إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

وقوله من قصيدة :

هاج لي برق الحمى ذكر الحمى

فاستهل الدمع من عيني دما

مرّ بي وهنا فأذكى لا عجا

في فؤادي حره قد أضرما

وانثنى يروي أحاديث الصبا

منجدا طورا وطورا متهما

آه من دمع لذكر المنحنى

كلما حركه الوجد همى

يا رعى الله عهودا بالحمى

نقض الدهر بها ما أبرما

وليال منحتنا صفوها

فانتهبنا العمر فيها حلما

ومعان ضرب الحسن على

عذبات البان منها خيما

ورعى دهرا بها قد مر لي

في رباها بالأغاني مغنما

حيث غصن العيش فيها يانع

وبجفن الدهر عن ذاك عما

وسميري شادن لو لاح للبد

ر اعتراه من محاق سقما

ظبي أنس صيغ من لطف ولو

مر بالوهم تشكى الألما

نقله من قوله سيف الدولة :

قد جرى من دمعه دمه

فإلى كم أنت تظلمه

ردّ عنه الطرف منك فقد

جرحته منه أسهمه

كيف يسطيع التجلد من

خطرات الوهم تؤلمه

عودا :

ساحرا المقلة مهضوم الحشا

سمهري القد معسول اللمى

ما تثنى من ثنيات اللوى

مائلا إلا أرانا العلما

ألف الهجر فلو يخطر بي

طيفه في سنة ما سلّما

كتب الحسن على وجنته

بفتيت المسك خطا أعجما

معشر اللوام إن جزت اللوى

فقفوا واستنطقوا تلك الدمى

ثم لوموا إن قدرتم بعدها

عاشقا فيها استلذ الألما

وقوله :

عجبا للعذول كيف لحاني

ورأى الشوق قائدا بعناني

٤٦١

وأتاني من عذله بفنون

في هوى ذلك الغزال الجاني

يا عذولا على الصبابة فيه

كف عذلي عن طرفه الوسنان

لا تلمني فقد علقت بظبي

سرقت قده غصون البان

هو نشوان من عصارة خديه ولا

من عصير بنت الدنان

يمزج الدل بالنفار ويفتر دلالا

عن مثل حب الجمان

يا لها سبحة تراءت لعيني

درر سلكها من المرجان

قد حمى خدّه بآيات موسى

فنمى السحر فيه في الأجفان

بدر تم في كل يوم تراه

في ازدياد والبدر في النقصان

رشأ ما بطرفه من سقام

ما بجسم المضنى الكئيب العاني

وقوله أيضا :

من عذيري في هوى رشأ

طرفه بالسحر مكتحل

ينثني كالغصن من هيف

بقوام زانه الميل

شادن يفتر عن برد

ناصع في ضمنه عسل

تاه عجبا في خمائله

فهو من خمر الصبا ثمل

ذلتي فيه كغرته

بكلانا يضرب المثل

ومن مقطعاته أيضا :

وكأنما جرم الكواكب قد بدت

للناظرين على غدير الماء

شرر يبدّده النسيم بمدّه

من فوق وجه ملاءة زرقاء

وله أيضا :

لهفي لماضي عيش تقضى

والعيش فيه حظ وريق

أيام في حينه التصابي

نقل وراحي غصن وريق

وله أيضا :

كلما رمت سلوة عن هواه

جاء ناه من حسنه مقبول

خط لام العذار مع ألف

القد يصدانني فكيف السبيل

٤٦٢

وله في معذر :

قالوا تعذر فاقلع عنه قلت لهم

كفوا الملام فقد حلى محاسنه

فالبدر ليس له نور يضاء به

إلا إذا ما سواد الليل قارنه

وكان المترجم بدمشق في أحد قدماته إليها ، وكان ممن يصحبه ويرافقه الشيخ مصطفى العمري الدمشقي ، ففي أحد الأيام وقف في محلة القباقبية بالقرب من دار العمري المذكور هو وإياه ، فنظر إلى غلام هناك في حانوت يبيع التتن قده مائل ، وورد خدوده غير ذابل ، بحسن راق مجتلاه ، وفاق نور سنا محياه ، وله خال يجلس معه في الحانوت ، وأيضا على خده خال كفتيت المسك في صحيفة الياقوت ، فقال له المترجم : هل تبيعني شيئا من التتن؟ فقال : ولا بأس ، ووضع له شيئا من ذلك وفت عليه سحيق مسك كان في ورقة ، وقال له الغلام : هذا المسك من خالي ، وأراد به خاله الذي هو أخو والدته ، فعند ذلك طرب المترجم من هذه الموافقة والقضية ، وأنشد ناظما هذين البيتين من فكرته السنية ، فجرت فيهما التورية اللطيفة وهما قوله :

بحبة مسك قد حباني جؤذر

وأشجى فؤادا كان عن حبه خالي

وقال ألا لا تحسب المسك من دمي

لكوني غزالا إنما المسك من خالي

وله في وصف جواد سابق :

وطرف لجينيّ الإهاب تخاله

شهابا إذا ما انقض في موقف الزحف

يسابق برق الأفق حتى إذا رنا

يسابق في مضماره موقع الطرف

ومن معمياته قوله في أحمد :

قم يا نديمي نصطبح ساعة

على غدير ماؤه كالنضار

فقد أزاح الظبي تاج الطلا

ودارها صرفا كما الجلنار

وقوله في مليك :

أيا نسيما قد سرى موهنا

رفقا بصب خلفوه لقى

فناظري مذ لاح برق الحمى

غصن وقلبي ذاب مذ أبرقا

وقوله في درويش :

٤٦٣

رب روض قد حللنا دوحه

وتمتعنا اغتباقا واصطباحا

طاف بالورد علينا شادن

زاد بالقلب غراما حين لاحا

وقوله في مسلم :

مذ بدا يثني قواما مائسا

قلت والعين بماء تذرف

بلماك العذب يا غصن النقا

جد على مضنى براه الأسف

وقوله في أغيد :

بدر تم ينثني من ميد

بقوام مائس يسبي العذارى

أقسمت ألحاظه النجل بأن

تخلع السقم على قلبي شعارا

وغير ذلك.

