إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

قد أفرد في ظل أبيه عنه العلوم وتخرج عليه في الأدب ، وأخذ عن البدر محمود البيلوني وعن الشيخ عمر العرضي.

وكتب إليه جدي القاضي محب الدين بالإجازة من دمشق في سنة خمس وتسعين وتسعمائة.

وحج بعد الألف ورجع إلى حلب وانعزل عن الناس ولزم المطالعة والكتابة والتلاوة للقرآن كثيرا.

وكان صافي السريرة ، لا تعهد له زلة. ونظم الدرر والغرر في فقه الحنفية من بحر الرجز ، ودل على ملكته الراسخة ، فإن العادة فيما ينظم أن يكون مختصرا.

وبالجملة فإنه كان يغلب على طبعه الأدب. وكان له حسن محاضرة. وله شعر قليل منقح ، منه قوله :

ولما انطوت بالقرب شقّة بيننا

وغابت وشاة دوننا وعيون

بسطت لها والوجد يعبث بالحشا

شجون حديث والحديث شجون

الحديث شجون مثل من أمثال العرب ، وأصله ذو شجون ، أي ذو طرق ، والواحد شجن بسكون الجيم. وقد نظم أبو بكر القهستاني هذا المثل ومثلا آخر في بيت واحد وأحسن ما شاء ، وهو قوله :

تذكر نجدا والحديث شجون

فجنّ اشتياقا والجنون فنون

ولابن المنلا من قصيدة قرظ بها شعرا ليوسف بن عمران الحلبي الشاعر المشهور :

أطرسك هذا أم لجين مذهّب

ونظمك أم خمر لهمّي مذهب

وتلك سطور أم عقود جواهر

وزهر سماء أم هو الروض مخصب

وتلك معان أم غوان تروق لل

عيون وباللحن المسامع تطرب

فيا حبذا هذي القوافي التي بمن

يعارضها ظفر المنية ينشب

لقد أحكمتها فكرة ألمعية

فكدت لها من رقة النظم أشرب

فكم غزل قد هز ذا سلوة إلى ال

تصابي فأضحى بالغزال يشبّب

فيا بحر فضل فائض بلآلىء

لها فكرك الوقّاد ما زال يثقب

٢٠١

ظننت بأني للخطاب مؤهّل

فأرسلته شعرا لنظمي يخطب

فعذرا فإن الفكر مني مشتت

وعقلي بأيدي حادث الدهر ينهب

فقوله : فكدت لها من رقة النظم أشرب حسن ، والأحسن أن ينسب الشرب إلى السمع كما قال الآخر في وصف قصيدة :

تكاد من عذوبة الألفاظ

تشربها مسامع الحفّاظ

وله غير ذلك.

وكانت وفاته بعد الثلاثين وألف بقليل.

والحصكفي ، بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الكاف وفي آخرها الفاء ، هذه النسبة إلى حصن كيفا وهي من ديار بكر. قال في المشترك : وحصن كيفا على دجلة بين جزيرة ابن عمر وميّافارقين ، وكان القياس أن ينسبوا إليه الحصنّي وقد نسبوا إليه أيضا كذلك ، لكن إذا نسبوا إلى اسمين أضيف أحدهما إلى الآخر ركبوا من مجموع الاسمين اسما واحدا ونسبوا إليه كما فعلوا هنا ، وكذلك نسبوا إلى رأس عين رسعنّي ، وإلى عبد الله وعبد شمس وعبد الدار عبدلّي وعبشمّي وعبدريّ ، وكذلك كل ما هو نظير هذا. والعباسيّ نسبة إلى العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد ذكر أن جده كان منسوبا إليه.

واشتهر بيتهم في حلب ببيت المنلا ، لأن جد والد إبراهيم هذا كان يعرف بمنلا حاجي ، وكان قاضي قضاة تبريز ، وله شرح على المحرر في فقه الشافعي للرافعي وحاشية على شرح العقائد للتفتازاني سماها «تحفة الفوائد لشرح العقائد» ، وحشّى شرح الطوالع وشرح الشاطبية وفصوص ابن عربي ، وكتب على الجغميني في الهيئة شيئا ا ه. وقد ذكرت بعض ترجمته في أول هذا الجزء (في حاشية ترجمة محمد بن علي ابن المنلا المتوفى سنة ٩٧١).

أقول : ومن مؤلفات المترجم «شرح الألباب» وهو شرح أرجوزة في الصرف اسمها «تحفة الأحباب» ، و «شرح النظر» وهي همزية في المنطق للشيخ عبد العزيز المكناسي ، و «نصرة الروض المنجلي» لشيخ العصر الرضي محمد ابن الحنبلي ، و «حلية المفاضلة وحلبة المناضلة» جمع فيه مكتوباته ومطارحاته مع أهل عصره ، يوجد هذا في غوطا وبرلين ، و «أبكار المعاني المخدرة وأسرار المعاني المذخرة» ، ويوجد في مكتبة باريس ، و «مستوفي

٢٠٢

النصر في فتاوي علماء مصر» ، يوجد بخطه في التكية الإخلاصية بحلب.

وقدمنا في ترجمة أخيه محمد ما قاله الشهاب في الريحانة فيهما.

وقد كان رحمه‌الله كثير النسخ والتحرير ، رأيت له في مكاتب حلب أزيد من عشرين مجلدا ، من ذلك نسخة من «در الحبب في تاريخ حلب» ، وقد أشرت إليها غير مرة ، وفي المكتبة الأحمدية عدة مجلدات بخطه وخط أخيه وخط والدهما الشهاب أحمد ، وعندي عدة أوراق بخطه فيها أبيات رائقة لشعراء الشهباء وغيرهم أثبتها في موضعها وأشرت إليها. ويغلب على الظن أن وفاته كانت أواخر سنة ١٠٣١ أو أوائل سنة ١٠٣٢ ، فإن في هذه الأوراق كلمات بخطه قال : كتبتها أواخر شهر شعبان سنة ١٠٣١. ومدحه الشعراء ، ومن جملتهم شاعر الشهباء في ذلك العصر حسين الجزري الآتي ذكره بعده ، فقد مدحه بعدة قصائد وهي مثبتة في ديوانه.

