إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

ولما كان المقام الشريف السليماني بحلب سنة إحدى وستين عزم على تركها فأبرم عليها بعض أركان الدولة في أن لا يتركها لرضى أهل الحرمين الشريفين به في مثل هذه المدة المديدة ، فبقيت في يده إلى أن مات في ربيع الأول سنة خمس وستين.

٨٨٣ ـ محمد بن سويدان العبيي المتوفى سنة ٩٦٥

محمد بن محمد بن سويدان الحلبي العبيي لبيعه العبي.

شيخ معمر منور صالح همداني الخرقة ، أدرك السيد عبيد الله التستري الهمداني وتلقن منه الذكر وذكر معه في حلقته كوالده.

قال : وكان الشيخ لا يزال بين يديه ثلاث عصي متساوية في الطول يذكر بهن من أساء الأدب في حلقة الذكر من الذاكرين بالتفات أو كلام. قال : وكانت هيبته فوق هيبة السلاطين. قال : حتى إن والدي حكى للشيخ أن شخصا أضاف الشيخ الكواكبي في بستان له فلو أضفناك في كرم لنا ، فأجابه : إن ذلك ليس من طريقتي ، ولكن أرسل إليك خلفائي ، قال : فأرسلهم فأضافهم والدي في كرمه وحملني شيئا من أحسن العنب ، فجئت به إلى الشيخ فصعدت إلى مكان كان فيه ، فإذا هو في رأس السلم ، فاستولت عليّ هيبته فسقط وعاء العنب من يدي ، فأخذ يسكتني قائلا : يا درويش محمد! يا درويش محمد! يا درويش محمد! هكذا ثلاث مرات.

قال : ومرة دخل تحت عهده رجل يقال له الشيخ إبراهيم بن فستق من أهل حلب ، فخرجنا معه إلى جبل الجوشن بالقرب من العمارة المشهورة بالمعز بن صالح وقد خربت في الدولة العثمانية واستعين بأحجارها في عمارة وقعت بقلعة حلب ، قال : فأفلتت لنا بغلة حرون ، فعجزنا عن إمساكها إلى أن غابت عنا فقال لنا الشيخ إبراهيم وهو حديث عهد بدخوله تحت العهد ليمتحن شيخنا في شأنها ، فأجبناه بالسمع والطاعة ، فقال : خذوا معنا في الذكر ، فذكرنا ساعة وإذا هي واقفة وراءنا غير مضطربة إلى أن قيدناها.

توفي الشيخ محمد بعد أن آخانا سنة خمس وستين وتسعمائة (وسنه نحو قرن) * رحمه‌الله تعالى.

__________________

(*) ما بين قوسين في الأصل : بحوقون ، وفيه نقص وتصحيف.

٤١

٨٨٤ ـ محمد بن محمد الدباغ المتوفى سنة ٩٦٦

محمد بن محمد السيد الشريف الحسيني (السني) * ، الصوفي الخرقة الدباغ ، أحد مريدي الشيخ محمد المنيّر بسوق باب النصر.

بلغ من العمر ما يزيد على ماية وعشرين سنة فيما ذكر لي. قال : وممن أدركته السيد علي الهزازي ومعاصره الشيخ شمس الدين الشماع الأيوبي. قال : وأنا الآن أذكر إذ أراق مرة أوعية خمرة كانت لبعض مماليك قانصوه اليحياوي كافل حلب فلم يجسروا على أذاه. قال : وكان أستاذهم يجلس بين يديه زائرا.

ولقد زرت ولله الحمد والمنة صاحب الترجمة فإذا هو مع علو سنه يتعاطى صنعة طمعا منه كما قال في الإنفاق على نفسه من كسب يده مع غنى أولاده ، فسبحان من أعطاه القوة مع علو سنه.

وكانت وفاته سنة ست وستين وتسعمائة.

٨٨٥ ـ محمد بن كلجا الكلزي المتوفى سنة ٩٦٦

محمد بن محمد بن علي بن محمد الحلبي الكلزي الحنفي ، الكواكبي الخرقة ، المشهور بابن كلجا.

شيخ عابد ، ولد بحلب سنة أربع وثمانين وثمانمائة ، ثم استقر والده كيخيا بكلّز فكان معه ، ومات والده فبقي هو بها على نهج حسن إلى أن أنشأ بها زاوية ، ثم اتخذ الزاوية جامعا بإذن السلطان سليمان.

ثم اتهم بأن خرقته أردبيلية لأن شيخه الكواكبي كان أردبيليا ، وهذه خرقة شاه إسماعيل الشيعي صاحب تبريز عدو والد صاحب السلطنة خلد الله ملكه ، فخرج حكم شريف بأن لا يسكن بكلّز خشية أن يكون خارجيا بل بحلب ، فسكنها مدة ، ثم سكت عنه فعاد إلى وطنه من ضيق عطنه ، وبها توفي سنة ست وستين وتسعمائة.

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

٤٢

٨٨٦ ـ فاطمة بنت قريمزان المتوفاة سنة ٩٦٦

فاطمة بنت عبد القادر بن محمد بن عثمان ، الشيخة الصالحة العالمة العاملة الحلبية الحنفية الشهيرة ببنت قريمزان ، شيخة الخانقتين العادلية والزجاجية معا.

انتهت إليها رياسة أهل زمانها بحلب لما لها من الخط الجليل والنسخ الكثير لكتب كثيرة ، والعبارة الفصيحة والمثابرة على النصيحة ، والتعفف والتقشف.

ولدت كما رأيت بخط عمها الشهاب أحمد رابع المحرم سنة ثمان وسبعين وثمانمائة ، ثم كانت زوجة الشيخ الفاضل كمال الدين محمد بن جمال الدين بن قل درويش الأردبيلي الشافعي نزيل حلب بالمدرسة الرواحية بحلب الذي قيل إن جده هذا أول من شرح «المفتاح».

قالت : وعن زوجي هذا أخذت العلم ، وهو الذي كان يقول : قد ملكني ربي ستة وثلاثين علما أقرؤها عن ظهر قلبي.

وكانت وفاتها سنة ست وستين وتسعمائة عن تشنج حصل لها منعها من الصلاة إلا بالإيماء ، فلم تزل تصلي به إلى الوفاة ، ودفنت بالعبّارة بعد أن أوصت أن تكون سجادتها معها في القبر موضوعة عليها.

