إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

بعض الأدباء له بيتين ، جئت بهما في هذا المحل مثبتين ، وهما قوله :

قالوا سلا قلبه عن حبهم وغدا

مفرّغ الفكر منهم خالي البال

قلت اثبتوا أن لي قلبا أعيش به

ثم اثبتوا أنه عن حبهم سال

وهذا معنى حسن. وقلت فيه من قطعة :

وظننت قلبي ساليا

أتركت لي قلبا فيسلو

وقلت أيضا :

قالوا تسلى وقد جفاني

ونام عن صبوتي وحبي

صدقت بالقلب كنت أهوى

ما حيلتي إذ أخذت قلبي

والأصل فيه قول بشار :

عذيري من العذال إذ يعذلونني

سفاها وما في العاذلين لبيب

يقولون لو عزّيت قلبك لارعوى

فقلت وهل للعاشقين قلوب

ومثله لابن الوضاح المرسي :

يقولون سلّ القلب بعد فراقهم

فقلت وهل قلب فيسلو عن الحبّ

وللعرجي ما هو منه ولا يبعد عنه :

وزعمت أن الدهر يقنعني

صبرا عليك وأين لي صبر

وللبهاء زهبر :

جعل الرقاد لكي يواصل موعدا

من أين لي في حبه أن أرقدا

وللبوريني :

يقولون في الصبح الدعاء مؤثّر

فقلت نعم لو كان ليلي له صبح

وللشهاب الخفاجي :

يقولون لي لم تبق للصلح موضعا

وقد هجروا من غير ذنب فمن يلحى

٣٨١

صدقتم وأنتم للفؤاد سلبتم

ومالي قلب غيره يطلب الصلحا

١٠٠٨ ـ السيد حسين النبهاني المتوفى أواخر هذا القرن

قال المحبي في «النفحة» :

السيد حسين النبهاني أديب بشرطه الموجب لخموله وحطه ، فما نقص من حظه زيد في خطه ، سروجي المذهب ، ذاهب في التلون كل مذهب ، لا يهبط بلدا إلا أبدى أعجوبة محجوبة ، وبنى دسته على حيلة منصوبة. (ثم يفارقه مفارقة لبد ، ويقول : لا أقسم بهذا البلد) *. وقد رأيته بالروم وجهه أغبر ، وهمه من وعائه أكبر ، يظهر كل يوم في نمط ، وحيثما سقط لقط ، وعاشر ممن أعرف فرقة رفقة ، أداه خلل حاله معهم إلى فرقة وحرقة ، وتلاعبت به الظنون في ذلك الفريق ، تلاعب موج البحر المهتاج بالغريق ، وبقي أنقى من الراحة ، شاكيا بلسان كمده مغداه ومراحه ، وفارقته وهو منغمس في تلك الأوحال ، وتبريحه ما برح وحاله ما حال. ثم بلغني أنه انتعش فكانت نعشته النعشة الأخيرة ، وأدركه أجله الذي نفى الحكيم تقديمه وتأخيره. وهو بارع في النظام والنثار ، إلا أنه يرمى في شعره بالإكثار ، ولكون التكثير مملول الطباع ، لم أذكر منه إلا نزرا سهل الانطباع ، فمنه قوله من قصيدة في المدح :

العلم والحلم والمعروف والجود

وكل وصف حميد فيك موجود

حويت ذلك إرثا عن أب فأب

كأنكم في رياض المجد عنقود

يا من بسودده أعداؤه شهدت

وكيف لا وهو مشهور ومشهود

ففي العطا تغرق الدنيا بأجمعها

وفي السطا تتوقاك الصناديد

حاشاك تحرم عبدا مات من ظمأ

ومنهل الجود من كفيك مورود

لا سيما أن لي حق الجوار ولي

في كل آن بمدحي فيك تغريد

وما تقادم عهدي في الدعاء لكم

إلا ويعقبه في الحال تجريد

ولم يجاور كريما قط ذو أمل

إلا غدا وهو من نعماه محسود

لكن حالي لم يعلم به أحد

إذ لا يحيط به رسم وتحديد

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

٣٨٢

وأنشدني نادرة الوقت المولى العارف للنبهاني يمدحه :

أنا في التباعد والدنوّ

أرجو لمولانا العلوّ

أبدا تراني رافعا

كفّي إلى رب عفوّ

أدعوه في سهر وجهر أن يديمك في السموّ

فيما يسر به الصديق

وما يساء به العدوّ

يا عارفا هو للمعا

رف بالعشيّ وبالغدوّ

بل للفضائل والفواضل والفتوة والمروّ

من دأبه بث المكارم

والحفيظة والحنوّ

من سيفه ثكل العداة

وسيبه حور وحوّ

وبذكره طاب المديح

أما تراه في زهوّ

مولاي يا من فضله

ما إن رأيت له كفوّ

هذي العجالة قد أتت

ك تعوذ من طرف السلوّ

وتميس في حلل الفصاحة بالملاحة والدنوّ

نطقت بما يحوي الحشا

لا بالتقوّل والغلوّ

وهي التي لو رامها

قسّ رمته بالنبوّ

اسلم ودم تسمو على

شم الذرى أسمى السموّ

ا ه.