٩٥٤ ـ الشاعر الأديب حسين بن أحمد الجزري المتوفى سنة ١٠٣٣

الأديب حسين بن أحمد بن حسين المعروف بابن الجزري ، الشاعر المشهور الحلبي ، أحد المجيدين. جمع في شعره بين الصناعة والرقة.

نشأ بحلب وأخذ بها الأدب عن إبراهيم بن أحمد بن الملا والقاضي ناصر الدين محمد الحلفا. وشغف بتعلم الشعر صغيرا. وحفظ قصائد عديدة وفحص عن معانيها ، وأكثر من مطالعة كتب الأدب واللغة حتى صار له رسوخ ، ثم أخذ يمدح الأعيان. وكان إذا تكلم لا يظنه الإنسان يعرف شيئا. وكان له خط نسخي في غاية الحسن.

ولما تنبلّ اعتقد غارب الاغتراب ، فرحل إلى الشام والعراق ودخل الروم في سنة أربع عشرة وألف ، وقرأ فيها على محمد بن قاسم الحلبي حصة من هداية الفقه ، وفي ذلك يقول في قصيدته البائية يمدحه بها وهي :

لقد آن إعراضي عن الغي جانبا

وأن أتصدى للهداية طالبا

وهي مذكورة في ديوانه فلا حاجة بنا إلى ذكرها. ثم عاد إلى حلب واستقر بها. وكان أحيانا يتردد لبني سيفا أمراء طرابلس ، وله فيهم المدائح الكثيرة.

٢٠٣

وجمع له ديوانا وهو موجود بأيدي الناس. وكان مغرما بشعر أبي العلاء المعري كثير الأخذ منه ، وأخبر أنه رآه في منامه ، وكان يقرأ عليه اللزوم ، وفهم من تقريره في تلك الرؤيا : الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه ، والشر كل فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه. وكتب على ديوانه اللزوم قوله :

إن كنت متخذا لجرحك مرهما

فكتاب رب العالمين المرهم

أو كنت مصطحبا حبيبا سالكا

سبل الهدى فلزوم مالا يلزم

ومن شعره في الغزل قوله :

لو لم أطل أمل التلاقي

ما عشت من ألم الفراق

فأظل كالملسوع من

أفعى النوى ورجاي راقي

يا ثالث القمرين إلا في الكسوف وفي المحاق

حتام دمعي فيك لا

يرقى وروحي في التراقي

وإلام يستسقي الفؤاد ظما وأجفاني سواقي

وغريق دمع العين لا

تلقاه إلا في احتراق

والحب ما أورى الضلو

ع جوى وما أروى المآقي

فعساك أن تجزي مح

بيك المحبة بالوفاق

ولقد لقيت هواك أعظم ما لقيت وما ألاقي

وصبرت فيك على العدا

صبر الأسير على الوثاق

وعلمت أن الصبر يا

عذب اللمى مرّ المذاق

فاعرض عن الإعراض إعراضي لديك عن النفاق

وارفق ولو بالإلتفات عليّ ما بين الرفاق

فلقد يكون تلفت ال

أعناق داع للعناق

واستبق مني باللقا

ء بواقيا ليست بواقي

أعضاء صب ماله

إلاك من عينيك واقي

فالبيض سود عيونها

أمضى من البيض الرقاق

وقدودهن رشاقة *

في الطعن كالسمر الرشاق

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : وقدودهن رواشق.

٢٠٤

وإذا بليت بحبهن بليت بالدمع المراق

وقوله من قصيدة طويلة يمدح بها العلامة إبراهيم بن أحمد الملا مطلعها :

منهل دمع المحب من دمه

فارفق بمغرى الفؤاد مغرمه

أبكيته والبكاء شاهد ما

يذوب من لحمه وأعظمه

كأنه في الفراش من سقم

معنى رقيق يجول في فمه

يا قمرا فرعه الظلام على

غصن نقا باسما بأنجمه

أي ظلوم سواك ينصره

لم يخف الله من تظلّمه

والصب يبدي أليم صبوته

للحب في الحب من تألّمه

ومن سائر شعره قوله متغزلا.

نتفدّاك ساقيا قد كساك

الحسن من فرقك المضيء لساقك

تشرق الشمس من يديك ومن

فيك الثريا والبدر من أطواقك

أوليس العجيب كونك بدرا

كاملا والمحاق في عشاقك

فتنة أنت اذ تميت وتحيي

بتلاقيك من تشا وفراقك

لست من هذه الخليقة بل

أنت مليك أرسلت من خلّاقك

وقوله :

يا ليلة جمعتنا والسرور معا

لاروّعتها دواعي الأفق بالفلق

لو استطعنا وقد شابت مفارقها

صبغا لها من سواد القلب والحدق

بكيتها وشباب العيش في دعة

منا وغافل طرف الدهر لم يفق

علما بأن الليالي غير باقية

وكل مجتمع يرمى بمفترق

وله وهو معنى غريب :

وبي مضاضة عيش مسنّي لغب

منها وساورني في سورها سغب

حتى تصوّر لي منها على ظمأ

أن المنية في ثغر المنى شنب

وله :

أحجّب من أهواه خوف وشاية

وأقصيه عنى والمزار قريب

٢٠٥

ولم أر في الدنيا أشد مضاضة

على القلب من حب عليه رقيب

وقوله وهما من ملحه :

قديم محبة وحديث عهد

مقرهما فؤاد أخ حميم

وإن خلتم سواكم لي خليلا

فإن الحب للخل القديم

وقال وهو بدمشق في غلام رمدت عينه :

وما رمد في عين حبي لعلة

ولكنني أنبيكم بوجوده

أراد يرى ما في محياه من سنى

فأثّر فيه جرم شمس خدوده

وقال يمدح فصل الربيع :

قابلتنا أيدي الربيع بوجه

حسن فيه للمحاسن شاهد

ولنعم الزمان منه منحنا

فضل فصل الربيع لو كان خالد

وقال :

مولاي يا خير من يرجّى *

لزلّة أثبتت بسهو

إني أهل لكل ذنب

وأنت أهل لكل عفو

ومن مفرداته قوله :

عسى شمس هذا الدهر تأتي بوفق ما

نرجّي وسعد الوفق في شرف الشمس

وقوله :

تغافلت عن أشياء منه وربما

يسرك في بعض الأمور التغافل (١)

وله :

__________________

(*) في «خلاصة الأثر» : يا خير من محوه يرجّى.

