إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

والجلّنار تبدّى

على معاصم خضر

كأكؤس من عقيق

فيها قراضة تبر

وقوله :

وحديقة ينساب فيها جدول

من حوله تختال غزلان النقا

من كل أهيف إن رمتك لحاظه

بسهامها إياك تطمع في البقا

ومعذر ما أظلمت في وجهه

شعرات ذاك الصدغ إلا أشرقا

خالسته نظرا فقطب مغصبا

وغدا يرنح منه عطفا مورقا

فكأن نبت عذاره في خده

شحرور ورد في الرياض إذا رقا *

وقوله في فوّارة :

لله ما أبصرت فوارة

أعيذها من نظرة صائبه

كأنها في الروض لما جرت

سبيكة من فضة ذائبه

وقوله في نبوية مطلعها :

جاء فصل الربيع والصيف داني

حيث بتنا من الجفا في أمان

في رياض إذا بكى الغيث فيها

قهقهت بالمدام منه القناني

وثغور الأقاح تبسم عجبا

حين يشدو في الروض عزف القيان

حيث سجع الطيور سجع خطيب

قد رقى معلنا على الأغصان

وكأن الغصون قامات غيد

حين ماست حور لدى الولدان

فأدرها في جامد من لجين

حيث أضحت كذائب العقيان

من يدي شادن أغنّ ربيب

ناعس الطرف فاتر الأجفان

ناعم الخد أهيف القد أحوى

ذي قوام كأنه غصن بان

نرجسيّ اللحاظ ورديّ خد

جوهريّ الألفاظ ذي تبيان

فتمتع من حسنه بمعان

مطربات تنسيك جور الزمان

وتأمل إلى صحيفة خديه

بعين الإنصاف والعرفان

منها :

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : زقا.

٤٨١

يا شفيع الأنام كن لي شفيعا

يوم نصب الصراط والميزان

إنني أشتكي إليك ذنوبا

مثقلات وحملها قد دهاني

من لمثلي عاص كثير الخطايا

زاده الفقر عاجز متوان

فعليك الصلاة في كل وقت

مع سلام يفوق عرف الجنان

وقوله من قصيدة :

لي فؤاد في الحب أمسى مشوقا

لم يزل في هوى الحسان ملوقا

خافق تستفزه لحظات

مزقته بسحرها تمزيقا

راشقات من هدبها بسهام

صائبات لم تخط قلبا حريقا

لست أنسى حين الوداع عناء

حيث جد الرحيل والركب سيقا

إذ بكى للفراق خلّي فأضحى

ناظر اللحظ بالدموع غريقا

ورمى لؤلؤا على الخد رطبا

فاستحال الياقوت منه عقيقا

وانثنى للعناق يعطف قدا

هل رأيتم غصن الرياض عنيقا

رشق القلب وانثنى بقوام

لاعد منا ذاك القوام الرشيقا

بأبي ثم بي غزالا ربيبا

فوّق اللحظ للحشا تفويقا

ماس غصنا لدنا وهز قواما

وتبدى ظبيا وأسكر ريقا

ورنا ساحرا وصال مليكا

وحوى مبسما يقل بريقا

يا لقومي ويا لقومي أما

آن صريع اللحاظ أن يستفيقا

صاح شمر عن ساعد الجد واسمع

وأدر من كؤوس نصحي رحيقا

واطّرح ذكر زينب ورباب

واخلعن للوقار ثوبا خليقا

لا تؤمل من جاهل بك نفعا

تلق ضد الذي تروم حقيقا

قد خبرنا الجهول فيما علمنا

فرأيناه قد أضل الطريقا

رام نفعا فضر من غير قصد

ومن البر ما يكون عقوقا

وله من أخرى مستهلها :

أقضيب بان حركته شمول

أم قدك المعشوق راح يميل

وعقيق روض قد علاه سوسن

أم خدك المتورد المصقول

٤٨٢

ودخان ند قد أحاط بوجنة

أم ذاك مسك في الخدود يسيل

وشبا سيوف أم عيون جآذر

رمقت تحاول فتكنا وتصول

وعبير طيب فاح ينفح طيبه

أم ثغرك المتبلج المعسول

وسقيط طل أم لآل نظّمت

فتخاله عرق الجبين يجول

وعقارب بزبانها تومي لنا

أم ذاك خال الخدّ أم تخييل

وظلام ليل ما ترى أم طرة

هل لي إلى إدراك ذاك سبيل

قد خلت مذ ليل الغدائر قد بدا

أن ليس للصبح المنير وصول

لكن بلال الخال أشعر أنه

ضوء الجبين على الصباح دليل

فانهض إلى حسو * الكؤوس أخا الهوى

في روض أنس والنسيم عليل

وافتض بكر مدامة واستجلها

فلها إذا افتضت دم مطلول

كمذاب ياقوت بجامد فضة

في لحظ ساقيها الصبيح ذبول

حمرا إذا ما قام يترع كأسها

غنج اللواحظ طرفه مكحول

خلت المدام ووجهه لما بدا

شمسا وبدرا ما اعتراه أفول

وظننت كأس الراح في يده غدا

كهلال يوم الشك وهو ضئيل

لم أدر هل خضبت بأحمر خده

أم خده من كأسها مطلول

فاشربهما صرفا فذلك شربه

رشف وهذا شربه التقبيل

واغنم فدتك الروح أيام الصبا

واللهو إن زمانهن قليل

وتلاف أيام الربيع وورده

فعليه من در الندى إكليل

فالروض معطار الأزاهر يانع

والغصن يرقص والهزار يقول

والدف يعزف والنسيم مشبب

والعود يشدو والسحاب هطول

وله غير ذلك من الأشعار والنظام والنثار.

وألف ثبتا حافلا جامعا (١) لشيوخه وإجازاته ، وصار له جاه واشتهار ودولة.

__________________

(*) في الأصل : حثو.

