إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

ويتعلق بالحديث فوائده.

منها أنه حديث حسن أخرجه الإمام أحمد والحميدي في مسنديهما عن سفيان بن عيينة والبخاري في بعض تصانيفه عن عبد الرحمن بن بشر ، وأبو داود في سننه عن مسدد ، وأبو بكر بن أبي شيبة والترمذي في جامعه عن محمد بن أبي عمر العدني ثلاثتهم عن ابن عيينة قال الترمذي : إنه حسن صحيح ، وصححه الحاكم. قال القاضي زكريا الأنصاري : وهو كذلك باعتبار ماله من المتابعات والشواهد.

ومنها أن أبا الفرج ابن الجوزي المذكور في السند متهم ، قرأت بخط والدي شيخ الإسلام البدر الغزي ما نصه : قال شيخنا القاضي زكريا : إنه بضم الجيم وليس هو ابن الجوزي الواعظ فليعلم. قال الشيخ الوالد : نظر فيه بعضهم (١).

ومنها لما أملى الحديث علينا شيخنا البيلوني أملاه : يرحمكم من في السماء بالرفع على أنه جملة دعائية ، ثم قال : كذلك أفادنا شيخنا العمادي وقال : إن الرواية بالرفع وليست بالجزم على أنه جواب الأمر.

ثم إن شيخنا البيلوني سافر في أواخر رجب المذكور من دمشق إلى مصر فمات بها في رمضان أو بعده (قال العرضي في شوال) سنة سبع المذكورة بتقديم السين بعد الألف ، وحضر جنازته والصلاة عليه قاضي قضاة مصر إذ ذاك يحيى أفندي محدثا عنه أنه لما ورد حلب مع أبيه زكريا أفندي حاجين ويحيى أفندي يومئذ قاضي الركب الشامى اجتمع بشيخنا صاحب الترجمة وقال له : نراك إن شاء الله تعالى قاضيا بحلب تم بمصر ، قال : فلما وليت حلب كنت أعتقد الشيخ وأتأول قوله ثم تكون قاضيا بمصر ، ولم أتحقق أن المعطوف متعلقا مع المعطوف عليه في حكم واحد بفعل الرواية ، ولما وليت قضاء مصر زاد اعتقادي في الشيخ على التأويل المذكور حتى تحققت ذلك الآن حين رآني الشيخ بمصر قاضيا قبل موته ، وظهر صدق كشف الشيخ رحمه‌الله تعالى.

__________________

(١) يظهر أن النظر عدم تسليم ذلك وأنه ابن الجوزي الواعظ المشهور وهو ثقة ليس بمتهم وهو بفتح الجيم.

١٦١

قال المحبي في ترجمته : ولما حج في سنة أربع وستين وتسعمائة اجتمع بعالم الحجاز الشهاب أحمد بن حجر الهيتمي وكتب له إجازة طنانة بالإفتاء والتدريس ، ولم يجتمع به إلا أيام الحج فقط ، فإنه لم يجاور ، ثم عاد إلى حلب ، وقد فضل في حياة شيخه ابن الحنبلي فكان يدرس في زمانه وكان ابن الحنبلي يجله.

وأخذ عنه جمع كثير منهم شيخ حلب عمر العرضي وذكره في تاريخه وذكر مقروءاته عليه. قال : ثم اشتغل بخويصة نفسه وجلس في بيته ، وعمر له إبراهيم باشا جامعه الذي بجانب داره وجعل فيه خطبة وبنى له منارة وانقطع فيه ولم يخرج إلا للحمّام حالة الاحتياج إليه. وأقبل الناس عليه يثنون عليه وينسبون إليه الصلاح ويصفونه بالانقطاع. وثقل سمعه وضعف بصره واشتغل بمجرد تلاوة القرآن والاشتغال بمصالح عياله وكف الجوارح. وبالجملة فهو رجل صالح فاضل لا شك في ذلك ا ه.

٩٣٩ ـ محمد بن عبد القادر البيمارستاني المتوفى سنة ١٠١٠

محمد بن عبد القادر بن تاج الدين بن علي ، الشيخ المعمر المشرقي ثم الحلبي الشهير بالسيد المارستاني.

قدم أبوه عبد القادر وأخوه من بلاد الشرق لديار حلب خادما مع بعض التجار بنية العود إلى بلاده ، فرأى من طيب هواء حلب ولطف أبنائها ما دعاه على السكنى بها ، فتشرف بخدمة الزيني عمر الموازيني مدة ، ثم بالكمال ابن الدغيم أحد أعيان حلب أخرى بحيث يرسله إلى الضياع ناطورا لضبط الغلال ، فحسن حاله بذلك. وأسكنه الكمال بالبمارستان النوري وأولاه الخدامة به إذ كان متوليا لضبط أوقافه ، فولد به محمد المذكور وأخوه التاجي ، فنشأ بخدمة الكمال على قدم أبيهما ، إلى أن توفي الكمال ، فتقهقر حالهما بذلك ، إلى أن اتهم عم الشمس بمال سرق للفرنج من خان البرغل ، فعذب أشد عذاب ، ثم صلب فظهر أثر ذلك بعد مدة على الشمس محمد وأخيه التاجي بأن أخذا دارا بالقرب من خان البرغل وأحسنا عمارتها وظهرا ظهورا بهرا به من عرفهما بحيث هرعت إليهما الناس للمعاملات والمساعدات في المهمات.

ثم أخذ التاجي بعض الحاصلات السلطانية وصار أمينا عليها. وصار محمد هذا يدخل

١٦٢

بين الناس في أمورهم ولم يختش غائلة شرورهم حتى عد من أهل الزيغ والضلال وأتباع الباطل والمال ، فوردت فيه الأحكام السلطانية والأوامر الخاقانية برفعه إلى القلعة والتفحص عن حاله ليقبح منقلبه ومآله ، فرفع وجرّم أعظم جريمة ، وولى عما كان عليه هزيمة ، ولزم بيته مدة من الزمان ، وصبر على ما أبرزه الملوان ، إلى أن صفا الوقت من أعيانه وظهرت أمثاله ومن أقرانه ، فتطاول على نقابة الأشراف في آخر عمره بقوة المال ، وساعده على ذلك كثير من الرجال ، وصار نقيبا على السادة الأشراف ، مع أنه عامي ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقفت على أصل شرفهم فإذا هي بسعي الكمال بن الدغيم عند صديقه الشهابي أحمد الإسحاقي نقيب حلب إذ ذاك ، فأذن لهم بوضع العلامة ولم يكن بقصده ومرامه لأنهم لم يثبتوا لهم نسبا ، ولم يكن لهم بذاك نشب.

توفي محمد المذكور ثامن ذي الحجة سنة ١٠١٠ ألف وعشرة ا ه (من مجموعة الجمالي) وسيأتيك قريبا ترجمة ولده حسين المتوفى سنة ١٠١٣.

