى الباب العالي لعرض حاله وحل إشكاله ، فدخل الأمير عز الدين إلى باشا وأغراه عليه ونسب إرسالهما للشكاية على الباشا وأنه جمع بين تسع نسوة في زمان واحد ، فعرض به ، فطلب إلى الباب العالي السليمي فقتل به ، فما وصل ولده من طريق أخرى إلا ورأى أباه مقتولا ، فحنا عليه السلطان سليم وبقي عنده في السراي نحو ثماني سنين ، فلما تسلطن ولده المقام الشريف السليماني شهد معه فتح رودس فجعله من المتفرقة ، ثم جعله من أهل التيمار ، ثم ولاه صنجق المعرة ، ولم يكن حقه ذلك إلا بعد عدة مناصب اعتناء به. ثم لما كان بين أبويهما أول فتح ديار العرب من الود القديم وإن طرأ ما طرأ من العرض في أبي الأمير جان بلاط حتى قتل به فباشر سنجق المعرة ولا مضرة ولا معرة ، وقصر من كان بيده لواء أكراد حلب فسفك دماء جمع جم من الأكراد اليزيدية من قطاع الطريق واللصوص ، وجعل لهؤلاء سجنا هو بئر عميقة وأشبعهم بلاء حتى حسم مادة المفسدين منهم ، وخافه كل ذاعر من غير الأكراد لما بلغهم عنه. وتمكن من منصب الأمير عز الدين عدو أبيه ومن شيعته اليزيدية ودوره التي بناها بكلّز وحلب ومن زوجته

٩١

حتى تزوجها وولد له ولد (١) منها في بنين آخرين من غيرها صاروا رجالا ذوي مناصب في حياته.

ثم اشتهر أمره وبعد صيته في النصح للسلطنة فصار بحيث تفوض إليه التفاتيش العظام.

ثم بدا له أن ينشىء له دارا عظيمة بحلب فاشترى دور بني الإصبع داخل باب النصر وبيوتا أخرى وجعل الكل دارا واحدة لها دوار واسع وبها حمّام لطيفة ، وبذل على عمارتها وترخيمها أرضا وجدارا وفي أعمدتها وفصوصها ومنجورها ومنقوشها بالذهب واللازورد ، وفي قاشانيها وما ركبه ببحرتها من الفوّارات الفضية وما غرسه بجنينتها من أشجار السرو وغيره ما ينوف عن خمسة وعشرين ألف دينار كبير سلطاني وهي بعد لم تكمل ، وطلب مني ما يكتب في صدر إيوانها وإيوان قاعتها فكتبت له قولي :

أيها الماكثون بالإيوان

من عظام الإخوان والخلان

أذكروا جنة النعيم وداني

ما بها من قطوف دوح التداني

وارغبوا في الدنو منها بصدق

وخلوص فليس قاص كداني

هذه صورة تشير لمعنى

تجتنيه فهوم أهل المعاني

وطلب مني ما يكتب على باب قبتين فكتبت له :

هذه روضة تناظر أخرى

للتهاني ونزهة المقلتين

من جنى من جنى التهاني بكل

فليكن ذاكرا جنى الجنتين

وفي سنة سبع وستين كان توجهه إلى الباب الشريف بالخزائن الحلبية وفيها عاد مكرما من قبل صاحب السلطنة بالإذن منه في أن لا يعود من طريق قونية التي بها ولد المقام الشريف

__________________

(١) قوله : حتى ولد له ولد ، كتب الشيخ إبراهيم بن أحمد الملا في هامش نسخته ما نصه : أقول : هو والد حسين بك ، ثم إن الأمير جان بلاط غضب على والدته فقتلها ، وقد نشأ بعده ولده حسين بك هذا وحصل كمالات علمية وشارك في عدة فنون سيما علم الهيئة والميقات وحل الزايرجة وألمّ بالأوفاق ونحو ذلك إلى أن ولي سنجق كلّز وتقدم على أخيه الأمير حبيب مع أنه أسن منه وأكبر ، وعظم شأنه وكبر قدره إلى أن صار بكلر بكيا بطرابلس ثم بحلب ، إلى أن وقع له ما وقع مع نصوح باشا بسبب بكلر بكية حلب ، فحاصرها ودخلها رغما عليه وحكم بها شهورا إلى أن قتله سنان باشا ابن جغال السردار يومئذ بعد أن ولاه حلب ، فتولى عنه لما ظهر منه من الشناعات والإفحاشات في محاصرة حلب ، وكان قتله سنة خمس عشرة وألف ا ه.