(١) رأيته بخطه ألفه كما قال في آخره برسم عمدة المدرسين الكرام الشيخ محمد أفندي أبي اليمن البيلوني العمري الحلبي ، وقال في أوله : وإن ممن لاحظته عين العناية ، وسبقت له الهداية ، فسابق في ميدان العلوم ، على خيل الذكاء والفهوم ، المتصل نسبه الشريف إلى محدث حلب الشهباء ، شيخ شيوخها البدر شيخ الإسلام محمود البيلوني ،

٤٨٣

وصار نقيبا (١) ومفتيا بحلب ، ودرس بالحجازية والأسدية بها. واشتهر بالفضل والذكاء والنبل ، وأخذ عنه جماعة من الفضلاء.

وكانت وفاته بحلب سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف ودفن بها عن ثمانين سنة رحمه‌الله ا ه.

وترجمه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته المسمى «منار الإسعاد في طرق الأسناد» قال : ومن مشايخي شيخ الإسلام ومفتي الأنام العالم العلامة ، والعمدة الثبت الفهامة ، ذو الحسب الباهر ، والنسب الزاهر ، قدوة المحدثين ، وعمدة المفسرين ، سيدي السيد يوسف أفندي بن السيد حسين الحسيني نسبا الدمشقي مولدا الحلبي موطنا ، مفتي السادة الحنفية ، والنقيب بمدينة حلب المحمية. قرأت عليه حصة وافرة من شرح الأربعين النووية لابن حجر المكي ، وحضرت دروسه في تفسير القاضي البيضاوي في الخسروية ، ولازمت دروسه وصحبته ومذاكرته نحو تسع سنين ، وأجازني بجميع ما يجوز له وعنه روايته (إلى أن قال) :

وكان رحمه‌الله حين تسطير هذه السطور نقيب الأشراف بحلب ، وعزل بعد ذلك عن النقابة مدة ، ثم ردت إليه في سنة خمس وأربعين ومائة وألف ، ثم جمع له بينها وبين الفتوى في سنة سبع وأربعين فصار نقيبا ومفتيا ، ومع ذلك كان كثير التواضع لأهل العلم ، واسع الصدر كثير الحلم ، حسن الأخلاق والمعاشرة ، لطيف المذاكرة والمسامرة ، مع التقوى والزهد والصلاح. وناف سنه على الثمانين وهو ملازم للدروس والعلم ، وانتفع به خلق كثير. وكانت وفاته بحلب ليلة الأحد الثامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة من شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف. وذكر هنا أبياتا رثاه بها.

١٠٦٠ ـ حسين بن علي الوفائي المتوفى سنة ١١٥٦

حسين بن علي بن محمد الوفائي ، شيخ سجادة الوفائية بزاوية الشيخ أبي بكر بن أبي

__________________

ومنه إلى القطب سيدي عقيل المنبجي ، ومنه إلى ثاني الخلفاء عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وهو السيد الشريف السيد محمد أبو اليمن أفندي بن السيد عبد القادر أفندي بن الشيخ شهاب الدين البيلوني. ثم ذكر إجازاته له بمروياته ومسموعاته وذكر مشايخه الذين أخذ عنهم ومشايخ مشايخه. وقد اقتطفنا منه بعض تراجم تقدمت معزوة له في محالها.

(١) تولى نقابة الأشراف بحلب سنة ١١٢٥ كما ذكره في ثبته.

٤٨٤

الوفا ظاهر حلب المحمية ، الحنفي الحلبي المولد هو وآباؤه ، الفاضل الكامل الأديب المرشد.

ولد في سنة اثنتي عشرة ومائة وألف ، وقرأ القرآن على الشيخ محمد الشهير بقدره ، وأخذ العلوم أصولا وفروعا عن العلامة السيد يوسف الدمشقي مفتي الديار الحلبية وعالمها واختص به ، وعن العالم الشيخ قاسم النجار وغيرهما. وجلس على السجادة في الزاوية المذكورة بعد وفاة والده في سنة خمس وثلاثين ومائة وألف.

وكان شاعرا له ديوان شعر كله توسل ومدح في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والأولياء ، خصوصا في شيخه وأستاذه الولي الكامل الشيخ أبي بكر الوفائي قدس‌سره.

ومن شعره قوله من قصيدة نبوية مطلعها :

يا شفيع الورى وبحر العطايا

وملاذ الضعيف والملهوف

ورسولا أتى إلى الخلق طرا

رحمة عم فيضها بالصنوف

يا نبيا به هدينا إلى

الحق بهدي في عزمه الموصوف

ورؤفا بالمؤمنين رحيما

يوم نبلى بكل هول مخوف

حزت خلقا ونلت خلقا زكيا

وصفاتا تليق بالموصوف

إنني جئت نحو بابك أبغي

كشف ضر أضرني بالوقوف

فأقلني منه ومن كل كل

حل جسمي بجيشه الموصوف

أنت أنت الملاذ يا أشرف الرسل

وكنز الشتيت والمضعوف

منها :

فعليك الصلاة تترى دواما

ماتحلت صحائف بالحروف

وعلى الآل كل حين وآن

وعلى الصحب معدن المعروف

وله قبل وفاته بأيام قليلة قوله :

إذا عشت عمر النسر في ظل راحة

أحافظ لذاتي بها وأصون

فلا بدلي يوما بأن أسكن الثرى

وأعلم حال الموت كيف يكون

وله غير ذلك.

٤٨٥

وكانت وفاته في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة ست وخمسين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : رأيت ديوانه في المكتبة المولوية بحلب.

١٠٦١ ـ الشيخ محمد فتيان الأنصاري المتوفى سنة ١١٥٧

ترجمه السيد حسن الكواكبي في كتابه «النفائح واللوائح» فقال : هو العالم الخاشع ، والناسك الخاضع ، محمد فتيان الأنصاري ، المنقطع إلى الباري ، فتى الفتيان ، وصفوة الشيوخ والشبان ، المراقب للرحمن ، المتغني بالقرآن. كان ممن آثر لله العمل ، وصغر في نفسه وخمل ، وقد قيل : التصوف الخضوع والخمول ، والقنوع والذبول. وكان غارقا في مراقبة الحقائق ، وصادقا في معاملة الخالق.