وكان ممن يحترمها مفتي حلب المشهور بإبراهيم دده الآتي ذكره قريبا ، حتى كان هو الساعي لها في مشيخة الخانقاه الزجاجية.

وقد ظفرت ولله الحمد بشهود جنازتها وحملها فيمن حمل ، رحمنا الله تعالى وإياها.

٨٨٧ ـ حمد الله الهروي الخلخالي المتوفى سنة ٩٦٧

حمد الله بن أحمد بن نعمة الله الهروي الأصل الخلخالي الأنصاري الشافعي ، نزيل حلب ، المشهور بشيخ زاده.

ولي بها تدريس العصرونية. ثم لما كان المقام الشريف السليماني السلطاني بحلب سنة ست وخمسين وتولى السيد البدر زين العباد أستاذ حيدر باشا الوزير الرابع تدريسا بالقسطنطينية صار هو أستاذه ، فصحبه إلى الباب العالي وأثرى بسببه ، ونال من مملحة حلب عشرين درهما عثمانيا ، إلى أن عزل من الوزارة ، ففارقه وعاد إلى حلب وبيده كمية

٤٣

زائدة من الدنيا ، فاستولى عليه من خالطه فحمله على استعمال الكيفية ، فذهبت بهذه الكيفية تلك الكمية فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

وقد بلغني أن أباه كان من مشايخ الإسلام ، وأنه من بيت علم ورياسة.

وأخبرني هو وكتب لي بخطه اللطيف أنه ابن جمال الدين أحمد بن نعمة الله بن جنيد ابن جمال الدين محمد بن أحمد بن مسعود بن عبد الله بن جابر بن منصور بن محمود بن جابر ابن عبد الله الأنصاري المشتهر بشيخ الإسلام الهروي (١) صاحب كتاب «منازل السائرين إلى الحق (المبين) *» وغيره من التأليفات ، وناهيك بجده هذا علما وعملا وسلوكا. ولا عبرة بما وقع من القدح فيه ، فقد ذكر ابن إمام الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» أن الشيخ كان شديد الإثبات للأسماء والصفات ، مضادا للجهمية النافين للصفات من كل وجه ، مستوعبا لأحاديث الصفات وآثارها في كتاب له هو كتاب «الفاروق» الذي لم يسبق إلى مثله ، وأن الجهمية سعوا بقتله إلى السلطان مرارا عديدة والله تعالى يعصمه منهم ، وأنهم رموه بالتشبيه والتجسيم على عادة بهت المعتزلة لأهل السنة ، إلى أن قال : ولكن طريقته في السلوك مضادة لطريقته في الأسماء والصفات ، فإنه لا يقدّم على الفناء شيئا ، واستولى عليه ذوق الفناء وشهود الجمع وعظم موقفه عنده ، فتضمن ذلك تعطيلا من العبودية وزان تعطيل الجهمية. قال : ولما اجتمع التعطيلان فيمن اجتمعا له تولد منهما القول بوحدة الوجود المتضمنة لإنكار الصانع وصفاته وعبوديته ، ثم أفاد أن الله عصم الشيخ فأشرف من عقبة الفناء على وادي الاتحاد فلم يسلكه.

وتولى شرح كتاب «منازل السائرين إلى الحق المبين» أشدهم في الاتحاد طريقة وأعظمهم فيه مبالغة وعنادا لأهل الفرق العفيف التلمساني ، ونزّل الجمع الذي يشير إليه الشيخ على جمع الوجود وهو لم يرد به حيث ذكره إلا جمع الشهود. انتهى كلام ابن قيم الجوزية.

توفي صاحب الترجمة بحلب بعد أن تغيرت سحنته ومسخت صورته بما كان يتناوله من المعاجين والكيفيات سنة سبع وستين وتسعمائة ، عفا الله عنا وعنه.

__________________

(١) الذي في كشف الظنون أن منازل السائرين لعبد الله بن محمد بن إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي المتوفى سنة ٤٨١ ، فلم ينطبق على ما ذكر هنا ، ففي انتساب المترجم لشيخ الإسلام الهروي شك والله أعلم.

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

٤٤

٨٨٨ ـ عبد الوهاب العرضي المتوفى سنة ٩٦٧

عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن الحسين الشيخ تاج الدين ، العرضي الأصل ، الحلبي الشافعي ، شقيق أقضى القضاة شمس الدين محمد الماضي ذكره.

تفقه على شيخنا البرهان العمادي وغيره. وفي سنة ثمان وعشرين سمع من شيخنا الزين عمر الشماع جميع ثلاثيات البخاري وقرأ عليه جميع جزء أبي الجهم العلاء بن موسى بن عطية الباهلي وأجاز له بسؤاله رواية ما يجوز له روايته بشرطه المعتبر. ثم استجازه الشيخ لينال رواية ما يجوز له روايته بشرطه

المعتبر. ثم استجازه الشيخ لينال رواية الأكابر عن الأصاغر ، فأجابه ، ولكن وقع في المجلس شيء ، وذلك أن شيخنا كان قد ذكر له إذ ذاك أن شيخه العز بن فهد قرأ الجزء المذكور على القاضي جلال الدين عبد الرحمن بن نور الدين على ابن شيخ الإسلام سراج الدين ابن الملقن بسماعه له على البرهان الشامي ، فادعى عند شيخنا أن المراد بالبرهان الشامي البرهان الحلبي ، فقال له الشيخ : لا بل المراد به التنوخي ، فصمم على أن المراد الحلبي ، واستدل على ذلك بأن البرهان الحلبي أخذ عن السراج ابن الملقن ، فيكون حفيده الجلال أخذ عنه ، وبأن أهل مصر يطلقون على من كان من حلب الشامّي مع أن الحق كما قال شيخنا : إن البرهان الشامي هو التنوخي الضرير المتوفى في القرن الثامن.

