إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

وقربني منه وأخشى بعاده

فرب اقتراب جر من بعده بعدا

كسهم الرمايا كلما ازداد قربه

إلى صدر راميه تباعد وامتدا

ومنها :

ترى تمتري عشب الحجاز رواحلي

وتلطم أيديها وجوه الفلا وخدا

وله من نبوية أخرى :

ما زلت حسانا له ولبيته

ولصخر ذاك البيت كالخنساء

أبكي البقيع وساكنيه وليتني

كنت المخضّب دونهم بدماء

وله من أخرى :

مذ نشرت صحيفة البيد سرى

رسمت بالمنسم واوا للنوى

ومن أخرى :

هاب القريض مديحه

فانشق أنصافا سطوره

وهو معنى مبتكر لطيف إلى الغاية. وله :

أيها الريم هل تريم بنظره

علّ يصحو الفؤاد من بعد سكره

بأبي أنت غصن بان تثنّى

وغدا يمزج الدلال بخطره

ألف القدّ زانها نقطة الخا

ل فأضحى وواحد الحسن عشرة

قلت : هي حسنة والحسنة بعشر أمثالها :

شارب أخضر وبيض ثنايا

سوّدا وجه عيشتي بعد خضره

أنت زهر غض وقلبي كمام

فلماذا أوقدت بيتك جمره (١)

قلت : ومن شعره قوله :

__________________

(١) أورد في الريحانة بعد هذه الأبيات ثلاثة أبيات وهي :

زرعت مقلتي بخديك وردا

فأبحني قطاف زرعي زهره

يا أبا عذرة الملاحة إني

بين موتي هواك من حي عذره

كعبة الحسن كل وقت إليها

في ركاب المنى أحج بفكره

٣٠١

لم يبق مني هوى ذاك الغزال سوى

بقية من حياة نازعت بدني

فسين طرته مع نون حاجبه

كلاهما سن لي سيفا من المحن

هذا من التوليد الحسن ، فإنه ولّد من الطرّة والحاجب لفظة سن. ومثله لبعض الشعراء :

كيف لا يسرق العقول وذا

العارض واللحظ منه لام وصاد

وهو مأخوذ من بعض ظرفاء العجم. قال الزكي بن أبي الأصبع في «تحرير التحبير» :

إن أغرب ما سمعت في التوليد :

كأن عذاره في الخد لام

ومبسمه الشهيّ العذب صاد

وطرة شعره ليل بهيم

فلا عجب إذا سرق الرقاد

فإنه ولد من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص ، وولد من معناها تشبيه الطرة بالليل وذكر سرقة النوم ، فحصل توليد وإغراب وإدماج.

وله :

روحي الفداء لظبي ذبت فيه أذى

مؤنّس الطرف وسنان بلا وسن

لم أنس إذ قام للتوديع وانبسطت

يد الفراق لقطع الشمل بالمحن

يقول والدمع في الآماق يخنقه

يا ليت معرفتي إياك لم تكن

وله :

وجهه كعبة حسن

ولماه ماء زمزم

خلت ذاك الخال منه

حجر الأسود يلثم

وقد وقف على أنموذج من شعره وأظنه من جمعه ، وفيه كل نادرة وتحفة ساحرة ، فاخترت منه جله لهذا الكتاب ، وأرجو أن لا يقال طال به بل طاب ، وقد صدره بهذه الديباجة الآتية من إنشائه النفيس ، وجعلها مقدمة لرسالة أهداها لشيخ الإسلام مصطفى الشهير ببالي زاده في فتح قلعة ينوه على يد الوزير الأعظم محمد باشا الكوبري في سنة ثمان وستين وألف فقال :

سبحان من جعل اندفاق أمداده لأوليائه ، وفيضه الإلهي ، غير مشوب بانقطاع ولا امتناع ، مع أنه منظوم في سلك المسلسل الغير متناهي ، وإن كبت جياد هممهم في بعض

٣٠٢

الأحيان تداركها لطفه بنشاط فيكون لها السبق والإحراز في حومة الميدان ، فلا تزال خيولها بالمراح كالسيول متدفقة ، وكمائمها في حدائق الكون عن نوار النجاح متفتقة ، والصلاة والسلام على من جعل الله به للعرب الفخر الأشب ، وحوز بحبوحة النسب والنشب ، فأنزلهم من غوارب الضوامر ، وأركبهم متون الأسرة والمنابر ، فلهم به الفخار البكر على سائر القبائل والأمم ، فاستأسرت لهم مماليك وعبيد ملوك الديلم والعجم ، رفع الله به منار الدين ، وقطع دابر القوم الكافرين. فالإسلام وإن بدأ بالذلة والاغتراب فسيعود عزيزا ، وينقلب نحاس أربابه لدى السبك ذهبا وإبريزا ، وعلى آله وسائط القلائد ، واللآلي الفرائد ، وأصحابه مصابيح الدجى وشموس الضحى ونجوم الليل إذا سجى (وبعد) : فلما برز الإذن الإلهي بتبرج الفتوحات الإسلامية من خدور الغيوب ، وجالت أفراس الأفراح تركض في ميادين القلوب ، ودبت حميا المسرة في الضمائر ، وقامت خطباء الأقلام تصدح بالبشائر ، وهدرت شقاشقها من أنامل الكتاب على المنابر ، وزرفنت في وجنات الصفحات بالمداد الغوالي ، تشرح ما كتبته في صدور الكفرة صدور العوالي ، وذلك بإقبال ظل الله في الأرض ، الفائض من وجه البسيطة على الطول والعرض ، واسطة عقد ملوك آل عثمان ، لا زالت الأمور متسقة النظام ، ما قام له كل يوم ديوان وإقدام ، حضرة الصدر الكبير ، القائم بأعباء الرأي والتدبير ، من هو من فلك الوزارة ، بمنزلة النيّر الأعظم من بين الكواكب السيارة ، ويمن حضرة شيخ الإسلام ، ودرة تاج الملك وفض الختام ، بكر عطارد العلم وثاني الفرقد ، ومن هو من بين جواهر الذات در التقاصير والزبرجد ، لا زالت غرة المجد شادخة في جبينه ، وقلم الفتيا راكعا وساجدا في محراب يمينه ، عنّ لي نظم أبيات براعتها التهنئة بهذا الفتح المبين ، وختامها تاريخه من الهجرة النبوية بالسنين ، ضاما إلى ذلك رسائل علمية تبحث عن اسمه الشريف فقط ، وهي وإن لم تبلغ الذروة العليا من التحقيق لكنها كما قيل خير الأمور الوسط. وهي لما كانت كالمولود الجديد من بين بنيات الصدر ، وتستحق التسمية كما تستحق الرضاع والدر ، سميتها «بمنهل الصفا على اسم المصطفى» ، لا زال لمسماه من هذا الاسم نصيب ، إنه سبحانه قريب مجيب. ثم قال : ولنبدأ أولا بالقصيدة وهي هذه :