ولد بحلب ونشأ بها وتفقه ، وتبرأ عن رعونة النفوس وتنزه ، وأخذ من العلم النافع ، ما حصل به الخير الواسع ، وأفاد الطالبين الوعاة ، وأجدى الراغبين العفاة ، ولم يزل مقبلا على مولاه ، مصلحا داري آخرته ودنياه ، معالجا أمراض القلب المردية ، مجانبا ضعيف الذنوب المعدية ، حتى توفاه الله تعالى طاهر القلب جميل الشكل سنة ١١٥٧. ا ه.

١٠٦٢ ـ حسب الله بن منصور البابي المتوفى سنة ١١٥٩

حسب الله بن منصور ، الحنفي البابي الأصل الحلبي ، كاتب الفتوى.

كان محققا مشهورا بالدراية والديانة والتقوى. قرأ على علماء عصره وجهابذة مصره ، وتنبل على يد المولى أبي السعود الكواكبي.

وكان لطيفا ظريفا دينا عفيفا نحيف الجسم صبيح الوجه له فضل وأدب. أخبر عنه من يوثق به أنه قال : كنت سئلت سؤالا بعد وفاة أستاذي أبي السعود الكواكبي والسائل في غاية الاضطرار إلى الجواب ، فاستمهلته أياما فلم أظفر بالجواب ، والسائل في غاية الإلحاح ، فبت ليلة في كرب عظيم لذلك ، فرأيت في النوم العلامة محمد الكواكبي جد أبي السعود الكواكبي وهو يقول : نسيت المسألة في كتب الفتوى التي طالعتها ، بل هي

٤٨٦

في الكتاب الفلاني ذكرها استطرادا في باب كذا ، فانتبهت من النوم مسرورا لرؤيته وتناولت الكتاب الذي ذكره في النوم ، فإذا المسألة بعينها في الباب الذي عيّنه. وقد كان المولى أبو السعود الكواكبي يقول قبل أن أتولى خدمة الفتوى : رأيت الجد يعني العلامة محمد الكواكبي المذكور في النوم ومعه صاحب الترجمة حسب الله وهو يقول لي : إذا توليت الفتوى فاجعل كاتبك هذا ، وأشار إلى صاحب الترجمة ، فما مضى للرؤيا نحو من عشرة أيام إلا وأتى لنا الإذن بالفتوى من غير طلب.

وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة تسع وخمسين ومائة وألف وقد ناهز الثمانين ، ودفن بمقابر الصالحين غربي مقام خليل الرحمن عليه‌السلام بينهما طريق. والبابي نسبة إلى الباب. ا ه.

١٠٦٣ ـ يوسف بن عبد الله العطّار المتوفى سنة ١١٦٠

يوسف بن عبد الله الحلبي الشافعي الشهير بالعطّار ، الشيخ الفاضل الصالح الأوحد الفقيه.

كان خطيبا بجامع البهرمية بحلب ، فقيها ماهرا بالعربية والحديث ، وأحسن ما عنده الفقه والفرائض.

أخذ عن العلامة إبراهيم البخشي ومصطفى الحفسر جاوي والشيخ جابر والعلامة محمد الكردي الزعفراني وأبي السعود الكواكبي وغيرهم.

وكان وضيء الوجه نير الشيبة. وكان قد ترك العطارة ولازم النسخ مع الإفادة والاستفادة.

وكان مولده سنة أربع وتسعين وألف ، وتوفي سنة ستين ومائة وألف بتقديم السين ، ودفن بالقرب من قبر الشيخ مصطفى اللطيفي رحمه‌الله تعالى.

١٠٦٤ ـ يس بن طه زاده المتوفى حول سنة ١١٦٠

يس بن مصطفى الشهير بطه زاده الحلبي الحنفي ، الشيخ العالم الفاضل البارع الأوحد.

٤٨٧

أخذ عن الشيخ أسد الدين الشعيفي والشيخ سليمان النحوي والشيخ أحمد الشراباتي الحلبيين ، وعن السيد أحمد بن السيد عبد القادر الرفاعي المكي وغيرهم. وبرع وفضل ودرس وأفاد. ذكره الشيخ عبد الكريم الشراباتي في ثبته من جملة شيوخه وأثنى عليه وكانت وفاته .... ا ه. ولم يذكر المرادي تاريخ وفاته ويظهر أنه في نواحي سنة ١١٦٠. وقوله : ذكره الشراباتي في ثبته عبارته فيه : ومنهم (أي ممن أجازه) السيد الفاضل فخر الأماثل السيد يسين أفندي ابن السيد مصطفى أفندي الشهير بطه زاده ، نقيب حلب المحروسة سابقا بلغه الله تعالى من خير الدارين مراده. استخرت الله تعالى فأجبته إلى ذلك ، وقد قرأ عليّ هذا السيد الفاضل وأنا أسمع من أول كتاب صحيح البخاري إلى كتاب الإيمان ، وقرأ منه عليّ أيضا إلى كتاب العلم ، وقد أجزته أن يروي عني كتاب الصحيحين وبقية الكتب الستة وغيرها من كتب الأحاديث الصحاح وسائر كتب الأحاديث وسائر ما اتصل بنا من الفنون عقلا وشرعا أصلا وفرعا إحياء لصورة الأستاذ الذي هو من خواص هذه الأمة التي هي أكرم الأمم عند الله تعالى. ثم ذكر أسناده في الحديث.

وكان ممن تولى إفتاء حلب ثم عزل عنها ، وهنأه الفاضل الشاعر الشيخ مصطفى البتروني المتقدم ذكره بعزله من الإفتاء بقصيدة قال في مطلعها :

ليهن سليل المجد ياسين من غدت

مساعيه آذان المعالي تشنّف

١٠٦٥ ـ حسين الباشا البابي جد بني الميسّر المتوفى حول سنة ١١٦٠

حسين باشا ابن الشيخ حسن بن حسين المشهور بالبابي.

ولد ببلدة الباب من أعمال حلب ونشأ بها ، ثم هاجر مع أبيه حسن سنة ١٠٩٨ إلى حلب وقطنا بها ، وتقدم حسين باشا المذكور عند الدولة العثمانية تقدما عظيما ، وحضر عدة مواقع حربية أصيب ببعضها بجروح بليغة ، ثم شفي منها. وفي آخر الأمر أحيل على التقاعد بموجب فرمان من السلطان أحمد على أن يعطى ثمان أقجات يوميا يقبضها من جمرك حلب.