وكانت وفاته في سنة ثمان وأربعين ومائة وألف بقسطنطينية رحمه‌الله. ا ه.

وأورد له المرادي في ترجمة الشيخ إبراهيم المرادي هذه الأبيات :

بأبي مشرق الجيوب بوجه

هو كالبدر في دجى الأغلاس

قد جلته يد التلاقي علينا

مسفرا في ملابس الإيناس

وأمال العناق نحوي عطفا

يزدهي من قوامه المياس

فتجارت سوابقي من دموعي

قطّرتها صواعد الأنفاس

فتلقى بفاضل الردن دمعي

مذ رأى فيض عبرتي ذا انبجاس

فتأوهت حين أنكر حالي

قائلا وهو بانعطافي مواسي

إن دمع السرور غب التلاقي

هو أحلى من ماء حب الآس

وأورد له في ترجمة حامد العمادي مشطرا :

نظرت إليها فاستحلت بنظرة

محارم سرّ قد تضمنها القلب

وفاض بقلبي من شؤون مدامعي

دمي ودمي غال فأرخصه الحب

وغاليت في حبي لها ورأت دمي

بتقطير أنفاسي بوادره سكب

وحال عقيق الدمع درا وقد غدا

رخيصا فمن هذين داخلها العجب

وسيأتي له أبيات في ترجمة الشيخ عبد اللطيف الكوراني الآتية قريبا.

٤٦٤

وترجمه الشيخ كمال الدين الغزي العامري الدمشقي في كتابه المسمى «بالمورد الأنسي في ترجمة النابلسي» فقال : مصطفى بن محمد الشافعي الحلبي الشهير بالبتروني ، الشيخ الأديب الشاعر الناظم الناثر الأوحد المتفوق أبو البهاء بهاء الدين. ولد بحلب ونشأ بها ، ثم رحل إلى دمشق وأخذ بها عن الأستاذ (النابلسي). قال الأستاذ في «ديوان المراسلات» : وقد أرسل لنا عام ثمان وعشرين ومائة وألف من حلب الشهباء مفخر الأفاضل مصطفى جلبي البتروني حفظه الله هذا الموشح البديع وهو قوله (١) :

هاج أشجان الجوى برق الحمى

مستطيرا في دياجي الغلس

شب في قلبي وأذكى ضرما

حين أورى زنده كالقبس

كلما لاح فقلبي يجب

باحتراق وخفوق واضطراب

دور

قد حكى قلب الشجي إذ ومضا

باضطراب وخفوق ووجيب

شاق مذ ضاء على ذاك الأضا

كل صب في الورى مضنى كئيب

فهو في الظلماء سيف منتضى

وجريح من بني الزنج سليب

أودع الأكباد نيران الغضا

ومضى خلوا من الوجد سليب

كان يحكي زينبا مبتسما

لو تحلى بالرضاب اللعس

أو حكى لون طراز رقما

بنضار في حواشي أطلس

دور

من لصب راح مسلوب الكرى

قلق الأحشاء ممنوع الرقاد

دمعه في الخد يحكي ما جرى

مستهل ليس يدري ما النفاد

ما درى هل ذلك الظبي درى

أن مضناه على شوك القتاد

ساهرا بات يراعي الأنجما

في دجى الليل البهيم الحندس

مغرم راح يقاسي الألما

من جفا جور الظباء الكنس

__________________

(١) هذا الموشح وجدناه في مجموعة عند صديقنا الشيخ عبد القادر الهلالي شيخ الزاوية الهلالية ، وفيه زيادات عما هنا وبعض مغايرة ، فاعتمدنا على ما في هذا المجموع. وفيها كثير من نظم المترجم.