أقول : قدمنا في الجزء الثالث (في ص ١٨٧) أخبار حسين بك وذكرنا ثمة أن قتله كان سنة ١٠١٤ والله أعلم.

٩٢

السلطان سليم عن رفع قصته إليه تتضمن ذكر خشيته أن يقتله إذا مر به لما يتوهمه فيه من الميل مع أخيه السلطان بيازيد ، وكانت النار يومئذ بينهم موقدة والمقام الشريف عاضد للسلطان سليم ، وإنما كان هذا من المقام الشريف لمزيد حبه إياه ، حتى كان يقول : هو جان بلاطنا ، فيضيف اسمه إليه ، وهذا الاسم هو الذي اشتهر بين الناس وإن كان المرقوم في مهره جان بولاد.

وبعد عودته هذه أظهر أنه عرض أمر الكنيسة التي أحدثها فرنج اليهود ، فأعطي الفتوى بتخريبها وحكما بموجب ذلك ، فعرض على قاضي حلب فحضر هو ومن معه في ملأ من وجوه الناس إليها ، فإذا اليهود قطعوا حبال قناديلهم وكتموها ووضعوا بالكنسية آلات المنازل والدور لأنها كانت في الأصل دارا ، فأبقي بناؤها على حاله ، ففتش على قناديلها فإذا هم دسوها في مكان ، ومع هذا صاروا مصرين على إنكار كونها كنيسة ، فقامت في وجوههم البينة بأنها كنيسة محدثة ، فحكم القاضي بتخريبها ، فأحضر الأمير الفعالة فخربوها ، فأخذ نساؤهم في الدعاء بالويل والثبور ، وأخذ المسلمون في رفع الأصوات بالتكبير والتهليل ، فتم أمر التخريب بحمد الله تعالى وحمد الناس الأمير على ذلك. ثم ظهر على يده حكم بإلزام اليهود المجاورين للمسجد الكائن بمحلتهم ببيع بيوتهم المجاورين له للمسلمين.

الكلام على هذه الدار :

هذه الدار إحدى الدور العظام القديمة التي في حلب ، وهي في محلة بندرة الإسلام ، وكانت تعرف بدار ابن عبد السلام ، وقد آلت إلى الشيخ حسن أفندي الكواكبي مفتي حلب المتوفى سنة ١٢٢٩ فوقفها على ذريته. ثم توفي عن الشريفة هبة الله فآلت إلى ولدها الحاج حسن بك بن مصطفى بك إبراهيم باشا زاده ومنه إلى أولاده وأولاد أولاده وهي الآن بيدهم يسكنونها.

هذه الدار واسعة الصحن جدا ، وفيها جنينة ، وفي الصحن حوض كبير هو أكبر حوض في دور حلب ، طوله ٦٥ قدما وعرضه ٤٠ ، وتحته صهريج على قدر الحوض. وهناك إيوان عظيم الارتفاع هو بيت القصيد في هذه الدار ، ارتفاعه (١١٠) أقدام وعرضه بما فيه القبتان اللتان تكتنفانه (٧٠) قدما وطوله داخل الإيوان من الشمال إلى الجنوب (٣٣)

٩٣

قدما ومن الشرق إلى الغرب (٣٤) ، وصدر هذا الإيوان جميعه مبلط بالرخام المعروف بالقاشاني على اختلاف ألوانه وأنواعه على أشكال هندسية وأوضاع بديعة أحكمت فيه الصنعة أيما إحكام ، تذكرك رؤيته إيوان كسرى وعظمته. وقد كتب على رخامة تحت كوة في أعلاه (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ). وهناك رخامتان كتب على إحداهما وهي اليمنى بالخط الكوفي البسملة وقل هو الله أحد إلى آخر السورة ، وعلى الثانية وهي اليسرى (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ).