٩٤٠ ـ محمد بن أحمد الملا المتوفى سنة ١٠١٠

محمد بن أحمد بن محمد المعروف بابن الملا شمس الدين بن شهاب الدين ، شارح «المغني» المتقدم ذكره ، الحصكفي الأصل الحلبي الشافعي.

ذكره العرضي الكبير في تاريخه وقال في ترجمته : ولد في سنة سبع وستين وتسعمائة ، ثم نشأ في حجر أبيه وقرأ عليه شرح «الشذور» لابن هشام. قال : ودخلت يوما إلى زيارة أبيه ، وكان صاحبنا ، فرأيته يقرئه في بحث المبني وهو يتعتع في فهم الكلام وتفهيمه لولده لإكثاره من المطالعة والنظر ، فأغنيته عن تقرير ذلك الدرس ووضحت للولد المبحث ، وركز حبنا في قلب الولد ، فأتى إلينا بإذن أبيه وطلب مني الإقراء ، فأقرأته «شرح الكافية» للجامي من أوله إلى آخره ، فلم يختم الكتاب إلا وقد صار ذا ملكة ، ثم مشى معنا في «مغني اللبيب» ثم في «المطوّل» و «شرح آداب البحث» للمسعودي ، وفي الأصفهاني ومتن الجغميني في الهيئة وشرح ابن المصنف على ألفية أبيه ابن مالك ، وفي إرشاد ابن المقري وشرح المنهج للقاضي زكريا. وسمع من لفظي صحيح البخاري ومسلم ، ورفيقه في معظم ذلك أخوه البرهان.

١٦٣

ثم إن محمدا تصدّر للتأليف فكتب تاريخا لحلب تعرض فيه لمن حكم فيها من حين فتحها الصحابة إلى زمن إبراهيم باشا الملقب بالحاج إبراهيم أجاد فيه وأنبأ عن اطلاع عظيم. وكتب حصة على صحيح مسلم ورسالة حسنة في إسلام أبوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونظم الشعر الحسن وامتدحني بقصائد جمة مع كثرة عبادة وتلاوة للقرآن وصلاة حسنة يصليها عند دخول الوقت مع الجماعة ويكثر فيها من تلاوة القرآن ، وكرم وافر وإحسان للمحبين وإجزال الضيافات والتواضع والتمسك بالسنة مع الفضيلة التامة وبغض الزنادقة.

وذكره الشهاب مع أخيه البرهان وكذا البديعي ووصفاهما بأوصاف حسنة.

وأورد الشهاب من شعر محمد قوله في الترجمة من الفارسية هذا الرباعي :

في الليل وفي النهار حرّى كبدي

مقتول ضنى بجائر ليس يدي

تنثر عيني جواهر الدمع على

لقياه تظن أنه طوع يدي

وأنشد له البديعي قوله :

ما أقل الأصحاب إن حمّ أمر

في عظم وما أقل المساعد

وبلاء لابد للمرء منه

أن يرى راغبا بآخر زاهد

وقوله :

سيلحق من سره موتنا

بنا مثل من سرنا موته

فيه زيادة على قول الآخر :

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

وله :

سامرته في ليلة وصباحها

يتكايدان عليّ كيد المخنق

فالليل يظهر لي بقلب أسود

والصبح ينظرني بطرف أزرق

وله :

ألا ليت شعري هل زارني

حبيبي وليس رقيبي قريب

١٦٤

وهل علم الدهر أني امرؤ

كثير لديّ قليل الحبيب

قال العرضي : وأصابته حمى الربع فطالت به ، فوصف له بعض مبغضيه أن يكتوى في ظهره ، فكواه رجل زنديق من قرية كفر حابس ، ولا يخفى أن أهلها مختلفو العقائد ، في سلسلة ظهره ، وصادفه مجيء الشتاء فحصل له الكراز مرض رديء فمات به في سنة عشر وألف رحمه‌الله تعالى ، ودفن في تربة جده الخواجا إسكندر في محلة الجبيلة بحلب ا ه.

وقال الشهاب الخفاجي في ريحانته فيه وفي أخيه إبراهيم الآتي ذكره : هما من دوحة الكمال غصنان ، بل روضان آنيتهما مرجان ، ولا أقول نهران فهما بحران ، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، كل منهما جواد يفرغ الخزائن بجوده ، فيملأ بالغيظ قلب حسوده ، طويل الباع عذب الموارد إذا ظمئت الأسماع مرهف فكره صقيل الطبع ، وبحر كرم متموج بهبوب نسيم ذلك الطبع ، رقيق حواشي المجد ، أرق من عبرات أسالها الوجد ، وضاح المحيا ، تحمر خجلا منه خدود الحميا. صنفا وألفا ، ولاحا كغصني بانة قد تألفا ، نشأا في حجر الفضل والحسب ، وبسقا في روض النجدة والأدب ، في زمان شمت فيه الجهل بالفضل ، ورقي صهوة عزه كل فدم نذل ، نجمان بأيهما اقتديت في طرق المعالي اهتديت ، فهما في مغرس الكرم صنوان ، وثمراتهما صنوان وغير صنوان ، وروضا محامد ، يسقيان بماء واحد. ا ه.

وقال الأديب محمد العرضي في حقه : النقاب ابن النقاب ، والشمس ابن الشهاب ، والبدر أخو السحاب ، بحر علم غزير ، وروض أديب نضير ، ولقد فاق الأوائل وهو في الزمن الأخير ، شب على العلم خادما وللعلى مخدوما ، وملأ أفواه الآذان من درر كلماته منثورا ومنظوما ، ولقد اجتمعت من أصناف الكمالات ، ما وجدت متفرقة في غيره من الذوات ، فراحة أندى من الماء الرضراض ، وخلق ألطف من النسيم ينم على الرياض ، يصف لطايم دارين ، وينعجن بعنبر الشحر انعجان الماء بالطين ، ونفس حرة ، وصداقة حلوة وعداوة مرة ، ووضاحة نسب وطلاقة محيا ، ونظام ينعصر تحت أقدامه عنقود الثريا ، وذيل لا تخدشه سيوف الغمرات ، يلبس إبليس ثوب الخذلان ويرن منه رنات.

وله آثار مأثورة ، كأنها لطائم مسك منشورة ، منها مجلد في شرح صحيح الإمام مسلم ، ومنها تاريخ ابتدأه بإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وختمه بإبراهيم باشا كافل مملكة حلب ، ورسائل عديدة «كدلالة الأثر في طهارة الشعر» ورسالة في حكم البنح

١٦٥

والحشيش ، ورسالة في اسم محمد وغير ذلك ، وديوان شعر مجلد.