١٠٠٩ ـ مصطفى بن حسن الزيباري المتوفى بعد ١٠٩٤

قال المحبي في «نفحة الريحانة» :

هو في هذه الحلبة ، كالعقد النفيس في اللبة ، وله جامعية فنون تربو على الحصر ، وفضائل لا يستطيع حجودها نبهاء العصر ، لكنه أتى الدهر وقد هرم ، (فلم يتروّ زهير روضه بمثل ندى هرم ، فهو يشتكي زمنا بعيد الإحسان ، لا تستجلبه ولا دعوة الغيد الحسان) * ، فهو ينظم الشعر على فاقة ، ماله منها إفاقة ، بحد أمضى من النصل ، وهزل

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «الريحانة».

٣٨٣

أحلى من الوصل. وقد ذكرت له ما يستلذ وصفه الوصاف ، والقول فيه أنه في غاية في باب من الإنصاف ، فمنه قوله من قصيدة يمدح بها البهائي :

هي الشمس إن حيا بها الأوطف البدر

فخذها هنيا لا ملام ولا وزر

دهاقا دهاقا غير عار فإنها

إذا صافحت ذا عسرة حلها اليسر

ولا تخش إملاقا فإن حبابها

فرايد ياقوت وذائبها تبر

ولا تعتبر قول المعيبين صحبها

فأترابها زهر وأكوابها زهر

وقل لمدير الراح سرا وجهرة

ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر

ومكحولة الألحاظ معسولة اللمى

تخال به قطر النبات ولا قطر

لها لحظات تسلب اللب والحجى

وما فارقت جفنا وهذا هو السحر

وجيد مهاة بل غزال كأنه

عمود لجين فوقه بزغ البدر

وليل كبحر خضت أمواج جنحه

على سابح عن سيره قصر النسر

أكفكف أذيال البوادي تعسفا

ولا يرعوي إن راعه الضرب والزجر

كأن أبا الفضل البهائي محمدا

لنا حيث سرنا من صباحته فجر

وقوله من أخرى مستهلها :

أأيتهنّ إذ تبدو نوار

صدوف أم كنود أم نوار

بعيشك هل سمعت فما سمعنا

بآرام وليس لها نفار

برزن من الخدور محجبات

ومحمود من البدر السرار

طلعن عليك ثم خنسن عجبا

كذلك تفعل الغر الجوار

حذار لواحظا منهن دعجا

فمقتول الهوى منها جبار

وبي منهن أملود رداح

نأت عني وقد شط المزار

لقد عذرت أخيّ وغادرتني

وحيدا لا أزور ولا أزار

وأنشدني له السيد عبد الله الحجازي يهجو قرية أوّارين :

ولو أن لي في كل وقت وساعة

بقرية أوّارين ما أتمناه

لقلت خليليّ ارحلا بي عن التي

تكثّر أوصابي فلا بارك الله

ورأيت له في بعض المجاميع قصيدة أرسلها إلى الشيخ عبد الله أفندي الحجازي وهي منقولة من خطه وهي :

٣٨٤

هو الدهر لا بغض لديه ولا حبّ

ولا هو خب يتقى لا ولا حبّ

ومنحته إن لوحظت فهي محنة

ونعماؤه بؤس وخلّته خلب

لياليه في عقد العقول نوافث

ومن طبّ من أيامه ماله طب

ورب فتاة ظلت أرعى ودادها

وما سرني منها وصال ولا قرب

رأتني في طمرين فقر وفاقة

فقالت معاذ الله هذا الفتى عجب

أتعجب جمل من خمولي فطالما

جلوت محياها الجميل ولا سبّ

وتنكرني ذات الوشاحين بعدما

رعيت الردى في الحالتين ولا عجب

ولم تدر أني للحوادث صيقل

خبير وفي طمريّ صمصامة عضب

ولي مقول من دونه قس وائل

ونيران عزم لا تبوخ فلا تخبو

وصارم صبر صارم كل صابر

وكهف إذا يممته سهل الصعب

ملاذ الكرام الغر في كل معضل

وغوث اليتامى حيث لا مرضع تحبو

خلاصة آل البان ذو المجد من له

مآثر لا يأتي بها الزمن الخصب

عليه مدار المكرمات لأنه

على كل حال في سماء النهى قطب

حللت حبى آمال نفسي ببابه

وقلت لها طوبى فهذا هو الطب

وكنت أمنّي النفس قبل قدومه

أمانيّ ما خابت وما كذب اللب

ألا مبلغ ذات الوشاحين أنني

ظفرت بآمالي وقد يئس الخبّ

فلله در النفس قد كان رأيها

حميدا ولا بدع إذا جمد الغب

فيمم جرازا إن عرتك ملمة

وحسبك عضب لا يفل ولا ينبو

وفضفاضة قد أتقن الله نسجها

بها تتقى البأساء والزمن الجدب

ليهن بني الشهباء حسن مشيد

جواد حصان لا يرام ولا يكبو

لقد كان ورد العيش قبل وروده

أجاجا وأين الملح والسائغ العذب

أمولاي عبد الله من ليّ ذمة

بتسميتي منه لقد ملني الصحب

وأصبحت عن ذات الوشاحين نازحا

وأحير من ضب وهيهات ما الضب

أروم من الأيام نجحا وناصرا

ومن لي به إن لم تكن أيها الندب

فكن مسعدي بل مسعفي في حوادث

بها حطت الأنصار وارتفع الكرب

وقل نحن قوم جارنا ونزيلنا

مصانان عن خطب وهيهات ما الخطب

ودعني وتردادي لساحة ما جن

أخي طيلسان في حمائله كلب

٣٨٥

وإني وإن كنت المسيء جهالة

فصدق ولائي لا يعادله ذنب

وأنت خبير أنني لك مخلص

ويشهد بالإخلاص مولاي والقلب

أما بيننا عهد قديم وخلة

أما بيننا إيجاب حب ولا سلب

ألسنا رضيعي ثدي بكر مودة

بتحريمه قالوا وما شابه ضرب

وحسبك حسادي الذين عهدتهم

قديما وحسبي منهم السب والعتب

وخذ بيدي رحما تكن أنت فرعه

فإنك لي مولى وذلك لي رب

وحسب الفتى حمدا ومدحا حنوّه

على من له في ورد آبائه شرب

وقد كان سنة ١٠٩٤ حيا لأن ولده حسين الآتية ترجمته ولد في هذه السنة ، ويظهر أن وفاته بعد ذلك بقليل.