قال شيخنا في كتابه «عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار» : ولنا تنوخي * آخر اسمه إبراهيم ولقبه برهان الدين ، وهو دمشقي يعرف بابن الغرس ، وهو ممن توفي في القرن التاسع ، وليت المعترض اشتبه عليه البرهان الضرير بهذا المشهور بابن الغرس. انتهى. أي ليته التبس عليه ذاك الذي قيل له الشامي بمن هو دمشقي لا حلبي ، لأنه يقال لمن كان دمشقيا إنه شامي ، فهو أقرب إلى الالتباس به ، لكن التبس عليه بمن هو أبعد عن الالتباس به ، على أن الملازمة التي اعتبرها ممنوعة ، إذ لا يلزم من أحد شخص عن آخر أن يكون الآخر فضلا عن حفيده آخذا عن ذلك الشخص ، على أن من الجائز أن يكون الحفيد ممن أدرك ذلك الشخص ، وأيضا لم يسبق أن تسمية ذلك بالشامي تسمية

__________________

(*) في در الحبب : وإن التنوخي.

٤٥

صدرت عن المصريين لتكون على مقتضى عرفهم ، فلا وجه لاستدلال الشيخ تاج الدين بكلا شقيه.

ثم إن الشيخ تاج الدين أفتى بحلب ودرس بجامعها الأعظم وأمّ به ، وتزوج ببنت الشرف يحيى ابن الحاضري وأسكنها بالقاعة الملاصقة لدار القرآن العشائرية المشهورة الآن بالحيشية وحظي بالجلوس بها عند شباكها في محل سجادة شيخنا الصوفي التقي أبي بكر الحيشي وبصلاة عند المخاديم عنده في يوم الجمعة ، حتى إن شيخنا المحقق المدقق النظار شهاب الدين أحمد الهندي خرج ذات جمعة من حجرته بالمدرسة الشرفية فصلى بالحيشية ، فسأل شيخنا عن قوله تعالى (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا)* بأنه يلزم من ظاهره أنه لو علم فيهم خيرا لتولوا ، فما وجه الآية؟ فأجابه بما هو منقول من أن لو في صدر الآية على بابها وفي آخرها على أسلوب لو في نحو : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وأن آخرها مستأنف عما قبله ، فليس المجموع قياسا منتجا ما ذكرت. فقنع بجوابه أو لم يفهمه. ثم بعث للشيخ عبارة البيضاوي التي غلط فيها الشيخ محيي الدين عبد القادر ابن سعيد وقد علمتها في ترجمته لعل شيخنا يغلط فيها أيضا ، فأبى الله إلا أن يكون مجيبا مصيبا. ثم كان ذات يوم بصحن الشرفية والشيخ به ، فزعم في كلام وقع في البين أن الكلام جمع كلمة ، فلم يفرق بين الكلام والكلم الذي هو الكلمة في أحد القولين ، وقال بما لم يقل به أحد ، فكتب شيخنا صورة يستفتي فيها على من يدعي أن الكلام جمع كلمة هل تعد دعواه جهلا أو لا ، ثم كتب بخطه : نعم تعد جهلا ، ثم طفيت ناره عنه.

ووقفت للشيخ تاج الدين على شرح المراح سماه «فتح الفتّاح بقوت الأرواح» وتوّجه بهذه العبارة : قال المفتقر إلى مالك يوم العرض المرتجي فيه سلامة العرض عبد الوهاب ابن إبراهيم العرضي. وهو شرح من نظره يعرفه.

ومما وقع له أنه قدم حلب صاحبنا الشيخ عبد الرحمن البتروني بأن حضر مجالس وعظه ولم يجد له عليه سبيلا ، فلما تحنف تغير عليه وانقطع عنه وصار يحول وجهه عنه. وكانت الخواطر تشكى إليه بشمالية الجامع الأعظم في الطرف الغربي منها ويجري هناك رفع الأصوات بالذكر ، فمنع من الذكر هناك قائلا : إن رفع الصوت يمنع طلبته القارئين عليه

__________________

(*) الأنفال : ٢٣

٤٦

بالزاوية العشائرية من تفهم العلم ، فما مضت أيام إلا وقد مكن طائفة من المتشبهين بالصوفية من دخول العشائرية ومعهم الدفوف والشبابات ولهم رفع صوت بالذكر في وقت كان الناس فيه رافعي أكفهم بالدعاء وعقب صلاة العصر ، مع أخذ بعض منهم في قضاء ما سبقوا فيه له ، أليس في هذا منع لحضور قلب الداعين والمصلين بها ، فقال : في تجويزه خلاف. ثم عاد إلى حضور مجالسه تحت كرسيه بالجامع الكبير.

ولم يزل الشيخ تاج الدين يفيد فقه الشافعي لطالبيه إلى أن توفي سنة سبع وستين.

٨٨٩ ـ أحمد ابن الشيخ عبدو القصيري المتوفى سنة ٩٦٧

أحمد ابن الشيخ عبدو بن سليمان الكردي القصيري الشافعي الصوفي الخلوتي. جمع بين طريقي أهل الظاهر والباطن ، فتفقه في المنهاج والإرشاد على الرمادي تلميذ الشمس البازلي الحموي ، وأخذ الطريق ولبس الخرقة عن أبيه الماضي ذكره وصار خليفة في حياته بعد أن لم يرض بما كان عليه أبوه ، ثم اهتدى فقدم عليه وقبل يديه نائبا عما فرط منه ، ثم صار بعده يشغل الطلبة في العلوم الظاهرية الشرعية ، ولكن مع عرائه من علوم العربية إلا قليلا ، ويلبس الخرقة والتاج المضرّب دالات من ماله ، ويخلف من اختار فيعطيه عصا من عنده مدهونة بالخضرة ، ويبسط موائده للواردين من قليل وكثير ، ويبرز فوائده للقاصدين من كبير وصغير.

تزوج بأربع نسوة وكبر له أربعة أبناء فزوجهم ، وكثر عنده العيال ، وترادفت عليه الواردون في كل حال ، حتى لم يخل منزله بجبل الأقرع من قريب من خمسين واردا غريبا يأكلون على سماطه ، حتى كان يحتاج في كل يوم إلى قريب من نصف مكوك من الحنطة ، لكنه فاضت عليه الفتوحات وكثرت له الوصايا ممن أشرف على الممات لمزيد اعتقاد أهل القصير فيه بحيث نال منهم فوق ما يكفيه مع أخذه فيهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعاطيه الوعظ فيما بينهم ، حتى اشتهر صلاحه وبعد صيته وكثر خلفاؤه ومريدوه كثرة زائدة.