وأما الأبيات التي ذكرها الرضي الحنبلي فإنها لم تكتب ، والقاعة التي أشار إليها لا وجود لها الآن ، وقد كانت على ما ذكر لي في شمالي الدار وقد تخربت واتخذ موضعها بيوت صغيرة اعتيادية.

وفي الجهة الشمالية من الدار إيوان صغير تصعد إليه بدرج من الطرفين وهو أيضا مبلط في أطرافه الثلاثة بالبلاط القاشاني على شكل يدهش الناظر إليه أيضا. وفي وسط الجدار الشمالي بلاطة كتب فيها (لا شرف أعلا من الإسلام) وقد لحق هذين الإيوانين شيء من التشعث وهما في حاجة إلى الإصلاح حفظا لهذا الأثر العظيم.

٩٢٢ ـ محمد بن نور الدين الإسحاقي المتوفى في هذا العقد

محمد بن نور الدين الحسيني الإسحاقي المشهدي الشافعي ، أمير الأشراف بحلب ، المشهور بالسيد شمس الدين النويرة.

ولد بحلب سنة تسع وتسعين وثمانمائة. وكان أبوه قيما بمشهد الحسين رضي‌الله‌عنه بحلب.

وكان مداقفا * مصارعا انتهت إليه رياسة المصارعين بها. وأما هو فإنه اشتغل قليلا بالعلم ، وكتب على الشهاب أحمد الكردي مجاور المدرسة الشرفية فحسن خطه ، ونال فقاهة بالعصرونية. ثم احتوى على عقل قاسم بن عبد الكريم المغربي وهو يومئذ متولي

__________________

(*) في در الحبب : منافقا.

٩٤

الجامع الكبير بحلب حتى قاده إليه فأخذ له بمكره تدريسا فيه ، وصار يحضر لديه فيه شيخان كبيران فاهتما بتحصيل العلم إلى حد الكبر وصارا يقرأان عليه شيئا من الفقه في قليل من الوقت وهو كثير من الأوقات متكىء على أحد شقيه لاستيلاء حب الراحة عليه.

٩٢٣ ـ خالد بن أبي بكر الأريحاوي المتوفى في أواخر هذا القرن

خالد بن أبي بكر بن محمد بن محمد بن محمد بن العلم المشهور بالولاية عبس الأريحاوي السرجي (نسبة إلى سرجة بفتح فسكون : قرية من قرى حلب) الصوفي الخرقة نزيل حلب.

كان قد جاور بالقدس الشريف مدة ، ثم ورد على سيدي علوان الحموي فسأله : أين كنت؟ فأخبره ، فأجابه بأنك لو تفقهت في هذه المدة لكان خيرا لك ، فانشرح صدره لملازمة الشيخ فلازمه. وكان الشيخ قد فوض للشيخ علي بن مقرع الحموي أن يتلقى شكاية الخواطر من شكاتها ، فذهب إلى الشيخ خالد وشرع يشكو له خاطره ، فأجابه بأنك في خمس عشرة سنة لم تشك بحماة خاطرا ، فما لك ولشكايته ، فذهب من ساعته إلى الشيخ الكبير وأخبره بما وقع له معه ، فقال له : بل في ثنتي عشرة سنة ، ولكن لا تشك بعد خاطرا إلا لي ، فصار يشكو له حتى انتفع به.

ثم رحل في حياته إلى حلب وبقي بها على طاعة وعبادة واعتقده طائفة من أهله لتعبده ونصحه وإرشاده بحسب حاله وكونه من ذرية سيدي عبس العلم المشهور بالولاية ، وبأنه لما أراد الملك الظاهر فتح عكا وتوجه إليها أرسل إليه رسولا يسأله المدد بالدعاء ، فحضر الرسول فإذا هو بزاويته ، فدخل عليه وسأله في ذلك ، فأدخل رأسه في جيبه وزيّق * ساعة ، ثم رفع رأسه فإذا عينه سائلة ، فقيل له في ذلك فقال : عين بفتح عكا ليست بكثير ، فإذا عكا فتحت. قال لي الشيخ خالد : وقميصه الذي أصابه دم عينه باق إلى الآن في بيتنا والدم الذي أصابه باق فيه ، ونحن نتبرك بالقميص الآن فنضعه على جنائز أمواتنا.

