إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

عليه صلاة الله ثم سلامه

مدى الدهر ما سحت عيون السحائب

وآل وصحب كلما قال مادح

أآفاق حسن أشرقت بالكواكب

وهنا ساق كتابا نثرا أرسله للولي المذكور.

وقد تلقى العلم عنه كثيرون صاروا غرة في جبين عصرهم ونجوما يهتدى بهم ، منهم ولده العلامة الشيخ أحمد الكواكبي مفتي حلب بعد والده المتوفى سنة ١١٢٤ ، والعلامة الشيخ علي بن أسد الله المتوفى سنة ١١٣٠ ، والعلامة الشيخ محمد بن محمد البخشي المتوفى بمكة سنة ١٠٩٨ ، والعلامة عبد الله بن محمد الحجازي المتوفى سنة ١٠٩٦.

ومن آثاره تجديد جامع جده محمد بن أبي يحيى ، وقد أرخ ذلك بعض الشعراء بقوله :

تبرع لله العلي جنابه

فأبدع بالإفضال من كل جانب

أجل أولي العلم الهمام محمد

ونجل أبي يحيى إمام المناقب

بتجديد هذا الجامع الفرد طالبا

رضا الله إن الله خير المطالب

ليرغب في المحيا وفي الذكر والهدى

به الناس والمحيا حياة لراغب

ويغرب في كسب المحامد والعلا

وإن اكتساب الحمد أسنى المناقب

فتم بناء عم في وصفه الثنا

وناسب فيه الحسن حسن التناسب

ومن أفقه التاريخ أطلع كوكب ال

ثواب لسعد دام بابن الكواكبي

١٠٥٢

تاريخ آخر :

لقد أفرغ المولى الهمام محمد

على قالب التقوى بناءك إذ فرغ

فيا جامع المحيا الذي ضم جده ال

إمام أبا يحيى ومن نوره بزغ

لئن قيل إن الخير يبلغه الفتى

بسعي فمولانا بتاريخه نبغ

١٠٥٢

وقد وفقني الله تعالى لطبع شرحيه على منظومتيه في الفروع والأصول في مصر مع بعضهما في مجلدين وذلك سنة ١٣٢٢ ، وسبب نهوضي لطبع هذين الكتابين أن عندي الجزء الثاني من شرح المولى المذكور على منظومته في الفروع الذي يبدأ فيه من كتاب البيوع ، وكنت كلما طالعت فيه ازددت فيه شغفا لسلاسة نظمة وسهولة شرحه ، فأخذت

٣٦١

في البحث عن الجزء الأول إلى أن ظفرت به في المكتبة العثمانية في حلب (١) ، فاستنسخته بخط يدي وذلك سنة ١٣١٨ ، واستنسخ في ذلك الحين السيد عبد القادر الكواكبي من ذرية المؤلف نسخة لنفسه ، واستنسخ شرح المصنف على منظومته الأصولية من نسخة في مكتبة الأحمدية بمدينة حلب وقابلها على نسخة أخرى في المكتبة المذكورة (٢) ، وكنت أتمنى طبع هذين الشرحين تعميما للاستفادة منهما ، ثم وجدت أن التمني لا يجدي شيئا ، فعقدت النية على ذلك وخابرت الشيخ فرج الله ذكي أحد أرباب المطابع في مصر فوافق على طبعهما. وتفضل السيد عبد القادر الكواكبي بإعطاء نسختيه فأرسلتهما للشيخ فرج الله ذكي وكمل الطبع سنة ١٣٢٧. وتفضل صديقنا السيد مسعود أفندي الكواكبي شقيق السيد عبد الرحمن أفندي ونقيب أشراف حلب بتقريظ الكتابين بأبيات أرسلها إلينا أثبتناها في خاتمة الطبع وهي :

تباشر أهل العلم من كل جانب

بنظم ونثر للإمام الكواكبي

أحاط بمجموع الأصول وهكذا ال

فروع كفت عن غيرها كل طالب

وقد كان قبل اليوم كنزا مطلسما

تنص للقياه كناز النجائب

فوفق مولى الفضل جل جلاله

لإخراج ذاك الكنز أسنى الرغائب

وقد زاده حسنا رصانة طبعه

فجاء بعون الله في خير قالب

لئن كان هذا النظم في الفهم هينا

ففي نظمه لا شك كل المصاعب

فإن تعجبوا ممن فدى وقت غيره

بأوقاته قصدا لترغيب راغب

فأعجب منه من تقاصر عزمه

عن الحفظ إن الحفظ أدنى المراتب

وأعجب من هذين من ليس يقتني

كتابا به يكفى عظيم المتاعب

جزى الله خيرا سادة مهدوا لنا

إلى العلم والتعليم أقرب لاحب

وحمدا له أن أصبح العلم دانيا

وزال عن الطلاب رين الغياهب

وأذهانهم تمت جلاء فأرخوا

وطاب بسلك الطبع نظم الكواكبي

١٣٢٢

__________________

(١) يوجد نسخة منه في الأحمدية بحلب ، وفي مكتبة عموجه حسين باشا ونسختان في مكتبة كوبريلي وفي مكتبة الفاتح ، وهذه المكاتب الثلاث في الآستانة.

(٢) يوجد نسخة من إرشاد الطالب في مكتبة المدرسة الحلوية آخرها ما نصه : قد يسر الله مقابلة هذه النسخة على نسخة المصنف. ويوجد نسخة في مكتبة لاله لي في الآستانة وفي مكتبة ولي الدين فيها أيضا.

٣٦٢

ولابن المصنف وهو السيد أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١١٢٤ حاشيتان على شرحي والده ، ظفرت بالحاشية الأصولية بين كتب ملقاة في خزانة في جامع أبي يحيى الكواكبي في محلة الجلّوم داخل ضريح أبي يحيى المذكور ، فاستنسخت منها نسخة أرسلتها للشيخ فرج الله المتقدم الذكر على أمل طبعها في آخر الكتاب ، فلم يتسهل له ذلك ، وبقيت النسخة الأصلية عند السيد عبد القادر الكواكبي المتقدم الذكر أيضا ، ثم سرقها من عنده بعض من يلوذ به مع عدة كتب. وكنت قد استنسخت منها بخطي مقدار الثلث وأسفت كثيرا لعدم إتمام نسخها لأنها نادرة الوجود ، وربما كانت هي النسخة الوحيدة ، وسماها المؤلف «المباحث العجائب على شرح منظومة الكواكب» وتبين من خلالها أنه ألفها في حياة والده لأنه كثيرا ما يقول : قال سيدي الوالد حفظه الله تعالى.