١٠١٠ ـ محمد بن الشاه بندر المتوفى أواخر هذا القرن ظنا

محمد بن الشاه بندر هو من حين تحيز ، في نعمة بأدوائها تميز ، تغاديه النشوة وتراوحه ، وتناوحه أنفاس القصب وتفاوحه ، فنبغ ونجب ، وقضى من حق التحصيل ما وجب ، وفتق ثناء كالمسك صدرا ووردا * ، وتخلق بخلق كالماء الزلال عذبا باردا ، فوجه أدبه شادخة غرره ، وسلك نظمه متسقة درره. وهذه قطعة من شعره تعلم منها أنه أوتي الإصابة ، واستحق أن ينوه به بين هذه العصابة ، وهي قوله :

ذر الصد إني لست أقوى على الصد

وعد للذي عودتني منك من ود

فطامي عن ثدي الولا متمنع

وطفل نزوعي لا يعلل بالمهد

حنانيك ما هذا التجنى فإنني

لفي نكر من مزج هزلك بالجد

لئن بك شط الوهم عني لهفوة

فعدّ وعد وابشر فغفرانها عندي

وحقك لم أحسبك قط مفارقي

ولم يك ظني فيك خلفك للوعد

فكيف تنائي ويح غيرك هاشما

حباك بمحض الود بالقرب والبعد

فوالهفي لو كان يغني تلهفي

ووا أسفي إذ صرت أبطأ من فند

فما هكذا عهدي بفقدك ألفتي

أأحدثت أمرا لم يكن منك في عقد

__________________

(*) لعل الصواب : صادرا وواردا.

٣٨٦

لقد كنت لي حسب اقتراحي ومنيتي

مقدّى إذا أشكو وأنت الذي أفدي

مجيبا بمطلوب ملب بدعوة

مراع بمرغوب سريعا إلى رقدي

فماذا عسى أنكرت مني وما الذي

أباحك تعذيبي وقتلي على عمد

أراك وقد خلفتني ذا لواعج

من البين في قلب أشد من الصلد

لمن صرت لا زلت بك النعل غاديا

حليفا وذا أهل وقد كنت لي وحدي

فيا ناسيا للود إني ذاكر

ويا ناقض الميثاق إني على العهد

أبى الله أن أرعى ذمامك جاهدا

وتبخسني حقي وتكثر في جهدي

فلا كان لي قلب لغيرك جانح

ولا صحبتني مقلة فيك لا تندي

فقدتك إبراهيم فقدان آدم

على دعة من أمره جنة الخلد

أعلل قلبا لا يحيل تعلة

به عنك ذا توق جزيل وذا وقد

وأنشد بيتا سالفا حسب لوعتي

إذا هاج تهيامي وقد فاتني قصدي

لعل الذي أبلى بهجرك يا فتى

يردك لي يوما على أحسن العهد

أقلب طرفي لا أراك فينثني

بوابل دمع كالجمان على خدي

وددتك تدري ما الذي بي من الجوى

عسى كنت ترثي لي من الهم والوجد

أما تذكرت * ما دار بالوصل بيننا

أباريق لذات ألذ من الشهد

لأية حال قد تناسيت خلتي

وكيف استجزت الهجر والنكث للعهد

سلامي على اللذات بعدك والهوى

وحلو التصابي والتشوق للمرد

فيا ليت شعري من تبدلت بي ومن

غدا حاسدي في القرب بالبين مسعدي

فما أم خشف راعها حبل صائد

فأذهلها عنه وغابت عن الرشد

تحن فتستهدي الأسود لغابها

فلا أثرا تلقى ولا هاديا يهدي

بأفجع مني حين فارقته ضحى

حليف أوار لا أعيد ولا أبدي

لئن كنت أخلفت العهود وخنت

بالمواثيق عن جهل وملت عن الرشد

فحبك في قلبي وذكرك في فمي

وأنت بعيني ما حييت إلى اللحد

قوله : (أبطأ من فند) مثل ، وفند هذا مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، وكان أحد المغنين المحسنين ، وكان يجمع بين الرجال والنساء ، وله يقول ابن قيس الرقيات :

__________________

(*) لعل الصواب : أما تذكرن.

٣٨٧

قل لفند يشيّع الأظعانا

طالما سرّ عيشنا وكفانا

وكانت عائشة أرسلته يأتيها بنار ، فوجد قوما يخرجون إلى مصر ، فخرج معهم فأقام سنة ، ثم قدم فأخذ نارا وجاء يعدو ، فعثر فتبدد الجمر فقال : تعست العجلة.

وفيه يقول الشاعر :

ما رأينا لغراب مثلا

إذ بعثناه يجي بالمشمله

غير فند أرسلوه قابسا

فثوى حولا وسبّ العجله

المشملة : كساء يجمع المقدحة وآلاتها. وقال بعضهم : المشملة بفتح الميم وهي مهب الشمال ، يعني الجانب الذي بعث نوح عليه‌السلام إليه الغراب ليأتيه بخبر الأرض أجفت أم لا ، فاشتغل بجيفة رآها في طريقه ، وفيه يقال : (أبطأ من غراب) ا ه.