(١) قبل هذا البيت كما في الريحانة :

ورب غنيّ كنت أحسن وده

وتقبح لي أقواله والفعائل

٢٠٦

نأسو برؤياك ما أساء بنا

لا يصلح الجرح غير مرهمه (١)

فإن هذا الزمان محسنه

كفّارة عن ذنوب مجرمه

وقوله وأجاد :

وليل كأن الصبح فيه مآرب

نؤمل أن تقضى وخلّ نصادقه

وسافر في آخر عمره إلى حماة لرجاء عن له بها ، فرأى ليلة سيره كأنه يودع أهله ، فاستيقظ وهو ينشد :

قومي أحسني منك وداعي فما

بعدك حسنى يا ابنة القوم

وزوّدي جفنّي طيف الكرى

فليس بعد اليوم من نوم

فلما دخلها توفي ابن أميرها علي بن الأعوج واسمه روحي فقال :

لا تعجبوا أن سال دمعي دما

واشتعلت نار تباريحي

فلست من يبكي على غيره

وإنما أبكي على روحي

وبعد مدة توفي ، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وألف ، هكذا ذكر البديعي وفاته في السنة المذكورة. ثم رأيت في نسخة من ديوان ابن الجزري بخط بعض الدمشقيين ذكر أنه أخبره الأمير علي بن الأعوج أن الجزري مات بعد إنشاد البيتين المذكورين بثلاثة أيام ، ولم يقل بعدها شعرا ، وأن وفاته كانت في سنة أربع وثلاثين. وناقض أبو الوفا العرضي في وفاته فذكر أنها في سنة اثنتين وثلاثين ، ولست أدري أي المقولات أصح. وزاد العرضي أنه توفي غريبا بحماة كما توفي والده بالبصرة غريبا وعمره نحو الخمس والثلاثين ، ودفن بالتربة المعروفة بالعليليات. والجزري نسبة إلى جزيرة ابن عمر من بلاد الأكراد ، وبها كان أجداده ولهم فيها المكانة والجاه ، كما أشار إلى ذلك في بعض قصائده :

إن الجزيرة لا عدا جوديّها الغيث الهتون

خلقوا بها آباي آساد الشرى وهي العرين

ولهم بها البيت الموثل في قواعده المكين

__________________

(١) قبله كما في الريحانة :

فاسلم بدهر عصمت منه به

وعش بعلياك عمر أعصمه

٢٠٧

وبركنه المجد المتين وظله المجد المبين

ولنا بهم نسب على الدنيا له شرف ودين

ا ه

وترجمه العلامة الشيخ محمد العرضي في القسم الأول من كتابه الذي ترجم فيه ١٤ شاعرا من شعراء مصر وحلب والشام والحجاز فقال :

هو ثاني المتنبي أحمد بن الحسين ، وكلامه كما قيل نقش الفص وناظر العين.

قالوا خذ العين من كل فقلت لهم

للعين فضل ولكن ناظر العين

حرفين من ألف طومار مسودة

وربما لم تجد في الألف حرفين

له غرر ملح ودرر كلمات ، إذا فوفها بخطه تعدل أجنحة الطواويس وصدور البزاة. وكان إذا قصد جاوز حد الاقتصاد إلى الإبداع ، وإذا قطع الشعر قطع السعر بالثمن البخس من المبتاع. وله طريق واحدة يأتي فيها بالسحر الحلال ، وهي وصف السير وندب الأطلال. وبالجملة كان النيّر الأعظم من بين سيارة كواكب الشهباء بل الدنيا في العصر الأخير ، ولقد وقف بعده فلك الشعر فما أذن بالمسير. كان ظريف الخلق كريم الخلق ، يغلب عليه الصمت والسكون ، فهو كالبحر إذا لم تهجه الريح ساكن لكن أحشاءه منطوية على الدر المكنون. وله ديوان شعر تتهاداه أكف الرواه ، وتزدحم على رشف سلافه الآذان والشفاه ، ومع هذا لقد احتار في اختيار طريق يوصله إلى المعاش ، فما زال بين قص أجنحة وارتياش ، فتارة سافر إلى الروم ومدح الأستاذ القاسمي ، فأوصله إلى المولى كمال الدنيا والدين المعروف بابن طاش كبري وهو قاضي العسكر ، ولقيه بقصيدة نفث فيها بعقد سحره ونثر عقد درره الفريدة فضمن له نجح المقاصد ، إلا أنه حال بينه وبينها دهره أبو اليقظان وبخته الراقد ، فزحزح مخدومه عن قضاء العسكر سريعا ، فخجل صاحب الترجمة أن يلاقيه بعد ذلك وكر راجعا إلى حلب مرتبع شبابه وملعب أترابه ، وقنع من ظفره بإيابه ، فوجه العزم تلقاء حضرة بني سيفا بطرابلس وعلى بابهم إذ ذاك كل شاعر وكاتب ، فحكوا بذلك أيام الرشيد أو أيام ابن عباد الصاحب ، واختص منهم بالأمير محمد أمير عسكر الشعر بالاتفاق ، وسوقه عنده نافقة قائمة على ساق ، فارتفق بمديحه وارتزق ، حتى قضى الأمير نحبه ولقي ربه غريبا شهيدا بمدينة قونية في طريق الروم ، وأنشد المذكور فيه :

عجبت لسيف كيف يغمد في الثرى

وكيف يوارى البحر في طيّة الكفن

٢٠٨

ثم اختص بعده من بين رؤساء حلب يسميّه محمد الشهير بابن العلبي وقد تولى إمارة لواء عزاز ، فتلقاه بإكرام وإعزاز ، وفوض إليه أمر الكتابة ، فتوسد حضرته وافترش أعتابه ، وهي حضرة تردها الناس عفاة ، وتصدر عنها كفاة ، إذ صاحبها من أسرة أيديهم للكرم والسماحة ، ووجوههم للوضاءة والصباحة ، وهم بيت مال للمسلمين ، إلا أنهم جمعوه بكد اليمين وعرق الجبين ، إذ كانوا أهل سفر وتجارة ، يضربون بآباط الإبل إلى أكباد البلاد ، مع أنه مطامح الأعين النظارة. وبالجملة كانت الشهباء تتجمل بهم وتضرب برياستهم الأمثال ، إلا أنه الآن قد أقفر قصرهم وعاد أثاثهم مقصورا على الآثار دون الرجال.