١٠٠٤ ـ عبد الله بن محمد حجازي المتوفى سنة ١٠٩٦

السيد عبد الله بن محمد حجازي بن عبد القادر بن محمد أبي الفيض الشهير بابن قضيب البان ، الحلبي الحنفي ، الفاضل الأديب الشاعر المنشىء البليغ.

كان واحد الزمن وغرة جبهة الدهر ، وله في الفضل شهرة طنانة وحديث لا يمل. وكان مع علو قدره وسمو شأنه لين قشرة المعاشرة ممتع المؤانسة حلو المذاكرة جامعا آداب المنادمة عارفا بشروط المعاقرة. وكان أحد المبرزين بحسن الخط مع أخذه من البلاغة بأوفر الحظ.

وله تآليف سائغة ، منها نظمه للأشياء الفقهية ، وكتاب «حل العقال» (١) ، وذيل على كتاب الريحانة ولم يكمله. وشعره وإنشاؤه في الثلاثة حلو مطبوع.

وكان دأب في طليعة عمره وحصل وأخذ عن جملة من العلماء ، منهم العلامة محمد ابن حسن الكواكبي مفتي حلب ، والمنلا محمد أمين اللاري قدم عليهم حلب ، والسيد محمد التقوي الحكيم ، والشيخ مصطفى الزيباري.

وتفوق وتصدر للتدريس في المدرسة الحلوية ، وولي نقابة الأشراف ، وأعطي رتبة قضاء ديار بكر.

__________________

(١) مطبوع في مصر وهو متداول ، ويوجد منه نسخة خطية في مكتبة المدرسة الصديقية بحلب.

٣٦٣

ثم استدعاه الوزير الفاضل لما بلغه فضله ، فانحاز إليه واشتد اختصاصه به وحل منه محل الواسطة من العقد ، فسير فيه قصائد فائقة وأنشدني منها جلها فلم يعلق في خاطري منها إلا قوله من قصيدة حسنة التركيب وذلك محل التخلص منها :

ولرب يوم قد تلفعت الضحى

منه بثوبي قسطل وغمام

حسرت قناع النقع عنه عصبة

غبر الوجوه مضيئة الأحلام

متجردين إلى النزال كأنما

يتجردون لواجب الإحرام

لا يأنسون بغير أطراف القنا

كالأسد تألف مربض الآجام

يسري بهم نجمان في ليل الوغى

رأي الوزير وراية الإسلام

ثم ترقى عنده في المنزلة حتى استدعاه إليه وصيره نديم مجلسه الخاص ، فحسده حواشي الوزير ، ودخل إليه أحدهم في زي ناصح يقول له : إن حال الدولة في تقلباتها ليس بالخفي ، وقد أمكنت الفرصة ، فإذا طلبت قضاء نلت ما طلبته على الفور. فانساغ لهذا القول ووقعت منه هفوة الطلب والإلحاح ، فانحرف الوزير عليه وظن أنه سئم من مجلسه ، فوجه إليه قضاء ديار بكر استقلالا ، فتوجه إليه ، وكان مع خبرته وتجربته للأمور سيىء التدبير ، فانزوى عن الاجتماع بأحد وفوض أمر القضاء لرجل من أتباعه ، فتجاوز الحد في أخذ مال الناس رشوة ، ولم يمكنهم عرض ذلك على السيد صاحب الترجمة ، فشكوا أمرهم إلى جانب السلطنة فعزلوه ، وانخفض قدره وأقام مدة طامعا في أن يحصل على غرض من أغراضه فما قدر له. واستمر بالروم نحو خمسة أعوام منزويا ، واجتمعت به أيام انزوائه بقسطنطينية ومدحته بقصيدة طويلة مطلعها :