قبول يرود ويتلوه نجح

وأيد لتسآل قصد تلحّ

فأهلا بنشر بشير أتى

يضمخ من مسكه الروع جنح

٣٠٣

كأن الخزامى وشيح الربى

متون وريح الصبا ذاك شرح

فلله بكر قد افتضها

مهنّده وسنان ورمح

وعهدي بها هامة للجبال

فأضحت بتمهيدها وهي سفح

وكم طرف طرف كبا دونها

له في بحار الميادين سبح

ولكن بإقبال سلطاننا

تزول الرواسي وينهد صرح

مليك بكلكله قد أناخ

فانقاد صعب وانزاح جمح

ونكس أعلام كفر عتت

ولما شقها عاد صلح *

فعيد شعانينهم مأتم

عليهم وأبكم قد عاد فصح

ففي مهرق الأرض أمسوا كخط

سقيم له صارم الدين يمحو

قد استله يمن سلطاننا

وتدبير صدر توخّاه نصح

وإقبال شيخ لإسلامنا

تخطّى المعالي وحاشاه كدح

تصدّح رغما لأنف العدا

ولكن به قرّ طرف وكشح

تقدم من قبله معشر

هم لليالي ذنوب وقبح

مضوا قبله كبهيم الدجى

وقد جاء من بعدهم وهو صبح

ولا بدع أقلامه إن جرت

بغالية النفس والنفس شح

فصحف فتاويه من حسنها

خدود العذارى عليهن رشح

ولله سر بدا في علاه

ومنذ تولى تولاه مدح

وحتى أعاديه لم ينطقوا

بذم وإن نابهم منه ذبح

يراعي قد طاش في مدحه

وثنى العنان إلى الفتح مرح

فلله فتح مبين إذا **

وما هو إلا من الله منح

لذا أنشأ الحال تاريخه

لنصر من الله حم وفتح

وقال وهي من غرره :

تألق البرق لي سلاسل

قلت وشاح على المنازل

أو شرد الطيف عن جفوني

فامتد منها له حبائل

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر ، وفي عجز البيت كسر.

(**) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر ، ولعل الصواب : فلله فتح مبين آتى.

٣٠٤

أو أنها قد حكت عشورا

أخذت منها فالا لقابل

أو صارم والسماء قين

غدا لها بالنسيم صاقل

ذكرني بالوميض خصرا

جال به للنطاق جائل

أو أنه إبتسام ثغر

فيه شفاء لكل ناهل

بل طلعة العالم المفدّى

عين المعالي صدر الأفاضل

درة تاج المليك يزهو

جيد به للزمان عاطل

يراعه مثمر المعالي

يصيب منه الشبا الشواكل

إن يسقه النقس فهو غصن

يضوع منه شذا الخمائل

صريره مطرب قضاة

ما بين راج منهم وآمل

يصون منا ماء المحيا

وهو بماء الحياة سائل

ثاني عصاة الكليم تجري

لنا أنابيبه جداول

ولفظه عنبر بشحر

يقذفه البحر للسواحل

أنجب دهر به أتانا

رضيع ضرع العلوم حافل

وكان من قبله عقيما

كذاك ليلاته حوائل

فليهننا طالبي نداه

فزنا ورب الهوى بطائل

أعاد أفراد من تقضّى

كالصاحب الشهم وابن وائل

إن رمد الطرس من جهول

فهو بميل اليراع كاحل

أعر لقولي مولاي سمعا

أشكوك دهرا عليّ حامل

قطّع أسبابنا اللواتي

كانت لحاجاتنا وسائل

تلا محياك لي سطورا

فيها نجاح لكل سائل

ومما أورده قوله في الرثاء :