ولنرجع إلى تتمة خبر صاحب الترجمة : فلما عزل مخدومه المزبور عن لواء عزاز قصد صاحب الترجمة الأمير حسين بن الأعوج صاحب حماه ، وفيها دعاه داعي حماة فلباه غريبا في سنة اثنتين وثلاثين وألف. ومن غريب الاتفاقيات ما أخبرنا صاحبنا الأديب الشيخ عبد القادر الشهير بابن الطبّال الحموي رحمه‌الله تعالى : لما انتقل صاحب الترجمة إلى جوار ربه فكرت في نظم تاريخ لوفاته لما كان بيننا من المودة المنسوجة التي هي وراء لحمة الأدب الآكد من لحمة النسب ، فنمت في تلك الليلة ، فرأيته في منامي وهو يقول لي : أنا تاريخ وفاتي كتبته بالأقلام ، فاستيقظت فحسبته فإذا هو كما قال طبق النعل بالنعل. انتهى. ولا أدري هل أدخل هذا الكلام في كفة الميزان أم أبقاه على حاله ، وبالجملة فقد رأى وسنان ما لم يختلج بباله وهو يقظان.

ومما وقع اختياري من عيون ديوانه وآثار بنانه قوله بمدح المولى كمال الدين داش كبري بقوله :

سقاك الحيا ريّا وحيّاك أربعا

نعمنا بنعمان بهن ولعلعا

وجادك جود الدمع يا سفح رامة

بسفح إذا ضن السحاب وأقلعا

فكم مر لي عيش بظلك حاليا

سرى غير مذموم حميدا وأسرعا

بخمصانة غيداء سحر جفونها

يدير علينا البابليّ المشعشعا

بدت ومضاهي البدر تحت قناعها

فلو لا التقى صدقت فيها المقنّعا

وقوله المقنع أراد ابن المقنّع الخراساني الساحر المشهور الذي يظهر قمرا بقوة سحره أيام سرار القمر فيضيء في الأفق مسيرة شهر. وما أحسن ما قال بعضهم :

٢٠٩

لعمرك ما بدر المقنّع طالعا

بأسحر * من ألحاظ بدري المعمم

ودهر طلبنا القرب فيه من النوى

ففرق من آمالنا ما تجمعا

أرتنا الليالي حاليات صنيعها

فلما اختبرناهن كنّ تصنّعا

لقد وهبتنا فاستردت هباتها

ولم تهب الأيام إلا لتمنعا

ومن صحب الدنيا ولو عمر ساعة

تحول فيها حاله وتنوّعا

وليل غدا فيّ كأن بفوده

من الزهر تاجا باليواقيت رصّعا

ومنها في المديح :

كريم كأن الجود باسط كفه

فلم يثن من راحاته الدهر إصبعا

وحيد العلا لو رام شفعا لوتره

من الدهر يوما لم يكن ليشفّعا

ثم ساق بعد ذلك الكثير من شعره ، وفي نقل الجميع طول.

وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة فقال : أديب له أوصاف حسنى ، ومناقب هي الوشي بهجة وحسنا ، إذا أصغت له أذن أديب ، حلت منه بواد خصيب.

سحر من اللفظ لو دارت سلافته

على الزمان تمشّى مشية الثمل

رأيته بالروم وهو شاب ، يجر رداءي شباب وآداب ، وهلاله مشرق في أفق نمائه ، وغرة صبحه تؤذن بوجه ذكاء ذكائه ، وقد سلك للمجد طريقة غير مطروقة ، بهمة غير همة وخليقة غير خليقة ، وللدهر فيه عدات يرجى إنجازها ، وحلل منشورة سيلوح طرازها ، فلم ينبسط بردها حتى انطوى ، ولم يورق قضيبه الرطيب حتى ذوى ، والدهر يقول : والنجم في مطلع العمر هوى. وله ديوان بليغ طالعته فاخترت منه قوله من قصيدة :

أعطى سرائرك النحول اللوّما

والحب ليس بممكن أن يكتما

ووشى ونمّ عليك دمعك عندما

وشى بعندمه الخدود ونمنما

أفرمت تبهم واضحا من سره

والدمع متضح به ما أبهما

أم خلت أن أساك تمحوه الأسى

كلا ورب جراحة لن تحسما

إن المحبة محنة لا منحة

ومن الغرام يرى المحب المغرما

__________________

(*) في الأصل : بأسحار.

٢١٠

وشكيتي شاكي السلاح جفونه

مر العذاب لشقوتي عذب اللمى

ظبي ظبا لحظاته بمضائها

أنا موقن لا شك تردي الضيغما

أخشى الهلاك توهما من بأسه

ولربما هلك المحب توهما

وأظل صادي القلب خيفة صده

ولو انه بنعيم وصل أنعما

وإذا منعت الماء أول مرة

ووردته أخرى تذكرت الظما

بأبي وإن كان الأبيّ وبي رشا

قدّ الغصون رشاقة وتقدما

كالصبح فرقا والغزالة طلعة

والبدر وجها والثريا مبسما

يزداد ورد خدوده وجوانحي

من نارهن تضرجا وتضرما

صافي الأديم ترى ترافة جسمه

ماء ويأبى الماء أن يتجسما

كيف الهداية لي وفاحم فرعه

قد ظل يجهد أن يضل ويفحما

كالأفعوان على قضيب كثيبه

لا يرتجى لسليمه أن يسلما

أنا من أباح يد الغرام زمامه

فمشى به أنى يشاء ويمما

فعسى الحبائب أن تخفف عبأها

فلقد حملت من النوائب أعظما

في كل يوم روعة أو لوعة

والقد تقعده الحوادث توأما

شيئان لست بآمن عقباهما

أن تصحب الدنيا وتدني الأرقما

فلأبلغن نهاية في قدحها

إن لم تبلّغني الأبرّ الأكرما

ومنها :