بدا فأراك الغصن والشادن الخشفا

بديع جمال جاوز النعت والوصفا

أغنّ يكاد الظبي يحكي التفاته

وتختلس الصهباء من جسمه لطفا

إذا طرفت منه العيون بلمحة

فأيسر شيء منه ما ينهب الطرفا

تروح به الألباب نهب هجيره

وما عفرت خدا ولا انتشقت عرفا

سقى عهده بالسفح حلة هاطل

إن المزن لم يطو الزمان له سجفا

أوان توافينا نشاوى من الصبا

ولم يبق منا الوجد إلا هوى يخفى

تحجبنا الظلماء حتى كأننا

رعينا لها من كل مكرمة صنفا

وبات يحييني بممزوجة الطلا

فإني قد آليت لاذقتها صرفا

٣٦٤

إلى أن تولى الليل قائد جيشه

وراح سهيل الأفق يقدمه طرفا

وقفنا وأدمينا المحاجر برهة

فسالت نفوس في مهارقنا ذرفا

وسار مسير البدر يطوي منازلا

على أنه لا محق فيه ولا خسفا

فأودعني منه تعلة وامق

وزفرة وجد لم تكد أبدا تطفا

أسر بتجديد الهوى ذكر عهده

وإن كنت لا أقوى لأعبائه ضعفا

عدمت فؤادا لم تبت فيه لوعة

من العشق تذكيه لواعجها لهفا

أبيت ولي قلب يقلب في الجوى

فللشوق ما أبدى وللوجد ما أخفى

ويذكرني عهد التصابي مغرّد

من الشجو يتلو في أغاريده صحفا

كلانا غريب يشتكي فقد إلفه

فيبكي وحق الإلف أن يبكي الإلفا

تعللنا الآمال وهي كواذب

ومن دونها وعد نرى دونها خلفا

فليت الهوى فينا رخاء صنيعه

ولم يبق رحما من لدينا ولا عطفا

فنفرغ من كل الأماني لمدح من

به صح جسم الفضل من بعد ما أشفى

هو ابن الحجازيّ الرفيع جنابه

أعز الورى جاها وأعلاهم كهفا

فتى طابت الدنيا بحسن خصاله

ولم يبق فيها الدهر خطبا ولا صرفا

تثقفت الآراء منه بأروع

يخيف الضواري حيث ما اقتحمت حرفا

ويفترّ عن لألاء بشر كأنه

مقّبل شاد لا تمل به الرشفا

فما روضة قد فاح نشر عبيرها

بأطيب يوما من خلائقه عرفا

تحلت به الأعناق عقد مواهب

إذا ما هطلن استحيت المزنة الوطفا

فما تنطق الأفواه إلا بمدحه

ولا ترفع الآمال إلا له كفا

فديتك يا من لو صرفت لمدحه

جميع وجودي رحت أحسبه قذفا

وأحقر فيه المدح حتى لو انه

تجاوز ضعف الضعف بل مثله ضعفا

فيا أيها المولى الذي عم جوده

ومن عشت دهرا لم أفارق له عطفا

لرحماك أشكو من زماني حوادثا

أبادت بقايا الصبر من جلدي عنفا

فما كنت إلا الشمس في فلك العلا

تعدى عليها البين فانمحقت كسفا

حنانيك فالحظني بنظرة مشفق

تنبه مني الحظ من بعد ما أغفى

ودونكها ورقاء في روض محتد

تقلد إذن الدهر من درها شنفا

تود نجوم الأفق لو كن منطقا

لها وكلا البدرين يشطرها وحفا

٣٦٥

نثرت عليها من مديحك لؤلؤا

فأهوت أيادي المجد ترصفه رصفا

تمتع بها واستر بعفوك هفوها

فمن دونها الحساد ترمقها طرفا

ودم في عرين العز صدر ليوثه

وكل البرايا منك قد نكبت خلفا

مدى الدهر ما حادت قريحة شاعر

ببيت فحاز الفخر دنياه واستكفى

فلما أنشدتها بين يديه نشط لها وتبجح بها وتحفظ أغلبها وتجزل صلتي عليها ، ومن عهدها لزمته لزوما لا انفكاك معه.

ووقع لي معه محاورات عجيبة من جملتها أني دخلت عليه يوما في وقت الصبوح فرأيته نائما ، فكتبت إليه هذه الأبيات بديهة ووضعتها على وسادته وهي :

أيها الراقد طاب العي

ش فاستحكم فلاحك

قم نباكرها شمولا

تبعث اليوم انشراحك

واصطبح كأس الحميا

أسعد الله صباحك

فلما استيقظ دعاني إليه وجلسنا نتفاوض المطارحة والمساجلة ، ثم استغرق بنا الوقت ثلاثة أيام فكان يقول لي : كل بيت بيوم. ودخلت عليه يوما فوجدته منقبضا والفكر قد استوعبه ، وكان إذ ذاك في غاية الانحطاط فأنشدته :

ولو كان عقل النفس في المرء كاملا

لما أضمرت فيما يلم بها هما

فأنشدني على الفور :

وما ذنب الضراغم حيث كانت

وصير زادها فيما يذم

ووقع حريق في داره فاحترق له شيء من الملبوس والكتب ، فكتبت إليه مسليا :

فدى لك ما على الدنيا جميعا

فعش في صحة وابل الربوعا

لئن جزع الأنام لفقد شيء

فلست لفقدك الدنيا جزوعا

تعلمنا الأناءة منك حتى

توطنا بها الشرف الرفيعا

أفاض الله جودك في البرايا

وأنبت من أياديك الربيعا

وصورك المهيمن من كمال

لنعلم صنع خالقك البديعا

فمر واحكم بما تختار فينا

تجد كلا كما تهوى مطيعا

٣٦٦

فلو كلفت يوم الأمس عودا

لخاض الليل واختار الرجوعا

ولو ناديت سهما في هواء

لعاد القهقرى وأتى سريعا

يضم البرد منك أخا فخار

يبيت الليل لا يدري الهجوعا

وإني من بجودك قد ترقى

وحل من العلا حصنا منيعا

خلقت على الوفاء لكم مقيما

وأوفى الناس من حفظ الصنيعا

ومما طارحني به في جملة مطارحاته أنه لما كان مر بدمشق قاصدا الحج شغف بأحد أبناء سراتها وكان من الأشراف ، قال : ثم فارقته وتباكينا عند التوديع ، فكتبت إليه من الطريق مضمنا بيت البحتري فقلت :

يا آل بيت المصطفى هل رحمة

لفؤاد مشبوب الجوانح ثائر

ضلت نواظره الرقاد وما اهتدت

ببياض دمع من سواد ضمائر

دمع تعلق بالشؤون فساقه

زفرات برح من جوى متخامر

لو تنظرون إلى الشتيت وسربه

يقفو سروب زواخر وزوافر

لعذرتموه وماله من عاذل

وعذلتموه وماله من عاذر

واها لأيام تقضت خلسة

في ظل دوح بالسيادة ناضر

دوح عليه من النبي محمد

وضح الصباح ونفح روض باكر

لم أنسه يوم الوداع وطرفه

يرنو إلى شعث النجيب الضامر

وفعاله تبدي نفاسة عرفه

في فضل وجه بالسماحة زاهر

حتى إذا جدت بنا ذلل النوى

والعين تسفح بالنجيع المائر

سرنا وعاود كالمقيم وربما

كان المقيم علاقة للسائر

وما زال مدة إقامته يعمل حيله ويصطنع خدعه ليحصل على أرب فما نهض به حظ ، واستمر إلى أن سافر السلطان محمد إلى جهة أدرنة في سنة تسع وثمانين وألف وتبعه الوزير ، فلحقهم واستمر معهم مدة خمسة وعشرين يوما ، ثم قدم إلى إستانبول وأشاع أنه أعطي قضاء القدس والتفتيش على الأشراف ببلاد العرب ، وأقام أياما قليلة ، ثم سافر والتزم التفتيش من حين دخوله إلى بلده حلب إلى أن دخل القاهرة من طريق الساحل ، وأراد أن يفعل ذلك في القاهرة فلم يمكنوه ، وربما أرادوا إيقاع مكروه به ، فخرج حاجا ، ثم

٣٦٧

بعد أن حج رجع من طريق الشام وتوجه إلى حلب وأقام بها في رفعة وصولة والناس يعظمونه ويحترمون ساحته.