٣٨٨

أعيان القرن الثاني عشر

١٠١١ ـ محمد بن محمد الحنفي المتوفى سنة ١١٠٤ (١)

محمد بن محمد الحنفي الحلبي نزيل قسطنطينية وأحد الموالي الرومية ، المولى العالم العلامة الفقيه.

كان غواص بحر العلوم معلما نافعا عالما بأكثر الفنون ، صاحب نكت ونوادر ، ظريفا أنيسا وقورا ، له عظمة وفضيلة.

ولد بحلب وبها نشأ وقرأ على علمائها وحصل مقدمات العلوم ، وبعده ارتحل إلى مصر ولازم في الجامع الأزهر الشيوخ ، واكتسب الفضائل حتى صار له مزيد الرسوخ ، وألف رسالة ورفعها إلى شيخ الإسلام المولى البهائي وبسببها دخل في سلك المدرسين وطريقهم. وبعد أن عزل عن مدرسة بأربعين عثمانيا أظهر مؤلفا له على شرح الملتقى في الفقه وصار عنوانا له بين الكبار والصغار. ثم تنقل بالمدارس كعادتهم وأعطي قضاء أدرنه برتبة قضاء

__________________

(١) اعلم أن ما نذكره في هذا القرن بدون عزو هو مأخوذ عن تاريخ «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» للشيخ محمد خليل المرادي الدمشقي ، وما كان من غيره فإنا نعزوه لموضعه. وإليك المآخذ التي أخذ عنها العلامة المرادي وقد ذكرها في خطبة تاريخه حيث قال :

اجتمع عندي جملة من الرحلات والأثبات والتراجم ، فكان عندي رحلة الوجيه عبد الرحمن بن محمد الذهبي ، ورحلة مؤرخ مكة الشيخ مصطفى بن فتح الله الحموي ، والنفحة للأمين المحبي ، وذيلها للشمس محمد المحمودي ، وثبت العلامة محمد بن عبد الرحمن الغزي العامري المسمى «لطائف المنة» ، وتذكرته الأدبية ، ورحلة الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي الكبرى والصغرى الحجازية والقدسية وغير ذلك من المشيخات والمعاجم. ا ه. أقول : ومما اجتمع عنده تاريخ أبي المواهب بن ميرو الحلبي ، انظر المقدمة في الكلام عليه.

٣٨٩

مكة ، وآخرا ظهرت الشكايات عليه ورفعت مناصب الأربلق التي كانت عليه ووجهت إلى حكيم باشا زاده المولى يحيى الحلبي وبقي المترجم صفر اليدين وحك اسمه من الطريق. وصار قاضيا بقسطنطينية بهمة الصدر الأعظم مصطفى باشا ، وعزل عنها وتولى غيرها. وله تآليف غريبة.

وكانت وفاته في محرم سنة أربع ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠١٢ ـ الشيخ قاسم الخاني المتوفى سنة ١١٠٩

قاسم بن صلاح الدين الخاني الحلبي ، الشيخ الفاضل الصوفي العارف بالله. ترجم نفسه فقال :

ولدت سنة ثمان وعشرين وألف ، ثم إني سافرت إلى بغداد في شهر جمادى الأولى سنة خمسين وألف ، فكانت غيبة طويلة مقدار سنتين ، ثم رجعت إلى حلب وأقمت بها شهرين ، ثم توجهت إلى البصرة فأقمت بها مدة عشرة أشهر ، ثم إني توجهت إلى حلب وأقمت بها عشرة أيام ، وتوجهت مع الحاج إلى مكة المشرفة ورجعت إلى الحجاز إلى إسلامبول وأقمت بها سنة وسبعة أشهر ، ثم عدت إلى حلب. وكانت سياحتي هذه قريبا من عشر سنين. وأما في هذه المدة فكنت في أخذ وعطاء وبيع وشراء ، ثم إني بعد دخولي إلى حلب أحببت العزلة عن الناس وتركت البيع والشراء وسلكت طريق الذل والافتقار وغيرت الحلاس والجلاس والأنفاس ، وجاهدت نفسي وعاديتها بالجوع والسهر نحوا من سبع سنين ، فمنها نحوا من سنتين اقتصرت على أن أتناول في كل ستين ساعة كفا من طحين أجعله حريرة وأحليه بلعقة من العسل وأفرغه في حلقي. والكف من الطحين المذكور وزنه تقريبا خمسة عشر درهما ، وباقي أيام السبع سنين كان أكلي أقل من القليل ، وكل ذلك بإشارة مشايخي رضوان الله عليهم أجمعين ، فصدق عليّ قول سيدي عمر بن الفارض قدس‌سره :

ونفسي كانت قبل لوامة متى

أطعها عصت أو تعص كانت مطيعتي

فاوردتها ما الموت أيسر بعضه

وأتعبتها كيما تكون مريحتي

فعادت ومهما حمّلته تحمّلته

منى وإن خففت عنها تأذت

٣٩٠

فلما انقضت سنو المجاهدة القريبة من سبع سنين واستهلينا شهر شوال سنة ست وستين وألف ألقى الله تعالى في قلبي حب طلب العلم الظاهر ، فقرأت على المشايخ سنتين إلا شهرا ، وفتح الله تعالى عليّ من العلم ما فتح ، فتركت القراءة وشرعت في الإقراء فأقرأت بعض الطلبة ، وكان أكثر الطلبة يضحكون ويستهزئون علي (ويقولون : نحن لنا عشر سنين نخدم العلم ، ولم نتجرأ فيأتي بعضهم إلى مجلس درسي مستهزئا) * ، فو الله ما يقوم من ذلك المجلس إلا وقد تبدل إنكاره بالاعتقاد ، وفي ثاني ذلك اليوم يأتي ويقرأ عليّ ويقول : هذا الأمر من خوارق العادة. وبقيت على ذلك سنة. انتهى.