ولو ان إدراك المنى بيد النهى

وطئت نعامة أخمصيّ الأنجما

ومتى يصحّ سقيم جد أخي الحجى

يوما إذا كان الزمان المسقما

فالحمق أليق والخداع موافق

والمكر أرفق ما ترافق منهما

أبناء دهرك بالنفاق نفاقهم

أفيرتضونك بالهدى متكلما

ما لم تنافق فاتخذ نفقا به

ترجو السلامة منهم أو سلّما

لا يفقهون وشر من صاحبته

أن تصحب الأعمى الأصم الأبكما

ولقد ملئت تحاربا وتجاربا

لم تلقني إلا إناء مفعما

ثم ساق قسما كبيرا من شعره ، وفي ذكره جميعه طول.

وترجمه السيد علي صدر الدين في كتابه الموسوم «بسلافة العصر في محاسن الشعراء

٢١١

بكل مصر» فقال : هو أحد صاغة القريض ، البديع التصريح فيه والتعريض ، العالم بشعار الأشعار ، والمفتض لأبكار الأفكار ، فتح بقرائحه باب البيان المقفل ، ووسم من غفلة ما سها عنه غيره وأغفل ، راقت بدائع آدابه ورقت ، وملكت روائعه حر الكلام واسترقت ، فهو إذا نظم أهدى السحر للأحداق والرقة للخصور ، وشاد من أبيات أدبه ما تعنو له مشيدات القصور ، فتملك المسامع إبداعا وإعجابا ، وكشف عن وجوه المحاسن نقابا وحجابا ، فمن بديعه المستجاد ، ومطبوعه الذي أبدع فيه وأجاد ، قوله في صدر قصيدة مدح بها ابن سيفا :

ألمّا نحيّيها ربى وربوعا *

وحثّا نسقّيها دما ودموعا

وعوجا على عافي الطلول وعرّجا

معي واندباني والطلول جميعا

ولا ترجيا القود الرواسم واعقلا

على الرسم منها ظالعا وضليعا

خليلي خلي من أصاخ بسمعه

وبثّا لخل لا يكون سميعا

فلا تعصياني في التصابي على الصبا

وأرفق ما كان الرفيق مطيعا

قفا نوضح الأشجان منا بتوضح

وتنتجع الدمع الملثّ نجيعا

ونبكي الليالي الغاديات نعيدها

لو أن الليالي تستطيع رجوعا

معاهد أنس بان عهد أنيسها

بعيشي ريعان الشباب وريعا

وجنة مأوى غاض ماء نعيمها

وجرعت غسلينا بها وضريعا

لقد غال ما بيني وبين ظبائها

على الجذع بين ظلت منه جزوعا

وغيّب عن عينيّ أوجه عينها

وكنّ شموسا لا تغبن طلوعا

عقائل يعقلن الفؤاد عن السوى

ويصرعن ذا العقل الصحيح سريعا

تقد القنا منهن والصبح والدجى

قدودا أقلّت أوجها وفروعا

أحاشيك بي منهن ذات تمنع

وأقتل ما كان المحب منوعا

لها لحظات ما أسنة قومها

بأسرع منها في الكميّ وقوعا

تمنّى يزور الطيف طرفي وإنه

لزور وإن كان المحب قنوعا

وأبخل خلق الله من كان باعثا

خيالا لعين لا تذوق هجوعا

يكلفني فيها الهوى ما يكلف

اللهاء ابن سيفا منذ كان رضيعا

ا ه

__________________

(*) في الأصل وفي سلافة العصر : لما نحييها رثى وربوعا ، وهو تصحيف.

٢١٢

أقول : إني لما وقفت على ما قاله المحبي وصاحب الريحانة في حقه وتأملت ما أورداه له من الشعر العذب الذي يأخذ بمجامع القلب ، ورأيته قد اشتمل على ما فيه من حسن السبك وسلاسة النظم على روائع الحكم وبدائع الأمثال ، وسلك فيه مسلك الأوائل بحيث تخاله شعر أبي تمام أو البحتري أو أبي الطيب أو أبي العلاء ، عزمت على جمع متفرق شعره والبحث عن ديوانه ، وذلك من مدة تزيد عن عشر سنوات ، فأداني البحث إلى الحصول على مجموعة للفاضل الأديب الشيخ محمد العرضي ، فإذا فيها ترجمته المتقدمة وشيء من شعره ، فزادني ذلك حبا فيه وشغفا في شعره ، ووجدت في أول هذا المجموع ثلاثين ورقة من شعره. ثم رأيت ابن معصوم ذكره في سلافته وأورد شيئا من شعره فنقلت ما فيه. ثم إن صديقي الشيخ عبد القادر الهلالي شيخ الزاوية الهلالية في محلة الجلّوم عثر في مكتبته على أربع عشرة ورقة من ديوانه لكنها بالية ممزقة ، فأعطانيها ووعد بالعثور على غيرها فيها أول الديوان. وكنت عثرت على ديوانه في بعض البيوت ، فاجتهدت إلى أن ابتعته ممن هو عنده بأضعاف ثمنه ، وهو محرر بخط عبد القادر بن أحمد الدهان الحلبي سنة ١٣١٥ ، وقال في أوله إنه نسخة عن نسخة عتيقة أوراقها بالية وبعض سطورها ممحوة ، ولم أعرف هذا الناسخ إلى الآن ، وعند مقابلته على ما تجمع لدي من شعره تبين أن بعض نظمه لا وجود له في هذا الديوان.