لك الله من غاد يسير بلا عزم

ومغترب في أهله والحمى المحمي

ومن راقد ليست له هيئة الكرى

ونشوان راح لا من التمر والكرم

فكم ناشد منا ويدري مكانه

فهلا وجدنا ما نشدناه في الرسم

حبيب فقدنا منه نجم سعوده

وكوكبه الوضاح بل قمر التم

أقامت عليه الكائنات مآتما

فدمع السحاب الجون من بعده يهمي

٣٠٥

وألبس أثواب الحداد الدجى أسى

وبدر الدجى في وجهه أثر اللطم

وقد حلقت رأسا وألقت جلاببا

وشقت جيوبا روضة جادها الوسمي

وقد لبست ثوب الصدار * سماؤنا

بغيم وليس الغيم إلا من الغم

وصكت بنعل الفرقدين صدورها

فمن زرقة قد أثرت أثر الختم

عجبت له وهو الضنين بنفسه

يحارب عنها كيف يجنح للسلم

بنينا المراثي بعده وبيوتها

وقد صار منه هيكل الجسم للهدم

عزاء بني الأمجاد والشرف الجم

وصبرا جميلا لا يقبّح بالإثم

فسيف القضاء الحتم لا يسلب المضا

يصول بلا ذنب ويسطو بلا جرم

وما أمهات الخلق إلا صوائر

بثكل وما الأبناء إلا إلى اليتم

لقد أنتج الآباء أشكالنا سدى

فيا ليت ذا الإنتاج بدّل بالعقم

فيا رب أسكنه الجنان ممتّعا

وأسبل عليه ستر غفرانك الجم

وأبدله عن هذي الرسوم وأهلها

قصورا وحورا قاصرات بلا نقم

وقوله من قصيدة وهي من تحائفه :

على أثلات الواديين سلام

وبعض تحايا الزائرين غرام

تذكرت أيامي بها وأحبتي

إذ العيش غض والزمان غلام

وإلمامتي بالحي حيث تواجهت

قصور بأكناف الحمى وخيام

ألام على هجرانهم وهم المنى

وكيف يقيم الحر وهو يضام

همو شرعوا أن الجفاء محلل

وهم حكموا أن الوفاء حرام

وأبلج أما وجهه حين يجتلى

فشمس وأما كفه فغمام

جرى طائري منه سنيحا فعلني

بدرّ أياد ما لهن نظام

شردت عليه غير جاحد نعمة

أكلّف خسفا بعده وأسام

وقد يسلب الرأي الفتى وهو حازم

وينبو غرار السيف وهو حسام

فقد وجد الواشون سوقا ونفّقوا

بضائع زور ما لهن دوام

وبعض كلام القائلين تزيّد

وبعض قبول السامعين أثام

فأصبح شمل الأنس وهو مبدد

لديه وحبل القرب وهو ذمام

__________________

(*) لعل الصواب : الحداد.

٣٠٦

يقرب دوني من شهدت وغيبوا

ويوصل قلبي من سهرت وناموا

تزاور حتى ما يرجّى التفاته

وأعرض حتى ما يردّ سلام

فلا عطف إلا لحظة وتنكر

ولا رد إلا صخرة وسآم

قال : ومما نسجته في حلية من نسج عليه العنكبوت ، من حليته الشريفة وهو مثبوت :

استمع حلية النبي المكنّى

من لآل فرائد ذات معنى

أبيض اللون أنفه كان أقنى

ذو جبين طلق وأفرق سنّا

خافض الطرف هيبة وحياء

وله حاجب أزجّ مثنى

وكثيف اللحى مجمع شعر

أسود العين كاسر لك جفنا

هدب عينيه مثل إقدام نسر

وله راحة غدت وهي تثنى

مثل مارقّ أنملا رقّ قلبا

مثلما طال أيديا طال منّا

يا لسطر من فوق مهرق صدر

من شعور كالخز لينا وحسنا

إن يسر سار جملة كانحطاط

من علو يجوز ركنا فركنا

كامل القد لم يسايره قرن

في مداه إلا تراه أرجحنّا

وإذا رام في مجالسه

القول بنصح فيوزن اللفظ وزنا

دائم الفكر مظهر لسرور

في محياه وهو يكتم حزنا

فعليه الصلاة كل مساء

وصباح ما صيغ في القول معنى

وله ملغزا في عيد ، وكتب بها إلى السيد بكر بن النقيب :

رعى الله ظبيا في الحشاشة مرعاه

وحيّاه قلب لم يفارق محيّاه

بوجه له اختطت محاريب حاجب

أطلت صلاة اللحظ فيها لمرآه

وقام بلال الخال فيها مراقبا

صباح جبين لا تغيب ثرياه

ولم أنس إذ جاذبته طرف المنى

وقد نظمت عقد التهاني ثناياه

بجنح دجى من قبل بنت عذاره

تسربل في شيب من الصبح خداه

وقد طلعت فيه شموس كؤوسنا

كما أطلعت نجل الشهابيّ دنياه

نجيب لعين المجد أصبح قرة

وأمسى قذاة في نواظر أعداه

ولا بدع أن يطوى له سبب العلا

وينشر في سوق المفاخر برداه

فمن كان من نسل الشهابي عطارد

سيملك من قدح المعلّى معلّاه

٣٠٧

فيا بكر بشرى أنت بكر عطارد

ومن لم تقف في حومة البحث خيلاه

لقد جاش في صدري مباراة طبعكم

وصقل يمانيّ له لان متناه

فما اسم حكى النعمان في يوم بؤسه

ويوم نعيم يستطار لنعماه

يريق دما من ليس يجني على الورى

ويطعم أخرى جائعا من تلقّاه

وليس من الأجسام لكن له يد

وعين على مر الجديدين ترعاه

إذا صحّفوه فهو عبد مقيّد

إذا أطلقوه كان مولى بمولاه

فجد بجواب نستضيء بنوره

ونقطف أزهار الأمانيّ جدواه

بقيت بأفق الفضل والمجد طالعا

يقول الذي يلقاكم ربك الله

وله في والد السيد بكر المذكور ، وهو السيد أحمد يشير إلى خال له كان يلقب بآلا ، وإلى غلام كان يهواه يعرف بصاحب الخال :