غير أنه بلغني عن الشيخ خالد أنه يورد بعض الأحاديث النبوية ملحونة فنهيته عن ذلك تلويحا لا تصريحا وحذرته من الدخول تحت حديث (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده

__________________

(*) أي شد طرف الجيب على العنق.

٩٥

من النار).

وكان سيدي علوان يميزه على العلاء الكيزواني مع سعة نطقه في الطريق بخلافه ، فقد أخبرنا صاحبنا الشيخ شمس الدين ابن الصابوني أنه لما غضب سيدي علوان عليه وهو يومئذ بحلب بعث إلى الشيخ خالد يأمره بقبول من يرد عليه من مريدي العلاء وطرد من يخرج عنه من مريديه إليه ، فشعر بذلك العلاء ، ثم اتفق أن تلاقى هو والشيخ خالد في طريق رجوعهما عن دفن الشيخ حسن الوفائي الخياط ، فبادره العلاء بالسلام والمصافحة وهو ينشد قول القائل :

وإذا السعادة لا حظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهن أمان *

ثم تفرقا من غير أن يجري بينها شيء آخر.

٩٢٤ ـ يوسف بن أحمد الحسيني الإسحاقي المتوفى في أواخر القرن ظنا

يوسف بن أحمد بن يوسف ، السيد الشريف جمال الدين أبو المحاسن الحسيني الإسحاقي الحلبي الحنفي ، ولد نقيب السادة الأشراف بحلب المتقدم ذكره ، من بيت كبير بها.

لازمنا في بعض شروح ألفية ابن مالك ومغني اللبيب وشرح الشمسية للقطب وتوضيح الأصول مع مطالعة التلويح عليه ، وكذا قرأ على الشيخ محمد بن مسلم شيئا من النحو وطرفا من علوم الحديث ، وعلى منلا حمد الله الخلخالي شيئا من كجك حاشيه ، وعني بمطالعة كتب الطب عبارة جيدة حتى استحضر منها الكثير. وولي قراءة الحديث بالجامع الأموي بحلب عن الشمس بن بلال فصار يقرؤه تجاه المحراب الكبير ويعظ الناس عقب قراءته الموعظة الحسنة. وكذا ولي تولية المدرسة الصلاحية.

٩٢٥ ـ حسين بن عمر النصيبي المتوفى أواخر هذا القرن

حسين بن عمر بن محمد ، الأصيل العريق الرئيس المدرس الشيخ بدر الدين ابن أقضى القضاة زين الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن النصيبي ،

__________________

(*) البيت للقاضي الفاضل.

٩٦

الماضي ذكر أخيه وأبيه.

ولد بحلب سنة إحدى عشرة ، فمات عنه والده ثم جده ، فربته وأخاه البدري الحسن جدتهما أم أبيهما بنت الشيخ الإمام الشمس محمد ابن الشماع الأيوبي الماضي ذكره ، فصانت لهما كتب جدهما بل آثار جدودهما من الكتب والوثائق الشرعية وغيرها فلم تفرط في شيء. وكانت من الصالحات لا تخرج إلى بيت أحد في تهنئة ولا تعزية أصلا.

فلما تأهل لتحصيل العلم أخذ في بعض المقدمات الصرفية والنحوية على شيخنا البرهان العمادي وشيخنا الشمس الخناجري.

فلما قدم حلب شيخنا الشهاب الهندي نقله إلى المدرسة الشرفية المجاورة لمنزله بعد أن حل بمنزلنا مدة فأكرم مثواه وقرأ عليه في أزمنة متفرقة من حاشية الهندي على الكافية ما دون نصف كراسة ، إلا أنه سمع منه هذا اليسير على نهج التحرير مطنب التقرير في عدة شهور كما هو مشهور إلى أن بدل ذلك بشرحها المشهور بالخبيصي ، فقرأ منه قطعة ثم قطعه ، ومع هذا يسمع ما قرأ به من المطوّل وحاشيته الشريفية عليه متى لاح له ويصرف فهمه الوقاد إليه متى بدا له ، إلى أن توفي الشيخ سنة تسع وثلاثين.