واشتغل مدة بالإقراء فأقرأ التلويح وانكف عن أمور محذورة كان يرتكبها. وكنت إذ ذاك قدمت الشام فبلغني حسن معاملته للناس وانقياده للزمن ، فكتبت إليه قصيدة أولها :

أرى الندب من صافى الزمان المحاربا

وأغبى الورى من بات للدهر عاتبا

أتعتب من لا يعقل العتب والوفا

ولا همه شيء فيخشى العواقبا

وإن ضن لم يسمح بمثقال ذرة

ولم يبق موهوبا ولم يبق واهبا

ولا جنة تغنيك إن كان مانعا

ولا منزل يؤوبك إن كان طالبا

أحاول شكواه فألقى نوائبا

تهوّن عندي منه تلك النوائبا

ولن يسبق الأقدار من كان سابقا

ولا يغلب الأيام من كان غالبا

ومن صحب الدنيا ولو عمر ساعة

رأى من صروف الدهر فيها عجائبا

وقفر كيوم الحشر أو شقة النوى

يضل القطا أعملت فيه النجائبا

وليل كقلب السامريّ قطعته

إلى أن حكى بالفجر أسود شائبا

وما كنت أرضى بالنوى غير أنني

جدير بأن لا أرتضي الذل صاحبا

فنظمت من در المعاني قلائدا

جعلت قوافيها النجوم الثواقبا

ويممت أقصى الأرض في طلب العلا

ولم أصطحب إلا القنا والقواضبا

فلاقيت في الأسفار كل غريبة

ومن يغترب يلق الأمور الغرائبا

وخلفت من يرجو من الأهل أوبتي

كما انتظر القوم العطاش السحائبا

وكم قائل لا قرب الله داره

ومن يتمنى لو بلغت المطالبا

فعدت على رغم الفريقين سالما

ولم أقض من حق الفضائل واجبا

وحسبي وجود ابن الحجازيّ نائلا

به لم أزل ألقى المنى والمآربا

فتى قد جهلت العسر منذ علمته

ولانت لي الأيام عطفا وجانبا

وأصبح يلقاني العدو مسالما

وقد كان يلقاني الصديق محاربا

تخيم فوق الفرقدين مقامه

ومد على أفق السماء مضاربا

بعزم يرد الخطب والخطب مقبل

ورأي وتدبير يرد الكتائبا

وحزم يميز الحق من غير ريبة

وحكم يذيب الشامخات الرواسيا

٣٦٨

فراسته تغنيك عن ألف شاهد

تريه من الأشياء ما كان غائبا

لقد نسخت أنواره كل ظلمة

كما نسخت شمس النهار الغياهبا

وقور كأن الطير فوق جليسه

ترى الدهر منه خائف الدهر راهبا

أخاف سباع الطير من سوط رأيه

فكادت لفرط الخوف تلقي المخالبا

ولو أدرك المجنون أيام حكمه

لأعرض عن ليلى وأصبح تائبا

جواد بما يحويه في كل حالة

إذا مل قوم لم يمل المواهبا

نقي عن الفعل القبيح منزه

كلا حافظيه يكتبان الرغائبا

خبير بتحقيق العلوم مدقق

إذا جال في بحث أراك العجائبا

وإن نثرت يمناه في الطرس لؤلؤا

كتبنا على تلك اللآلي مطالبا

فتى لا يحب الهزل والهزل باطل

وما خلق الله السموات لاعبا

يبيت بحب المكرمات متيما

إذا عشق الناس الحسان الكواعبا

إذا رمت أن تحصي فضائله ولم

تدع قلما في الأرض لم تقض واجبا

فإني رأيت المدح دون مقامه

فلا أيتم الرحمن منه المراتبا

وذيلتها برسالة وهي : أقسم بمن جلّت عظمته ، وعلت كلمته ، وسخر القلوب للمودة المؤبدة ، وجعل الأرواح جنودا مجندة ، إنني أشوق إلى لثم يد مولاي من الروض إلى الغمام ، ومن الساري إلى تبلج القمر في الظلام. وقد كانت حالتي هذه وأنا جاره ، فكيف الآن وقد بعدت عني داره ، وليست غيبته عني إلا غيبة الروح ، عن الجسد الباقي المطروح ، ولا العيشة بعد فراقه الجاني ، إلا كما قال البديع الهمذاني : عيشة الحوت في البر ، والثلج في الحر. وليس الشوق إليه بشوق وإنما هو العظم الكسير ، والنزع العسير ، والسم يسري ويسير ، والنار تشوي وتطير. ولا الصبر عنه بصبر وإنما هو الصاب والمصاب ، والكبد في يد القصاب ، والنفس رهينة الأوصاب ، والحين الحائن وأين يصاب. وقد كتبت إلى مولاي هذه القصيدة ، وأنا لا أحسبها من الإحسان بعيدة ، وهذا الكتاب وقد أنفقت عليه مدة من العمر ، وصرفت على تحريره حينا من الدهر ، وحررته وأنا مشغوف بذكرك ، مشغول بحمدك وشكرك ، وعيني تودّ لو كانت مكانه ، وأمكنت من قطع المسافة إمكانه ، كل ذلك لتذكري عهدك ، ومقامي عندك ، في أوقات ألذ من شفاه الغيد ، وأشهى من قبل الخدود ذات التوريد ، حيثما العيش آخذ في طلقه ، واستوفى من الأماني حقه ، وأنت

٣٦٩

تقرط سمعي بفرائدك ، وتملأ صدفة أذني بلآلي فوائدك ، من أدب أغزر مادة من الديم ، وأنشط للقلب من بوادر النعم. ولقد يعز علي أن ألفى بعيدا عنك ، متروك الذكر منك ، ولكن هو الدهر ، وعلاجه الصبر.

فصبرا على الأزمان في كل حالة

فكم في ضمير الغيب سر محجّب

وربما تخالج في صدري ، لرعونة أوجبها طلب ازدياد قدري ، أن يشرفني بمكاتبة ، ويؤهلني إلى مخاطبة ، جريا على معروفه المعروف ، وطمعا في اغتنام كرمه الموصوف ، حتى أباهي بكلمه الزمان ، وأجعلها حرز الأماني والأمان ، وأظنه يفعل ذلك متفضلا ، لا برح لكل إحسان موئلا. فكتب إليّ في الجواب :

نحن عفنا الشهباء شوقا إليكم

هل لديكم بالشام شوق إلينا

قد عجزتم عن أن ترونا لديكم

وعجزنا عن أن نراكم لدينا

حفظ الله عهد من حفظ

العهد ووفّى به كما وفّينا

اللهم جامع المحبين بعد البين ، ومعين القوي على ألم النوى وما جعل الله لرجل من قلبين ، أسألك بما أودعته في سرائر المخلصين من أسرار المحبة ، وأنبت في رياض صدورهم من المودة التي هي كحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فارع فرع الشجرة المحبية وأصلها ، وأفض عليها فواضلك التي كانوا أحق بها وأهلها ، واحفظ اللهم هاتيك الذات الزكية التي رؤيتها أجل الأماني ، ونوّر تلك الصفات التي إذا تليت تلقتها الأسماع كما تتلقى آيات المثاني. هذا وما الصب إلى الحبيب ، والمريض إلى الطبيب ، بأشوق مني إلى تلقي خبره ، واستماع ما يفتخر به الركبان من حسن أثره ، وما غرضي من عرض الأشواق ، التي ضاقت عنها صدور الأوراق ، إلا تأكيد لما يحيط به علمه المحترم ، وتشنيف لمسامع اليراع بذكر صفاته التي تطرب فيترنم بألطف نغم. ولقد كنت أتوقع زيارته لما قدم من البلدة النجرا ، فثنى عنان الإعراض وأجرى جواد الأنبرا.