٤٦٥

دور

يا رعى الله عهودي باللوى

ومغاني الشعب من وادي العقيق

حيث روض الأنس معتل الهوى

وبه غصن المنى غض وريق

معهد قد عاهد القلب جوى

في رباه بالهوى عهدا وثيق

وسقته السحب منها ديما

قد همت بالعارض المنبجس

وشفا من حرها برح الظما

وجلته في مروط السندس

دور

يا أهيل الشعب كما هذا الجفا

لمشوق لم يجد عنكم بديل

أترى هل تسمحوا لي بالوفا

ونرى ظل اللقا منكم ظليل

إن جفني مذ نأيتم ما غفا

وغدا ليلي من الهجر طويل

فارحموا من صار فيكم مغرما

وبثوب السقم منكم قد كسي

والهوى جار به مذ حكما

وهو من لقياكم لم ييأس

دور

حل في قلبي منكم قمر

ظبي أنس تخذ القلب مقام

شادن في الثغر منه درر

نظمت فيه حباب في مدام

ذو لحاظ زانهن الحور

راش منها السحر في القلب سهام

عندمي الخد مسكي اللمى

جال في فيه شراب الأكؤس

لذ في تعذيبه سفك الدما

وحلا فيه ذهاب الأنفس

دور

كم ليال بت فيها قاطفا

زهر الوصل بكف القبل

لاثما طورا وطورا راشفا

شنبا مثل الرحيق السلسل

وبواو الصدغ يثني عاطفا

قده المزري بقد الأسل

فضممت الخصر منه مثلما

ضمت الأسهم أعطاف القسي

وغدا يحسدني بدر السما

حيث بدري قد أضا في مجلس

دور

ليل وصل قد تناهى قصرا

يعثر الفجر به في الشفق

٤٦٦

وغدا فيه لساني حصرا

فتناجينا بوحي الحدق

وارتفشت الراح فيه خصرا

من رضاب مثل ذوب الورق

عطرت أنفاسه مني فما

وكسا طيب شذاه نفسي

فنظمت الدر مني كلما

في ثنا عبد الغني النابلسي

دور

نور مشكاة مصابيح الهوى

مظهر الأسرار فراج الكرب

من بأنوار هداه يقتدى

إن دجا الشك وعم المحتجب

أطول العالم في العلم يدا

وأمد الخلق في الفضل سبب

نفثت في الروع منه عندما

راهق التمييز روح القدس

وغدا عند التناهي علما

ساطع الأنوار للمقتبس

دور

بحر علم قد طمت أمواجه

لذوي الإخلاص من خاص وعام

وتناهى في العلا معراجه

حيث لم يبق إلى مرقى مقام

ولكل قد أضا منهاجه

فلهذا غص من فرط الزحام

ومن الفضل أرانا أنجما

في دجى الجهل البهيم الحندس

يهتدي السالك منها بدمي

تنجلي مثل الجوار الكنس

دور

يا له روض كمال ناضر

عطر الدنيا بزاكي عرفه

جمل الكون بفضل باهر

قصرت أفهامنا عن وصفه

ولكم أحيا لعلم داثر

بعقود نظمت من وصفه

وجلا عن طرق الحق عمى

بعدها الأفهام لم تلتبس

فهو محيي الدين في العصر وما

غيره يسمو لهذا النفس

دور

يا فريد العصر يا قطب العلا

يا منار الحق إن ضل الأثر

هاكها عذراء زينت بحلا

وأتت ترفل في برد الحبر

٤٦٧

وشحت في مدحكم بين الملا

لعقود فصلتها بدرر

ترتجى ملتمسا والإنتما

للمعالي بغية الملتمس

دمتم الدهر ملاذا وحمى

ما عفا المحسن فيه عن مسي

ا ه.

وله ملغزا في إبرة القبلة كما وجدته في المجموع المتقدم :

وذاك عراك والسكون طباعها

بها يهتدي من ضل عن قصد وجهتي

إذا اضطربت ضلت وإن هدأت هدت

وحيث استدلتها النفوس اطمأنت

إذا ما بدا الأهواء أثنت عنانها

عن المقصد المهويّ ثنت برجعة

وله :

ولاح لنا قوس السحاب كأنه

وقد نثرت فوق الثرى درر القطر

هلال لجين فوقه نصف دارة

عقيق تردت بالزبرجد والتبر

وله :

لقد هطلتنا في الصبوح سحابة

موشحة الأكناف بالبارق الومض

وحاكى لنا قوس السما في انحنائه

علاقة صطل زرفنت كرة الأرض

وله من قصيدة :

لما تبدى وكاس الراح في يده

حسبته من جنا خديه قد رشحا

فمذ حساها وقد ألقت أشعتها

في عارضيه أرتنا قوسه قزحا

وله في بطيخة خضراء :

وبطيخة خضراء تجلو صدى الصدي

إذا فصلت حيّت بلون مورد

كياقوتة حمراء أودع ضمنها

فصوص بلخش في إناء زمرد

وله :

يا ردفه الرامي المناط بخصره

علقت نفسك في الهوى بمحال

ولأنت مع فرط الضنى يا خصره

أتقنت علم الجر للأثقال

٤٦٨

وله في مطلع قصيدة طويلة عثرت عليها في ورقة قديمة الخط وفيها ٤٣ بيتا وهي لم تتم بعد يمدح بها ولي الدين الكواكبي حينما أمر بالإقامة بحلب مسليا له :

سرى وظلام الليل وحف الذوائب

وزورة طيف الحب إحدى المآرب

سرى طارقا يفلي الفيافي ودوننا

سباسب بيد أردفت بسباسب

طوى شقة البيداء والبرق هاتك

بمرهفه الماضي جيوب السحائب

وزار وقد غضت من الشهب أعين

وجفن غيور الحي نيط بحاجب

تجشم هول الليل يقطع برده

فما دله غير الأنين لجانبي

ومنها في أواخرها :

وما علموا أن التفرق باعث

لتضعيف أشواق القلوب السواغب

فكم حاضر والعين تقذى بقربه

وناء عن الأفكار ليس بغائب

فإن أسارير الرضى من جهاتها

ترف وإن وفته في شكل غاضب

وبالجملة فإن شعره كله غرر ولم أجده مجموعا ، ولو عني بجمعه لجاء ديوانا حافلا.

١٠٥٢ ـ عبد الرحمن بن محمد البيري البتروني المتوفى حول سنة ١١٥٠

عبد الرحمن بن محمد المعروف بالبيري البتروني ، الأديب البارع.

كان دمث الأخلاق طيب الأعراق ، له أدبية غضة وسجية خضلة. وأخوه الأديب الذي أنجبته الشهباء وتفوق فضلا وأدبا مصطفى البيري. وهذا خرج من حلب سنة أربعين ومائة وألف لضيق أحواله ، فلحق بالقارظين ، ولم يلق غير خفي حنين ، ولم يقف له أحد على مكان.