وكان له مكانة عظيمة عند أمراء الدولة العثمانية مسموع الكلمة مرعي الخاطر لديها حتى إنه بعد أن أحيل على التقاعد كان يكاتب السلطان رأسا في أموره الخاصة ، فتأتيه

٤٨٨

الفرامين السلطانية مخاطبة لولاة الأمر هنا بترويج مصالحه ، ولا زالت هذه الفرامين موجودة عند الشيخ ناجي الميسر من ذرية المترجم. وبلغت به المنزلة أن أثتثنى السلاطين العثمانيون عائلته من دفع ضرائب الأملاك وغيرها بموجب فرمان من السلطان أحمد خان بن محمد خان مؤرخ سنة ١١٣٢ في شعبان منها ، وإنما نال هذه المنزلة بما أبلاه في الحروب التي حضرها ولما كان لأبيه الشيخ حسن عند سلاطين عصره من المنزلة السامية لغزارة علمه وأدبه.

ووقف المترجم على ذريته وقفا حسنا ، ومعظم عقارات وقفه في محلة الماوردي والألمجي وفي بانقوسا وسوق الصابون ، ومنها بساتين بظاهر حلب ، والحمّام المعروفة بحمّام القواس خارج باب النصر. واتخذ الواقف مرقدا لنفسه في جامع الحدادين في محلة بانقوسا وشرط أن يدفن فيه ، وشرط أن يقرأ على قبره عشرة من القراء كل يوم كل واحد يقرأ جزوا ، وجعل لكل واحد عثمانيين كل يوم أعني عشرين عثمانيا للعشرة كل يوم على حساب كل ١٢٠ عثمانيا فضيا بقرش واحد من قروش المعاملة الجديدة.

وشرط إذا لم يبق أحد من ذريته من جهة الذكور أو الإناث أن تقسم واردات وقفه بعد إعطاء ما شرطه للقراء أربعة أقسام : الريع يصرف في مصالح جامع الحدادين ، والثاني لرجل من أهل العلم والورع على أن يقرأ البخاري والفقه الشريف وما تيسر له من العلوم في هذا الجامع كل يوم ما عدا يوم الجمعة ، والثالث يصرف في مصالح المسجد المعروف بمسجد تركمانجك الكائن في محلة الماوردي الملاصق لدار الواقف ، والرابع يعطى لثلاثين رجلا من القراء على أن يقرؤوا في كل يوم ٣٠ جزوا. وهي محررة سنة ١١٥٧.

ولم يعلم على الضبط أي سنة توفي ، ولكن يغلب على الظن أنه توفي حول سنة ١١٦٠ ، ولم أتحقق إن كان دفن في الجامع المتقدم أو في إحدى الترب.

وخلف حسين باشا ثلاثة أولاد هم عمر ومحمد وعلي وعبد الله آغا ، وكان الأولان يتعاطيان التجارة بموجب فرمان من السلطان محمود بن مصطفى مؤرخ سنة ١١٦٤ في ربيع الآخر يفيد أنهما من التجار ، وأما عبد الله جلبي فإنه انتظم في سلك المأمورين وتولى ولاية ديار بكر وغيرها من المناصب العالية ، ولم أقف على تاريخ وفاتهم.

ورأيت عند بني طه زاده المعروفين الآن ببيت الجلبي حجة شرعية بشراء محمد أفندي

٤٨٩

ابن أحمد أفندي طه زاده مؤرخة في صفر سنة ١١٦٨ للدار الكبيرة في محلة شاهين بك المشتملة على ثلاثة أواوين وغير ذلك ، وهي دار الحكومة الآن ما عدا الجهة الشمالية التي فيها السجون ، والذين باعوا لمحمد أفندي طه زاده قد اشتروا ذلك من ورثة الحاج حسين بشه (هكذا الرسم) البابي الذي من جملتهم عبد الله آغا ، وهذا يؤيد ما قلنا من أن وفاته كانت حول سنة ١١٦٠.

وللمترجم ذرية مباركة تدعى الآن ببيت الميسّر (بضم الميم وفتح الياء وتشديد السين المفتوحة) من جملتهم التاجران الحاج محمد والحاج أحمد اللذان عمرا الخان العظيم الذي تسمى بخان الميسّر في السوق المعروفة بسوق خان الحرير في المحلة المعروفة بجب أسد الله ، وذلك في سنة ١٣٢٨ ، وهما ابنا الحاج عبد القادر بن عمر بن سليم بن حسين جلبي بن عمر جلبي بن حسين باشا المترجم ، ولم أعلم على التحقيق أول من تسمى من هذه العائلة بالميسّر.

١٠٦٦ ـ عبد الله بن فتح الله أديب المتوفى سنة ١١٦١ وولده

عبد الله بن فتح الله بن الحنفي الحلبي ، الأديب الشاعر البارع المنشي الفصيح الملقب بأديب ، واحد الدنيا بالمعارف.

ولد بحلب في حدود المائة وألف تقريبا ، ثم ارتحل به والده إلى إسلامبول وكان سنه سبع سنين ، وكان والده إذ ذاك باش محاسبه جي ، ونشأ بها تحت ظله ، ثم صار رئيس الكتاب ، وكان له الرؤساء المشهورين *. وتوفي في إسلامبول سنة سبع عشرة ومائة وألف. ثم إن ولد المترجم عاد لحلب وصار بها تذكره جيا للخزينة الميرية.

وكان شاعرا بالألسن الثلاثة ، وله ديوان شعر ، منه قوله :

إذا ما نال شخص ما تمنى

من الأرذال يوما مات منّا

فكن في خبرة من كل فرد

متى ما ساء فعلا ساء فنّا

وكان يتكلم بأشياء عجيبة ، واستولت عليه السوداء والجنون ، ومع ذلك ينظم البليغ.

وكانت وفاته في سابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وستين ومائة وألف رحمه‌الله.

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : وكان من الرؤساء المشهورين.

٤٩٠

١٠٦٧ ـ حسن بن ملك الحموي المتوفى سنة ١١٦١

حسن بن ملك ، الحموي المولد الحلبي المنشأ والوفاة.