وكم مضت له قدمات إلى حلب صارت له فيها محافل وعظ وذكر بالجامع الأموي بحلب ، منها قدمته سنة أربع وستين ، فإنه قدمها واجتمع بفرهاد باشا أمير الأمراء بحلب

٤٧

وطلب منا حكما بمنع ما بأنطاكية من منكر الزنى الفاشي عن الطائفة المشهورة بالقرجية ، فأعطاه وعظمه. وقد صحبناه بحلب مرارا وتبركنا به ، وتوفي سنة ثمان وستين رحمنا الله وإياه.

٨٩٠ ـ أبو بكر بن أحمد العطار الشاعر المتوفى سنة ٩٦٨

أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم بن عبد الله الحلبي الجلّومي الشافعي العطّار.

ولي خطابة الجامع المقابل لحمّام الخواجا.

وكان ناثرا شاعرا حسن الخط ملما بشيء من العروض ، جمع له ديوانا يتضمن شعره وسماه «نسمة الصبا من نظم الصبا» ، ثم زاد عليه أشعارا أخرى وسمى المجموع «شراب الفتوح وغذاء الروح» وجعل في طيه مقاطيع سماها «عطر العروس وأنس النفوس».

ومن شعره ما أنشده في أول ديوانه :

يا ذا الذي أبصر ما

أبرزته من فكرتي

إذا وجدت خللا

بالله فاغفر زلتي

وكن رحيما منصفا

وادع لنا بتوبة

وله مواليا :

يا من لعقد اصطباري في الملا حلّوا

وفي حميم الحشا والقلب قد حلّوا

بالله مرّ الجفا بالملتقى حلّوا

ولا تكونوا كمن قتل الفتى حلّوا

وله دو بيت :

مولاي بحق خدك النعماني

بالخال بما في فيك * من عقيان

باللحظ بقامة كغصن البان

عطفا بمتيم كئيب عاني

وله في جهول كان لا يفهم ما يقول :

إني أعاتب نفسي

في عرض نظمي ونثري

__________________

(*) لعل الصواب : بما بفيك.

٤٨

على بليد جهول

لا زال يتعب سري

أقول هذا وهذا

يقول لي لست أدري

أقرّض الشعر تبرا

بل بالجواهر يزري

فتلقه فيّ ساه

لم يدر ما صاغ فكري

كأنه تيس أعمى

أو لا فقل دب برّي

وربما راح يهجو

نظمي ويهضم قدري

فيضمحل فؤادي

منه وينحل صبري

فيا سراة المعاني

في كل حي وقطر

لا تركنوا لجهول

لو كان في السحب يسري

ولا حسود غبي

غمر من الخير عرّي

يصيّر التبر تبنا

قصدا ليهمل أمري

فالحق داء عضال

للّحم والعظم يفري

وليس يلفى دواء

من علة الجهل يبري

وله ما رأى في المنام أنه ينشده :

إذا ما العبد أصبح في نعيم

فيحمد ربه في كل حين

ويسأله المعونة كل وقت

ويشكره على مر السنين

وأنشد لنفسه سنة إحدى وثلاثين :

أسرب تمشّين في صحبهنّه

أضاعوا شذاهن من طيبهنّه

تملكن قلبي وأنحلن جسمي

وكلّمن لبي بألحاظهنّه

تراهن يغزنّ قلب المعنى

ويظهرن صدا ويجلبن فتنه

ويخطرن تيها يهيّمن صبا

ويهززن عجبا لأعطافهنّه

ويمشين هونا فيذهبن عقلي

ويسحبن في الترب أذيالهنّه

تجدهن يبرزن كالبدر حسنا

ويعدلن (قلبي) * بأترابهنه

كساهنّ ربى ثياب التعالي

وقد زاد فضلا لأوصافهنّه

إذا ما رآهن حاوي المعاني

ونادى من الحور؟ نادينهنه **

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

(**) ناديت : هنه.

٤٩

هكذا كان أنشدني بخفض سرب وتشديد نون يغزنّ بعد ضم الزاي ، مع أن الصحيح يغزون بالواو وتخفيف النون ، وإن كان في اللفظ يشاكل جمع الذكور ، وأسربا بالنصب ، لأن العرب تؤثر نصب النكرة المقصودة على ضمها إذا كانت موصوفة كما في الحديث : يا عظيما يرجى لكل عظيم ، ولهذا نصبنا إذ قلنا في مطلع قصيدة :

يا حبيبا مال عمن رابه لحظ الجمالي

كن طبيبا حيث حال الصب أضحى كالمحال

فصار بيتنا هذا بيتا لا يضم فيه الحبيب

توفي بحلب سنة ثمان وستين وتسعمائة.

٨٩١ ـ محمد بن علي الطباخ المتوفى سنة ٩٦٨

محمد بن علي بن أحمد الشيخ شمس الدين الحلبي ، المعروف بابن الطباخ.

ولد سنة اثنتين وتسعين بالتاء قبل السين وثمانمائة ، وأخذ في التجارة سفرا وحضرا بحانوت له بسوق العطّارين. وعني بسماع الحديث ، وأجاز له الشيخ كمال الدين الطويل وغيره. وبقي بخدمة شيخ الشيوخ ابن الشيخ أبي ذر المحدث عشر سنين وزيادة ، وأخذ عنه الشفا والشمائل ومنظومة العراقي في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك. وحضر تحديث شيخنا البرهان العمادي. وخالط ابن السلطان الغوري مدة مكثه بحلب ، وصحب كثيرا من المخاديم ، وحفظ تواريخ من أدركه من المتقدمين والمتأخرين لعلو سنه ، وصار يحضر مع شيخ الشيوخ عند بعض أركان الدولة فيربيه بأنه قرأ عليه كتاب كذا وكتاب كذا ثم وثم ، فيقول الشيخ شمس الدين بعد القيام عن المجلس : يا مولانا الشيخ ، أنت ما ربيتني وإنما ربيت نفسك ، فيتبسم له.

توفي سنة ثمان وستين وتسعمائة ا ه.

أقول : وهو من جملة الشهود في وقفية محمد باشا دوقه كين واقف جامع العادلية.

٨٩٢ ـ القاضي أبو الجود العزازي المتوفى سنة ٩٦٨

محمد بن بدر الدين محمد بن شمس الدين العزازي الشافعي المشهور بالقاضي ، أبو

٥٠

الجود بن الشكي.

ناب في القضاء بعزاز مرارا وبحلب مرة ، وولي الخطابة بجامع عزاز وصار له بها التكريم والإعزاز.