ولما نزل بالشرفية شيخنا ملا موسى بن عوض الكردي وصاحبنا الشمس محمد الغزي الشهير بابن المشرقي بجلهما وأسدى القرى إليهما ، وقرأ أحيانا عليهما.

وارتحل إلى حماة فدخل في مريدي سيدي علوان وحصل له به علو بل علوان ، وأنتج ارتحاله وحسنت يومئذ حاله ، فزوجه الشيخ ابنته فولد له منها تلميذنا الجلالي جلال الدين وغيره.

وكان في سنة سبع وثلاثين قد استجاز هو وصاحبنا سيدي أبو الوفاء ولد الشيخ جماعة في طي استدعاء كتباه ، فأجاز لهما شيخ الإسلام أبو الحسن محمد بن محمد البكري الصديقي الشافعي والشيخ محمد بن علي الذهبي الشافعي وغيرهم. قال : ومولدي سنة خمسين وثمانمائة. والشيخ محمد بن علي بن عمر الخطيب الطائي الشافعي قال : ولي دخل في الإجازة العامة من حافظ العصر ابن حجر رحمه‌الله تعالى ، فإن مولدي تقريبا سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ، وقاضي الحنابلة بالقاهرة في آخر الدولة الغورية الشهاب أحمد النجار الفتوحي شيخنا. وفي غضون دولة أخيه الجناب البدري حسن استعان به مالا وجاها فقابلته الرياسة

٩٧

وإنه لمن بيتها شفاها ووجاها.

وولي ما طلب من تداريس عدة بحلب ، واجتذب إليه قلب الصغير والأسن وخالط الناس وهو الحسين بخلق حسن ، وغني بصحبة الناصري محمد ابن السلطان الغوري إذ كان بحلب في مستلذاته ومسرات لياليه وليالي مسراته.

وحج وجاور وبذل في المجاورة كثير المال في قرى الخلان على أوفق الآمال. ثم عاد إلى حلب والوافدون من الحجاز وغيره إلى الباب العالي ، ومن الباب العالي إلى الحجاز وغيره يفدون عليه وينزلون عنده بالشرفية فيتلقاهم بالقرى والموائد الحسنة ويستفيد عند عشرتهم ما يستفيد سنة بعد سنة ، حتى صارت كأنها مكان سبيل لا مدرسة فقيه نبيل ، ثم اعتزل عنها وعن سكنى ما كان يسكنه داخلها ، فاشترى وراءها البيت المنسوب إلى بعض القارئين القاطنين بدمشق وغيره ، واستحكر من علو سوق الطواقية وما يليه الجاري في وقف الجامع الكبير شيئا ، فعمر فوقه قصرا منيفا مشرفة شبابيكه على صحن الجامع المذكور. وكان قد سألني في شيء من شعري يكتب به فقلت مضمنا :

اصعد إلى ربعنا العالي ونل فرحا

وانظر إلى الجامع الأسنى وفز بدعا

وقرّ عينا بكلتا الحالتين وقل

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

ثم تأهل ببنت التقويّ أبي بكر بن قرموط أحد تلامذة جده ففاز معها في بيت أبيها بعيشة العمرين ، فما مضى له معها القليل إلا وأحرقه بوفاتها بالطاعون الغليل ، وكذا بوفاة بنيه إلا الفاضل جلال الدين المكتوب إليّ على يده من شعر أبيه :

يا أيها المولى الذي لم يزل

له بقلبي منزل لا يرام

وماجد طابت أصول له

وعالم قد فاق بين الأنام

وصاحب الفضل الذي فضله

واف جليل مثل سجع الحمام

جلالنا سار لإحسانكم

يروم درسا نافعا يا إمام

سررت لما سار يبغي العلا

وقلت يا بشراي هذا غلام

فوجّه الهمة يا سيدي

نحو جلال الدين نجل الكرام

لعله يبلغ شأو العلا

وشيخه يبلغ منه المرام *

__________________

(*) البيت ملفق من بيتين هما :