ولد في حماة في رابع عشر ربيع الأول سنة ثمانين وألف ، ونشأ بحلب وقرأ على فضلائها وأخذ عنهم الفنون والآلات ، وصحب الأديب الفاضل الشيخ مصطفى الحلفاوي الخطيب بأموي حلب يومئذ وتأدب عليه.

وكان له شعر رقيق الحاشية ، فمنه ما قاله في المديح النبوي من قصيدة :

ألا يا رسول الله يا أشرف الورى

ويا من يرجّى للمهمات والبلوى

منها :

فقد خصّك المولى الكريم بفضله

فيا حبذا عنك الأحاديث أن تروى

منها :

عليك صلاة الله ما غاسق دجا

وما زال نور البدر في الأفق يستضوى

كذا الآل والأزواج والصحب كلهم

ومن عن رضاهم لم أطق أبدا سلوى

وذاك مع التسليم في كل لحظة

بتعداد ما في العلم من عدد يطوى

وله مضمنا :

لقد رشقتني من سهام لحاظها

مريشة تلك اللحاظ من الهدب *

وقامت تهز العطف نحوي تجاهلا

وتخبرني أن ليس لي ثم من ذنب

ولكن ألحاظي رصدن متى رأت

أسير هوى ترمى بجارحة السلب

فقلت ودمع العين جاد كأنه

سحاب تراه حين سال على الترب

خليلي لا تستنظر البرء إنني

سمعت بأذني رنة السهم في قلبي

وكانت وفاته بحلب في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وتسعين ومائة وألف. ا ه.

وهذا سهو والصواب سنة إحدى وستين وماية وألف كما في تاريخ ابن ميرو. قال ابن ميرو : ومن نظمه متغزلا في ابن رجل واعظ :

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي سلك الدرر ، ولعل الصواب : مريشة هاتيك ...

٤٩١

فديتك ظبيا ناعم الخد أغيدا

أغن رقيق الخصر مستعذب اللفظ

أبوك الذي يدعو الأنام إلى الهدى

ويأمرهم بالرشد والنسك في الوعظ

وأنت الذي تدعو القلوب إلى الهوى

بنيران وجنات وسحر من اللحظ

فتهدم ما يبنيه عاما بساعة

وأمرك محفوظ وذاك بلا حفظ

ومنها :

فلا زال روض الخد بالورد يانعا

وإن كنت أجني الآس منه فيا حظي

وله ديوان وهو مطبوع في بيروت كنت رأيته في خزانة كتب السيد عبد القادر أفندي الحسني الكيلاني في حماة في بعض رحلاتي إليها ، وعلق منه في فكري تضمين مطلع قصيدة ابن الفارض (قلبي يحدثني بأنك متلفي) حيث قال :

قد كان لي ثوب جديد طالما

قد كنت ألبسه بغير تكلف

والآن لي قد قال حين قلبته

(قلبي يحدثني بأنك متلفي)

١٠٦٨ ـ الشيخ محمد الكبيسي المتوفى سنة ١١٦١

ترجمه العلامة الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته فقال :

ومنهم (أي من مشايخه) شيخنا الإمام الجليل ، العديم المثيل ، ذو الحسيب الزاهر ، والنسب الباهر ، مفيد الطالبين ، ومنهل الراغبين ، الفائز بفصاحة المنطق والبراعة ، والحائز قصب السبق في مضمار البلاغة والبداعة ، فريد عصره ، ووحيد دهره ، الفقيه المحدث الفرضي النحوي ، سيدي السيد محمد الكبيسي الشافعي رحمه‌الله تعالى ، قرأت عليه مختصر السعد مرتين ، وشرعت في الثالثة إلى أحوال الإسناد الخبري فانتقل بالوفاة إلى رحمة الله.

وقد أجازني رحمه‌الله إجازة عامة ، وانتفعت به منفعة تامة ، وانتفع به خلق كثير ، وجم غفير ، وكان له همة عالية في إفادة العلوم ونشرها ، واستطراد الفوائد النافعة وذكرها ، مع الإرشاد والتفهيم ، والنصح في التعليم ، وقد ملك من كل فن زماما ، وتقدم في كل علم فكان إماما.

وتوفي رحمه‌الله تعالى ليلة الجمعة سابع عشر شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة

٤٩٢

إحدى وستين ومائة وقد جاوز الثمانين سنة كما أفادني بذلك من لفظه. ا ه.

١٠٦٩ ـ محمود بن عبد الله الأنطاكي المتوفى سنة ١١٦١

محمود بن عبد الله الأنطاكي الحنفي ، الفاضل العلامة والكامل الفهامة ، خاتمة المحققين المشهور في بلاد الروم بسلطان العلماء.

مولده بأنطاكية سنة (لم يذكر) وقرأ على مفتيها العلامة علي أفندي والد السيد محمد أفندي جلبي مفتي أنطاكية وحلب ، ثم حج وجاور بمكة المكرمة أربع سنين وقرأ على أفاضلها ، ثم ارتحل لمصر وجاور في أزهرها سنين ، ثم قدم أنطاكية ومكث بها مدة ، وسافر إلى إسلامبول فلم يطب له بها المقام ، فكر راجعا إلى وطنه ، وارتحل إلى بلاد الأكراد فأقام بها مدة ثلاث سنوات قرأ بها على ملا حيدران وملا محيي الدين الآلات كالمنطق والحكمة وأتقن جميع العلوم.

وحكى رحمه‌الله تعالى أنه كان في مدة إقامته ببلاد الأكراد يتجزى طول السنة بستة قروش ترسلها له والدته من ثمن غزلها ، قال : وكانت الوالدة إذا غزلت تقول وهي تدير الدولاب عند كل دورة : اللهم زد علم محمود ، وكان هذا وردها ودأبها.

قال : واتفق في أثناء إقامتي ببلاد الأكراد نفد ما معي وأبطأت عليّ الستة قروش ، فأتيت باب المدرسة فرأيت على عتبة الباب عثمانيا ، فأخذته واكتفيت به ذلك اليوم لكثرة الرخا هناك ، ثم ثاني يوم رأيت العثماني في ذلك المكان ، فأخذته ، ثم في ثالث يوم كذلك ، فلما كان اليوم الرابع وصلتني الستة قروش ، فذهبت إلى المدرسة فلم أر شيئا ، فعلمت أن ذلك كرامة من والدتي.