وكتب بخطه لنفسه ولغيره عدة من الكتب المبسوطة بحيث كاد يخرج من طوق البشر ، فكتب البخاري وشرحه لابن حجر ، وناهيك بطوله ، ونحو خمس نسخ من القاموس والأنوار ، وعدة من شرح البهجة وشرح الروض في كتب أخرى لا تحصى كثرة. وأما القرآن العظيم فقد كتب منه نحو خمسين مصحفا ، كل ذلك مع اشتغاله بنيابة القضاء وغيرها.

ووقف البخاري على طلبة أعزاز قبل وفاته سنة ثمان وستين وتسعمائة.

٨٩٣ ـ علي بن عبد الرحمن الدليواتي المتوفى سنة ٩٦٨

علي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الشيخ علاء الدين الحلبي المقشاتي ، الصوفي الخرقة ، القادري الأردبيلي ، حفيد الشيخ أبي بكر الدليواتي صاحب المزار المشهور بحلب.

أدرك جده هذه ولازم حلقة الذكر مع أتباعه بشرقية الجامع الكبير بحلب كأبيه سنين عديدة ، فلما عمر اعتراه ما يقرب من السلس ، فانقطع عنها وانقطع أتباعه.

ولم يزل على ديانته ونورانيته يتعاطى علم المقشّات بحانوته والناس سالمون من يده ولسانه ، وربما صحبناه تبركا به كما كان جدنا الجمالي الحنبلي يصحب جده. توفي سنة ثمان وستين.

٨٩٤ ـ أبو بكر بن أحمد النقّاش المتوفى سنة ٩٧٠

أبو بكر بن أحمد النقّاش الحلبي الجلّومي.

شيخ مسن خدم أساتذة النقاشين من الأعاجم واستفاد منهم ، ومهر في نقوش البيوت وكتابة الطرازات على طريق القاطع والمقطوع ، وفي نقوش ما كان لكفّال حلب وغيرهم من الرماح والسروج بالذهب واللازورد مع معرفة طريقة حله ، وفي صنعة التركاش وضعا

٥١

ونقشا وصنعة اللوح الذي يكتب فيه وصنائع أخرى تتم عشرين صنعة.

وكانت له سلعة * عظمى تناهز بطيخة بالقرب من كتفه ، سببها أنه طلب إلى آمد للنقش في عمارة جددت بها ، فرافقه نقاش مشرقي شيعي ، فشعر باسمه فضربه على ظهره بخشبة ضربا مبرحا أمرضه مدة وأدى إلى أن كانت له هذه السلعة.

ولما أسن هيأ له كفنا وقبرا وسألني في بيتين ينقشهما عليه فقلت :

أبو بكر النقاش أحوج سائل

إلى رحمة تقصيه عن موجب الوزر

فيا أيها المجتاز نحو ضريحه

تمهل قليلا داعيا لأبي بكر

ثم مات سنة سبعين بعد تجرده في بيته لتلاوة القرآن.

٨٩٥ ـ يحيى بن محمد البرهان المتوفى سنة ٩٧٠

يحيى بن محمد بن عبد الرحمن الشيخ شرف الدين الحلبي المعروف بابن البرهان ، صاحبنا.

من بيت كبير قديم بحلب كانوا يعرفون ببيت البرهان. قيل إنه اجتمع منهم أربعون رجلا من الكبراء المتعممين في عصر واحد ، وإنهم لم يسموا ببيت البرهان إلا لغلبتهم بالعلم على غيرهم حتى كأنه برهان لهم على غيرهم ، لا لأن من أجدادهم من كان يسمى بالبرهان.

صحبنا الشيخ شرف الدين في التفقه على الزين بن فخر النسا ، وانفرد هو بالتفقه على الشمس بن بلال وقراءة شيء من المنطق عليه.

ومضى إلى القاهرة تاجرا فاشتغل بها أيضا على الشهاب أحمد بن الصايغ الحنفي في الفقه ، وسمع بقراءة غيره عليه في الطب. قال : وكان أمة في الطب يقرأ عليه فيه المسلمون ثم النصارى ثم اليهود. قال : وإنما تعلقت بالطب لاحتراق فاحش حصل لي ، فعالجت نفسي منه بنفسي ، إلا أنه عرض للشيخ شرف الدين بعد ذلك أن استولت عليه السودا ، فبذل ما كان عنده من المال في علاجها وصار من فقراء المسلمين يحسن إليه بعض أفراد الأجواد وهو مجاور بحجازية الجامع الأموي بحلب. وعاد بعض من لا ديانة له يعبث به

__________________

(*) السلعة : زيادة في البدن كالغدة.

٥٢

حتى يسيء خلقه فيضحك عليه ولا يخشى الله تعالى فيه. وصار في آخر أمره من ذوي العاهات البدنية إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى سنة ٩٧٠.

٨٩٦ ـ محمد بن علي التروسي المتوفى سنة ٩٧٠

محمد بن علي بن الحسين بن تاج الدين الكيلاني التروسي الشافعي الصوفي ، أحد مريدي الشيخ محمد الخراساني النجمي.

شيخ معمر ، مكث بديار العرب لا سيما بحلب مدة تزيد على نصف قرن ولزم شيخه هذا إلى أن كانت وفاته بحلب ، فخرج في جنازته بمجرد الإزار وهو يضرب صدره بحجرين في يديه لا يعلم ما يفعل.

وصحب سيدي علوان الحموي وأدرك شيخه وصحبه أعني به السيد الشريف علي ابن ميمون. قال : وكان أشد تمكينا من شيخه. وصحب آخرا شيخنا عبد اللطيف الجامي وشيخنا قطب الدين عيسى الصفوي وسافر معه إلى بغداد لزيارة من بها من الرجال ذوي الأحوال.

ولم يزل الشيخ محمد يتعاطى عمل التروس العجيبة الثمينة ويعلم الأطفال أحيانا قراءة القرآن والكتابة ، وهو على سمت الصالحين ، حسن العمامة لطيف الملبس ، يستحضر شيئا من طب الأبدان كما يستحضر من طب القلوب ، إلى أن علت سنة ونحف بدنه ، فترك تعليم الأطفال وغيره.