ثم رأيت في آداب اللغة العربية لجرجي زيدان في الجزء الثالث منه (ص ٢٧٦) ذكر المترجم ، وقال : إن ديوانه في مكتبة برلين وهو مرتب على المواضيع ، فأرسلت لاستنساخه أو أخذه بالمصور الشمسي (الفوتوغراف) ، وقد عزمت بعد حضوره أن أضيف إليه ما ليس فيه وأسعى بطبعه إن شاء الله تعالى ، فإن مثل هذا الشعر العالي لا ينبغي أن يبقى على طرف الهجران وأن يهمل في زوايا النسيان.

٩٥٥ ـ الشيخ أحمد بن محمد السعدي المتوفى سنة ١٠٣٤

الشيخ أحمد بن محمد السعدي الحلبي ، الشهير بابن خليفة الزكي ، أخو الشيخ وفا خليفة بني سعد الدين الجباويين بحلب.

آلت إليه الخلافة بعد موت أخيه المذكور ، فلازم حلقة الذكر بعد صلاة الجمعة في الجامع الكبير بحلب وصبر على مرارة الفاقة وتحمل أحوال المريدين ، ولازم زاويته لا يخرج

٢١٣

إلا للذكر غالبا ويبذل قراه للواردين.

وكان كلما كبر عمره ازداد خيرا وصلاحا ودينا وفلاحا ، ولما كان الشيخ عبد الرحيم يذكر بالقرب منه كان إذا قام الفقراء للذكر أخذ الفقراء وأبعد عن فقراء الشيخ عبد الرحيم الثاني للسعدين هربا من الجدال والعداوة ، وبخلاف أخيه فإنه كان يقرب من الشيخ عبد الرحيم.

حكى بعض الثقات العدول من كراماته أنه أمر نقيبه أن يأخذ على الحمار حمل حنطة ليطحنها ، فطلب النقيب منه عثمانيين لأجل اليسقيّة. قال : والله ما معي صبرهم ، فتوجه النقيب وفم العدل مربوط والحنطة نازلة عند فم العدل وعند عقبه حتى يحصل التعادل ، فلما وصل إلى اليسقّي امتنع من ترك العثمانيين وقطع الحبل المربوط به فم العدل بالخنجر والحنطة متراكمة عند فم العدل ، فلم يسقط منها حبة ، فضج اليسقّي بالبكاء وذهب إلى الشيخ تائبا خاضعا معتقدا.

ووالده شيخ عالم شرح البخاري على أساليب مجالس الوعظ ذكر فيه مسائل حسنة وفوائد نفيسة (قدمنا ذكر ذلك في ترجمة أخيه أبي الوفا المتوفى سنة ١٠١٠). وله تأليف جمع فيه مناقب شيخه سعد الدين ومناقب أولاده من بعده.

وكانت وفاته سنة أربع وثلاثين وألف ، ودفن بزاوية جده رحمه‌الله تعالى.

٩٥٦ ـ المولى إبراهيم بن أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١٠٣٩

المولى إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد الكواكبي الحلبي قاضي مكة ، من أجلاء العلماء.

قرأ في مبادي عمره على الشيخ الإمام عمر العرضي وعلى والده في مقدمات العلوم حتى حصل ملكة ، ثم توجه إلى دار الخلافة وسلك طريق الموالي وقرأ على بعض أفاضل الروم حتى صارت له الملكة التامة.

ثم من الله عليه فتزوج بابنة المولى عبد الباقي بن طورسون واستصحبه معه لما ولي قضاء مصر إليها فحصل له مالا جزيلا ، ثم رجع في خدمته إلى قسطنطينية ، فمات ابن طورسون ، ثم ماتت الزوجة وتصرم المال وقصر في النهوض ، فأخذ بعد اللتيا والتي مدرسة أياصوفية.

٢١٤

ثم لم يزل يطلب عزل نفسه عن المدرسة فلا يوافقونه حتى تركها شاغرة من غير أخذ معلوم ولا إلقاء درس أصلا.

وكان أيام الانفصال الكبير ورد حلب ووالداه حيان ، فنزل عند والده ، فشكت أمه إليه من أبيه ما يصنع بها ، فتشاجر هو وأبوه وتقاضيا ورحل عن دار والده وصار كل يسب الآخر ، فاسترضى العرضي المذكور وجماعة من العلماء الابن ، ثم أخذوه إلى والده فقبل يده وتباريا من الطرفين.

وآخر الأمر أعطي قضاء مكة ، فسافر من مصر بحرا ثم أراد أن ينقل ابنه من سفينة صغيرة إلى مركب مخافة عليه وحمله إلى المركب ، فسقط إلى البحر وغرق ، وتناول بعض الخدمة الولد فنجا ، وذلك حين توجهه عند جدة في سنة تسع وثلاثين وألف وكان عمره نحو سبعين سنة.

وبنو الكواكبي بحلب طائفة كبيرة سيأتي منهم في كتابنا هذا جماعة ، وكلهم علماء وصوفية. وأول من اشتهر منهم محمد بن إبراهيم المتوفى سنة سبع وتسعين وثمانمائة ، ذكره ابن الحنبلي في تاريخه قال : ودفن بجوار الجامع المعروف الآن بجامع الكواكبي بمحلة الجلّوم بمدينة حلب ، وعمرت عليه قبة من مال كافل حلب سيباي الجركسي ، وكانت طريقته أردبيلية. وإنما قيل له الكواكبي لأنه كان في مبدأ أمره حدادا يعمل المسامير الكواكبية ، ثم فتح الله عليه وحصلت له الشهرة الزائدة. ا ه.

٩٥٧ ـ الشيخ أبو الجود البتروني المتوفى سنة ١٠٣٩

الشيخ أبو الجود بن عبد الرحمن بن محمد ، سيأتي تمام نسبه في ترجمة ابن أخيه إبراهيم ابن أبي اليمن ، البتروني الحلبي الحنفي ، مفتي حلب وعالم ذلك القطر ومحط أهل دائرته.