ثم إنه عاد إلى بلدته ولازم الإفادة بها حتى طار ذكره في الآفاق وشدت إليه الرحال وتفوق على النظراء والأقران مدة تزيد على عشر سنين.

وكان عمّر الوزير عثمان باشا الدوركي جامعه الرضائية والمدرسة وأرسل أحضر لها مدرسا من عينتاب العلامة الشهير تاتار محمد أفندي ، فاستقام مدة أربعة أشهر ، ثم استعفى لقلة الوظيفة ورجع لبلدته ، فاستدعى الوزير المشار إليه صاحب الترجمة للتدريس ، فامتنع ، ثم بعد الإلحاح قدم لحلب سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف ، وكان دخلها مرارا ، فأكرم

٤٩٣

نزله الوزير المشار إليه وأعدّ له دارا من دور الوقف وعين له وظيفة التدريس بالمدرسة المذكورة أربعين عثمانيا ، ولقراءة التفسير الشريف في بيت الوزير الملاصق للجامع المذكور عشرة عثامنة ، والموعظ يوم الخميس والاثنين عشرة عثامنة ، فأقام يقري التفسير الشريف بعد صلاة الصبح ، ويقري الهداية في الفقه بعد الظهر ، ويقري بعد العصر صحيح البخاري. وكان يحضر درسه جماعة من أبناء العرب والأتراك غير المجاورين ، وارتحلت إليه الطلبة من الأقطار.

وكان رحمه‌الله قد رزق الفصاحة والبلاغة وطلاقة اللسان بلغتي العربية والتركية ، مع حسن الإلقاء وجودة التقرير الخالي عن الحشو البليغ السهل ، يفهمه جامد الذهن فضلا عن الذكي ، فكان يقرر أولا بالعربي لأبناء العرب ، ثم يلتفت إلى الأتراك ويقرر لهم. وختم الجامع الصحيح في مدة خمس سنين وشرع في ابتدائه ثانيا.

وكان رحمه‌الله يحب أبناء العرب ويوصي بمحبتهم الأتراك ، خصوصا ليلة المولد الشريف ، ويورد الحديث الشريف قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أحبوا العرب لثلاث) ويذكر فضل العرب وفضل محبتهم والتحذير من إيذائهم ، ويطنب في ذلك كثيرا. أقام رحمه‌الله ثمان عشرة سنة مدرسا بالمدرسة المذكورة وأذن بالتدريس ممن لازمه وقرأ عليه لزهاء ثلثمائة رجل ، لأنه كان يقول : إن لم يكن في أولادي الصلبيين خير فأولادي في العلم فيهم كفاية.

وانتشرت تلامذته في الآفاق ما بين مفت ومدرس ، ومنهم تلميذة العلامة الذي خلفه في التدريس بالمدرسة المذكورة علي أفندي الدابقي ، ومنهم الفاضل السيد عبد الرحيم أفندي فنصه زاده ، فإنه لازم دروسه مدة وانتفع به وأخذ له بالتدريس وكتب له إجازة بذلك ، ووجدت الإجازة معه لما توجه إلى إسلامبول وأقبل عليه شيخ الإسلام بسبب ذلك.

وفي سنة ثلاث وخمسين سعى للمترجم الوزير الأعظم الحاج أحمد باشا بستين عثمانيا من مال الجزية ببراءة سلطانية لقراءة الجامع الصحيح بأموي حلب تجاه ضريح سيدنا نبي الله زكريا على نبينا وعليه وسائر النبيين أفضل صلاة وأنمى سلام ، وأرسل له مع البراءة نسخة من الصحيح مجلدة واحدة أخرجها له حضرة السلطان محمود خان سقى جدثه صيب الغفران من الخزينة لأن رؤيتها تشهد بذلك ، ثم بعد عزل الوزير المشار إليه طلبها من صاحب الترجمة إسماعيل باشا ، وهو حينئذ محصل الأموال السلطانية بحلب ، ودفع له ثمنها مائة ذهب

٤٩٤

وأرسلها إلى إسلامبول كأنه أمر بذلك من طرف الدولة العلية.

ثم شرع المترجم يقري الصحيح يوم الاثنين في الجامع الأموي لا يقرر إلا بالتركية خلافا لعادته في المدرسة الرضائية ، فقيل له في ذلك فقال : عندكم في هذه البلدة قوم من الطلبة يقصدون إظهار فضلهم بين العوام فيوردون بعض إشكالات ، فإن أجبتهم لا يقنعون فيقع القيل والقال واللغط والجدال ، فسددناه بذلك الباب وقلنا : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ولعمري لقد أصاب.

ولما كان أواخر ذي القعدة سنة إحدى وستين ومائة وألف يوم الخميس ختم تفسير سورة الفرقان وحصل له بكاء كثير حالة القراءة ، ثم ودع الجماعة الحاضرين وأوصاهم بتقوى الله وأن لا ينسوه من قراءة الفاتحة ، وذهب إلى بيته وما به بأس ، فانقطع في بيته ذلك اليوم وثانيه ، وصبيحة السبت حضر إلى المدرسة فلم يستطع القراءة ، فعاد إلى بيته ولازم الفراش ثمانية أيام ، وفي اليوم التاسع توفي إلى رحمة الله تعالى ودفن في الجبيل في أعلى مكان بقرب السور.

وأعقب أربعة أولاد ذكور منهم الأديب عبد الله الملقب بذهني الشاعر المشهور ، ومحمد فإنه ذهب إلى الروم ومنها لمصر وهو بها الآن جندي ، ومحمود وهو الآن ببلاد المغرب ، وإبراهيم. ا ه.

١٠٧٠ ـ عبد اللطيف الإدلبي الرمّال المتوفى سنة ١١٦٢

عبد اللطيف الحنفي الإدلبي الكاتب العارف بصنعة الرمل.

مولده تقريبا بعد العشرين من هذا القرن في إدلب الصغرى ونشأ بها ، ورحل إلى طرابلس الشام.