وكان يذكر أن شيخه الخراساني يقول له : ستموت في شعبان ، قال : أنا لا أموت إلا أن يدخل شعبان آخر فربما مت فيه ، ثم اتفق أن مات في شعبان سنة سبعين وتسعماية ودفن في مقبرة شيخه الخراساني خارج باب الفرج بحلب رحمه‌الله تعالى.

٨٩٧ ـ محمد بن علي ابن الملا المتوفى سنة ٩٧١

محمد (١) بن علي ابن شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد المشهور بمنلا حاج الحصكفي

__________________

(١) محمد هذا هو أبو أحمد بن الملا الآتية ترجمته في أول القرن الآتي إن شاء الله تعالى ، وجده الشهاب أحمد. له ـ ـ ترجمة حافلة في «در الحبب» ، وقد كان من كبار العلماء. توفي وهو قاض بحصن كيفا سنة ٨٩٥. ويظهر أن عليا والد المترجم هو أول من قطن حلب من بني الملا.

٥٣

الأصل ثم الحلبي الشافعي المشهور بمنلا محمد الحصني وبالملا.

ولد سنة إحدى وتسعين بتقديم التاء على السين وثمانمائة ، واشتغل في الفقه على منلا محمد البدليسي الشافعي تلميذ جده ، وفي النحو على صاحب التصنيف فيه منلا محمد الكردي المعروف بابن القلعي والشمس بن هلال ، وفي المنطق على الشمس بن بلال ، وفي علم البلاغة علينا إذ أهّلنا فتطوّل وذاكرنا في «المطوّل».

وباشر مناصب عديدة كتولية الجامع الأموي بحلب ونظر الأوقاف والحرمين الشريفين بها * مع تولية التكية السليمية بدمشق ونظر مقام السلطان إبراهيم بن أدهم نفعنا الله ببركاته ، وكذا باشر نظر المشهدين بالعراق وهما مشهد أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي‌الله‌عنهما ، ثم عزل عنه سنة أربع وستين وتسعماية.

توفي في جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وتسعمائة.

أقول : ذكر وفاته في هذا التاريخ هو من تصرف النساخ أو كتب ذلك بعض الفضلاء على الهامش ثم أدرجه بعض النساخ ، لأن الرضي الحنبلي توفي كما سيأتي في جمادى الأولى من هذه السنة.

٨٩٨ ـ معروف بن أحمد الضعيّف المتوفى سنة ٩٧١

معروف بن أحمد القاضي الفاضل شرف الدين ، الصهيوني المولد الدمشقي الدار ، الشافعي ، المعروف بابن الضعيّف ، بالتصغير.

لازم في تحصيل العلم التقي البلاطنسي وغيره ، وصار فقيها أصوليا محدثا مؤرخا أديبا شاعرا جامعا لفنون شتى حسن المحاضرة لطيف المذاكرة عارفا بصنعة التوريق واقفا فيها على قدم التحقيق منكشف له المروط عن محاسن فن الشروط.

وولي قضاء حارم من توابع المملكة الحلبية ، ثم قضاء صيدا من توابع المملكة الطرابلسية.

__________________

(*) في الأصل : ونظر أوقاف الحرمين الشريفين بها.

٥٤

وقد قدم حلب سنة تسع وأربعين وتسعمائة متوليا قضاءها.

توفي سنة تسعمائة وإحدى وسبعين رحمنا الله تعالى وإياه.

٨٩٩ ـ عبد الباقي القرصلي قاضي حلب المتوفى سنة ٩٧١

عبد الباقي ابن العلامة المحقق المؤلف الصوفي علاء الدين علي ، القرصلي الأصل ، القسطنطيني المولد ، الحنفي.

صحبناه بحلب وابن أم ولد قاضيها * وآخيناه ، ثم ولي قضاءها سنة إحدى وخمسين ، ثم دخلها في السنة التي تليها في يوم الأحد مستهلها وجلس للحكم بها ثاني يوم منها ، ونفذ حكمه في حلب بتوريث ذوي الأرحام من الشافعية من مورثهم مخالفا للحكم السلطاني الذي أخرجه القاضي علاء الدين المشهور بقرا قاضي الماضي ذكره بمنع توريثهم وضبط ما كان لهم أن لو ورثوا لبيت المال.

ولم يزل يتعاطى الأحكام الشرعية من غير ترجمان ** لقدح وقع في ترجمان المحكمة وتحاشيه لآخر لئلا يقدح فيه أيضا. وصار في منصبه متواضعا مطرحا.

وخرج الناس مرة للاستسقاء فخرج معهم ثلاثة أيام متوالية إلى أمكنة نائية ماشيا بثياب البذلة.

واهتم بترميم مقام الخليل صلوات الله وسلامه عليه خارج باب المقام وتنمية أوقافه واعتاد الخروج إليه كل جمعة في صدر النهار. ولام خطيب الجامع الخسروي إذ وقف بالدرجة العليا من المنبر في أول خطبة وقعت فيه وأمره بالنزول عنها لما أنها محل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل إن خطيب الجامع الخسروي الأعظم بحلب وهو الشهاب أحمد الأنطاكي يفعل ذلك ، فلامه ، فبلغه فأرسل نقلا من شرح منهاج الشافعية للدميري يرجح الوقوف بذلك المكان ، وذلك حيث قال : كان منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح ، ويستحب أن يقف على التي تليها كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن قال : فإن قيل روي أن أبا بكر نزل عن موقف رسول الله

__________________

(*) هو قاضي القضاة عبد العزيز بن زين العابدين المشهور بابن أم ولد.

(**) العبارة في در الحبب : ولم يتعاط الأحكام الشرعية إلا من غير ترجمان.

٥٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم درجة ، وعمر درجة أخرى ، وعثمان درجة أخرى ، ثم وقف عليّ على موقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : كل منهم له قصد صحيح ، وليس فعل بعضهم حجة على بعض ، والمختار موافقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بلغه هذا النقل قال : إن الخندكار لا يرضى بهذا ، فلم يلتفت الخطباء إلا للنقل.