وما هكذا كنا لقد كان بيننا

معاملة عن غير هذا الجفا تنبي

هذا وضمير الأخ أنور من أن يضيء * بمصباح الاعتذار ، وأعلم بصدق المحبة في حالتي

__________________

(*) في خلاصة الأثر : يستضيء.

٣٧٠

القرب والبعد والإعلان والإسرار ، وليس يندمل الجرح منا إلا بمرهم لقائه ، ولا يشفى غليله إلا بري روائه ، فالرجاء أن يتلافى ما فرط بل أفرط من الإعراض ، ويسمح بما نتوقعه منه بلا إغماض.

هي الغاية القصوى فإن فات نيلها

فكل من الدنيا عليّ حرام

ومن شعره الذي اشتهر قصيدته التي أرسلها إلى الأمير المنجكي ، وهي قصيدة طويلة اختصرت منها هذا المقدار وهو زبدتها ، وأولها :

سقى جلقا صوب السحاب المزرّد

وباكر من أفنائها كل معهد

وقلد أجياد الربى في عراصها

يد الغيث عقدي لؤلؤ وزبرجد

ولا زال خفاق النعامى منبها

عيون الخزامى بالحفيف المجسد

وغنت بها الأطيار من كل نغمة

تهجّن ألحان النديم ومعبد

لقد هتفت منه بوجدي سواجع

تلفع أظلال الغصون وترتدي

تنوح وتشجينا فتزداد عيمة

ستعلم إن متنا صدى أينا الصدى

أشيم بروقا بالشآم مثيرة

عقابيل (١) شوق بالفؤاد المشرد

وأستاف نشرا كلما هب ضائعا

يحدث أنفاس الحبيب المبعّد

فيهتز من رياه قلبي وينثني

ولو لا اهتزاز الغصن لم يتأود

فواحرقتي إن لم أبلغ نعيمها

ووافرقتي إن بت والبين مقعدي

ويوم بلألاء الكؤوس مفضض

كسته يد الصهباء حلة عسجد

قضيت به حق الهوى غير أنني

متى أدن منه اليوم ينأى ويبعد

رعى الله أيام الوصال فإنها

ألذ من التهويم في جفن أرمد

تقضت وضن الدهر منها بنهلة

تبل غليل الشائق المتزود

منها :

عسى تقذف البيداء نضوي برحلة

تنفس عن أسر المشوق المقيد

إلى بقعة زينت بباقعة الحجى

سليل المعالي المنجكي محمد

__________________

(١) ما يبقى من آثار المرض.

٣٧١

عريق بلاد الشام درة تاجها

غياث بني الآداب مأوى المطرد

منها :

أخا منجك يا أكمل الناس فطنة

وأشرفهم بيتا بغير تردد

صبغت العلا بالمكرمات فلم تحل

وينكر في الأعراض غير التجدد

أمولاي يا بدر المعالي وشمسها

ويا رحلة الآمال من غير موعد

لقد ذلقت في وصف مجدك ألسن

وعجّت به الركبان في كل مشهد

وأهدت لنا من بحر طبعك لؤلؤا

على الطرس حتى كاد يلقط باليد

منها :

فأسلفتك الإعظام والودّ موفيا

حقوق معاليك التي لم تعدد

وقدمت من فكري إليك ألوكة

حبتك بمغبوط من المدح سرمد

تخبر عما في القلوب من الجوى

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فأوجب لها حقا وأنعم بمثلها

وعفني بنظم من عقودك يحمد

أروّي بها من لاعج الشوق والنوى

غليل فؤاد بالصبابة مكمد

وآخرها :

فأنت لجفن الدهر سيف وناظر

ولولاك لم يبصر ولم يتقلد

ثم أعقبها بقطعة نثر وهي : حامل لواء النظم والنثر ، وحامي بيضته عن الصدع والكسر ، محل استواء شموس الكرم ، العاصر بمجده عنقود الثريا تحت القدم ، واسطة قلادة الفضائل وعد نظامها ، وبيت قصيدة الآداب ورونق كلامها ، جناب الأمير ابن الأمير ، والعطر بين العبير ، لابرحت ظلال معاليه ممتدة على مفارق الأيام ، وظل حساده أقلص من جفون العاشق عن طيب المنام. هذا ولو أوتي الداعي له زكن إياس * ، واستضاء من محاضرة أبي الفرج بنبراس ، وملك براعة ابن العميد ، وأحرز خطب ابن نباتة وبداهة عبد الحميد ، وأعطي بلاغة الصاحب ونوادر أبي القندين (١) ، ونال مقامات البديع

__________________

(*) هو إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة ، والزكن : الفطنة والحدس الصادق.

(١) أبو القندين هو الأصمعي. قاله نصر ا ه من هامش خلاصة الأثر.

٣٧٢

ومفاوضات الخالديين ، وحاز محاورات الأحنف وفصاحة سحبان ، وحوى منشآت القاضي الفاضل ومدائح حسان ، ورام أن يزخرف كلاما يناسب مقتضى المقام والحال ، لفل حد القلم وضاق ذرع المجال ، وإن أحجم بقيت في النفس حاجة ، وعصف على القلب ريح حسرة فهاجه ، فلذلك أقدم على الثانية سجيا. وأبدي لتلك الحضرة العالية هديا ، فإن أكرم الأمير مثواها ، فنظم من فرائد عوائده فحلاها ، وأجاب بما يروي غليل الفؤاد ، ويخصب مراد المراد ، فذلك من مساعي فطرته المنجكية ، ودواعي شيمته البرمكية.