قدم حلب سنة خمس وخمسين ومائة وألف وقرأ على فضلائها ، منهم الشيخ طه الجبريني ، والسيد علي العطار وغيرهما. وكان يكتسب بالرمل لضعف حاله ، وله فيه معرفة تامة ، وشوهد له فيه أمور عجيبة ، منها أنه كان له انتساب ومحبة مع ابن الخنكارلي أحد أعيان حلب ، وكان المذكور مع مخدوم الوزير عبد الله باشا بجزيرة قبرس ، وصاحب الترجمة أراد أن يسبر من القواعد حال المذكور ، فظهر له أن محلا بمنزله في الجزيرة المذكورة متهدم

٤٩٥

وأنه يسقط ، وأن المحل مرتفع ، فحرر مكتوبا إلى المذكور وأخبره أن في منزلك محلا عاليا صفته كذا لا تدخل إليه ، فلما وصل الكتاب امتنع ابن الخنكارلي المذكور من الدخول لذلك المكان لما يعلم من معرفة صاحب الترجمة ، فما مضى مدة يسيرة من الزمان إلا وسقط المحل ولم يصب ضرره لأحد من أهل المنزل. وله من هذا القبيل أشياء كثيرة.

وكان قوي الحافظة يحفظ «متن القدوري» وأكثر «شرح المنية» وغير ذلك ، ولما أجدى حاله ترك معاناة الرمل واشتغل بحفظ «شفاء» القاضي عياض ، فلما أشرف على كمال هذا الكتاب دعاه داعي المنية فأجاب ، ولم يتيسر له الإتمام ، غير أنه فاز بحسن الختام.

وله نظم ، فمنه قوله مشطّرا موجّها في صنعته :

وشقائق قالت لنا بين الربى

يا من له في الإتصال مرام

منا طريق الإجتماع فإن ترد

دع وجنة المحبوب فهي ضرام

هل أنبتت قبل العوارض مثلنا

نبتا بحمرة شكله إلمام

أم هل يضاهينا النقي بخده

قلت اسكتوا لا يسمع النمّام

وشطّرهما الشيخ علي الميقاتي الحلبي فقال :

وشقائق قالت لنا بين الربى

وبنا إلى ورد الخدود غرام

والميل يحدث للنظائر غيرة

دع وجنة المحبوب فهي ضرام

هل أنبتت قبل العوارض مثلنا

نبتا له عند الملوك مقام

ويماثل النعمان آس عذارها

قلت اسكتوا لا يسمع النمّام

وشطّرهما الشيخ أحمد الحلوي الحلبي فقال :

وشقائق قالت لنا بين الربى

لما زها نوّارها البسام

إن كنت من أهل المعارف والذكا

دع وجنة المحبوب فهي ضرام

هل أنبتت قبل العوارض مثلنا

نورا تحار بنوره الأفهام

أم صبغها أضحى يحاكي صبغنا

قلت اسكتوا لا يسمع النمّام

وكانت وفاته في سنة اثنتين وستين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

٤٩٦

١٠٧١ ـ رجب المعروف بالنجيب المتوفى سنة ١١٦٣

رجب المعروف بالنجيب الحلبي ، الأديب الشاعر اللبيب. كان غرة جبهة الدهر ، له الباع الطويل في الأدب ، والإشاعة والذكر عند بني حلب.

ولد سنة ثلاث وتسعين وألف ، ونشأ في التحصيل وشمر أذيال الاكتساب ، وتعلق بخدمة فريد وقته الفاضل يوسف الشهير بالنابي أحد شعراء الروم ، واكتسب منه فن الأدب ، وبه تأهل ونما وتسبب. وفوضت إليه كتابة القلعة العواصمية وكان لا يرى له مثيل ، حريري النباغة ، فاق ابن مقلة في التحرير ، وليس لشعره شبيه ونظير ، وكان أغلب شعره باللغة التركية والفارسية ، وآثاره بالعربية نزرة قليلة.

وكانت وفاته بقلعة حلب في سنة ثلاث وستين ومائة وألف رحمه‌الله.

١٠٧٢ ـ قاسم النجّار المتوفى سنة ١١٦٣

قاسم المعروف بالنجّار الحنفي الحلبي ، الشيخ الإمام العلامة. كان خير الأخيار ، ورحلة أهل المدن والأمصار.

ولد بحلب في محلة البياضة في سنة سبع وسبعين وألف ، وكان يكتسب بعمل يده يصنع الأقفال الخشب ، ويقرىء الفقه والعقائد والنحو والحديث. وأخذ وقرأ على أئمة أمجاد وشيوخ أطواد ، وكان يقرىء بالجامع الذي قرب داره بمحلة خراب خان ، وأقام بهذا الجامع إماما وخطيبا ومتوليا مدة ست وستين سنة ، وكانت الطلبة ترد عليه من غالب البلاد خصوصا من بلاد الروم لأخذ الفقه. وكان يحيي ليالي المواسم من السنة كليلة نصف شعبان والمولد الشريف وسائر ليالي رمضان بالذكر والتوحيد وصلاة التسبيح. ثم قبل موته بقليل أحضر لنفسه كفنا وأوصى وأوقف داره على الجامع المذكور.

وكان طويلا متماسكا ذا وجه منير ، وشيبة علاها نور العبادة المقبول بتأثير ، خفيف الصوت ، ذا وقار وعفاف. حج مرتين وكان يؤمل الثالثة فلم ينلها.

وكانت وفاته في سنة ثلاث وستين ومائة وألف ، وليوم وفاته مشهد عظيم ، ودفن في جامع خراب خان المذكور تجاه المحراب الصيفي من طرف الشمال ، وهو يزار رحمه‌الله. ا ه.

٤٩٧

١٠٧٣ ـ عبد الوهاب العدّاس المتوفى سنة ١١٦٦

السيد عبد الوهاب بن محمد قرط ابن الشيخ مراد المعروف بالعدّاس الحلبي ، العالم الفقيه ، الأصولي النحوي النبيه المجتهد في الإفادة. انتفع به خلق كثير ، وكان مكبا على إفادة الناس.

ولد بحلب في سنة سبع وتسعين وألف ، واشتغل بها في طلب العلم ، فقرأ على الشيخ قاسم النجار في الفقه ، وقرأ النحو على العالم الشيخ سليمان النحوي ، والعروض والحساب وآداب البحث والمنطق على السيد علي الباني ، وقرأ المعاني على أبي السعود الكواكبي.