وكان له شعر بقي في مسوداته ولم يجمع ، فمما وصلني منه ما وجد بخطه وهو قوله :

تبدى وبدر التم من خجل مغضي

وماس كخوط البانة الرطب الغضّ

ودار بياقوت الخدود زمرد

من النبت زاه لاح في المغرس الفضي

وخالسني من مقلتيه بنظرة

فأحرم أجفاني بها لذة الغمض

وأنهك جسمي حبه ونفاره

فغادرني لا أستطيع إلى النهض

٤٦٩

وإن شام لحظ العين بارق ثغره

يجود بغيث الدمع من ذلك الومض

إذا ما رنا نحوي بجارح لحظه

حسبت فؤادي نهب أجدل منقض

وكنا تقاضينا على دين قبلة

فأرهنته قلبي الشجيّ ولم يقض

وما طلني في دينه وهو موسر

وظلم ذوي الإيسار يمطل بالقرض

وقفت له عكس اسمه متذللا

وأفرشت في ممشاه خدي على الأرض

ولم أنس لما عاقرتني بكأسها

يد البين حتى كدت من سكرتي أقضي

مناشدتي إياه وقت وداعنا

وصيّب دمعي فوق خدي مرفض

أمثخن قلبي من ظبا لحظاته

جراحا أمضت بعضهن على بعض

حذارا على قلبي بحبك قد غدا

جذاذا وقد آلت مبانيه للنقض

وما أسفي أن ينعفي غير أنه

كناسك وافعل ما تشا فهو المرضي

متى تجل عني ظلمة الصد والجفا

بصبح وفاء من وصالك مبيض

أقول : ما ألطف قوله : وقفت له عكس اسمه ، فإن مراده بمعكوسه سائلا ، لأن المحبوب الذي تغزل فيه اسمه إلياس كما أخبرني بذلك بعض الأدباء الحلبيين.

ولم أتحقق وفاته رحمه‌الله.

ومن نظمه وهو ما وجدته في تاريخ عبد الله ميرو :

أأحبابنا كفوا صدودكم عنا

فقد بلغ الأعداء ما حاولوا منا

وعطفا على صب إذا جن ليله

وأضرم فيه الشوق من نحوكم جنا

وإن هبت الأرواح من نحو أرضكم

دري أيها مرت على ذلك المغنى

وإن خطرت ذكراكم في فؤاده

يحن لكم شوقا على أضلع تحنى

تبدلتمو عنا بصحبة غيرنا

فو الله عنكم لا بشيء تبدلنا

وأخفيتمو عنا الوصال وطيبه

وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا

فتحتم لقول العذل أذنا سميعة

تصيخ ولم نفتح لعذالكم أذنا

وأرضيتم من في جليلكم سخا

وأسخطتم من في قليلكم ضنا

وسالمتمو من أضمروا لكم الأذى

وحاربتمو من أظهروا لكم الحسنى

أغدر وفيكم ذمة هاشمية

أهجر وفيكم للوفاء تمكنا

فيا ليتنا لم نفتتن بهواكم

ويا ليتنا يوما بكم ما تعرفنا

٤٧٠

وله من قصيدة :

ونبئت أن الجيد أصبح عاطلا

فدونك ما للعقد عوقب بالهجر

فإن تشفقي من وحشة الجيد للحلى

خذي أدمعي إن كنت غضبى على الدر

خذي فانظميه أو كليني لنظمه

لئلا يخل النظم بالغضب المغري

لأني أدرى منك في نظم دره

عقودا على تلك الترائب والنحر

خذي اللؤلؤ الرطب الذي لهجوا به

عشية يوم البين في ساعة النفر

فسمساره شوقي وجالبه الأسى

وتاجره جفني ولجته صدري

ولا تخبري حور الجنان فربما

تغايرن مما فاق للأنجم الزهر

وكتب إلى بعض أحبابه في صدر كتاب :

أبرق اليماني قد أهجت بي الكربا

وذكرتني من كنت آلفهم حبا

وحركت أشواقي إلى زمن مضى

وردت وأحبابي به موردا عذبا

وذكرتني ساعات أنس نهبتها

بسالفة الأيام من زمني نهبا

فيا أبرق الحنان هل منك منة

تدعها أمينا في ضمائره تخبا

حفيظ عليها عارف بامتنانها

ذكور لمسديها وإن قدمت حقبا

تحمل لذاك الخل مني رسالة

ونب بتحياتي إلى قمر الشهبا

وله والأصل للفرس :

ولما رنا نحوي بجارح لحظه

وروع قلبي هدبه بالتناضل

أصيب الحشى ما بين جيشي جفونه

ولم أتحقق من أصاب مقاتلي

ومذ أطبقا جيش الجفون بغضه

أضيع دمي هدرا وأبهم قاتلي

وله كما وجدته في بعض المجاميع مضمنا عجز بيت للمتنبي وقع تاريخا سنة ١١٢٠ :

عصر محا لذنوب الأعصر الأول

لما أظل بعام مخصب خضل

عام غدا باسما ثغر الربيع غدا

عن لؤلؤ النور غب العارض الهطل

قد قارنت غرة النوروز غرته

وحلت الشمس فيه دارة الحمل

وقد كسى الأرض من موشيّ سندسه

وراح يجلو عروس الروض في حلل

٤٧١

وقد غدا وارفا * ظل السرور به

وانجاب بالأمن ليل الخوف والوجل

حتى إذا ما صفت أوقاته دعة

وقيل تم على وفق من الأمل

أعاذه الله من عين الكمال لنا

بعلة هو منها بالجراد بلي

فأطلع الخصب جند الريح فيه على

طليعة المحل فارتدت على عجل

نرجو يصح إذا ما عل أرخه

(فربما صحت الأجسام بالعلل) ١١٢٠

١٠٥٣ ـ عبد اللطيف بن أحمد الكوراني المتوفى سنة ١١٥٠

السيد عبد اللطيف بن أحمد المعروف بالكوراني الحنفي الحلبي ، الشريف لأمه ، الفاضل الأديب البارع النبيه الكامل.