وكانت قراءته على جملة من العلماء الأفاضل وجلها على الشيخ أبي الوفا العرضي صاحب طريق الهدى. وكان سلوكه على الشيخ أحمد الحمصي ، فأقام المترجم خليفة بعده في المدرسة الشرفية إلى أن توجه عليه تدريس مدرسة الحلوية ، وصار يدرس بها ويقيم الأذكار والأوراد. وتوجه عليه الإفتاء بحلب ، وكان يفتي على مذهب الإمامين أبي حنيفة والشافعي.

وله من التآليف «السير والسلوك إلى ملك الملوك» (١) ، واختصر السراجية وشرحه ، وله رسالة في المنطق (٢) ، وشرح على الجزائرية في التوحيد (٣) ، وله غير ذلك من التآليف والفوائد.

وكانت وفاته سنة تسع ومائة وألف ، ودفن بين قبور الصالحين خارج باب المقام بحلب رحمه‌الله تعالى.

١٠١٣ ـ محمد النوري البغدادي المتوفى أول هذا القرن

محمد النوري البغدادي ، الورع الزاهد المسلّك العارف.

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «سلك الدرر».

(١) عندي منه نسخة وفي المدرسة الحلوية والمولوية ، ومنه عدة نسخ في مكاتب حلب وغيرها.

(٢) عندي منها نسخة ، وشرحها الشيخ أحمد الترمانيني شرحا سماه «الكوكب المشرق في شرح رسالة المنطق» منه عدة نسخ في مكاتب حلب ، والمتن والشرح مفيدان في بابهما

(٣) منه نسخة في المكتبة الصديقية بحلب في سبعة كراريس والمنظومة ٣٥٣ بيتا.

٣٩١

قدم إلى حلب قبل المائة فنزل في خارجها بمسجد محلة آغاجق مختفيا متسترا بالخمول مدة سنين لم يدخل البلدة ، إلى أن دخلها لرؤيا رآها ، وهي أن يدخلها وينزل بمسجد الأربعين ويتصدر للتسليك ، فلما وصل إلى المحل رأى أمارات رآها في رؤياه ، فقصد المسجد المذكور ونزله ونشر طريقته العلية النورية ، فإنه أول من دخل بها لهذه البلدة ، وجلس للتسليك وقراءة الأوراد وانتفع به خلائق لا يحصون ، من أجلّهم خليفته العارف محمود الدوركي.

وكانت وفاة صاحب الترجمة أوائل هذا القرن. وبالجملة فقد كان صاحب الترجمة أحد أفراد الدهر حالا وقالا ، نفعنا الله تعالى به آمين.

وهذه الطريقة العلية من أحد شعب طريق السادة النقشبندية منسوبة إلى العارف القطب أمير سلطان السيد محمد نور بخشي البخاري نفعنا الله تعالى به. ومشايخ هذه الطريقة العلية أصحاب السجادة في مدينة خلاط ، وإذا توفي خليفتهم بمكان خلّف خليفة ، وعلى الخليفة التوجه لخلاط للأستاذ وتجديد العهد على الأستاذ صاحب السجادة والحضور معهم في الأوراد والأذكار إلى أن يأذن له الأستاذ بالعود إلى محله فيعود ، وبعض الخلفاء يأتيه الإذن بالإقامة ويرسل له الإذن بقراءة الأوراد مع الأخوان وافتتاح الذكر وختمه وهو النادر ، وقد حصل ذلك في أيامنا للعارف محمد صالح أفندي كما ذكر في ترجمته.

وهذا المسجد معروف بمسجد الأربعين قبل نسبته للباب ، فإنه باب أربعين كان بابا للبلدة ، وسمي أربعين كما قال ابن شداد أنه خرج منه أربعون ألفا للجهاد فلم يعد منهم أحد. وقيل إنما سمي الباب باسم المسجد كان فيه أربعون من العباد يعبدون الله تعالى.

قال الحافظ أبوذر في تاريخه : كان في هذا المسجد أربعون محدثا يكتبون الأجزاء والطباق ويرحلون إلى الآفاق ويعودون بالأسانيد العوال وقد طوي هذا البساط. ا ه.

وأخبرت أنه دفن في تربة الجبيلة وقبره بالقرب من الجادة في داخل التربة.

وبعد وفاة المترجم ولي مشيخة التكية خليفته محمود الدوركي ، وتوفي سنة ١١٠٩ ودفن في تربة الجبيلة أيضا في الجبانة الصغيرة في أولها وقبره لازال موجودا.

وولي المشيخة بعده الشيخ أحمد ، وقد ترجمه المرادي فقال : أحمد الحلبي الشيخ البركة

٣٩٢

المعمر الكامل شيخ السجادة بمقام القلاقلار بحلب ، تصدر للمشيخة سنة تسع ومائة وألف ، وتوفي سنة إحدى وثلاثين وماية وألف. ا ه. والقرقلار كلمة تركية ومعناها الأربعون.