وقد كتبت له ما هو من شرط كتابي هذا قولي في حان قهوة القصيبات :

مشاهد الوصل من ذاك الغزال متى

لاحت لعيني أفاضت فيض عبراتي

فقم بحقك ذا النايات غن لنا

باسم الحبيب وشبب بالقصيبات

وقد نسجت على منوالها :

حانات شهبائنا كالمسك قهوتها

بنيّة ولها بالشرع تحليل

وبالقصيبات إن شببت لا عجب

فذلك الحان بالأفراح موصول

وقوله متغزلا مكتفيا :

سألته عن شفة جاد بما

في ضمنها على معنّاه ومن

لذتها وطعمها العذب الجنى

فقال هذي صبغة الله ومن

وقوله في رثاء أخي الشيخ حسين.

أسعدانى لعلى أبكى حسينا

أين مثل الحسين في الناس أينا

وقوله متغزلا فيمن اسمه عبد الله.

إذا ما البدر كان له نظير

فعبد الله ليس له نظير

ا ه.

ورسالته «دلالة الأثر على طهارة الشعر» هي عندي بخطه محررة سنة ١٠٠٦ وهي في (١٥) ورقة ابتعتها منذ عهد قريب ، وكلامه فيها ينبىء عن علم جم وباع واسع وقدم راسخة في التحقيق. ونحن نسوق لك خطبتها فإنها تدل على مكنونه ومراميه :

قال بعد البسملة والحمدلة : فاعلم وقال الله من الركون إلى الشبه والميل إلى العصبية ، وغش سليم الفطرة بسقيم المألوف من العوائد المنكرة ، واتباع كل ناعق ، واحتقاب دينك لمن يجوز خطؤه ولا يؤمن سهوه ، وغفلة مع وضوح الحق وسطوع البرهان وقيام الحجة بمن أمرنا باتباعه أمرا حتما متكررا متنوعا جما. وقد قال الشافعي رضي‌الله‌عنه : أجمع الناس أن من استبانت له سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس له أن يدعها لقول

١٦٦

أحد ، وهذا إجماع قطعت به البراهين وأيدته العقول وشهدت به الفطر السليمة. وقد ألف الناس في ذلك ، وأحسن ما رأيته في كتاب «أعلام الموقعين» للفقيه الحافظ المعروف بابن قيم الجوزية ، وما سمعت بعضهم يقوله من عدم إمكان التلقي من فيض الرحمن والإدلاء بحجة الكتاب والسنة في هذا الزمان فواهي الحجة بعيد النجعة عن الحق متقول على الله تعالى محجر على فضله ، إذ كان الله سبحانه لا يزال يغرس في هذه الأمة غرسا يستعملهم في طاعته ، ويظهرهم على الحق ، وينفي بهم عن العلم تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، وكانت هذه الأمة كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره. وكان العلم والإيمان مكانهما من طلبهما وجدهما. وإن العلم للذين يستنبطونه منه لا للمقلدين الذين لم يستضيئوا بنور ولم يهتدوا بهدي. وما عني هذا الدين بمثل التأويل والتقليد ، وما أدري الفرق بين استنباط واحد للحكم من صحيفة أو كتاب يلوك صاحبه لسانه وتغلب عجمته ويكثر عثاره ويمسك خطؤه ويقل علمه ويبعد عن الخير زمنه ويضعف طريقه ، واستنباطه من كلم جوامع ووحي موحى وعصمة من خطأ لا ينزف بحره ولا يكدر دلوه ، مع سلامة الطريق وصحة النقل وقوة الضبط وقلة التحريف والإدخال فيه ما ليس منه ، إلا أن هذا صواب في اصطلاح خطأ ، وعلم في زمن جهل ، ووضع نافع في قانون فاسد. والناس بزمانهم أشبه وإلى ملكات المزاولة أميل والله الموفق ا ه.

٩٤١ ـ أبو الوفا بن محمد السعدي المتوفى سنة ١٠١٠

أبو الوفا بن محمد بن عمر السعدي الحلبي الشافعي المشهور بابن خليفة الزكي.

ذكره أبو الوفا العرضي في تاريخه «المعادن» وقال فيه : من أعيان المشايخ السعدية المنسوبة في الخلافة إلى الشيخ سعد الدين الجباوي ، خلّفه والده الشيخ محمد ، وخلف الشيخ محمد والده الشيخ عمر المدفونان في زاويتهم خارج باب النصر.

أما والده الشيخ محمد فلقد كان فاضلا كاملا صالحا صاحب كرامات. كان رجل يقال له عبد الرحمن بن الصلاح ذا ثروة ومال وعليه هيبة ووقار ، وكان يدخل في حلقة ذكر أبي الوفا بين أقوام عوام غالبهم بساتنة فلاحون وبعض جماعات من ذوي الهيئات ، فقلت له : ما السبب أنكم تدخلون في حلقة الذكر مع هؤلاء القوم؟ فقال : كنت شابا واقفا أنظر إلى فقراء والد الشيخ وفا وهو الشيخ محمد وأنا في ضميري أستهزىء بالذكر

١٦٧

لأنهم يقولون ما لا يفهم معناه ، فقلت في ضميري : ما مرادهم بقولهم : هام هام؟ فخرج الشيخ من الحلقة وفرق الازدحام وجذبني من ثيابي وقال : نقول الله الله ، فوقعت مغشيا عليّ ، ثم لم أزل على اعتقادهم.

وكان في بني درهم ونصف رجل من الفضلاء يقال له المنلا يستهزىء بهم ويحقرهم ، فأشار إليه الشيخ محمد : تأدب تأدب ، فوقع مصروعا ، فوقعوا على الشيخ واستمروا مدة طويلة يترددون إليه حتى صفح وعفا وتواتر على المذكور الشفا ، كل ذلك ببركة الشيخ محمد.

وكان له خط حسن حتى ألف الشيخ محمد كتابا اسمه «المحمدية» ذكر فيه مواعظ وكرامات الأولياء ، واستطرد إلى ذكر الشيخ سعد الدين الجباوي وهو أستاذه. وكذلك صنف «مجالس وعظ» تشتمل على آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومعان مهذبة ومسائل مرتبة. وكذلك والده الشيخ عمر ألف كتابا سماه «العمرية» ذكر فيه مناقب الشيخ سعد الدين. وله حلقة ذكر في الجامع الكبير بحلب يوم الجمعة فيها مائة رجل.