كان من محاسن الأدباء ، وظرفاء الأفاضل النبهاء ، ذو صون من الوقار مفضوض ، وطرف من الحياء مخفوض ، جميل الصفات والأفعال ، مسدد الآراء والأقوال.

ولد بحلب وبها نشأ ، وقرأ على أفاضلها كالمولى أبي السعود بن أحمد الكواكبي المفتي ، والعالم الشيخ حسن التفتازاني وغيرهما. وظهر أدبه ونظم ونثر ومهر بالعلم والفنون ، وكانت له اليد الطولى على أحبابه.

ووالده كان رئيس كتاب المحكمة الكبرى بحلب لدى قاضي قضاتها ، واستقام بذلك مدة سنين مديدة ، ثم تولى إفتاء الحنفية بحلب. وكان فاضلا فقيها. وولده المترجم أولا تعانى الكتابة في المحكمة ، ثم صار إيكنجي (ثاني) رئيس الكتاب أيضا ، فلم يتعاط أمور الكتابة في المحكمة ولزم الانزواء والعبادة.

وكان شاعرا ، وشعره حسن مطبوع. ومن شعره ما كتبه جوابا عن قصيدة أرسلها إليه الشيخ قاسم البكرجي الحلبي وهي قوله :

جاءت تميس بقد دونه اللدن

حوراء ما حل جفني بعدها الوسن

مهضومة الكشح عبل الردف ناعمة

ومن سنا وجنتيها الشمس ترتهن

حوراء تختلس الأرواح طلعتها

لها بكل فؤاد للورى سكن

__________________

(*) في الأصل : وارف.

٤٧٢

ترمي لواحظها عن قوس حاجبها

نبلا تصون اللمى والقلب مفتتن

جلت عليّ كؤوسا من مراشفها

وبددت نظم در كان يكتمن

وسرت القلب إذ أبدت مسائلة

وخاطبتني فزال الهم والحزن

فهل حكت ظبية الوادي شمائلها

كلا ولا أطلعت صنعا ولا عدن

مليكة الحسن قد عمت محاسنها

كفضل مولاي ذاك الجهبذ اللسن

طود الحجا قاسم من قد سما وعلا

به على سائر الأزمان ذا الزمن

حلّال كل عويص في مباحثه

مهذب الفهم إلا أنه فطن

لا عيب فيه سوى باهي مكارمه

وحسن أخلاقه بالعلم يقترن

من رام شأو علاه ظل ينشدنا

(تجري الرياح بما لا تشتهي السفن)

يا روضة الأدب الغض النضير ويا

من نظمه درر لم يحصها ثمن

أتت إليّ عقود أنت صائغها

قد رصعتها يد ما شانها وهن

من كل معنى بديع راق مبتكر

عرائسا يعتري حسادها ضغن

وقد أجبت لعالي الأمر ممتثلا

لكنني في القوافي باقل لكن

خذها إليك تجر الذيل من خجل

وحشية في خلال الطرق تكتمن

ولا برحت مدى الأيام مبتكرا

معانيا دونها العقبان تمتهن

ودم بعز قرير العين مبتهجا

بفضلك الدهر والأحباب والوطن

ما لاح برق وما هب النسيم وما

سقى الرياض شآبيب الحيا الدجن

وقصيدة الشيخ البكرجي المذكور هي قوله :

أبعد سلمى يطيب العيش والوطن

وهل يعود لصب ذلك الزمن

والجفن يهمي بدمع من سما مقل

فسل محاجرها هل زارها الوسن

آها لأيام وصل لو تعاد لنا

بذلت روحي لها لو أنها الثمن

أيام كان حبيب فيه طوع يدي

والعيش صاف ونجم السعد مقترن

وبيننا ما إذا فهنا به وبدا

إلى العذول علاه الهم والحزن

فيا له زمنا كان الشباب به

في عنفوان الصبا والقلب مرتهن

بأهيف لو تبدى غصن قامته

تطاير القلب لا يبقى له شجن

وقوس حاجبه المعوج كم رشقت

من لحظه أسهما قامت به فتن

٤٧٣

ما سحر هاروت سحر عند مقلته

كم غزلت وغزتنا وهي تكتمن

وثغره قد حوى درا بمبسمه

وعند رشف لماه الشهد يمتهن

وخاله عمه حسنا وزاد به

لولاه كافور جيد منه لا يصن

والخصر منه دقيق دق في نظري

كفهم مولاي ذاك العارف الفطن

عبد اللطيف الذي باللطف منجبل

عن درك أوصافه قد قصر اللسن

السيد الكامل ابن الكامل ابن ذوي

الأفضال والعلم ندب وصفه حسن

من آل كوران بيت المجد نسل تقى

فرع الكرام زكيّ الأصل مؤتمن

خدن السداد ومقدام الرشاد كذا

أبو المعالى الذي أثرى به الزمن

بالعلم والفضل سدتم في زمانكم

وتحسد العين في رؤياكم الأذن

قس بن ساعدة تلقاه باقل إذ

ينشي الرسائل في بحث ويمتحن

سحبان يسحب ذيل الفضل منه حيا

وأمرؤ القيس في أشعاره غبن

يا ماجدا قد حوى في المجد منزلة

ومن حوى رتبة لم يحوها فطن

وافاك ناظمها الغر الذي حكمت

عليه ضيق القوافي أنه الجبن

وإن تكن قصرت في مدح سيدها

لكن بمدحك منها طابت اللسن

شنف مسامعنا من در بحرك إذ

لا غرو فالدر في الأبحار مكتمن

واسلم ودم وابق ياغوث الزمان لنا

على مدى الدهر لا يزري بك الزمن

وللمترجم أيضا :