٩٨

هذا لساني طال في مدحكم

والقلب في الحب رهين الزمام

والعهد باق ودعائي لكم

واف وودّي دائم والسلام

ثم لم يبرح الشيخ بدر الدين على الرياسة والشهامة مع جلال الملبس ومزيد كبر العمامة نهابا وهابا يقري القرى ويجيز الشعرا ، مثابرا على التنزهات لا يكترث لهجوم الأزمات ، وينتهز فرص اللذات عن قوي عزمات ، ويخالط القضاة والأمراء والدفتردارية في عدة كبراء ، إلى أن سأل بعض أمراء حلب قاضيا من قضاتها عن درجته في العلم يوما من الأيام فقال : إن له مسبحة يسبّح بها في كل حين ، فاستفسره عما أراد ، فأشار إلى أن له مسائل مخصوصة ما جلس بمجلس إلا أعادها كأنه كان عادّها.

ومن مادحيه من الشعراء الشيخ عبد الرؤوف اليعمري حيث قال في مطلع مديحه :

جاد جود الحيا حياة القلوب

وحبانا بمنزل وحبيب

وجلا من جبينه الصبح شمسا

طلعت في الشروق بعد الغروب

قمر لاح فوق قامه غصن

ينثني بالدلال فوق كثيب

نقش الحسن عارضيه ووشّى

لازورد العذار بالتذهيب

إلى أن قال :

قد حوى ورد خدّه مسك خال

عمّ بالعرف مسكه كلّ طيب

فشممنا مع مسكه ماء ورد

في الإمام الحسين ابن النصيبي

من إذا اختار كل شخص نصيبا

كان هذا النصيب أوفى نصيب

الجليل الجميل أصلا وفرعا

غاية القصد منتهى المطلوب

إلى أن قال :

ولعمري فرع الجمال إذا ما

جاء منه الجلال غير عجيب

وكان حقه أن يعكس فيقول :

ولعمري فرع الجلال إذا ما

جاء منه الجمال غير عجيب

__________________

لعله يبلغ شأو العلا

ويرتقي بالعلم أعلى مقام

ويبلغ الوالد آماله

وشيخه يبلغ منه المرام

٩٩

لأن الممدوح فرع القاضي جلال الدين وكأنه لم يلاحظ ذلك ، وإنما لاحظ ولده الفاضل جلال الدين ، وجعل اللف والنشر في قوله الجليل الجميل أصلا وفرعا مشوشا لا مرتبا.

ومن شعر البدري سوى ما ذكرناه ما وقع له مع الشهاب أحمد بن الملا إذ تساجلا فقال الشهاب :

ضرب من السحر أم ضرب من الكحل

ما بان من طرفك الأمضى من الأجل

وقدك المائس العسّال منتشيا

غصن من البان أم لدن من الأسل

فقال البدر :

والورد خدّك أم لون العقيق به

أم لون كاسك أم ذا حمرة الخجل

والشهد ريقك أم برد الرضاب له

حلاوة أين منها نكهة العسل

فقال الشهاب :

يا بدر تمّ إذا ما حل دارته

لام العذار كساه أفخر الحلل

أيقظ نواظرك السكرى فقد ظهرت

عقارب الصدغ تبغي دارة الحمل

فقال البدر :

وارحم فؤادا كواه الحب من شغف

ولا تمل نحو من يصغي إلى العذل

وجد بتقبيل ثغر راق مبسمه

يشفي مريض الهوى من شدة العلل

فقال الشهاب :

واستبق روحي وخذها في رضاك وقل

هذا محب عن الأعتاب لم يحل

فقال البدر :

وارفق بدمع من الأجفان منهمل

على خدود علتها صفرة الوجل

فقال الشهاب :

واحفظ عهود الوفا واجف الجفا كرما

واقصد إلى ما عسى يدنو من الأمل

١٠٠