١٠١٤ ـ عطاء الله العاني المتوفى سنة ١١١٠

عطاء الله العاني ثم الحلبي أمين الفتوى بحلب ، الأديب اللوذعي.

ترجمه الأمين المحبي في ذيل نفحته وقال في وصفه : خلاصة أهل العصر ، المجتمع فيه فضائلهم بجميع أدوات الحصر ، فهو من جوهر الفضل منتقى ، وقد رقي في درج العلا حتى لم يجد مرتقى ، فالكون به متألق ، والأمل بأدبه متعلق ، وله قدم في الأدب عالية ، والمسامع بآثاره البهية حالية ، تسهل له من البراعة ما تصعب فملكه ، وتوضح له من مشكلاتها ما تشعب حتى سلكه. وقد صحبته في الروم وطريقها في الرجعة ، فحمدت الله حيث سهل لي أمر هذه النجعة ، فاجتنيت من مفاكهته روضا أنفا ، وعلقت في جيد أدبي وأذنه قلائد وشنفا. وأنا وإن كنت لم أتعرض في الأصل لذكره ، فإني لم أكتب عنه شيئا من تحائف شعره. وقد ورد عليّ الآن له روائع بدائع ، فكأنها من جملة ما كان في ذمة الدهر من ودائع ، فدونك منها جملة الإحسان ، وكأنما دعا الحسن فلباه الاستحسان. انتهى مقاله فيه.

وقوله : لم أتعرض في الأصل إلى آخره مراده أنه لم يذكره في النفحة من جملة الأدباء الحلبيين الذين ترجمهم في باب مخصوص في نفحته.

ومن شعره قوله :

فؤاد به نار الغضا تتوقد

وطرف يراعي الفرقدين مسهّد

ودر دموع في الخدود منظّم

له اللؤلؤ المنظوم عقد مبدّد

ووجد بسحّار اللواحظ أغيد

يقيم عذولي بالغرام ويقعد

من الروم رام من كنانة جفنه

سهاما فيا لله سهم مسدّد

يميس به غصن من القد أصله

يكاد بأنفاس الصبا يتأوّد

٣٩٣

عليه قلوب العاشقين تبلبلا *

فتصدح أحيانا وحينا تغرّد

وله معارضا قصيدة جعفر ابن الجرموزي التي مطلعها :

ما غرد بلبل وغنّى

إلا أضلني وعنّى

بقوله :

عاوده وجده وحنّا

وشفه داؤه فأنّا

وأبرز الدمع بين صب

من قبل أن كان مستكنّا

فعاد ظن الهوى يقينا

فيه وكان اليقين ظنّا

ويلاه من عاذل غبي

قد لج في عذله وجنّا

يسومني سلوة وأنّى

يسلو عن العشق من تعنّى

وبي مليح لو لاح ليلا

لبدره التم لا ستكنّا

غصن يعير الغصون لينا

بدر يعير البدور حسنا

إذا تجلى رأيت شمسا

وإن تثنى رأيت غصنا

في كل عضو ترى عيونا

عواشقا روضه الأغنّا

وقد ألم بقول قابوس :

خطرات ذكرك تسثير مودتي

وأحسّ منها في القلوب دبيبا

لا عضو لي إلا وفيه صبابة

فكأن أعضائي خلقن قلوبا

عودا :

رشيق قد ثقيل ردف

يموج حقف إذا تثنّى

ولي غرام به قديم

تفنى الليالي وليس يفنى

ولست وحدي به معنّى

كل البرايا به معنّى

وله أيضا :

بمواقع السحر التي

من ناظريك ضمينها

__________________

(*) لعل الصواب : تبلبلت.

٣٩٤

وفواتك الحسن التي

في وجنتيك كمينها

وعوامل القد التي

قلبي لديك طعينها

إلا رثيت لمغرم

دامي الجفون سخينها

وله :

لو أن أنفاسي من حرها

مما بقلبي من هوى ألعس

قد خالطت لطف نسيم الصبا

ما شمته بردا على الأنفس

وهذا ما وصلني من خبره. ولم أتحقق وفاته في أي سنة كانت ، غير أنه من أهل هذه المائة رحمه‌الله تعالى.

وللشيخ عطاء الله العاني يخاطب بها المرحوم الشيخ قاسم الخاني رحمه‌الله ورضي عنه :

يا سيدا فاق قسا في فصاحته

وحاتم من ندى كفيه يحتجب

ومن هو البحر في علم وفي أدب

ومن هو الغيث جودا حين ينسكب

أين لفكري ما أعيا عليه فلا

زالت لعلياك كل الناس تنتسب

في حر ماء رمي قلبي بجمرته

حتى غدوت بحر النار اضطرب

ما السر فيه ضد قد اجتمعا

مع ضده ولعمري إنه العجب *

إن قلت نار فإن الماء قد طفحا

أو قلت ماء فإن الماء ** تلتهب

لعل فكرك ذا الوقاد يوضح لي

فتنتفي عن سويدا مهجتي الريب

إليكها من بنات العرب معربة

عن صدق ود وإخلاص كما يجب

خود تزف إلى كفو وليس لها

كفو سواك فأنت القصد والأدب

ومهرها مثلها إن كنت تمنحني

فإنني من صدود منك مضطرب

مزيحة لنقاب في القلوب غدا

من التباعد حتما وهي تنتقب

لا زلت تعلو بني الدنيا حجا وندى

وترتقي رتبة من دونها الرتب

ما غردت في رياض الشوق صادحة

إلى ارتشاف ثغور زانها الشنب

فأجابه الشيخ قاسم الخاني ارتجالا بهذه الأبيات ولم يعهد منه شعر قط :

__________________

(*) هكذا في الأصل. ولعل الصواب : ما السر في أنه ضد ..