فوصلته القصيدة والرسالة وهو متوعك المزاج فراجعه بهذه الأبيات :

أمولاي من دون الأنام وسيدي

بمدحك قد بلّغتني كل سودد

بعثت بأبيات كأن عقودها

منضدة من لؤلؤ وزبرجد

أمتع طرفي في طروس كأنها

مبادي عذار فوق خد مورد

سطور إذا ما رمت قتل حواسدي

أجرد منها كل عضب مهند

تكلفني رد الجواب وإنني

أبيت بفكر في الزمان مشرد

وليس يجيد الشعر منطق عاجز

ضئيل على فرش السهاد موسّد

يمر به العمر الطويل مضيعا

على الكره منه بين واش وحاسد

فعذرا أخا العلياء قلّت عزائمي

وقد كنت كالسيف الصقيل المجرد

فإنك أهل العفو والصفح والرضا

وإنك من نسل النبي محمد

أعز بني الدنيا وأشرف من سما

إلى الرتبة العليا بغير تردد

صغير إذا عدّت سنيّ زمانه

كبير به أشياخنا الغر تقتدي

تملّك رق الحمد والشكر والثنا

بكف على فعل الجميل معود

فلا زال عينا للزمان وأهله

يجرر ذيل الفخر في كل مشهد

وبلغني في أخريات أمره أنه تغيرت أطواره وانقلب إلى طبعه الأول ، وتجرأ على الناس بالأذية وسوء المعاملة ، وما زال حتى اجتمع عليه أهل بلده وقتلوه. وكان قتله نهار الأربعاء سابع عشري جمادى الأولى سنة ست وتسعين وألف.

ويروى خبر قتله على أنحاء شتى ، والذي اعتمدته أنه كان سعر القمح بحلب قد نهض ولم يزل يترقى حتى بيع الإردب بخمسة وعشرين قرشا ، وشاع الخبر أن السيد عبد الله ارتشى هو وقاضي حلب من المحتكرين بألف قرش ليبيعوه بهذا الثمن ، فبلغ ذلك حاكم

٣٧٣

العرف فنادى بأن يباع الإردب بخمسة عشر قرشا ، وتقيد بنفسه في إخراج المحتكر من الحب ، واعتنى بذلك اعتناء بليغا ، فأسرّ له ابن الحجازي المكيدة. واتفق في ذلك الغضون أن بعض أعيان حلب دعا المتسلم وبعض أعيان البلدة ومنهم ابن الحجازي ، فلما تفرقوا صحب ابن الحجازي المتسلم ودعاه إلى داره ، فيقال إنه في أثناء المجلس أتاه بمشروب مسموم ، فلما تناوله أحس بالسم وتمت عليه المكيدة ، فخرج واستمر ثمانية أيام يعالج نفسه فلم يفد ، ثم إنه مات في اليوم الثامن وأخرجوا جنازته ، وخرج ابن الحجازي في جملة من خرج إلى الجنازة ، وكان الناس قد كرهوا وسئموا من أحواله وهم يترقبون لقتله فرصة ، فلما دفنوا المتسلم ركب فرسه وأراد الانصراف ، فنادت امرأة : هذا قاتل المتسلم ، فتبعها رجل من العوام واتصل ذلك بالرجال والصبيان والنساء ، فضربه رجل بحجر فأصاب رأسه ، وعثرت به الفرس فانكب على وجهه ، فهجم الناس عليه وقتلوه ولم يبقوا فيه عضوا صحيحا ، وذهب دمه هدرا ومضى هو وأولاده وأتباعه في أقل الأزمنة. ا ه.

وله قصائد موجودة في مكتبة برلين. ومن قصائده المشهورة قصيدته الدالية التي أولها (أهلا بنشر من مهب زرود) وقد خمسها الشيخ أمين الجندي الحمصي وهي في ديوانه ، وشرحها الشيخ شعيب الكيالي من رجال القرن الآتي ، وسنذكر ذلك ثمة إن شاء الله تعالى.

وله كما وجدته في بعض المجاميع :

ألا لا تسل أي شيء جرى

ومن قرح جفني ماذا جرى

تعلمت من حبه الكيمياء

وصرت حكيما أكبرا *

سحقت فؤادي وأودعته

بنار غرام به أسعرا

وصيّرت عيني إنبيقه

وقطّرته ذهبا أحمرا

ألا هكذا يا أخيّ الهوى

كما كل صيد بجوف الفرا

ا ه.

ومن نثره ونظمه ما ذكره في آخر كتابه «حل العقال» حيث قال : ولنختم الكلام ببيتي أبي العباس المرسي ليتعطر بهما مدادي ويبتهج منهما طرسي ، وهما :

ما كان إلا ما يريد فدع مرادك وانطرح

__________________

(*) عجز البيت مختل الوزن ، ولعل الصواب : وصرت حكيما بها أكبرا.

٣٧٤

واترك وساوسك التي

شغلت فؤادك تسترح

وقد ضمنها علامة هذا العصر ، ويتيمة المجد بل يتيمة الدهر ، من توردت حدائق الشهباء بغوادي علومه ، وتحلت معاصم عواصمها بسوار منثوره ومنظومه ، وهرعت لاستلام أقدامه العلماء والأمجاد ، ورعت في ربيع فضله سوائم الطلب من أقصى البلاد ، ذو التآليف المشهورة ، والمساعي المشكورة ، أعني به شيخ الإسلام ، وناظم عقود المناقب في جيد الأيام ، جناب المولى محمد بن الحسن الكواكبي (المذكور قبل المترجم) مد الله ظلال حياته ، ولا برحت المعالي ضجيعة عتباته ، بقوله : (حتام في ليل الهموم) ... إلخ الأبيات التي تقدمت في ترجمة المولى الكواكبي. ثم قال بعدها : وقد اقتفيت أثر هذا المولى الرفيع ، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع بقولي :

يا أيهذا المصطلح

قل لي على من تقترح

في كل يوم مطلب

تمشي عليه وتصطبح

أفسدت عيشك بالعنا

وزعمت أنك تنصلح

وأسأت حتى كدت في

نار الغواية تلتفح

حتام تعنى بالذي

تكفى وأنت به ملح

وإلام تركن للحيا

ة ومن رداها تجترح

أو ما ترى الدنيا ومج

معها الشتيت المنكشح

والله ما افتخر العزيز بعزها إلا طرح

كلا ولا مرح الجوا

د برحبها إلا كبح

فاقنع بمجناها القلي

ل ولا تغال فتفتضح

واجعل معرجك التقى

فهو الطريق المتضح

وإذا الخطوب تزاوجت

فالصبر أنتج ما لقح

لا تيأسن من أن تدو

ر لك الأمور وتنشرح

فلربما سر الحزين

وربما غمّ الفرح

ولربما سقط القعو

د وقام بالعبء الطلح

والله أكرم من يرجّى

في الملمّ إذا برح

فكل الأمور للطفه

والزم حماه المنفسح

٣٧٥

واعمل بنصح مسدد

من في تجارته ربح

ما كان إلا ما يريد فدع مرادك وانطرح

واترك وساوسك التي

شغلت فؤادك تسترح

١٠٠٥ ـ محمد بن محمد البخشي المتوفى سنة ١٠٩٨

محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد المعروف بالبخشي البكفالوني ، الحلبي الشافعي المحدث الفقيه الصوفي العذب الطريقة كعب الأحبار.