وكان صاحب الترجمة يلبس العمامة الكبيرة الخضراء والثياب المتسعة الأكمام الطويلة الأذيال ، وقد لبسوا الأخضر قبيل الألف بمدة قليلة أثبتوا أنسابهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة الحسين سيد شباب أهل الجنة ، وكان من عادة الأشراف يربون لهم الشعور في رأسهم ، وكتب لهم نسب ومحضر شهد لهم بالنسب غالب الأعيان بحلب. ولما مات والده كان شابا له حدة مزاج ، فكان بعض الأعيان بباب النصر تشاجر معه ، فذهب إلى دمشق وأخبر الشيخ سعد الدين والد الشيخ محمد ، وكان المذكور مجذوبا لا يتمهل في الأمور ، فذكر له أن الشيخ أبا الوفا كان مع بعض نساء أجانب ، فقبض عليه حاكم البلدة وأخذ منه مالا ليلا وأنه لا يليق بالخلافة ، وعندنا رجل صالح عالم يقال له الشيخ عبد الرحيم اجعله خليفة واعزل الشيخ أبا الوفا واكتب للأعيان مكاتيب بعزله ، فكتب للشيخ عبد الرحيم أني جعلتك خليفة وعزلت أبا الوفا ، وكتب للقاضي بذلك وأن يمنع أبا الوفا من الذكر مع الفقراء ، فأحضره القاضي وأظهر له المكتوب ، فقال الشيخ أبو الوفا : أنا لست بخليفة له وإنما أخذت الخلافة عن والدي ووالدي عن والده. ثم ورد مكتوب من الشيخ سعد الدين إلى المريدين والنقباء أن من تبع أبا الوفا فهو مطرود من طريقتي ، ومن تبع الشيخ عبد الرحيم فهو مقبول عند الله وعندي. ومع ذلك استمرت

١٦٨

الفقراء غالبا عنده. ثم بعد مدة توجه أبو الوفا بهدايا إلى الشيخ سعد الدين ومعه الفقراء المريدون ، فسبقه الشيخ مسعود أخو الشيخ إبراهيم وقال للشيخ سعد الدين : إن خلفت أبا الوفا يختل أمرنا ، فقال : لا أخلفه ، فجاء أبو الوفا فأكرمه الشيخ سعد الدين ثم قال له : جئت تطلب الخلافة ، فقال : أنا خليفة والدي عن والده عن جده عن أجدادكم ، ونحن الذين أحيينا في حلب طريقتكم ، ووالدي كتب مؤلفا في مناقبكم ، وجدي كذلك ، والشيخ عبد الرحيم كان من بعض فقرائنا ، وجئت لتأدية حقكم فحسب ، فإن أذنتم فبها وإلا فقد فعلت مالكم من الاحترام ، ولم يبرم. ثم رجع إلى حلب واستمرت حلقة ذكره قائمة ، لكن حلقة الشيخ عبد الرحيم كثرت جدا بسبب السخاء وبذل القرى. وكانت حلقة الشيخ عبد الرحيم بباب المقصورة ملاصقة حلقة الشيخ أبي الوفا بحيث يتلحمون ولا شيء حاجز بينهم ، وكان يقع بينهم من الفتن والإثارات والشتم أشياء كثيرة إلى أن مقت الناس الفريقين ، فلما قدم الشيخ محمد بن الشيخ سعد الدين إلى حلب ألزم الشيخ عبد الرحيم بالتحول إلى المحراب الأصفر حتى انطفت تلك النيران. وقال الشيخ محمد : أخطأ والدي في تفريق الكلمة بينهم.

وكان أبو الوفا تولى مدرسة الفردوس وتولى نقابة طرابلس ، وكان خطيبا بجامع الزكي وإماما له. وولي مدرسة البيرامية. وكانت وفاته في سنة عشر بعد الألف ودفن في نفس زاويتهم وقد قارب الخمسين.

الكلام على الزاوية الوفائية :

هذه الزاوية كما قال في أول الترجمة خارج باب النصر فوق الجامع المعروف بجامع الزكي بالقرب من الحمّام المعروف بحمّام القوّاس ، وتعرف الآن بزاوية البعّاج. وهي عبارة عن قبلية ولها صحن صغير ، وفي شرقي القبلية قبران أحدهما قبر الواقف الشيخ عمر ابن الشيخ أحمد الشهير بخليفة المتوفى سنة ٩٤٦ وقد تقدمت ترجمته في الخامس (ص ٤٨١) ، والثاني قبر ولده الشيخ محمد شمس الدين. وفي الصحن في شرقيه قبران أحدهما قبر أبي الوفا المترجم وقبر أخيه الشيخ أحمد المتوفى سنة ١٠٣٤ وهما ابنا الشيخ محمد المتقدم.

وكانت هذه الزاوية مشرفة على الخراب ، فاهتم بعمارتها متوليها الشيخ محمد هاشم ابن الشيخ عبد الوهاب الوفائي ، فجدد عمارة جدار القبلية سنة ١٣٣٦ ونقش فوق بابها

١٦٩

ما قدمنا ذكره ملخصا ، ولا زال مهتما بعمارة باقيها. والشيخ محمد المذكور رجل صالح حافظ لكتاب الله تعالى ، وهو من ذرية الواقف ، فهو محمد هاشم بن عبد الوهاب بن محمد هاشم بن أسعد بن هاشم بن أسعد بن تاج الدين بن محمد بن أبي الوفا بن محمد ابن عمر (وهو الواقف) ، وقد أطلعني على نسبهم الذي تقدم ذكره في الترجمة وعليه كما قال خطوط غالب أعيان ذلك العصر وبعده مثل الشيخ عمر العرضي وأبي اليمن البتروني وعمر بن محمد المرعشي وإبراهيم بن المنلا وأبي الجود البتروني والشيخ فتح الله البيلوني وأحمد ابن محمد الكواكبي وأبي الوفا العرضي ، وقد كتب هذا عليه : نسب أشرقت في أفلاك المعالي أقماره ، وسطعت في آفاق المحامد أنواره ، قد اكتسى من حلل الصحة ثياب الوقار ، وتحلى بقلائد المجد وعقود الفخار ، فهم السادة الذين بمحبتهم يزداد العبد قربا ، حسبما صرح به قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)* إلخ.

والمذكور في أصل النسب الشيخ محمد (والد المترجم) بن الشيخ عمر بن أحمد بن محمد خليفة بن الشيخ زكي الدين بن محمد بن علي بن حسن بن حسين بن محمد بن عبد العزيز بن زيد بن جعفر بن حمزة بن هارون بن عمران بن عبيد الله بن علي بن نصر الله ابن عبيد الله بن قاسم بن عبيد الله بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي ابن الإمام السبط أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

وبالجملة فإن هذا النسب من نفائس الآثار لما اشتمل عليه من خطوط كبار العلماء والقضاة في الشهباء في ذلك العصر والذي بعده.

وأطلعني المتولي على ديوان جده الأعلى الشيخ محمد بن عمر (والد المترجم) وهو ديوان كبير ، وهو على طريقة أهل التصوف ، لكن النظم ليس بشيء.

ورأيت عنده من مؤلفات الشيخ محمد جزئين من شرح البخاري هما الأول والثاني سماه «بغية السامع والقاري في شرح صحيح البخاري» ، وأخبرني أنه كان تاما في ستة مجلدات ، وهو من جملة ما وقفه جده من الكتب على هذه الزاوية ، وقد تبعثرت كلها ولم يبق منها سوى هذين المجلدين ، وهو شرح وسط.