وصار إذا كتب اسمه كتب : عبد الباقي بن علي العربي ، لأنه كان يعرف بابن ملا عرب لاشتهار أبيه في المملكة الرومية بملا عرب ، وذلك حين دخلها في دولة السلطان محمد بن عثمان وصحبه في فتح القسطنطينية ، واشتهر فيها بالفضائل بعد أن درس بأنطاكية قبل أن يدور عذاره ببعض مدارسها. ووضع تفسيرا على تبارك وما بعدها إلى آخر القرآن على طريق الصوفية لأنه كان صوفيا ، أخذ التصوف كما أخبرني ولده هذا عن الشيخ علاء الدين الروشني أخي الشيخ عمر الروشني عن خوجه يحيى الروشني. قال : وكان والدي تلميذا لملا خسرو الذي اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من قضاء العسكر والإفتاء وغيرهما ، وهو تلميذ ملا حيدر وهو تلميذ سعد الدين التفتازاني.

ثم ولي قضاء مكة ونفذ فيها الحكم السليماني بمنع شرب قهوة البن بمكة والمدينة وسائر البلاد.

ثم ولي قضاء مصر فبلغني أنه تغير طوره وصار يطلب الرشى بفمه حتى جمع فأوعى ، ثم عاد إلى قضاء مكة ، ثم توفي بالقسطنطينية سنة إحدى وسبعين ا ه.

وترجمه في العقد المنظوم فقال بعد أن ذكر تقلباته في منصب القضاء : ثم قلد قضاء مكة ثانيا ، وقد تيسر لي الحج وهو قاض بها وذلك سنة تسع وستين وتسعمائة ، ثم عزل بهذه السنة ، فلما عاد إلى وطنه مات من الطاعون سنة إحدى وسبعين وتسعمائة وله من العمر ست وسبعون سنة ، ولم يعقب ولدا فأوصى بثلث ماله لوجوه الخيرات ، فبنوا به بعض الحجرات يسكنها فقراء الملازمين. وكان رحمه‌الله من أعلام العلماء وأكابر الفضلاء ، صاحب أيد في العلوم (إلى أن قال) :

وكان في غاية الميل للرياسة والجاه ، وقد بذل في تحصيل قضاء العسكر أموالا عظيمة. وقد بنى في زمن قضائه بمدينة بروسة على ماء حار حمّاما عاليا من غرائب الدنيا يحصل منه مال عظيم في كل سنة ووهبه للوزير الكبير رستم باشا. ويذكره الناس بالظلمية ، وحكى

٥٦

بعض الثقات أني رأيته يوما في باب الوزير المزبور وعليه أثر غم شديد ، فسألته عنه فتأوه ثم قال : قد بذلت لهذا الوزير ثلاثين ألف دينار وقد دخلت عليه اليوم وما نظر إلي نظر القبول والاختيار.

٩٠٠ ـ خليل بن أحمد الشيخ غرس الدين المتوفى سنة ٩٧١

خليل بن أحمد الشيخ غرس الدين ابن الشيخ شهاب الدين ، الحمصي الأصل الحلبي المولد ، ثم القسطنطيني الشافعي الشهير بابن النقيب.

كان والده نقيب الفقراء عند جدي الجمال الحنبلي ثم عند عمي الكمال الشافعي ، إذ كانت مشيخة الشيوخ بيدهما ، ثم كان في خدمة البدر حسن السيوفي ، فلما ولد له الشيخ غرس الدين ونشأ قرأ عليه بطلب أبيه شيئا من مقدمات العربية ، فلم ينجح بل صار إلى وادي اللهو والبطالة مدة ذات إطالة ، إلى أن منّ الله تعالى عليه بالتوفيق ، فاستقبح ما كان عليه مما صار إليه ، فتوجه إلى القاهرة ماشيا من غير زاد ، فاشتغل بها في الحساب والميقات والهيئة والوفق والموسيقى والطب على الشهاب أحمد بن عبد الغفار وعلى الهنيدي المصري وغيرهما.

ثم عاد إلى حلب فقرأ بها في شيء من العلوم على الشمس السفيري ، وفي «شرح الشمسية» للقطب على المحيوي ابن سعيد ، وصار يورد عليه شيئا من الحاشية الشريفية المرة بعد المرة ويقول له : الأمر هكذا ، فلا يقول له الشيخ في الجواب أكثر من نعم ، فقلب الشيخ غرس الدين العبارة وأوردها عليه مقلوبة فقال له : هل الأمر هكذا ، فقال أيضا : نعم ، ثم لاح له أن دس عليه هذا اللفظ المقلوب لما ظهر من بعض الحاضرين من التبسم من جهة جوابه فطرده.

ثم إن الشيخ غرس الدين غرس شجرة الإفادة بشرقية جامع حلب الأعظم فأشغل الطلبة فيها في الحساب والميقات وغيرهما مدة مديدة ، ثم توجه إلى الباب العالي فاحتظى به بعض كتاب الديوان السلطاني فأثرى منه ، فتسرى واستولد واغتنى واقتنى الكتب النفيسة على كثرة فيها ، وكذا الآلات الميقاتية الحسنة ، وأذهب في الكيميا من المال ما شاء الله تعالى.

٥٧

وسئل مرارا في أن يكون له علوفة بالباب العالي فأبى فقوي فيه الاعتقاد ، وعالج بالطب بعض الأكابر فبرىء فاشتهر به فجعل معيشته منه.

ونظم ونثر وألف وصنف ، فوضع رسالة على الحمد لله ورسالة في الحساب وأخرى في الهيئة ، وشرح قصيدة مفتي الباب العالي شيخ الإسلام أبي السعود التي مطلعها :

أبعد سليمي مطلب ومرام

وغير هواها لوعة وغرام

وجمع في خواص الحروف شيئا ، وادعى حل الزايرجة السبتية التي خفيت أسرارها إلا على بعض الأفراد كما أشرنا إلى ذلك في قولنا :

فقدناك يوم السبت ترتع في الربا

وطالع سعدي غارب مال عن سمتي

وصرت خفيا فيه عن نور ناظري

كأنك من أسرار زايرجة السبتي

وبلغني أنه صار يتمنع عن تعليم بعض الكتب العلمية إلا بفتوح.