كأن ذا الثغر روض ورد

جناه من قبلنا خصيبا

ونحن جئنا لنجتنيه

فراعنا شوكه جديبا

وفي ذلك للشيخ قاسم البكرجي المذكور :

قد اجتلى الدهر أناس مضوا

من قبلنا كالبدر في تمّه

ثم اجتلاه بعده فتية

مثل هلال الشك في رسمه

ونحن لم نلق هلالا ولا

بدرا سوى الأكدار من غمه

وفي ذلك للأديب مصطفى بن محمد الحلبي المعروف بالبيري :

لقد وردوا من قبلنا ورد دهرنا

نميرا بأنفاس النسيم مبردا

٤٧٤

وقد وردوا من بعدهم منه آجنا

يعاف مساغا حين بالحمأة ارتدى

ونحن وردناه سرابا بقيعة

يغرّك مرآى وهو لا ينقع الصدى

والأصل فيه قول المتنبي :

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرهم وأتيناه على هرم

وذيله الأديب السيد حسين بن كمال الدين الأبزر الحلي فقال :

وهم على كل حال أدركوا هرما

ونحن جئناه بعد الموت والعدم

ولصاحب الترجمة أشعار غير ذلك ما ذكرناه. وبالجملة فقد كان من الأدباء المشاهير أهل الكمال والعرض.

وكانت وفاته في سنة خمسين ومائة وألف ، ودفن بحلب في خارج باب المقام بمقابر الصالحين ، وسبب ذلك أنه طولب بدين كان عليه بعنف ، وكان يتهم بالثروة مع أنه صفر اليدين ، ولكن نفسه تأبى الشكوى والتظاهر بذلك ، ولما مات لم تف تركته بالدين ، فبيع منزله في ذلك رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وله مخمسا :

رعاك الله يا أبام سعدي

زمانا كان لي عزمي وجدي

وقد أعيا القوى مني وجهدي

وعهدي بالشباب وحسن قدي

حكى ألف ابن مقلة في الكتاب

وكان الجيش يخشى السطو مني

ويروي في الحروب الكر عني

وكم أرديت أبطالا بشني

وقد أصبحت منحنيا كأني

أفتش في التراب على شبابي

(انتهى من تاريخ ابي المواهب ميرو) وله هناك تخميسان آخران.

١٠٥٤ ـ الشيخ محمد البيلوني المتوفى سنة ١١٥٠

السيد محمد البيلوني الحنفي الحلبي ، العالم الفقيه الفاضل الأديب الأريب.

٤٧٥

كان له إطلاع تام ذا مباحثة دقيقة * ، يشغل المجلس بمذاكرة المسائل العلمية ، ويغلب عليه الفقه لأنه كان به متبحرا. وكان مهابا وقورا محتشما. تولى إفتاء أنطاكية ، ثم ولاه شيخ الإسلام إفتاء القدس مع رتبة السليمانية المتعارفة بين الموالي ، وأحبه أهل بيت المقدس.

وكانت وفاته سنة خمسين ومائة وألف ، ودفن بتربة باب الرحمة خارج باب الأسباط رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٥٥ ـ نعمة الفتّال المتوفى بعد سنة ١١٥٠

نعمة الفتّال الشافعي الحلبي ، الشيخ الفاضل البحاث.

ولد بحلب ونشأ بها ، واشتغل بطلب العلم على من بها من الأفاضل ، وأخذ عن أبي السعود الكواكبي وغيره ، واجتهد في تحصيل الكمال ، إلى أن بلغ المحل العالي بين كل الرجال ، وكانت له اليد الطولى في معرفة العلوم العقلية والنقلية.

ودرس بجامع حلب واستفاد وأفاد ، وانتفع به جملة من الطلبة من أهل حلب والواردين عليها.

وكانت وفاته بها بعد الخمسين ومائة وألف عن ثمانين سنة تقريبا رحمه‌الله تعالى.

١٠٥٦ ـ الشيخ صالح المواهبي المتوفى سنة ١١٥٢

ترجمه العلامة الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته المسمى «بمنار الإسعاد في طريق الأسناد» فقال :

ومنهم (أي من مشايخه) شيخنا وبركتنا الإمام العالم العامل ، والهمام الجهبذ الكامل ، عمدة الأولياء والصالحين ، وقدوة النجباء العارفين ، صاحب الأسرار الظاهرة ، والكرامات المشهورة الباهرة ، أستاذ الطريقة القادرية ، وخادم السجادة النبوية ، العالم الرباني ، والعارف الصمداني ، حاوي صفات الكمال الإنساني ، والمعنى اللطيف الروحاني ، سيدنا وأستاذنا ، وعسدتنا وملاذنا ، الشيخ المحدث المتقن الرّحلة البركة

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : وكان ذا مباحثة دقيقة.