(**) لعل الصواب : النار.

٣٩٥

نار الصبابة في أحشاك تلتهب

ودمع عينك منها الماء ينسكب

كالغصن يبكي دموعا حين يلقى به

فيها كذا جسمك البالي فلا عجب

اصبر فإن الهوى ما حل في كبد

إلا وزال سوى المحبوب والكرب

طلبت مثلا لنظم لا مثيل له

فخامرت مهجتي من قولك الريب

ألم تكن عالما أن ليس لي أبدا

شعر فيردعك الإنصاف والأدب

من كان يقصد تخجيل العباد فلا

تربح تجارته بل فاته الشنب

إن كنت بين الورى في النظم مفتخرا

الشعر لا فخر فيه تركه يجب

إني وحقك مشتاق إليك فلا

تسمع مقالة واش بي فتضطرب

والعذر بالأمس إن يقبل ففيما مضى

أما من اليوم لا تقبل لكم كتب

أطلق يمينك من قيد السوى لترى

وجه المحب فهذا سيدي الأدب

ا ه.

١٠١٥ ـ خالد بن محمد بن عمر العرضي المتوفى بعد سنة ١١١٥ بقليل

خالد بن السيد محمد بن عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي المعروف كأسلافه بالعرضي ، الحنفي الحلبي الأديب الأريب اللوذعي الفائق الفاضل السميذع البارع.

هو من بيت بحلب خرج منه علماء وأفاضل اشتهرت فواضلهم وفضائلهم ، وكان جده الشيخ عمر علامة فهامة خصوصا بالفقه والحديث والأدب أوحد عصره ومصره ، وله من التآليف شرح على الشفاء في أربع مجلدات ضخام ، وشرح شرح الجامي ولم يكمل ، وشرح على العقائد ، وحاشية على تفسير المولى أبي السعود العمادي المفتي بالدولة العثمانية ، وغير ذلك من التآليف والرسائل والتحريرات والتعليقات ، واشتهاره يغني عن الإطالة بمدحه. وكانت وفاته في شعبان سنة أربع وعشرين وألف. وولده والد المترجم ترجمه الأمين المحبي الدمشقي في تاريخه ونفحته والشهاب أحمد الخفاجي المصري في ريحانته ، وكان فرد دهره أدبا وفضلا ، وتولى إفتاء الحنفية بحلب ، وكانت وفاته في صفر سنة إحدى وسبعين وألف ، وكان ولده المترجم صغيرا فنشأ يتيما وقرأ على علماء عصره ومهر ونظم

٣٩٦

ونثر وتخرج في الأدب وابتدر مشرقا بالكمالات مورقا غصن فضله ، وانتظمت عقود فضائله ، وبرع في العلوم. وسيادته من جهة والدة والده. وأقاربه كلهم شافعية أجلاء ، وكان هو حنفيا ووالده أيضا.

وترجمه السيد الأمين المحبي الدمشقي في ذيل نفحته وذكر له شيئا من شعره وقال في وصفه : مولى الفضل وسيده ، ومن انحشر إليه حسن القول وجيده ، فعجز عن شأوه وقصر ، وعميت عليه طرق الحيلة فلم يهتد ولم يبصر ، سكن في القلوب ولوعه ، من قبل أن تساكن القلب ضلوعه ، فكل قلب به كليم ، يتبع خضرا في الهوى بود سليم ، فما ترى له نظيرا ولا مثلا ، فإذا انتهجت في وصفه فانتهج طريقة مثلى ، فوصفه كله تلميح وتمليح ، والعد في المجيد مليح. وقد ذكرت من شعره النضر ، ما التقى في روضة ماء الحياة الخضر. انتهى مقاله فيه.

ومن شعره قوله يمدح بعض قضاة حلب الشهباء :

بالصدر حاوي القدر من قدره

قد جاوز العيّوق والنسرا

قد أشرقت أرجاء شهبائنا

وفاقت المدن به قدرا

فالعدل فيها باسم ثغره

عن كل إنصاف قد افترا

والشرع قد نار بأحكامه

تهللت أوجهه بشرا

مولى إذا قست به حاتما

ما قلت إلا كلما هجرا

أو بإياس رمت تشبيهه

أتيت بالمعضلة الكبرى

أو كشريح قلت في حكمه

كنت لعمري الجاهل الغرا

فكل ذي منقبة لو رأى

سؤدده دان له قسرا

فإنه بكر الليالي إذا

أتى بصنع تلقه بكرا

لو علمت شهباؤنا أنه

يسعى إليها لم تطق صبرا

وابتدرت تسعى لاعتابه

والتمست من فضله العذرا

وكتب إلى بعض أحبابه معاتبا ومضمنا البيت الأخير بقوله :

أيا من قد تحول عن ودادي

وعهدي لا يحول ولا يزول

فديتك من غضوب ليس يرضى

سوى روحي وذا شيء قليل

٣٩٧

أيجمل أن تخيّب فيك ظني

وأنت الماجد الشهم الجليل

وكيف رضيت بي غيري بديلا

ومالي والهوى العذري بديل

على هذا تعاهدنا قديما

أم الجاني الخؤون هو الجهول

أجلك أن تصدّق فيّ عذلا

ومثلي ليس يجهل ما يقول

ليفعل مالكي بالعبد مهما

يروم فإنه العبد الذليل

فمل واهجر وصد فلا اعتراض

عليك وأنت لي نعم الخليل

ولكني سأندب سوء حظي

وما يجدي بكاء أو عويل

وكيف وكنت آمل منك حبا

يدوم وصدق ود لا يحول

وكنت أظن أن جبال رضوى

تزول وأن ودك لا يزول

ومن شعره ممتدحا المولى أحمد بن محمد الكواكبي المفتي الحلبي بقصيدة مطلعها :