وكان علامة محققا ، بارعا في المذهب والتفسير ، فارسا في البحث ، نظارا. هاجر به أبوه وبأخويه أبي اليمن ومحمد إلى حلب بإشارة الشيخ علوان الحموي ، وصار أبوهم واعظا وخطيبا بجامع حلب. وكان هو وولده أبو الجود يتعممان بالعمامة الصوفية. واشتغل أبو الجود على علماء عصره ، وولي بعد أبيه الوعظ والخطابة بالجامع ، وكان يقرأ الدروس في الرواق الشرقي. ثم ولي الإفتاء وتقاعد عن قضاء القدس ثم عن قضاء المدينة ،

٢١٥

ونال من الرتبة ما لم ينله أحد ممن تقدمه.

وكان له سخاء ومروءة وحمية. ومدحه شعراء عصره وخلدوا مدائحه في دواوينهم ، فمنهم حسين الجزري وفتح الله ابن النحاس وحسين بن جاندار البقاعي ، وفيه يقول بعض شعراء حلب :

أبى الجود في الدنيا سواك لأنه

تفرّع من جود وأنت أبو الجود

وأضدادك الوادي لهم سال واستوت

سفينة بحر العلم منك على الجودي

وذكره البديعي في «ذكرى حبيب» وأثنى عليه كثيرا ، وقال في ترجمته :

دخل مرّة على بعض الوزراء العظام ، ومجلسه غاص بالخاص والعام ، بعد غضب يمنع لذة الجهود ، ومن ذا يقر على زئير الأسود ، فخاطبه بجرس جهوري ، ولفظ جوهري ، يزيل الإحن من القلوب ، وتغفر بمثله الذنوب ، بما نصه : نام أعرابي ليلة عن جملة ففقده ، فلما طلع القمر وجده ، فرفع إلى الله يده وقال : أشهد أنك أعليته وجعلت السماء بيته ، ثم نظر إلى القمر وقال : إن الله صوّرك ونوّرك وعلى البروج دوّرك ، فإذا شاء قدّرك وإذا شاء كوّرك ، فلا أعلم مزيدا أسأله لك إلا الدوام ، ولئن أهديت إلى قلبي سروره لقد أهدى الله إليك نوره ، فأنا ذلك الأعرابي ، والوزير ذلك القمر المضي ، لقد أعلى الله قدره وأنفذ أمره ، ونظر إليه وإلى الذين يحسدونه فجعله فوقهم وجعلهم دونه ، فلا أعلم مزيدا أدعو به إلا الدوام ، فالله يديم له ظلال النعمة ومجال القدرة ومساق الدولة.

ووقفت على تقريظ كتبه على مؤلف العلامة الطرابلسي الدمشقي الذي شرح به فرائض «ملتقى الأبحر» وهو : أمعنت النظر في هذا التحرير ، وأجلت الفكر فيما حواه من التصوير والتقرير ، فرأيته البحر المحيط إلا أنه ثجّاج ، والوبل الغزير خلا أنه موّاج ، وجزمت بأنه السحر الحلال ، والكمال الذي لا يحكيه في فنه كمال ، لا زالت شموس فوائد مؤلفه مشرقة ، ولا برحت أغصان فوائده مورقة ، ما زينت أقلام العلماء بوشي سطورها وجنات الطروس ، فأشرقت لذلك صدور الصدور إشراق الشموس.

وكانت وفاته غرة صفر سنة تسع وثلاثين وألف وقد ناهز التسعين ، وهو في نشاط أبناء العشرين. وقيل في تاريخ موته :

إن أبا الجود الذي فاق الورى

وروّج العلم وساد سؤددا

٢١٦

أدركه الموت الذي تاريخه

العلم مات بعده وأرقدا

ورثاه السيد محمد بن عمر العرضي بقصيدة عجيبة ذكرتها برمتها ميلا مني لشعر هذا السيد ، وكذا أفعل في كل آثاره ، وهي :

بفقدك قامت نواعى الحكم

وقد فلّ بعدك حدّ القلم

أقامت مآتمها المشكلات

عليك وسوّد وجه الرقم

فتبا ليومك من طارق

نسخت به لذتي بالألم

ورثت به حالكات الهموم

كما ورث ابنك عزّ النعم

ورعيا لدهر أثرنا به

نقيع المباحث في المزدحم

نجاذب أطرافها ساعيين

إلى حلبة السبق سعي القدم

صراخ الزمان صراخ النكا

ل عليك وحق له بالعدم

وقد كنت سدة ثلماته

وآخر نعمائه للأمم

وعذرا لأبنائه إنهم

ذنوب لهم بل صروف النقم

فقدتك فقدان روق الشباب

وشعب الأماني به ملتئم

ليبكك رأد الضحى والأصيل

ورأد الصباح ورأد الظلم

لبست عليك ثياب الحدا

د وشيبت غضارة دمعي بدم

لقد ثكلت كل من لم تلد

نظيرك في خيمه والشيم

حنانيك عن مهجة رعتها

ولبيك عن كبد تضطرم

أبا الجود قرة عين العلا

وغرة جبهتها في القدم

لقد خاب بعدك من ينتضي

سيوف معاليك في الملتطم

أيصفر في الجوّ بعد العتاة

وشهب البزاة بغاث الرخم

دفنت بدفنك في خاطري

مباحث علم غدت كالرمم

قضيت ولم تقض منك المنى

لباناتها والقضا محتتم

فإن كان قبرك دون الثرى

فقدرك فوق عوالي الهمم

يعز عليّ بأن ينطوي

بساط الدروس ونشر الحكم

فقد شدت مجلس أهل العلوم

ولكن بأيدي المنون انهدم

سقى جدثا أنت ثاو به

رخيّ السيول مفاض الديم

٢١٧

٩٥٨ ـ عبد القادر بن محمد قضيب البان المتوفى في حدود سنة ١٠٤٠

عبد القادر بن محمد أبي الفيض ، السيد الأفضل أبو محمد المعروف بابن قضيب البان.