٤٧٦

المرشد المسلك ، المرحوم المبرور الشيخ صالح المواهبي الحنفي الحلبي شيخ الطريقة القادرية في مدينة حلب المحمية ، رحمه‌الله تعالى رحمة واسعة ، وأوكف عليه سحب جوده الهامعة ، آمين. حضرته رحمه‌الله تعالى في دروسه ووعظه ، وسمعت الحديث النبوي من لفظه ، وأتحفني بدعوات سنية ، وأجازني إجازة عامة بهية ، بجميع ما تجوز له وعنه روايته ، وما تصح إليه نسبته ودرايته ، بحق روايته لذلك عن مشايخه الأعلام وأئمة الإسلام ، منهم قطب الوقت والأوان ، ومعدن السلوك والعرفان ، العارف بربه والفائز منه بنيل الأماني ، سيدي الشيخ قاسم الخاني. ومنهم العلم الكبير ، والعمدة الشهير ، المتخلق بنسبته إليه ، والمعول في الاستفادة عليه ، مأمل كل طالب ، ومنهل كل راغب ، سيدي السيد أحمد أبو المواهب العرضي. ومنهم العالم العلامة ، والبحر الفهامة ، الجامع لأشتات العلوم من عقلي ونقلي ، الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد النخلي ، ومنهم الشيخ الإمام العالم الرحلة البركة المعمر الشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي. ومنهم العالم العلامة ، والرحلة الفهامة ، الشيخ محمد الوليد المكي. ومنهم الشيخ العالم العامل ، والحجة الناسك الكامل ، الشيخ محمد بن محمد الهريري. ومنهم قدوة الأولياء والعارفين ، وزبدة الصلحاء الكاملين ، المنلا إلياس بن إبراهيم الكوراني وغيرهم ممن يطول ذكرهم ، وجميع أسانيدهم ومروياتهم محررة في مشايخهم وأثباتهم تعلم من الوقوف عليها.

وقد أخذ رحمه‌الله تعالى صحيح الإمام البخاري مسلسلا بمشايخ الإسلام بروايته عن شيخه القطب العلامة الشيخ قاسم الخاني ، عن شيخ الإسلام أبي الوفا العرضي المتوفى في اليوم الرابع من المحرم سنة إحدى وسبعين وألف عن ثمان وسبعين سنة ، عن والده شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي شارح «الشفا» ، عن والده شيخ الإسلام الشيخ عبد الوهاب العرضي بركة الديار الحلبية ، عن شيخ الإسلام القاضي زكريا شارح «المنهج» و «الروض» ، عن شيخ الإسلام وعمدة الأنام الحافظ ابن حجر شارح البخاري ، عن شيخ الإسلام علي بن محمد الدمشقي ، عن شيخ الإسلام سليمان بن حمزة ، عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الهادي القدسي ، عن شيخ الإسلام الحافظ أبي موسى بن أبي بكر المديني ، عن شيخ الإسلام أبي علي الحسن بن الحداد ، عن شيخ الإسلام أبي نعيم صاحب «الحلية» ، عن عبد الأول السجزي ، عن شيخ الإسلام عبد الرحمن بن محمد الداودي ، عن شيخ الإسلام أبي محمد عبد الله السرخسي ، عن شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي رحمهم‌الله تعالى ونفعنا بهم آمين.

٤٧٧

وكان رحمه‌الله تعالى من العلماء العاملين ، والصلحاء العارفين ، عليه لوائح السعادة لائحة ، ونوافح عرف سيرته بنشر سريرته فائحة ، حسن السمت ، طويل الصمت ، يرشد الناس بحسن حاله ، ويذكرهم ويعلمهم بلطف مقاله ، مثابرا على إفادة العلم وتعليمه ، ودرس الحديث وتفهيمه ، مع ملازمة الورع والزهد والقنوع ، والاشتغال بإصلاح أحوال إخوانه وإرشادهم بالرفق والخضوع ، حتى يحسبه الجاهل مع كثرة تعففه غنيا ، ويظنه الغافل من شدة تلطفه غبيا.

وكان بيني وبينه محبة شديدة ، ومودة أكيدة ، وكثيرا ما يتفقدني بالزيارة في أوقات عديدة مع العجز والكبر ، مع أني كنت بذلك أحق وأجدر ، وما ذلك إلا لكرم خلقه اللطيف ، ورفعة قدره المنيف. وقد طلبت منه رحمه‌الله تعالى أن ينظمني في سلك حزبه ، لأفوز بخدمته وقربه ، فبايعني ولله الحمد ، ولقنني الذكر والورد ، بعد أن كان قد امتنع من ذلك ، هاضما لنفسه الزكية قائلا لست هنالك. وكنت ألازم حضور مجلس الذكر عنده في المدرسة الحلوية ، وفي زاويته المسماة بالصالحية (١). وكان يحصل من لذاذة الذكر وسماعه والشوق والطرب للأخوان ، ما لم يحصل في غير مجلسه كما هو مشهور إلى الآن ، فرحمه‌الله تعالى برحمته ، وأسكنه أعلى فراديس جنته ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وكان انتقاله بالوفاة إلى رحمة الله تعالى سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف. ا ه.

١٠٥٧ ـ حسن السرميني المتوفى سنة ١١٥٣

حسن السرميني المنشأ الحلبي الموطن الشافعي ، المدرس بالجامع الأموي في حلب ، الشيخ العالم الكبير والفاضل الشهير ، المحدث النبيه الفرضي الفقيه.

أخذ عن الأستاذ العارف الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ، والشيخ أبي المواهب الدمشقي ، والشيخ محمد الوليدي المكي أجازه سنة حجه وذلك في سنة تسع وعشرين ومائة وألف ثم عاد إلى حلب وانتفع به خلق كثير.

وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف رحمه‌الله.

__________________

(١) نقلت من خط أبي المواهب ميرو في ترجمة حسين بن الزيات أن هذه الزاوية تعرف قديما بزاوية البهشتية.

٤٧٨

١٠٥٨ ـ مصطفى بن يوسف الخوجكي المتوفى سنة ١١٥٣

مصطفى بن يوسف بن عبد اللطيف بن حسين بن مسلم مير بن فتح الله بن محمد الخوجكي الكيلاني ، الشافعي الخلوتي الحلبي ، الشيخ المعمر الخيّر المسلّك الصالح.

ولد في حلب في حدود سنة خمس وأربعين وألف ، ورحل مع والده صغير السن إلى دمشق ، وقدم إليها وأخذ طريق الخلوتية عن الأستاذ الكبير الشيخ أيوب الخلوتي الدمشقي. ثم توجه إلى بيت المقدس والحج وجاور بمكة ، وعاد لمصر واستقام في هذه السياحة مع والده تسع سنين ، ولقي الأفاضل والعارفين وأخذ عنهم وشملته بركاتهم كالأستاذ الشيخ محمد بن محمد البخشي الحلبي وغيره.

ثم قدم حلب واجتمع بالولي المشهور الشيخ أبي بكر الخريزاتي صاحب المزار المشهور بمحلة ساحة بزه وقريبا من عرصة الفراني ، وقرأ القرآن على العارف الشيخ إسماعيل دره ، وقرأ بعض المقدمات الفقهية والعربية على أفاضل بلدته ، واستقام في زاويتهم المعروفة بزاوية النسيمي للإرشاد وتلاوة الأوراد والاشتغال بالخلوة والتسليك.

ورحل إلى الروم وبغداد وإيران والهند وزار سيدنا آدم عليه‌السلام. وله سياحة طويلة عجيبة ذكرها في بهجته (١). وتزوج باثنتين وعشرين زوجة ببلدته وسياحته ، ورزق عدة بنين ماتوا في حياته ما عدا ذكرين وبنتا واحدة ، أحد الولدين السيد محمد أبو الوفا توفي بعد والده بعشر سنين ، والثاني خليفته الكامل الشيخ السيد محمد أبو الصفا خلفه ليلة وفاته.

وكانت وفاة المترجم محموما في يوم الخميس السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف عن مائة وثماني سنين ، ولم ينقطع عن الزاوية المذكورة إلا ليلة وفاته رحمه‌الله تعالى.

١٠٥٩ ـ يوسف بن حسين الحسيني النقيب المتوفى سنة ١١٥٣

يوسف النقيب الحلبي بن حسين بن درويش ، السيد الشريف الحسيني الحنفي

__________________

(١) أقول : إن رحلته تعرف «ببهجة النسيمي» يوجد منها في مكاتب حلب عدة نسخ وعندي منها نسخة ، وفيها غرائب لا يسعنا فيما ذكره فيها إلا التسليم.

٤٧٩

الدمشقي ، نزيل حلب ، المفتي والنقيب بها ، الإمام العالم العلامة الفقيه الأديب الفاضل المتفوق المحدث البارع المسند الناظم الناثر أبو المحاسن جمال الدين.

ولد بدمشق سنة ثلاث وسبعين وألف ، ونشأ بها ، وقرأ على جماعة من أفاضلها وأخذ عنهم كالشهاب أحمد بن محمد الصفدي إمام جامع درويش باشا ، والشيخ عبد القادر العمري ، وأبي المواهب الحنبلي ، وإبراهيم بن منصور الفتال ، وعبد الرحيم الكابلي ، والشيخ إسماعيل الحائك ، والأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي ، والشهاب أحمد المهمنداري ، والشيخ عثمان من محمود القطان ، وعبد الجليل العمري وغيرهم.

وارتحل للروم وإلى حلب مرات وأخذ بها عن الشيخ موسى الرامحمداني ، وعن زين الدين بن عبد اللطيف أمين الفتوى وغيرهما.

وترجمه الأمين المحبي في ذيل نفحته فقال في وصفه : نبيه فاق من مهده ، وأعهده يتزايد نبلا وأنا الآن على عهده ، فحبي جميعه على حسن أدبه مقصور ، وبقلبي منه شغل شاغل عن قاصرات القصور ، وهو أخ جمعت فيه المروءة والنخوة ، وأراه أحسن من آخيت ولا بدع فيوسف أحسن الأخوة ، وقد مضت لي معه أوقات وقيت كل صرف ، وكأنها خطوة طيف أو لمحة طرف ، وقد أمتعني من بنات فكره ، بذخائر توجب في الطروس تخليد ذكره ، أتيتك منها بما يقضي له بلطف البداهة ، ويحكم له بالبراعة المتمكنة من مفاصل النباهة ، فمن ذلك قوله في العذار :

كأنما نار خد زان رونقه

لا ما عذار جني قد جنى حيني

لاحت فآنسها في ليل عارضه

موسى فخط بماء المسك خطين

وحين ظن أبو العباس مبسمه

ماء الحياة أتى يسعى بلامين

وقوله مخاطبا بعض الموالي في مجلسه :

بأبي من ضمنا مجلسه

فاجتنينا منه أنواع التحف

فاضل صيغ من التوفيق إذ

صيغت الناس جميعا من نطف

وقوله في تشيبه الجلّنار :

باكر لروضة أنس

من حولها الماء يجري

٤٨٠