ولد ببكفالون بفتح الموحدة : قرية من أعمال حلب ، وبها قرأ القرآن ، ونشأ في حجر والده. ورحل في أوائل طلبه إلى دمشق وأخذ عمن بها من علمائها كالشيخ عبد الباقي الحنبلي والشيخ محمد الخباز البطنيني وشيخنا الشيخ محمد بن بلبان وشيخنا الشيخ محمد العيثاوي وغيرهم. وأخذ طريق الخلوتية عن العارف بالله الشيخ أيوب الخلوتي وقرأ عليه جملة فنون ، وأطلعه على أسرار علمه المكنون ، حتى نال منه غاية الأمل ، وأثمرت له غيث دعائه أغصان العلم والعمل ، فرجع إلى أهله بنعم وافرة. ثم توطن حلب وأخذ بها عن عالمها محمد بن الحسن الكواكبي المفتي بها ، وأقام على بث العلم ونشره في غالب أوقاته وانتفع به كثير من فضلاء حلب.

وله من التآليف الشافية نظم الكافية وشرح على البردة وغيرهما.

وسافر إلى الروم في سنة ست وثمانين وألف ، واجتمعت به بأدرنه ، ثم اتحدت معه اتحادا تاما فكنا نجتمع في غالب الأوقات ، وكنت شديد الحرص على فوائده وحسن مذاكرته مع الأدب والسكينة. وما رأيت فيمن رأيت أحلم ولا أحمل منه ، وكان روّح الله تعالى روحه من خيار الخيار ، كريم الطبع مفرط السخاء. ثم اجتمعت به بقسطنطينية بعد عودنا إليها ، وكان لأخي الوزير الأعظم الفاضل مصطفى بيك عليه إقبال تام وله إليه محبة زائدة ، وكان جاء إلى الروم بخصوص التكية الإخلاصية الخلوتية بحلب ، فتوجهت إليه وتوجه إلى حلب وأقام بالتكية المذكورة مبجلا معظما مقصودا ، ثم نازعه فيها بعض الخلوتية فلم تتم له وبقيت على صاحب الترجمة ، ودرّس بالمقدمية التي بحلب.

ثم بعد مدة مل الإقامة بحلب فقصد الحج بنية المجاورة وأقام ابنه محمدا مقامه في المشيخة ،

٣٧٦

ودخل دمشق صحبة الحاج وأقام بمكة مجاورا ، وأقبلت عليه أهالي مكة المشرفة على عادتهم ، وقرأ عليه بعض أفاضلها ، ولقي حظا عظيما من شريفها المرحوم الشريف أحمد بن زيد لما كان بينهما من المودة والصحبة بالروم أيام كان وكنت ، حتى مدحه وأخاه الشريف سعد بقصيدة غراء مطلعها :

خليليّ إيه من حديث صبا نجد

وإن حركت داء قديما من الوجد

فآها على ذاك النسيم تأسفا

وآه على آه تروّح أو تجدي

عليلة أنفاس تصح نفوسنا

معطرة الأردان بالشيح والرند

وهيهات نجد والعذيب ودونه

مهامه تغوي الكدر فيها عن الورد

ومن كل شماخ الأهاضب خالط السحاب

يروم الشمس بالصد والرد

وتسرى الصبا منه فتمسي وبيننا

من البون ما بين السماوة والسند

سقى الله من نجد هضابا رياضها

تنفس عن أذكى من العنبر الوردي

وحيا الحيا حبا نعمنا بظله

بنعمان ما بين الشبيبة والرفد

تغازل غزلانا كوانس في الحشى

أوانس في ألحاظها مقنص الأسد

تحاكي الجواري الكنّس الزهر بهجة

وتفضلها في رفعة الشان والسعد

حجازية الألفاظ عذرية الهوى

عراقية الألحاظ وردية الخد

بعيدة مهوى القرط معسولة اللمى

مرهّفة الأجفان عسّالة القد

تميس وقد أرخت ذوائب فرعها

فتخطر بين البان والعلم والفرد

وتعطو بجيد عطّل الحلي حسنه

كأن ظبية تعطو إلى ريّق المرد

وكم ليلة باتت يداها حمائلي

وباتت يدي من جيدها مطرح العقد

ندير سلافا من حباب حبابها

على حين ترشاف ألذ من الشهد

ولما تمطى الصبح يطلب علمنا

تكنفنا ليل من الشعر الجعد

عفيفين عما لا يليق تكرما

على ما بنا من شدة الشوق والوجد

وقد كاد يسعى الدهر في شت شملنا

ولكن توارى شفعنا عنه بالفرد

انظر إلى هذا المعنى تجده في غاية اللطافة وكأنه اختلسه من قول بلديه ومعاصره المولى مصطفى البابي من قصيدة وهي :

٣٧٧

وما سها الدهر عن تفرقنا

بل ظننا لا لتئامنا واحدا

رجع :