قد منح الصد واللقا منعا

وأوصل الهجر والوفا قطعا

بدر تفوق الشموس بهجته

في منزل السعد والبها طلعا

أهيف قدّ بالتيه منفرد

في وجهه رونق البها جمعا

مسكي عرف دري مبتسم

يزيد عزا إذا الشجي خضعا

وقده الناضر الرشيق به

مال لقتلي ظلما وفيه سعى

ألحاظه في الحشا فعائلها

في بعضها مهجتي غدت قطعا

لم يطق الطرف لمح طلعته

هيهات برق الوصال إن لمعا

ومذ جفاني فاضت مدامع أج

فاني وجادت وجودها همعا

أصبح في حبه حليف هوى

مضنى وأمسي محيرا جزعا

تضرم نار الغرام في كبدي

كأن قلبي على الغضا وضعا

وجاوز الحد في العباد وما

جاوز خلا بحبه ولعا

ودعني الصبر حيث أودعني

أسى قد اعيا الأسا وما رجعا

زاد فخارا على الحسان كما

أحمد زاد الكمال والورعا

سما مقاما ومن له نسب

كواكبيّ إلى السما رفعا

رب علوم يفوز طالبها

في كل علم أراد وانتفعا

راحته في انبساط راحته

لو رام قبضا حاشاه ما استطعا

٣٩٨

مكمل فضله ولا عجب

في المهد ثدي الكمال قد رضعا

مهذب الخلق لن يرى أحد

في الخلق أمثاله ولا سمعا

شهم حماه غدا بهيبته

حمى مخوف وأمن من فزعا

ناهيك في ماجد أرومته

من خير داع إلى الرشاد دعا

منها في الأخير :

مولاي بكرا أتتك ترفع * في

روض المعاني ونورها طلعا

قانعة بالقبول تمهرها

والحر يا ابن الكرام من قنعا

ولا برحت الزمان في دعة

مرغّد العيش رافعا بدعا

ما صدح الورق في الرياض على الأو

راق صدحا به الحشا صدعا

وله من قصيدة مطلعها :

وحقك لا أشكو الزمان وأعتب

إذا كان عني عامدا يتجنب

وأي لبيب أكرم الدهر قدره

وهل هان إلا اللوذعي المهذب

فلا فاضل إلا تراه بحسرة

يبيت على فرش الأسى يتقلب

تعانده الأيام فيما يريده

وتمنعه عما أتى يتطلب

وله من قصيدة ممتدحا بها بعض قضاة حلب ومطلعها :

مديحك أشهى للنفوس من الوصل

ومرآك حقا إنه آية العدل

ومجدك قد سامى السماكين رفعة

وقدرك قدر لا يدنس بالمثل

ثويت بأسنى المجد مذ كنت يافعا

وجئت رياض العز تمشي على مهل

فيا كعبة الأفضال يا منهل الندى

ويا قاضيا يقضي على الحق في الفضل

أقمت بشهبانا شريعة أحمد

وأيدتها بالعلم عن وصمة الجهل

ومزقت أثواب المظالم كلها

وأظهرت دين الحق بالعدل والفضل

منها :

تراه لأهل الفضل يبذل لطفه

وفي بره لم يصغ يوما إلى العذل

تحلى بأنواع المعارف قلبه

كما قد تخلى عن مدانسة الغل

__________________

(*) لعل الصواب : ترفل.

٣٩٩

فلا زال في حفظ الإله مؤيدا

بخصب الأماني في أمان من الذل

وله :

لا تطلبن من الإله وعفوه

إلا الكفاف وحسن خاتمة العمل

والعفو عن وزر مضى مع صحة

يا حبذا المطلوب إن هو قد حصل

وله مقتبسا من الحديث :

إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما

ولا الفقير إذا يشكو لك الألما

فكيف ترجو من الرحمن مرحمة

وإنما يرحم الرحمن من رحما

وله معربا معنى بالتركية :

تؤمل أن الدهر ينجز وعده

فهذا محال بالزمان بلامين

فكم أجنبي صادق في وداده

فيعطي بلا من ويبذل من عين

فأحسن عندي من قريب وماله

بوارق إحسان إذا صرت في حين

وله :

إذا كنت لا تتقي الموبقات

ولم ترم عنك حديث الدمى

ولم تحرز الفضل والمكرمات

فأخذك للعلم قل لي لما

وهو مثل قول القائل :

إذا كان يؤذيك حر المصيف

ويبس الخريف وبرد الشتا

ويلهيك طيب زمان الربيع

فأخذك للعلم قل لي متى

وللمترجم غير ذلك من أحاسن الشعر وبدائعه. بالجملة فقد كان أحد الأدباء الأفاضل بحلب من ذوي البيوت. ولم أتحقق وفاته في أية سنة كانت ، غير أنه في سنة خمس عشرة ومائة وألف كان موجودا على التحقيق رحمه‌الله.

١٠١٦ ـ عامر المصري الضرير المتوفى سنة ١١١٦

عامر الشافعي المصري الضرير نزيل حلب ، الشيخ المقري الفاضل الماهر المتقن الأستاذ.

٤٠٠