__________________

(*) الشورى :

١٧٠

وأطلعني على رسالة اسمها «النفحة الربانية في طريقة المشايخ السعدية» الملخصة من الرسالة السعدية في الرد عن السادة السعدية تأليف الشيخ محمد المذكور.

وأطلعني على وقفية الشيخ محمد المذكور على ذريته تاريخها سنة (٩٧٤) وعليها خطوط كثير من مشاهير ذلك العصر ممن قدمنا أسماءهم.

وللزاوية من الأوقاف ثلاثة دكاكين وقفها الشيخ عمر بن حسن الوفائي من ذرية الواقف ، وإحدى هذه الدكاكين جعلت اثنتين. ولابن الشيخ عمر هذا ولد اسمه الشيخ حسن وقف نصف دار له لجامع الزكي وربع هذه الدار لهذه الزاوية. وأما أوقاف الزاوية القديمة فقد تغلب عليها وليس لها من الأوقاف إلا ما ذكرناه.

الكلام على جامع الزكي :

قال أبوذر : هذا الجامع خارج باب النصر ، كان أولا مسجدا عمريا فجدده قبل فتنة تمر محمد الزكي أحد أجناد الحلقة ، ثم في سنة تسع وعشرين وثمانمائة وسعه الأمير ناصر الدين الحجيج الأستادار بحلب ووقف على ما زاده وقفا مختصا بالزيادة ، وكان قد وقف عليه محمد الزكي وقفا غير ذلك ، وهو باق يصرف على مصالح الجامع. توفي الحجيج ثاني عشر رجب سنة ثلاث وثلاثين وثمانماية ا ه.

ومحمد الزكي هو الذي مر ذكره في عمود النسب المتقدم ، ويظهر أن التولية تسلسلت في عقبه إلى أن وصلت إلى المتولي على الجامع الآن وهو الشيخ محمد بن الشيخ عبد الوهاب المتقدم الذكر.

وقد أطلعني المتولي على صورة وقفية الناصري محمد بن الشهاب أحمد بن الناصري محمد المعروف بابن حجيج وتاريخها في جمادى الآخرة سنة سبع أو تسع وعشرين وثمانماية ، وملخصها أنه وقف دارين خارج باب النصر ، وثمانية قراريط من حمّام القوّاس ، وهي في هذه المحلة وقد استبدلت بعد ، وعرصة وخان خارج باب النصر ، ونصف طاحون بأنطاكية تعرف بالصابونية ، وثمانية أفدنة من قرية القادنية من أعمال جبل سمعان ، وأربعة قراريط من قرية دادخين من أعمال الغربيات ، وأربعة بساتين في حارم ، ونصف حانوت بمدينة تيزين ، وجميع البستان الذي يظاهر حلب شمالي عين التل في حلب ويعرف بالخرايز وهذا استبدل أيضا.

١٧١

والناصري المذكور زاد في الجامع القبلية الشرقية وعين لها إماما وخادما من ريع وقفه المتقدم وجعل باقيه لذريته. والباقي من هذه العقارات دكانان في سوق الباطية في حلب ونصف الطاحون الذي في أنطاكية. وهي الآن تحت يد دائرة الأوقاف تعطي خادم الجامع راتبه لا غير.

وللجامع قبليتان إحداهما جنوبية والأخرى شرقية ، وهما متصلتان ببعضهما البعض ، طول القبلية الجنوبية ٩٧ قدما وعرضها ٢٣ ، وفيها محرابان ومنبر ، وهناك تقام الجمعة ، ولا زخرفة في المحراب. وطول تتمة هذه القبلية ٥٤ قدما وعرضها ٢٥ ، وطول القبلية الشرقية ٨٨ قدما وعرضها ٥٤ قدما.

وفي وسط هذه القبلية حوض يأتيه الماء من القناة عمر في نواحي سنة ١٢٧٠ ، عمره الشيخ أحمد الخوجة وكان إماما بهذا الجامع ، وكان رجلا صالحا من تلامذة الأستاذ الكبير الشيخ أحمد الترمانيني.

وللجامع صحن واسع طوله ١٠٦ أقدام وعرضه نحو ٧٤ قدما ، وفي وسطه حوض صغير ، وفي شرقي الصحن في آخره صهريج ، حدثني المتولي أنه حين حفره تبين أن هناك خشخاشة طولها ١١ ذراعا وعرضها ٨ تحتوي على ثلاثة أواوين ، وهناك باب مصراعاه من الحجر مثل باب المقام في الصالحين ، وقد سد هذا الباب وأكملت عمارة الصهريج.

وفي شمالي الجامع حجر للإمام وغيره. وفي الجهة الغربية رواق كتب بين قنطرتين من قناطره :

(١) جدد هدا المكان المبارك

(٢) الفقير إلى الله تعالى الحاج محيي الدين بن الحاج

(٣) عبد القادر بن محب في غرة شهر رجب سنة ١١٢٧ ه‍.

والحاج محيي الدين هذا مدفون في تربة السيد علي وقبره باق إلى الآن.

وداخل هذا الرواق قسطل محرر على بابه : أنشأ هذا السبيل المبارك الحاج محمد بن الحاج شمس الدين الشهاب ... يعرف ... بتاريخ شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.

١٧٢

وللجامع بابان إلى السوق كتب على الباب الشمالي وهو الباب المستعمل الآن :

(١) حسبما رسم المقر العالي المولوي السيفي قنباي

(٢) الحمزاوي المالكي الظاهري كافل المملكة الحلبية المحروسة

(٣) أن لا يؤخذ على نظارة جامع الزكي بعمله لله تعالى بتاريخ سنة ثلث وأربعين وثمانماية (٤) ملعون ابن ملعون من يأخذ منه درهم فرد ا ه.

وعلى عضادتين داخل هذا الباب عن اليمين والشمال كتابة تعسر عليّ قراءة بعض الكلمات فأضربت عنها. والباب الثاني مغلق لا يستعمل إلا نادرا لعدم الحاجة إليه ومكتوب عليه :

(١) البسملة : إنما يعمر مساجد الله إلى قوله من المهتدين وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) من بنى مسجدا ولو مفحص قطاة بني الله قصرا في الجنة. أنشأ هذا المسجد المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى العلائي علي ابن المرحوم النجمي سعيد بن يمن الملطي تقبل الله منه ورحم سلفه في شهور سنة تسع عشرة وتسعماية ا ه.

والعلائي علي رمم هذا الجامع وزاد فيه النصف الشمالي من الصحن ، وآثار الزيادة ظاهرة ، وعمر الحجرات التي في شماليه ، وكانت وفاته سنة ٩٢٢ وقد تقدمت ترجمته في الخامس (ص ٣٦٤) والرضي الحنبلي سها عن ذكر عمله هذا.