من مبلغ عني الشهابي أحمدا

نجل النقيب الشامخ المتعالي

لا تفخرنّ عليك بعد بقية

ما لم تنلها لست بالمفضال

المرء يكرع من مناهل خاله

وشراب آلا كالسراب الآل

لله قاضي دهرك العدل الذي

أعطاك خالا ثم صاحب خال

فبقدر ما تهواه من ذي الخال قد

أعطيت عكس هواك عند الخالي

وله من مكاتبة كتبها وهو في الروم :

أيها القاصد العواصم من

أكناف شهبائنا ذوات النطاق

إن لي حاجة إليك فهل أنت

ترى في وفائها خير راقي

قل لسكان جامع طالما طاردت

بالبحث فيه خيل السباق

لم جفوتم صبا لقد قذفته

راحة البين فوق حوض العناق

فتلافوا فؤاده بكتاب

فكتاب الأحباب نصف التلاقي

وله في الغلام الخمّار الذي كان يهواه :

مهلا فعيني من بكا ونحيب

عميت وتوّجني الهوى بمشيب

في حب بدر ما استضأت بوصله

إلا وأعقبه الجفا بمغيب

أوردّ عيني عيسوي جماله

إلا وأدركها العمى برقيب

٣٠٨

وله فيه أيضا :

وعصر بقسطنطينة قد قطعته

على وفق ما قد كان في النفس والصدر

يميني بها كرّاسة أجتلي بها

علوما لقد زاولتها غابر الدهر

أحرر منها في الطروس بدائعا

فاملأ صدر القوم في الورد والصدر

وطورا أحلّي من زماني عاطلا

بعقد نظام صاغه صائغ الفكر

معان إذا ما الصرّ درّ دعا لها

تراه بصرّ راح وهو بلا در

أضمنها سلوى الحزين ورقية

السليم ومأخوذ من اللحظ بالسحر

وخمر شمالي للشمول متابع

إذا حثها الساقي أذاعت له سري

من العبقريين الذين تحملوا

نقى كلكل الزنّار فوق وهي الخصر

إذا اعتمّ زرقاء اليمامة خلتها

سماء بها قد لاح نور سنا البدر

وإن قام بين الشرب خلت قوامه

قنا ألف قامت على وسط السطر

وإن أترع الكاسات خلت يمينه

لجينا تحلّيها مقامع من تبر

وإن نظرته العين نظرة ذي هوى

سقاني بكاس العين خمرا على خمر

وأدجو بليل من ذوائب شعره

فيا رب هل في لثمتي الثغر من فجر

أفكر في يوم النوى ليلة اللقا

فأذري دماء العين من حيث لا أدري

فأمسح في كافورة الجيد مقلتي

عسى أن بالكافور دمعي لا يجري

فما زال في ثوب الخلاعة ظاهري

وقلبي بذكر الله يفتر عن درّ

إلى أن قذفت الشرك عن صفو خاطري

كما تقذف الأدناس عن لجة البحر

ومن غزلياته قوله :

الصخر رق لحالتي يا ذا الفتى

مذ صرت خنساء وقلبي قد عتا

يا أيها الريم الذي ألحاظه

سلّت على العشاق سيفا مصلتا

عطفا عليّ بنظرة أو لفتة

إذ عادة الآرام أن تتلفتا

كم ذا أعاني فيك أهواء وكم

أصلى بنيران الهوى وإلى متى

الله أعلم لم أبح بهواكم

لكنما العينان فيها تمّتا

أترى زمانا مر حلوا بالحمى

هو عائد والعيش غض ثمتا

ما كان في ظني الفراق وإنما

قاضي الغرام عليّ ذلك أثبتا

٣٠٩

كم ليلة للوصل قرّبت الكرى

عطس الصباح ولم أجبه مشمّتا

وعلى الذي نطق الكتاب بمدحه

وأتى الخطاب له بسورة هل أتى

مني صلاة أجتني نوّارها

من جنة عيناي فيها نامتا

ومن بدائعه قوله من قصيدة :

ما الخال مسكا فت في الأجياد

بل إنه بقيا فتيت فؤادي

أو إنه شحرور روضة وجهه

قد جاوبته بلابل الإنشاد

أو عابد ليس المسوح وقد رقي

من سحر عينيه بسورة صاد

وأقام في محراب حاجبه الهدى

يحكي بلالا للصلاة ينادي

بل إنه كرة تجول بسالف

كالسيف يسكن في حشا الأغماد

أو إنّ وجنته صحيفة مهرق

قلم الإله أمدّها بمداد

أو نقطة ولها العذار حمائل

أو كالكمام بغصنه الميّاد

بل إنه حبب طفا وخدوده

قدح تطفّح من دم الأكباد

أو مركز والخد دائرة المنى

خطت ببيكار الجمال البادي

بل حبة نصبت لصيد حشاشتي

بل قطرة من نفس عبد الهادي

ومن مقاطيعه قوله :

ريحان خدك ناسخ

ما خط ياقوت الخدود

وقع الغبار بها كما

وقع الغبار على الورود

وقوله :