ومن نظمه ما مدح به المنظومة المذكورة ورفعه إلى ناظمها ملتزما فيه حرف السين في غالب كلماتها فقال :

سطور لها حسن عن الشمس أسفرت

سباني سنّ باسم وسلام

فعن يوسف سارت وفي الحسن أسندت

سقتني سلافا والكؤوس حسام

فسهل لها سفك النفوس وقد سعى

يساعد فيه سالف وسهام

فسرعان ما سلّت سيوفا نواعسا

فسيرا فسيرا فالسيوف سطام

سليمى فلا أسلو فسفكا أو اسمحي

فأسلو وفيّ * أرسم ووسام

فيا حسرتي ما للسهاد مساعدي

وما سيرتي إلا أسى وسقام

أسير عبوسا والسفيه يسرّ بي

ونفسي في سوق الكساد تسام

أنست بكاسات من السوء أسرعت

ومالي إلا حسرة وسمام

فيا سيدا ساقت إليه سوابق

سوابقه سارت وهنّ سئام

سقاني السخاسحّا وسار لسيبه

سحائب تسنيم سعدت سجام

سخيت بنفسي أن سمحت بسومها

بأنس وتسليم عليك سلام

__________________

(*) في در الحبب وفينا.

٥٨

توفي رحمه‌الله تعالى بدار السلطنة قسطنطينية المحمية في سنة إحدى وسبعين رحمه‌الله.

وترجمه الغزي في «كواكبه» فقال ما خلاصته : هو خليل بن أحمد بن خليل بن أحمد بن شجاع الحمصي الأصل الحلبي المولد والمنشأ.

ولد عاشر المحرم سنة تسعمائة ، وحفظ ألفية ابن مالك وكافية ابن الحاجب وفرائض الرحبي والياسمينية في الجبر والمقابلة ، واشتغل في الميقات على الشيخ محمد الحبال ثم على البدر السيوفي في العربية ، فقرأ الأجرومية وتصريف العزي ومتن الجغميني في الهيئة ، ثم قرأ على الشيخ علي السرميني في الفرائض والحساب ، ثم فتر عن الطلب قليلا.

ثم تحركت همته للطلب فسافر إلى القاهرة ماشيا من غير زاد في سنة أربع وعشرين وتسعمائة فاشتغل بها في الفرائض والحساب والميقات والهندسة والموسيقى والطب على الشيخ أحمد بن عبد الغفار ، وعلى الشيخ شمس الدين محمد الهنيدي المصري الفلكي في الفلك.

ثم عاد إلى حلب بعد سنتين فقرأ على ابن السفيري الشافية لابن الحاجب ، وعلى ابن سعيد الشمسية في المنطق وشرحها للقطب ، وسمع عليه الطوالع ، وعلى منلا موسى وعلا منلا زاده في الحكمة.

وقدم دمشق سنة ثمان وعشرين فتصدر بالجامع الأموي وانتفع الناس به. ثم سافر إلى الروم ، ودخل دمشق ثانيا سنة أربع وخمسين ، ثم سافر منها إلى مصر ، ثم رجع إلى إسلامبول سنة خمس وستين وتقرب من بعض كتاب الديوان فأثرى منه وعرض عليه أن يكون له علوفة مرارا فأبى ، فقوي فيه الاعتقاد. وكان له يد طولى في الحكمة والهندسة والطب واشتهر به. (ثم قال) : واستمر بإسلامبول موفر الجاه حتى توفي بها سنة تسع وستين أو سنة سبعين وتسعمائة. وقال ابن الحنبلي في سنة إحدى وسبعين (وهو الصواب لما سيأتي).

وترجمه العلامة طاشكبري في «العقد المنظوم» حيث قال : ومنهم العالم البارع الأوحد الشيخ غرس الدين أحمد. نشأ رحمه‌الله في مدينة حلب ورغب في العلوم وتشبث بكل سبب ، وقرأ المختصرات على الشيخ حسن السيوفي ، وحصل طرفا صالحا من فنون الأدب. ثم قصد إلى التحصيل التام فارتحل ماشيا إلى دمشق الشام وأخذ فيها الطب من مقدم الألباء

٥٩

ورئيس الأطباء العالم الذكي المشتهر بابن المكي.

ثم انتقل من تلك العامرة ماشيا إلى القاهرة واشتغل فيها على العالم الجليل المقدار الشيخ المشتهر بابن عبد الغفار وأخذ منه الحكميات وعلوم الرياضيات وسائر العلوم العقلية قاطبة بالدروس الراتبة. وأخذ الحديث وسائر علوم الدين عن القاضي زكريا شيخ المفسرين فأصبح وهو لناصية العلوم آخذ وحكمه في ممالك الفنون نافذ. وتنقلت به الأحوال وتأخرت عنه الأمثال ، وفاق على الأقران وسار بذكره الركبان.

ولما كانت فضائله ظاهرة عند سلطان القاهرة أحب رؤيته واستدعاه ورفع منزلته وأكرم مثواه ، ثم جعله معلما لابنه ومربيا لغصنه. ولما وقع بين مخدومه وبين سلطان الروم من المنافسة حضر الوقعة المعروفة من جانب الجراكسة ، فلما التقى الجمعان وتراءت الفئتان وتقدم الأبطال وتهمهم الرجال وهجم ليوث الأروام وأسود الآجام على ذئاب الأعادي وثعالب البوادي وكتبوا بأقلام السمر أحاديث الجرح والسقام ، وأوصلوا إليهم أخبار الموت برسل السهام ، وأرسلوا عليهم شواظا من نار ، وأحلوا أكثرهم دار البوار ، وأخذ الصواعق والبروق في اللمعان والشروق ، وأمطر عليهم السماء الحديد والحجارة ، وضيق عليهم هذه الدارة ، وسالت بدمائهم الأباطح ، وشبعت من لحومهم الجوارح ، لم يثبت الجراكسة إلا ساعة من النهار ، ثم بدّلوا الفرار من القرار ، وجعلوا أمام عسكر الروم يتواثبون ، وهم من ورائهم بهذا القول يتخاطبون.

جعلنا ظهور القوم في الحرب أوجها

وقمنا بها ثغرا وعينا وحاجبا

وقتل الغوري في المعركة ولم يعرف له قاتل ، وأسر ابنه والمولى المرحوم. ولما جيء بهما إلى السلطان سليم خان عفا عنهما وقابل جرمهما بالإحسان.

ثم لما عاد إلى ديار الروم بعد فراغه من أمر مصر استصحب ابن الغوري والمولى المرحوم ، فاستوطن قسطنطينية وشرع في إشاعة المعارف وإذاعة النوادر واللطائف ، واشتغل عليه كثير من السادة وفازوا منه بالاستفادة ، وقد تشرفت برؤيته وتبركت بصحبته.

توفي رحمه‌الله سنة إحدى وسبعين وتسعمائة.

٦٠