وللجامع من العقارات ٢٠ دكانا معظمها حول الجامع ، ومنها في السوق الذي بجانبه المسمى بسوق النصر ، وله نصف دار وقفها الشيخ حسن الوفائي ووقف الربع على الزاوية المتقدمة و ١٠٠ شجرة زيتون في أرمناز.

٩٤٢ ـ حسين البيمارستاني نقيب الأشراف المتوفى سنة ١٠١٣

(السيد حسين) بن محمد البيمارستاني نقيب الأشراف بحلب ، وكان يكتب الحسيني.

تولى نقابة حلب بعد موت والده ، ونازعه الشمس الرامحمداني فإنه كان نقيبا قبل

١٧٣

والد السيد حسين ، فتقرب السيد حسين إلى المولى يحيى أفندي من بستان بالهدايا حتى قررها عليه وعرض له بها ، وكان صاحب أموال جزيلة حصلها من التجارات والمداينات. وأخذ أمرا بالتقاعد عن دفتر دارية حلب. وكان لا يأخذ من الأشراف مالا ولا يصادرهم بل كان يبذل لهم القرى ويقضي مهمات مصالحهم بخلاف غيره من النقباء ، ولما استولى خداوردي أحد جند الشام على حلب ونواحيها وامتدت يده زوّج ابنته لابن خداوردي ، كما زوّج الشيخ أبو الجود ابنته لخداوردي تقربا إلى جاهه. ولما تولى الوزير نصوح كفالة حلب وفهم الشيخ أبو الجود أنه يريد الانتقام من خداوردي وبقية أجناد دمشق المستولين على حلب فرّ قبل وقوع الفتنة إلى دمشق والسيد حسين ثبت ، وكان يداري الباشا وهو في الباطن يبغضه وينوي له السوء ، والأمير درويش بن مطاف أحد متفرقة حلب مقبول عند الباشا كثير البغض للسيد حسين بواسطة أخيه السيد لطفي ، فإنه كان عدوا للسيد حسين مع كونه أخاه ، فكان السيد لطفي يثلب أخاه بحضور الأمير درويش ، والأمير درويش ينقل ذلك للباشا حتى وقع الحرب بين نصوح باشا وحسين بن جانبولاذ كما ذكرناه سابقا ، وانكسر نصوح باشا وعاد إلى حلب مقهورا ، فوشى السيد لطفي أن أخاه فرح يكسر عسكر الباشا وأنه قرأ مولدا في هذه الليلة للفرح ، فذهب الباشا ليلا إلى دار السيد حسين فسمع ضرب الدفوف وأصوات الغواني وأمارات السرور ، وكان سببه أن بنت السيد حسين ولدت ولدا ذكرا في تلك الأيام فاجتمعت النساء للفرح ، ففي اليوم الثاني طلب الباشا السيد حسين فأخذ معه شريفا من بيت صفّاف الجبس ورجلا يقال له منصور بن حلاوة ، فدخل الثلاثة إلى دار السعادة فأمر الباشا بخنقهم خفية ، فخنقوا وألقيت أجسادهم في الخندق بحيث لا يشعر بهم أحد ، وضبط الباشا أموال السيد حسين ، وهرب السيد لطفي لما قيل له إن الباشا يقتلك أيضا ، وليوهم الناس أنني ما سعيت في قتل أخي. وقد كان السيد لطفي يحلف الأيمانات العظيمة أن أخاه يشرب الخمر ويلبس لبوس النصارى ، ويذكر ذلك للباشا. وكان قتله في سنة ثلاث عشرة بعد الألف وعمره نحو سبعين سنة رحمه‌الله.

وخداوردي المتقدم جاء ذكره في الجزء الثالث (حوادث سنة ١٠١١). وترجمه الغزي في الذيل وكذا في الخلاصة فقال في ترجمته : (خداوردي) بن عبد الله الطاغية أحد كبراء أجناد الشام ، وكان متميزا فيهم بالبأس والجرأة والتوسع في الدنيا. ونال حظا عظيما ، واشتهرت صولته ، واستتبع رعايا وجهالا استخفهم فأطاعوه. وولي سردارية

١٧٤

حلب ففتك فيها ونهب وتعدى واستلب ، حتى ضجر منه أهاليها وحكامها حين قامت الحرب بينه وبين نصوح باشا وبينه وبين ابن جانبولاد ، وكان هو وأحفاده قد عاثوا في البلاد وفتنوها ، ومنه كانت نشأة فساد العسكر الشامي وطغيانهم. وما زال بينهم نافذ القول مقبول السمعة إلى أن مات ، وكانت وفاته في بضع عشرة وألف ا ه.

٩٤٣ ـ وليّ المعروف بشاه وليّ المتوفى سنة ١٠١٣

ولي المعروف بين الناس بشاه ولي العيني الحنفي الخلوتي العبد الصالح.

كان في بداية أمره جنديا من أمراء المقام العثماني ، ثم ترك ذلك وصحب رجلا صالحا يقال له الشيخ يعقوب ، فتربى على يديه وسلك السير إلى الله تعالى ، ثم مات الشيخ يعقوب ولم يحصل للشيخ شاه ولي كمال ، فصحب بعده خليفته الشيخ أحمد ، ثم لما مات الشيخ أحمد كان شاه ولي كاملا في درجات النفس ، فاستقل بالمشيخة بعده ، فأرشد ونصح ورتب الأوراد والخلوات وأخذ العهود وربى ودعا إلى الله عزوجل ، فكثر مريدوه وأتباعه ، وهذب نفسه وأدبها مع الصلاح والكرم والعفاف والزهد في الدنيا.

وكان مثابرا على طاعة الله تعالى مقبلا على النصيحة مكفوف اللسان ساكن الجوارح عفيف النفس زكي الأخلاق حسن الحال راغبا في العزلة ملازم الصبر ، يقضي أوقاته بالمرض وعدم صحة المزاج. ولم يزل حتى توفي في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة بعد الألف ، خرج إلى دار عزة لأجل إدخال مريديه إلى الخلوة ، فمرض بها بحصر البول فجيء به إلى حلب فبقي نحو عشرة أيام على تلك الحالة. ثم توفي ودفن بالقرب من مقام إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

أقول قبره ملاصق لجدار مقام إبراهيم الخليل من الجهة الشرقية.

٩٤٤ ـ صادق بن هاشم السروجي المتوفى سنة ١٠١٦

صادق بن هاشم بن ناصر الدين بن عباس ، السيد الشريف الحسيب النسيب الحسيني السروجي ثم الحلبي.