تلك الثنايا واشقائي بها

باتت تريني عند لثمي الطريق

تبدّدت من غيرة عندها

سبحة در نظمت من عقيق

وله :

يا ليلة طالت على عاشق

بات من الوجد على جمر

كليلة الميلاد في طولها

تسيح فيها العين بالقطر

٣١٠

كأنها ثكلى جنين لها

أغرّ قد سمّته بالفجر

وله في شريف :

لما تعمم بالخضراء ذو شرف

قوامه صيغ من تبر ومن صلف

أيقظت صحبي وعين النجم ساهرة

قوموا انظروا ويحكم للبدر في الشرف

وله :

إرفقوا فالفؤاد ليس بجلد

وارحموا ذلتي وطول عويلي

إن شحاذ حسنكم وعيوني

يا غناة الجمال كالكشكول

وله في يتيم :

إن ذاك الرشأ الخشف الذي

مات عنه والد فهو كظيم

زاده موت أبيه قيمة

كان درّا فغدا اليوم يتيم

وله في أرمد :

ذاك الذي طلّت دمي عينه

وراح يسمى أرمد الاسم *

لما رآني لدمي ثائرا

عصبّها بالطرف المعلم

قولوا له يكشف عن عينيه

فإن فيها نقطا من دمي

وله في جرّاح :

لحا الله الطبيب لقد تعدّى

وجاء لقلع ضرسك بالمحال

أعاق الظبي قد شلت يداه

وسلط كلبتين على غزال

وله في حامل قنديل :

وشادن جاء والقنديل في يده

ما بيننا وظلام الليل معتكر

كأنه فلك والماء فيه سما

والنار شمس به والحامل القمر

وله في موشم :

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر.

٣١١

أفدي غزالا تعرّى من ملابسه

والجسم من ترف أضحى كفالوذج

كأنه وطراز الوشم دار به

جسم من الدر فيه نقش فيروزج

وله :

إن خال الحبيب لما دهاني

وشجاني منه الجفا والمطال

قلت إذ زاد نكهة وصفاء

قم أرحنا بقبلة يا بلال

وله :

ويلاه من جيد كماء الحياه

حف به زيق كشط الفراه

كأنما أطواقه حوله

فوّارة تمطر ماء الحياه

وله :

لم أزل من صحيفة القلب أملي

في دجا الإغتراب سطر مثالك

ناصبا هدب جفن عيني شباكا

فعسى أن أصيد طير خيالك

وله في العيون المستعارة للنظر :

قال لي الحب لم وضعت على

الأنف عيونا وفي عيونك مقنع

قلت مذ خط كاتب الحسن في

ثغرك نونا كحاجبين وأبدع

فجعلت العيون أربع علّي

أن أرى يا رشا حواجب أربع

وله :

وجنة كالشقيق مرآتها اليوم

صفت من قذاة عين الرقيب

خضبت من دم الرقيب فما

تبصر إلا تعلقت بالقلوب

وله :

عاب قوم شربى المدام ولا

يدرون أن التعييب عين العيوب

جبر قلب الأقداح بالراح خير

في اعتقادي من كسر كأس القلوب

ولما طال مكثه بالروم قال :

٣١٢

شيبت فود سيد الرسل هود

ولقد شيبت فؤادي الروم (١)

ورجع إلى وطنه فأخذ يندب أوقاته الماضية ، فمما قاله في ذلك المعرض :

ما قصرت تلك الليالي التي

في جنحها بت سمير الملاح

لكن أشواقي لذاك الرشا

ما عاجلتني خوف وشك البراح

شققت جيبا كالدجا حالكا

عن صدره فانجاب لي عن صباح

وقال :

قد ألفت الهموم لما تجافت

عن وصالي الأفراح وازددت كربه

فديار الهموم أوطاني الغر

ودار الأفراح لي دار غربه

وقال :

ألا قل لقسطنطينة الروم إنني

أعادي لقسطنطين إسمك والرسما

لقد غيبته في الثرى غير واجد

محبا يفاديه الحشاشة والجسما

وقد تركتني ساهر الطرف بعده

مشتت شمل البال أرتقب النجما

سأهجر فيه خلة الكاس والهوى

وأجتنب اللذات إن عدن لي خصما

وقال :

كان لي في الحظوظ بدرة عيش

بدرتها يد الشبيبة نثرا

ليت حكم النهى حماها فكانت

لي في فاقة الكهولة ذخرا

وقال :

قالوا عهدنا غض عمرك

بالصبا تدنو قطوفه

فذوي بمغبرّ المشيب

وطالما روّى نزيفه

وربيع ذاك العمر سار

فليت لو يبقى خريفه

ولما لزم الزهادة شرع في عمل الأشعار المتعلقة بالانكفاف والتوسل والمناجاة ، فمن جملة ما صنعه قوله :

__________________

(١) في الريحانة قبل هذا البيت بيت آخر وهو :

كان عهدي بالروم فيها يضوع العلم

والآن ضاع فيها العلوم

٣١٣

دواتي كاسي والكتاب حديقتي

وساقي مدام الفكر قام على قدم

صرير يراعي مطربي فكأنما

سطوري أوتار ومضرابها القلم

وقوله :

ألا إن حبي لطول الحياة

ليس لأجل حظوظ مضاعه

ولكن لأشهد لطف الإله

فأزداد شكرا وأزداد طاعه

وقوله :

أيا رب نفسي أتعبتني حظوظها

وتسويلها الإيقاع في زلة القدم

فيا رب إن كنت الشقيّ بفعلها

فما أنا إلا السنّ يقترع الندم

ولست بإياها وحاشاي إنني

من الروح ذات القدس لي أوفر القسم

وقوله :