فأصبحت أشكو بينها وفراقها

بشط النوى شكوى الأسير إلى القدّ

وإني قد استدركت درك مطالبي

وتبليغ آمالي وما ندّ عن حدّي

بطلعة نجلي دوحة المجد غارب

المعالي سنام الفخر بل غرة المجد

إمام المصلى والمحصب والصفا

وراثة جد عن نمّي إلى جد

أبي أحمد زيد الصناديد في الوغى

بني حسن الأسد الكواسرة الحد

بزاة العلا الغر الميامنة الألى

سما قدرهم يوم التفاخر عن ندّ

غيوث إذا أعطوا ليوث إذا سطوا

مناقبهم جلت عن الحد والعد

فما أفلت شمس لزيد وقد بدا

لنا من ضياها شمس أحمد والسعد

هما نيّرا أوج المعالي وشرّفا

بروج قصور الروم في طالع السعد

ومذ رحلا عن مكة غاب أنسها

فكانا كنصل السيف غاب عن الغمد

أضاءت لهم أرض الشآم وأصبحت

ضواحي نواحي الروم تنضح بالند

وقد طالما ذابت قديما تشوقا

إلى نيل تقبيل المواطىء بالخد

إلى أن تجلى الله جل جلاله

عليهن بالإنعام واليمن والرشد

فأصبحن يحكين الجنان تبرجا

ويرفلن من نور الخمائل في برد

جوادين في شوط المماجد جلّيا

وحازا رهان السبق في حنق الضد

براحتهم إن تنسب الجود في العطا

فتلك بحور تتقي الجزر بالمد

وإن أحيت السحب النبات بمائها

فكم أحيت الراحات أنفس مستجد

رياض لمرتاد حصون للائذ

رجوم لمستعد نجوم لسمتهد

شمائل تهزا بالشمائل لطفها

وعطف شمول الراح هزته تبدي

إذا ما دجا ليل الخطوب بمعضل

أماطا لثام الكشف عن ذاك بالجد

بهم شرفت أرض الحجاز وآمنت

ظباها وأمتها الوفود إلى الرفد

بنو هاشم إن كنت تعرف هاشما

وما هاشم إلا الأسنة والهندي

بهم فخرت عدنان والعرب كلها

ودانت لهم قحطان أهل القنا الصلد

فمن مجدهم يستقبس المجد كله

ومن جودهم أهل المكارم تستجدي

٣٧٨

هنيئا لنسل المصطفى الشرف الذي

تسامى فلا يحصى بعدّ ولا حد

بمدحتكم جاء الكتاب فما عسى

تقول الورى من بعد حم والحمد

وعذرا بني الزهراء إني ظامىء

إلى المدح والأيام تنسي عن الورد

يود لساني أن يترجم بعض ما

لكم في فؤاد الصب من صادق الود

وقد نضبت منه القريحة نضبة

على حذر من حاذر أحذر الربد

كنفثة مصدور ولمحة عاشق

تسارقه عين الرقيب على بعد

فإن أعطت الأيام بعض قيادها

رأيتم له من مدحكم أعظم الورد

وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وألف بقرية بكفالون ، وتوفي بمكة المشرفة ليلة الثلاثاء الخامس من شهر ربيع الثاني سنة ثمان وتسعين وألف ، وصلى عليه إماما بالناس ضحى يومها بالمسجد الحرام شيخنا العالم العامل الشيخ أحمد النخلي الشافعي فسح الله في أجله في مشهد حافل حضره شريف مكة الشريف أحمد بن زيد وقاضيها وغالب أعيانها ، ودفن بالمعلاة بالقرب من مزار أم المؤمنين السيدة خديجة رضي‌الله‌عنها. وكان في بلاده أخبره بعض الأولياء أنه يقيم بمكة المكرمة مدة طويلة جدا ، فكان في كلام ذلك الولي إشارة إلى أنه يموت بمكة ، فإنه لم تطل مدة إقامته ، فكانت إقامته بها ميتا رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٠٦ ـ صالح بن قمر المتوفى أواخر هذا القرن

ترجمه العلامة المحبي في «نفحة الريحانة» فقال (١) :

هلال نجابته يعد بأقمار ، وفيه وفي نباهته أحاديث وأسمار ، كتب وقيد بخطه الكثير ، ونظم ونثر فجاء بالدر النظيم واللؤلؤ النثير ، وقد أوردت له ما تستبدعه وتحفظه في خزانة النفس وتستودعه ، فمنه قوله :

يا مقلة الحب مهلا

فقد أخذت بثارك

وأنت يا وجنتيه

لا تحرقيني بنارك

__________________

(١) منه نسخة خطية في خزانة الشيخ تاج الدين الحسني الجزايري الدمشقي نجل الاستاذ المحدث الكبير الشيخ بدر الدين الحسني حفظهما الله تعالى وعنه نقلت هذه التراجم في رحلتي إلى الشام سنة ١٣٤٠.

٣٧٩

فقد كفاني لهيب

أصابني من شرارك

هيهات أنجو سليما

من بعد خط عذارك

وذلك الخال غال

لوقعه في نضارك

وثغرك العذب فيه

لنا غنى عن عقارك

وقدك الغصن لكن

لا يجتنى من ثمارك

أنت الذي ما رأينا

في حسنه من مشارك

فارفق بصب عليل

أفناه بعد مزارك

إلى متى تتركنّي

أرعى نجوم انتظارك

وكم على ليل ضعفي

تسطو بجور نهارك

إن كان يرضيك قتلي

عمدا بحسن اختيارك

فذاك صب عميد

في ساحة الذل بارك

ولم يزل في التصابي

بالصبر فيك يعارك

عسى يلوح صباح الرضا له من ديارك

وتشمل الصب قربا

من بعد طول ازورارك

فجد وسامح وواصل

واعطف وعجل ودارك

١٠٠٧ ـ مصطفى بن محمد الحلفاوي المتوفى أواخر هذا القرن

ذكره المحبي في «نفحة الريحانة» فقال :

مصطفى بن محمد بن نجم الدين الحلفاوي ، خطيب وابن خطيب ، وعبير مستفاد من مسك وطيب ، تناول المجد كابرا عن كابر ، فاستفاده ما بين أسرة ومنابر. وهو من قوم رقوا أعلى الدرج ، وأمن مادحهم من الاعتراض والحرج ، لأياديهم فتحت بالثناء أفواه الأعلام ، ولأقدامهم طأطأت رؤس المنابر والأقلام. لم تزل النجابة فيهم نسقا على نسق ، وإذا لاحت وجوههم أضاءت بالليل وما وسق. وأنا إذا أمسكت عن ذكرهم لسانا رطيبا ، فقد قام اشتهارهم عني في الآفاق خطيبا ، وقد نبغ منهم هذا الندب كما شاءت العلا ، فجاء متحليا من الفضائل الغر بأفخر الحلى ، وقد عرف فيه الرشد ، من حين وضع في اللفافة وشد. إلا أنه اخترمه الأجل وغصنه بانع ، وليس له عن التوسع في المآثر مانع. وقد أنشدني

٣٨٠