١٧٥

قدم والده حلب في حدود سنة ... ورأس بها ، وبعد صيته واشتهر أمره في حسن المعالجة. ذكره الرضي الحنبلي في تاريخه. قدم هاشم مصر واشتغل على علمائها ، وبرع في المعقولات ، واشتغل بمطالعة كتب الطب حتى حصل على الحظ الأوفر منه بقراءة بحث وتدقيق ، وأجيز في عدة كتب من المشايخ العظام وجل الأطباء الكرام.

ثم قدم حلب فحصل له الحظوة بالأكابر والحكام وهرعت إليه الناس لما يجدون من بركة يده في المعالجات ، وتصون لسائر الأمراض والعلات. ثم تزوج بحلب وأعقب من ولديه ناصر الدين الآتي ذكره وهذا صادق ، فأكثر من التنقلات في البلاد والمخالطة مع العباد والزهاد لتحصيل الفوائد والتقاط الفرائد ، فلا يزال يجني ثمرات المسائل من أربابها ، ويأخذ المجربات الصحيحة عن أصحابها ، إلى أن حصل عن شيء لم يحصل عليه إنسان ، وبرع في الطب بما فاق به الأقران. ثم رأى اقتفاء أثر آبائه في العلاج ، وتقيده لمداواة الأبدان أوضح منهاج ، فجلس في حجرة آبائه بالباب الغربي من أموى حلب يتعاطى صنعة العلاج يبرىء بصحيح علاجه الامراض ، ويزيل عن الاجساد العلل والاعراض ، والناس تهرع إليه ، وتعول في الأمور عليه ، لما يجدون من بركة يديه.

ناب مدة بتوقيت حلب بجامعها الأموي من غير أجرة قاصدا الأجر والثواب من الملك الوهاب ، ثم تنزه وتخلف في الطريقة القادرية من العلامة شيخ الإسلام الزيني عمر العرضي ، ولزم الذكر والعبادة وقراءة القرآن والتلاوة ، إلى أن اخترمته المنية يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى سنة ١٠١٦. وأعقب صادق من ولده الشمس محمد الآتي ذكره في المحمديين. (من مجموعة العرضي)

٩٤٥ ـ أحمد بن عمر الحمامي العلواني المتوفى سنة ١٠١٧

الشيخ أحمد بن عمر الحمامي العلواني الخلوتي الشافعي ، نزيل حلب ، الشيخ البركة.

تأدب على يد أستاذه أبي الوفا العلواني ، قرأ عليه في مقدمات العلوم ، ولازمه في حضور مجالس شكوى الخاطر. ثم سلك على يد ابن أخيه الشيخ محمد فكان بينه وبين الشيخ علوان رجل واحد هو الشيخ أبو الوفاء ابن الشيخ علوان.

ثم خرج من بلدته حماة لحدة مزاجه وضيق أخلاقه وذلك بعد موت مشايخه ، فورد

١٧٦

حلب ونزل بمحلة المشارقة ، وكان حينئذ يكتسب بالحياكة ، ثم مل منها وجلس بمسجد الشيخ شمعون بمحلة سويقة حاتم قرب الجامع الكبير ، فكان يقرىء المبتدئين في الألفية النحوية وشرح القطر ونحو ذلك ، ويقرىء في المنهاج الفرعي.

وكان يقنع بسد الرمق ، ويلبس الثياب الخشنة كالعباءة والقميص من الخام مع قدرته على لبس أحسن من ذلك.

ثم تردد إلى دروس الشيخ أبي الجود ، وكان يتفقده *. ثم أخذ يشكو الخواطر على طريق العلوانية. وكيفية شكوى الخواطر أنه يوم الجمعة صبيحة النهار يقرأ أوراد العلوانية ويستمر يذكر الله تعالى حتى ترتفع الشمس على قدر قامتين ، ويجلس السامعون بعضهم إلى ظهر بعض ، ثم يطرق الشيخ رأسه ويقول : أستغفر الله ، فكل واحد يقول كذلك بمفرده ، ثم يشكو بعض جماعات منهم ما لاح في ضميره ، هذا يقول مثلا : أجد نفسي تميل إلى الأطعمة الطيبة وعجزت عن دفعها ، وهذا يقول : أشغلني عن عبادة الله أمور العيال ، وهذا يقول : ما معنى قول ابن الفارض (روحي فداك عرفت أم لم تعرف) ، وهذا يقول : ما معنى قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)**. وبعد الفراغ من السؤالات يشرح لهم الخواطر واحدا بعد واحد ويستطرد.

قال العرضي الصغير : حضرته مرة فاستطرد إلى أن حكى أنه لما كان في خدمة شيخه أبي الوفا وجده في الليل نائما في الزاوية في الإيوان أيام البرد ، فأيقظه وقال له : يا أحمد ، أوصيك أن لا تتخذ لك بيوتا سوى المساجد لئلا تحاسب عليها في القيامة. وذكر أن شيخه أعطاه مفتاح خزانة الزيت ليعطي منها للمسجد ما يحتاج ، فكان يسمي الله تعالى ويعطي ، واستمر مدة طويلة حتى حمل الحسد رجلا قال للشيخ : إن أحمد لا يقدر على حفظ الزيت ، فسلمه الشيخ المفتاح وعزل الشيخ أحمد ، فما مضى نحو أسبوع وإذا بالرجل قال : قد فرغ الزيت ، فقال الشيخ : سبحان الله! كانت البركة في يد أحمد ، ولو استمر المفتاح عنده كان الزيت يقيم سنوات.

وله مؤلفات مقبولة ، منها «تروية الأرواح» ، و «أعذب المشارب في السلوك

__________________

(*) لعل الصواب : يعتقده.

(**) الفتح : ٤.

١٧٧

والمناقب» ، المتن له منظوم والشرح له منثور ، ومطلع المنظوم قوله :

إليك بك اللهم وجهت وجهتي

وفيك إذا ما همت ألفيت همتي

لقد سدّت الأبواب عني وقصرت

فأسألك التفريج من كل شدة

لك الحمد إذ أظهرت في الكون سادة

تحلّى بهم والله جيد الملاحة

بهم كل جود في الوجود وما لمن

أحبهم غير الهنا والمسرة

لك الحمد أن أشغلت قلبي بذكرهم

وشرفت ما أملي بوصف المحبة

فهم نور عيني والجمال يحفهم

وهم روح جسمي والحياة بجملة

لك الحمد فارحمني إذا ما ذكرتهم

بوصف جميل واصلح الله نيتي

وقد ذكر في الشرح شيخه أبا الوفاء (الشيخ أبا بكر) وأطنب في مناقبه ، وذكر فيه الشيخ عمر العرضي وأطال في مدحه. وكان سأل العرضي المذكور أن المقرر أن النبي أعم من الرسول مع أن الله تعالى علق الإرسال على كل شيء فقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى)* دلت بصريحها أنه ما من شيء إلا وقد أرسل الله إليه ، أجاب بأن الرسول المعروف إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ذاك بحسب عرف أهل الشرع ، والإرسال المراد في الآية الإرسال اللغوي ، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ)** ونحو ذلك.