إليك رسول الله وجهت وجهتي

وأرسيت في تيار بحر الرجا فلكي

فكن شافعي يا من يشفّع في غد

بستري في الدارين من فاضح الهتك

وقوله :

قيل لي كم وكم ترى تتمادى

في الهوى والطريق وعر قصيّ

قلت ظني بالله ظنّ جميل

وبخير الأنام جدّي عليّ

إن لله رحمة تسع الخلق جميعا

فمن هو العرضيّ

وكانت وفاته في صفر سنة إحدى وسبعين وألف وبلغ من العمر نحو ستين سنة ا ه. ووجدت له في مجموعة بخط الشيخ محمد المواهبي من رجال القرن الثالث عشر هذه الأبيات :

ومن عجبي أن الظباء رأيتها

تصاد بها الآساد وهي كواسر

وأعجب من هذا عيون كليلة

تذل لها الأسياف وهي بواتر

وأعجب من هذين هن نواعس

دلالا وأجفان الملوك سواهر

وأعجب من هذا وهذا وهذه

تناسيك لي مع أنني لك ذاكر

٣١٤

وأعجب من هذا العجاب بأسرها

تجور على ضعفي ومالي ناصر

وأعجب من أضعاف ذلك كله

تواني قريبا والبعيد تجاور

ا ه.

٩٨٥ ـ يوسف البديعي المتوفى سنة ١٠٧٣

يوسف المعروف بالبديعي الدمشقي الأديب الذي زين الطروس برشحات أقلامه ، فلو أدركه البديع لاعتزل صنعة الإنشاء والقريض عند استماع نثره ونظامه.

خرج من دمشق في صباه فحل في حلب ، فلم يزل حتى بلغ الشهرة الطنانة في الفضل والأدب ، وألف المؤلفات الفائقة ، منها كتابه «الصبح المنبي في حيثية المتنبي» (١) ، وكتاب «الحدائق في الأدب». ولما رأى كتاب الخفاجي «الريحانة» عمل كتاب «ذكرى حبيب» فأحسن وأبدع وأطال وأطنب وأعرب عن لطافة تعبيره وحلاوة ترصيعه ، إلا أنه لم يساعده الحظ في شهرته ، فلا أعلم له نسخة إلا في الروم عند أستاذي الشيخ محمد عزتي ونسخة عندي.

ومن شعره مادحا ومودعا ابن الحسام شيخ الإسلام حين انفصل عن قضاء دمشق :

أحاشيه عن ذكرى حديث وداعه

وأكبره عن بثه واستماعه

وما كان صبري عند وشك النوى على

الجوى غير صبر الموت عند نزاعه

ونحن بأفق الشام في خدمة الذي

يضيق الفضا عن صدره باتساعه

أجلّ حماة الدين وابن حسامه

وحامي حمى أركانه وقطاعه

عشية توديع المآثر والعلا

وكل فخار للورى في رباعه

وما سرت عن وادي دمشق ولم يسر

وسودده في مدنه وضياعه

ولها تتمة. وله أبيات في مدح شيخه النجم الحلفاوي الحلبي تقدمت في ترجمته.

__________________

(١) هو مطبوع في مصر على هامش شرح ديوان المتنبي للعكبري ، ومنه نسخة خطية في الأحمدية بحلب رقمها ١١٨٩ محررة سنة ١٠٥٢ أي في حياة المؤلف ، وفي آخرها تقاريظ لعدة من أفاضل الشهباء في ذلك العصر وهم أحمد ابن النقيب الحسيني ونجم الدين الحلفاوي الأنصاري وأبو الوفا العرضي ويحيى الصادق ومحمد التقوي وعبد القادر الحموي ، وهذه التقاريظ لا وجود لها في النسخة المطبوعة.

٣١٥

وشعره كثير أوردت منه في كتابي «النفحة» ما فيه مقنع. ثم ولي قضاء الموصل.

ثم توفي بالروم سنة ثلاث وسبعين وألف ا ه.

أقول : ومن مؤلفاته «هبة الأنام فيما يتعلق بأبي تمام» نسخة منه في السلطانية بمصر في قسم الأدب.

٩٨٦ ـ الشيخ إخلاص الخلوتي المتوفى سنة ١٠٧٤

الشيخ إخلاص الخلوتي ، الشيخ العارف بالله نزيل حلب.

كان مسلّكا ومرشدا حسن الخلق ، وهو في المقام اليونسي ، يقرب مريدوه من مائة ألف أو يزيدون.

وذكره العرضي الصغير ووصفه بصفات كثيرة ، ثم قال : كان في ابتداء أمره خادما لبعض أرباب الدول ، فلازم أعتاب أستاذه الشيخ قايا خليفة الشيخ شاه ولي ، وأقبل على الرياضة وكسر النفس وتهذيب الأخلاق وقمع الشهوات والمنع من اللذات والدخول في الخلوات أسوة غيره من المريدين ، حتى دنت وفاة الشيخ قايا فامتدت أعناق المريدين إلى الخلافة ، فاختار إخلاصا مع أن له ابنا صالحا فاضلا يقال له الشيخ حمزة ، لكن من عادة هذه الفرقة من الخلوتية أنهم لا ينصبون خليفة إلا الأجنبي ، كما أن الفرقة الأخرى من الخلوتية أتباع جدنا لوالدتنا أحمد القصيري لا يختارون إلا ابنهم أو أخاهم أو أحد أقاربهم ، ودليل الأولى اختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصدّيق للخلافة مع كونه أجنبيا مع وجود العباس عمه وابن عمه علي بن أبي طالب ، ودليل الثانية طمأنينة قلوب المريدين للأقارب وعدم احتقارهم ولئلا ينقطع الخير عن ذريته.