وكانت وفاته في ليلة الأحد العاشر من شوال سنة ست وستين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى.

١٠٧٤ ـ محمد الزمّار المتوفى سنة ١١٦٧

محمد المعروف بابن الزمّار الشافعي الحلبي ، الشيخ العالم الفاضل التقي الناسك الزاهد الصابر الوقور المهاب. جمع بين الولاية والعلم ، عليه آثار العبادة والصدق والتقوى ، وانتفع به كثير من أهل حلب وغيرها ، وله ملازمة تامة في الاشتغال بالعلوم ، ويد طولى في المنطوق والمفهوم. وكان مع جلالة قدره يتفقد أرامل جيرانه وأيتامهم ، وبالجملة فقد كان من أولياء الله تعالى.

وكانت وفاته سنة سبع وستين ومائة وألف رحمه‌الله.

وترجمه ابن ميرو فقال : هو محمد بن حسين بن مصطفى الشهير بابن الزمّار الشافعي التدمري الأصل الحلبي المولد هو وولده. وشهرته بالزمّار لحسن صوت والده ، شبهته جدته يوما بذلك فاشتهر حتى صار لا يعرف إلا بالزمّار ، العالم العامل الورع الفاضل الزاهد المحقق الفقيه الأصولي الفرضي الحيسوب المتقن ، بركة حلب ومعتقدها وشيخها.

أخذ عن مشايخ عصره كالفاضل حسن التفتنازي ، قرأ عليه «التوضيح» بطرفيه ، وحين أتم أمره شيخه المذكور بتفرقة رطل من الخبز على الفقراء ، وأخذ عن الصالح السيد محمد الديري ، ولازم العلامة مصطفى الحفسر جاوي وقرأ عليه «جمع الجوامع»

٤٩٨

و «المنهج» بطرفيهما في الحجازية بأموي حلب ، ولازم دروس العلامة علي الأسدي ودروس العلامة أبي السعود الكواكبي.

مولده سنة اثنتين وثمانين وألف ، ووفاته سنة سبع وستين ومائة وألف. وبالجملة قد كان من أفراد الدهر علما وصلاحا وورعا وزهدا ، ودفن خارج باب الملك في تربة لالا. ا ه.

وترجمه تلميذه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي في ثبته «منار الإسعار» بالعبارة التي نقلناها عن المرادي ، ويظهر أن المرادي نقلها عنه وذكر قبل ذلك ما قرأه عليه

١٠٧٥ ـ عثمان بن عبد الله العرياني المتوفى سنة ١١٦٨

عثمان بن عبد الله الشهير بالعرياني ، الحنفي الكلّيسي الأصل ، الحلبي المولد ، نزيل قسطنطينية ، العالم الفاضل البارع.

له من التآليف «شرح الهمزية» و «شرح النونية» في العقائد لخضر بيك ، و «شرح الحزب الأعظم» لعلي القاري وغير ذلك ، وقد اطلعت على هذه المؤلفات له وأنا في الروم.

قطن الديار مدة وأعقب بها ، ثم ارتحل للحرمين وجاور بالمدينة المنورة وتوفي بها. وكانت وفاته في سنة ثمان وستين ومائة وألف. ا ه.

١٠٧٦ ـ قاسم بن محمد البكرجي المتوفى سنة ١١٦٩

قاسم بن محمد المعروف بالبكرجي الحنفي الحلبي ، أحد العلماء الأفاضل الأديب ، الألمعي اللوذعي البارع الأريب ، حاوي فنون العلوم ، والماهر بالأدب منثور أو منظوم.

ولد بحلب ، وقرأ على معاصريه من أجلاء حلب وتفوق واشتهر. وكان عالما بالحديث والفقه والفرائض ، وله قدم راسخة في العربية والفصاحة والبلاغة والبديع والشعر ، ونظمه حسن رائق ، وكان في وقته أحد المتفردين بالنظام والنثار.

ومن تآليفه شرح على الخزرجية (١) لم يسبق بمثله ، وشرح على الهمزية (٢) للبوصيري ،

__________________

(١) سماه «الفوائد البكرجية على الخزرجية».

(٢) سماه «العيون الغمزية والإشارات الرمزية على القصيدة الهمزية».

٤٩٩

وبديعية استدرك فيها أشياء على من قبله ، ونظم الزحافات والعلل الشعرية وشرحها وغير ذلك ، ولم يزل كذلك إلى أن مات. وكانت وفاته في سنة تسع وستين ومائة وألف.

ومن شعره له قوله يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصيدة مطلعها :

أأحبابنا بالخيف لا ذقتم صدا

ولا كان صب عن محبتكم صدا

ومنها :

أهيل الحمى تالله ما اشتقت للحمى

أيجمل بي أن أنشد الحجر الصلدا

ولكنّ سكان الحمى ونزيله

هم ملكوا قلبي فصرت لهم عبدا

أحن إليهم كلما حن عاشق

إلى إلفه وازداد أهل الوفا ودا

ومنها :

هو المصطفى من خير أولاد آدم

وأشرفهم قدرا وأرفعهم مجدا

وأطيبهم نفسا وأعلاهم يدا

وأثبتهم قلبا وأكثرهم زهدا

وأعرقهم أصلا وفرعا ونسبة

وأكرمهم طبعا وأصدقهم وعدا

نبي أتى الذكر الحكيم بمدحه

فأنى يفي بالمدح من قد أتى بعدا

ومنها :

ومذ شرفت من وطء أقدامه الثرى

فكانت لنا طهرا وكانت لنا مهدا

ومنها :

وإن رامت المداح تعداد فضله

وأوصافه لم يستطيعوا لها عدا

ومنها :

قصدتك يا سؤلي ومن جاء قاصدا

لباب كريم لا يخاف به ردا

عليك صلاة الله ثم سلامه

إذا ما شدا شاد وتال تلا وردا

كذا الآل والأصحاب ما انهل وابل

وما اخضرت الأشجار أو فتحت وردا

وله يمدح السيد حسين أفندي الوهبي قاضي حلب حين قدم حلب :

٥٠٠