ولم يعرف لذة الجماع أصلا. ولما ورد شاه ولي الخلوتي العارف بالله تعالى صاحبه الشيخ أحمد وتلمذ له وأخذ عنه البيعة حتى تعجب الناس من حسن أخلاق الشيخ أحمد.

ولبّس الشيخ أحمد جميع مريديه تاج الخلوتية وشرع يقيم الذكر على أسلوب الخلوتية فكثر أتباعه وقصده الناس من جميع أقطار حلب ، إلا أن المشددين في الزهد ما أعجبتهم هذه الحالة لكون الطريقة العلوانية محض سنة محمدية. واتخذ له كرسيا يجلس عليه يوم شكوى الخواطر ، فكان يقرأ بعض آيات قرآنية ويفسرها للناس ، وأقبلت عليه الدنيا والنذورات وأسرعت الحكام وأرباب الدولة إلى زيارته. ولما أدركت الشاه ولي الوفاة بحلب اجتمعت عليه أهالي باب النيرب وقالو له : يا مولانا ، ترك الشيخ أحمد طريقته وطريقة

__________________

(*) الحج : ٥٢.

(**) الأعراف : ٥٧

١٧٨

آبائه وتلمذ لكم وهو عالم فاضل فلا يليق بالخلافة غيره ، فقال لهم : لا ، الخليفة عليكم بعدي قايا جلبي ، وكرّروا هذا الأمر مرارا وهو يقول لهم كذلك. ثم انحل الشيخ أحمد عن تلك الحالة وأدركه الموت فقال : أشهد الله أني أموت على طريقة الشيخ علوان. وكان ربما اقتصر في اليوم على رغيف.

وكانت وفاته في سنة سبع عشرة بعد الألف ، ودفن بجانب الشيخ شاه ولي ملاصقا لمقام الخليل عليه‌السلام.

٩٤٦ ـ محمد بن علي الرامحمداني نقيب الأشراف المتوفى سنة ١٠١٩

محمد بن علي بن يوسف بن فياض السيد شمس الدين الرام حمداني ثم الحلبي ، المعروف بالقاضي الشافعي ، نقيب السادة الأشراف.

قدم جده الشيخ فياض من بلاد حوران واستوطن قرية رام حمدان وأولد بها الجمالي يوسف ، فنشأ على قدم الصلاح ، وأخذ الطريقة الأحمدية على الشيخ محمد المنيّر ، وبنى له زاوية برام حمدان وجلس على سجادة الإرشاد يهرع إليه كثير من الناس من معاملة تلك البلاد.

وأما المترجم فإنه قدم حلب من قرية رام حمدان من أعمال حلب سنة ... على قدم الفقر والتجريد وعلى لبس عباءة لا يزيد ، وأخذ له حجرة بجامع الطواشي ، واشتغل بتحصيل العلم على الجمالي يوسف بن حسن ليه فقرأ عليه المحلى شرح المنهاج وأجازه فيه ، وعني بمطالعة كتب الفقه فحصل منها المسائل الشرعية ، وتقيد بقضاء مصالح الجمال يوسف الإسحاقي نقيب السادة الأشراف بحلب ففوض إليه جميع أموره وصار يستضيء بنور رأيه. ثم أخذ وكالة خان الخراطين بعد كتابته ، فحسن حاله بذلك ، واشترى له دارا بالقرب من جامع البهرمية فأحسن عمارتها ، واستنيب في فسخ الأنكحة من قبل من تولى حلب من القضاة ، وجلس بالمحكمة الشافعية مع ذلك يتعاطى الأحكام الشرعية ، وحصل له الحظوة عند القضاة والحكام حتى هرع إليه الخاص والعام.

ثم تولى نقابة الأشراف بموت العز الإسحاقي ابن أخي الجمال يوسف نقيب السادة الأشراف بحلب ، ثم تنزه عن الجلوس في المحكمة لما فيه من معاداة الناس والوقوف تحت

١٧٩

مرضاتهم وجري الأمور على وقف مرادهم ، واستنيب في قسمة التركات قبل قاضي العساكر بالقسطنطينية مدة ، ثم تنزه واستمر على قدم الزهد إلى أن استولت أيدي الجلالية على الديار الحلبية ، فحصلت له الإهانة الكلية وأزيل الأخضر من على رأسه بديوان حلب بالتعصب من بعض الأشراف المنكرين شرفه وقرر في النقابة غيره (هو محمد البيمارستاني المتوفى سنة ١٠١٠) وجرم أعظم جريمة ، وولى من حلب هزيمة ، وصار في مرتبة الخمول ، يتضرع إلى الله وهو المأمول ، فلم يحل الحول حتى قدم حضرة الوزير الأعظم مراد باشا وأزال أيدي الطائفة الخوارج عن الديار الحلبية ، وقطع دابر الفرقة الجلالية ، فحصل له عنده عظيم المقام بحيث يقابله في ملأ من الناس بالإعزاز والإكرام ، فارتفع شأنه ورد الله الأمر إلى نصابه ، والحكم لأربابه ، وتولى منصب النقابة. واتفق أن الذي رفع أخضره من على رأسه قطع رأسه في ذلك اليوم من ذلك الشهر الذي أزال فيه.

توفي رحمه‌الله يوم السبت الثاني والعشرين من صفر سنة ألف وتسعة عشر. ا ه. (من مجموعة الشيخ يوسف الجمالي).

٩٤٧ ـ يوسف الأنصاري ابن أبي بكر المتوفى في أوائل هذا القرن

يوسف بن أبي بكر الأنصاري عم والدة العرضي ابن بنت شيخ الإسلام ابن الحنبلي الحنفي.

ترجمه الشيخ محمد العرضي في القسم الأول من كتابه الذي ترجم فيه ١٤ رجلا من أعيان الشهباء ومصر والشام والحجاز وهو في (٤٣) ورقة قال : يوسف بن أبي بكر عم والدتي الأنصاري ابن بنت شيخ الإسلام ابن الحنبلي الحنفي ، فرع ينع في حديقة الأنصار يمت بنسبه إلى أخوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النجار ، هو وإن انتسب إلى حامل راية الرسول يوم بدر سعد بن عبادة ، له صقيل طبع يداني طبع البحتري أبي عبادة. نشأ المزبور متوشحا بالعفاف ، قانعا من ريّق العيش بثمد الكفاف ، أدرك جده المذكور وقرأ عليه بعض مقدمات الصرف ، وله صنف رسالته المسماة «بالمختصر اللطيف في علم التصريف». وسافر في ريعان شبابه واقتبال عمره إلى مصر القاهرة وأدرك بها ثاني النعمان ، ومن كلماته تحكي شقائق النعمان الشيخ علي المقدسي ، واقتبس من مشكاته وحل بناديه القدسي.

١٨٠