وقد اتخذ له الوزير الأعظم محمد باشا الأرنؤد * زاوية صرف عليها مالا جزيلا ووقف عليها وقفا عظيما يحصل منه في اليوم ثلاثة قروش وطعن فيه بعض الناس أنها من مال العوارض ، ولكن قال بعضهم : إن الوزير اقترض من رئيس الدفتريين مالا جزيلا لأجل مهمات السفر ، وحصل الإيفاء من مال العوارض ، وما أظن الكلامين صحيحين.

__________________

(*) هكذا رسمها المحبي في خلاصة الأثر أيضا ، والمقصود الأرناؤوط.

٣١٦

وحكى لنا الشيخ عبد العزيز بن الأطرش ، وهو ناشد حلقة ذكره ، أنا كنا مع الشيخ بناحية بيرة الفرات ، وكان معي رجل يقال له الحاج حسين والله أعلم ، قال : ذهبت معه إلى ماء هناك للاغتسال ، فنزل المذكور إلى النهر فرآه عميقا ولا قدرة له على السباحة فيه ، فغط وأخرج رأسه وصرخ : إني هلكت ، وغط الثانية وأخرج رأسه لا يستطيع الكلام ، وأنا عاجز عن السباحة وما عندي أحد وثيابه بالقرب مني ، فهربت خوفا من الحكام وجئت إلى الشيخ ، فقال لي : أين الحاج حسين؟ فقلت له : يا سيدي لا أدري ، فكرر الكلام ثانيا وثالثا وقال : أين هو؟ فقلت : والله يا سيدي لا أعلم ، قال : يا مجنون ، الشيخ الذي لا يحمي مريده لا يكون شيخا. وبعد زمان طويل وإذا بالحاج حسين محمول ، انتفخ من الماء ، وفيه روح ، فعلقوه وجعلوا رأسه تحت وأقدامه فوق حتى نزل الماء من فيه وحصل الشفاء ، فسألته قال : كنت قطعت بالموت ، فرأيت يدا تدافعني إلى الساحل حتى خرجت سالما. هكذا أخبر والعهدة عليه.

وله في كل سنة أيام الشتاء خلوة عامة يجتمع إليها المريدون فيصومون ثلاثة أيام ويأكلون عند المساء مقدار أوقيتين من الحريرة ورغيفا من الخبز أكثر من أوقية ، ولا يشربون الماء القراح ، بل يشربون القهوة ، ويستمرون في الذكر والعبادة آناء الليل وأطراف النهار ، وأما باقي الأيام فيقومون سحرا ويتهجدون على قدر طاقتهم ، ثم يأخذون في الذكر إلى وقت الإسفار ، ثم يصلون الصبح لكون الشيخ حنفيا ، ويقرؤون الأوراد إلى ارتفاع الشمس ، ويصلون الإشراق. وهكذا يفعلون العبادات في أوقات الصلوات المفروضات.

وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وألف ، وبلغ من العمر إحدى وسبعين سنة. ا ه.

أقول : مكان الزاوية المذكورة في الترجمة في محلة البياضة أمام الجامع المعروف بالصروي ، وسميت الإخلاصية باسم من بنيت له ، ومكتوب على باب قبليتها :

لك الحمد يا من أرشد الخلق للهدى

وسيّر في بحر التقى كل غوّاص

وأرسل للشهبا الوزير محمدا

فأسدى بها المعروف للعام والخاص

وأنشأ فيها مسجدا دام عامرا

بذكر وتوحيد مدى الزمن القاصي

وأخلص في إنشائه متضرعا

إلى ربه العافي عن المذنب العاصي

٣١٧

وقال لسان الحال إذ تم أرّخوا

بنى مسجدا لله داعي بإخلاص * ١٠٤٤

وآلت هذه الزاوية إلى بني البخشي ، وسيأتيك ترجمة من تولاها منهم مشيخة ونظرا.

٩٨٧ ـ يوسف بن عمران الشاعر المتوفى سنة ١٠٧٤

يوسف بن عمران الحلبي ، الشاعر المشهور.

قال الخفاجي في ترجمته : أديب نظم ونثر ، فأصبح ذكره جمال الكتب والسير ، إلا أنه لعبت به أيدي النوى رحلة ونقلة ، فجعل الآمال على كؤوس الآداب نقله ، وهو لعمري أديب أريب ، ماله في ضروب النظم ضريب ، وحاله غير محتاج لدليل إنّي ولا لمّي ، فإنه كما عرفت الشاعر الأمي ، كما قيل :

أصبحت بين الناس أعجوبة

بين ذوي المعقول والفهم

حموي جدي فاعجبوا وانظروا

عمي خالي وأبي أمي

وفي آخر عمره داسته أقدام النوب ، وأدركته حرفة الأدب ، فصبر على الأيام المكدرة إلى أن صفت ، وعلى الليالي الجائرة فما أنصفت.

وقال السيد أحمد ابن النقيب الحلبي في حقه : هو أحد المشهورين بهذه الصناعة ، والمتعيشين بكسب هذه البضاعة. وكان في أول أمره ذا تجارة ومال ، ونباهة وحسن حال ، فقارن الأدباء من أبناء عصره وتشبث بأذيالهم ، وقصد أن ينخرط في سلكهم وينسج على منوالهم ، فنثر ونظم ، واستسمن كل ذي ورم ، وأقام على ذلك مدة مديدة بحلب ، إلى أن أدركته بها حرفة الأدب ، فطاف بلاد الشام والقاهرة المعزيّة ، ثم توجه إلى دار السلطنة السنيّة ، وامتدح أكابر علمائها ، وانتجع ندى رؤسائها. ومن شعره :

قولوا لمن بهزال الفقر يذكرني

ظننت أنك في أمن من المحن

فالشاة يؤكل منها اللحم إن عجفت

وليس يؤكل لحم الكلب بالسمن

وقد جمع ديوانا من شعره كتب عليه بعض الشعراء (١) :

__________________

(*) وعقب على ذلك الدكتور محمد أسعد طلس في كتابه «الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب» بقوله : وقد كانت فيها مكتبة حافلة ، إلا أنها تبعثرت ونقل ما بقي منها إلى خزانة كتب الأوقاف.

(١) هو الشهاب الخفاجي كما سيأتي نقلهما عنه ، لكن مع مغايرة لما هنا.

٣١٨

لشعر يوسف بحر في تموّجه

يهدي لأفهامنا روحا وريحانا

ذو منطق ساحر مطر وذا عجب

للسحر ينشئه وهو ابن عمرانا

ومن منتخبات أشعاره قوله :

غصن تمايل في قباء أخضر

بين الكثيب وبين بدر نيّر

ريم أحمّ المقلتين إذا رنا

فتن الأنام بسحر طرف أحور

يسطو عليّ بأبيض من أسود

ومن القوام إذا ثناه بأسمر

سلب النهى منه بقوسي حاجب

إذ حل صبري عقد بند الخنجر

ومنها في المدح :

يعطى الكثير عفاته ويظنه

نزرا فيشفعه حيا بالأكثر

لما أراني جعفرا من جوده

فأريته شعر الوليد البحتري

وله :

جاءت تهز قوامها الأملودا

حسناء ألبسها الجمال برودا

حورية في الليل إن هي أسفرت

خرّت لطلعتها البدور سجودا

لم يكفها تحكي الغزالة طلعة

حتى حكتها مقلتين وجيدا *

لعساء باردة اللمى وجناتها

كالجمر أحرقت الفؤاد وقودا

هي روضة للحسن صار خدودها

التفاح والرمان صار نهودا

فالحسن يكسو كل حين وجهها

ثوبا أغر من الجمال جديدا

يستوقف الأطيار حسن غنائها

وغناؤها أبدا تظن العودا

وقال :

لا تنكروا رمدي وقد أبصرت من

أهوى ومن هو شمس حسن باهر

فالشمس مهما أن أطلت لنحوها

نظرا تؤثر ضعف طرف الناظر

ولقد أطلت إلى احمرار خدوده

نظري فعكس خيالها في ناظري

وله :

__________________

(*) الغزالة : الشمس ، والضمير في الشطر الثاني يعود على الغزالة التي هي الظبية.

٣١٩

انظر إلى أجفانه الرمد

تبدل النرجس بالورد

تحمرّ لا من علة إنما

تأثرت من حمرة الخدّ

وله أشياء كثيرة من كل معنى مبتكر. وبالجملة فإن شعره جيد.

وكانت وفاته في سنة أربع وسبعين وألف. ا ه.

وترجمه الشهاب في الريحانة ، ومما قاله : أنه في أواخره داست ساحته النوب ، فأحاط به الفقر لما أدركته حرفة الأدب ، فأصبح بعد النعيم المقيم بؤسه أبا العجب.

لو كان يدري المرء أن ابنه

يحرم بالآداب ما أدبّه

وقد صحبني فرأيته بشعره معجبا طروب ، إذا سنح له معنى فكأنه قميص يوسف في أجفان يعقوب ، فمدحني بعدة قصائد ، وأهدى إلي منها ما هو على آدابه شاهد. وطلب مني يوما تقريظ شعره فقلت بديهة :

لشعر ذا الحبر يجري في تموّجه

يهدي لأسماعنا روحا وريحانا

ذو منطق ساحر مطر فواعجبا

للسحر ينشئه وهو ابن عمرانا

وكان من خزائن الأدب نهابا وهابا يطرب بألحانه ، وإن رجح على من سواه بأوزانه ، فمن عذب خطابه ، وقلائده المنتظمة في جيد آدابه ، ما أنشدنيه من قصيدة له :

أثار بأحشائي البنان المطرّف

رسيس هوى يقوى إذا الصبر يضعف

وأرقني من حي سلمى حمائم

غدت فوق أغصان المعاطف تهتف

وثغر إذا ما افتر يبدي ابتسامه

بروقا بها أبصارنا تتخطف

وخد سقى ماء الشباب رياضه

بألحاظنا منه جنى الورد يقطف

ودينار خد كامل الوزن حسنه

على حبه روحي النفيسة تصرف

وجسم صفا حسنا يكاد أديمه ال

منعم من فرط الطراوة يرشف

وقوله من أخرى :

حذار تروم الوصل من ساحر الجفن

فكم مشرفي دونه سل من جفن

وإياك من خطّيّ عامل قده

فكم أثخن الأحشاء طعنا على طعن

ألا أيها الريم الذي بات يرتقي

حشاشة نفس الصب لا روضة الحزن

٣٢٠