يتصل نسبه بأبي عبد الله الحسين قضيب البان الموصلي من أولاد موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

والحسين قضيب البان المذكور صاحب الكرامات المشهورة ، ذكره كثير من النسابة والمؤرخين ، وهو الذي كان صحب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس‌سره ، وزوج الشيخ عبد القادر ابنته المسماة بخديجة السمينة لأبي المحاسن علي ولد الشيخ قضيب البان المذكور ، وكانت قبل تحت ولد الشيخ عبد الرحمن الطنشونجي ، فمات عنها جده وتزوجها بعده أبو المحاسن المذكور واستولدها ، ذكر ذلك عبد الله بن سعد اليافعي وشيخ الشرف في كتابيهما ، فيكون نسب السيد عبد القادر صاحب الترجمة متصلا بحضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني من ابنته خديجة السمينة وبحضرة الشيخ قضيب البان من ولده أبي المحاسن علي المذكور.

وهذا السيد هو أكبر أهل وقته وفريد أقرانه ، ولد بحماة ، وهاجر به أبوه إلى حلب وتوطن بها إلى سنة ألف ، وفيها حج إلى بيت الله الحرام وجاور بمكة إلى حدود سنة اثنتي عشرة بعد الألف. ومنها توجه إلى القاهرة بإشارة القطب ، وكان شيخ الإسلام يحيى ابن زكريا قاضيا بها ، فزاره ، وكان معتقدا على المشايخ والأولياء ، فبشره بمشيخة الإسلام وبايعه على الطرق الثلاثة النقشبندية والقادرية والخلوتية ، ثم أقره على طريق النقشبندية وأمره بالاشتغال بالذكر القلبي ، وله معه كرامات ومكاشفات. ولما ولي الإفتاء وجه إليه نقابة حلب وديار بكر وما والاهما مع قضاء حماة بطريق التأبيد برتبة مكة المكرمة ، فلم يقبل القضاء والرتبة واعتذر عن عدم قبوله ، وقبل النقابة لكونها خدمة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واستمر نقيبا بحلب إلى أن مات.

وكان له كرامات شهيرة وأحوال باهرة ، وألف التآليف الحسنة الوضع الدالة على رسوخ قدمه في التصوف والمعارف الإلهية ، من جملتها «الفتوحات المدنية» (١) ألفها على

__________________

(١) كان منه نسخة نفيسة في مكتبة المدرسة القرناصية بحلب سرقت وبيعت ولله الأمر.

٢١٨

وتيرة «الفتوحات المكية والمدنية» للشيخ الأكبر ابن عربي ، ويقول شيخ الإسلام ابن زكريا المذكور مقرظا عليها بقوله :

فتوحات شيخي غادة مدنية

كستها نفيسات العلوم ملابسا

فلا عجب لو تشتهيها نفوسنا

وأبحاثها أبدت إلينا نفائسا

فلله در الشيخ أكبر عصره

بأنفاسه لا زال يحيي المجالسا

وله كتاب «نهج السعادة» في التصوف ، و «ناقوس الطباع في أسرار السماع» ، و «شرح أسماء الله الحسنى» ، و «رسالة في أسرار الحروف» ، وكتاب «مقاصد القصائد» ، و «نفحة البان» ، و «حديقة اللآل في وصف الآل» ، وكتاب «المواقف الإلهية» ، و «عقيدة أرباب الخواص» ، وغير ذلك ما ينوف على أربعين تأليفا. وله ديوان شعر كله في لسان القوم (١) ، وله تائية عارض بها تائية ابن الفارض ، وقد شرحها العلامة إبراهيم بن المنلا المقدم ذكره شرحا لطيفا. ومن لطائف شعره :

أرى للقلب نحوكم انجذابا

لأسمع من جنابكم خطابا

فكم ليل بقربكم تقضىّ

إلى سحر سجودا واقترابا

وكم من نشوة وردت نهارا

فلا خطأ وعيت ولا صوابا

وكم سحّت علينا من نداكم

غيوث لا تفارقنا انسكابا

وكم نفحات أنس أسكرتنا

بها حضر الصفا والقبض غابا

توافقت القلوب على التداني

فلم نشهد به منكم حجابا

لقد حاز الوليّ بكل حال

من الرحمن فيضا مستطابا

تراه بين أهل الأرض أضحى

لداعي الحب أسرعهم جوابا

وغير الله ليس له مراد

وغير حماه لا يرجو انتسابا

ومن رقيقه قوله :

سقاني الحب من خمر العيان

فتهت بسكرتي بين الدنان

وقلت لرفقتي رفقا بقلبي

وخاطبت الحبيب بلا لسان

شربت لحبه خمرا سقاني

كصحبي فانتشى منها جناني

__________________

(١) وجدت ديوانه في مكتبة الشيخ إبراهيم المرعشي من وجوه حلب رحمه‌الله. وذكره في الكشف وسماه «شعائر المشاعر» ، وذكر له من التآليف «الكواكب المضية في الأحاديث النبوية».

٢١٩

شطحت بشربها بين الندامى

ورشدي ضاع مما قد دهاني

فأكرمني وتوّجني بتاج

يقوم بسره قطب الزمان

وأمّرني على الأقطاب حتى

سرى أمري بهم في كل شان

وأطلعني على سر خفيّ

وقال الستر من سر المعاني

فهام أولو النهى من بعد سكري

وغابوا في الشهود عن المكان

مريدي لا تخف واشطح بسرّي

فقد أذن الحبيب بما حباني

وقوله :

نظرت إليك بعين الطلب

ومنك إذن طلبي والسبب

رأيتك في كل شيء بدا

وليس سواك لعيني حجب

فأنت هو الظاهر المرتجى

وأنت هو الباطن المرتقب

وأنت الوجود لأهل الشهود

وأنت الذي كل شيء وهب

وعيني بعينك قد أبصرت

لعينك في كل تلك النسب

ومن مقاطيعه قوله :

ولقد شكوتك في الضمير إلى الهوى

وعتبت من حنق عليك تجننا

منّيت نفسي في هواك فلم أجد

إلا المنية عندما هجم المنا

وقوله :

إذا امتد كف للأنام بحاجة

فقوتها من عادة الهمة السفلى

ومن يك يستغني عن الخلق جملة

فيغنيه رب الخلق من فضله الأعلى

وقوله :

إذا أسأت فأحسن

واستغفر الله تنج

وتب على الفور وارجع

ورحمة الله فارج

وله غير ذلك من لطائف القول.

وكانت ولادته في سنة إحدى وسبعين وتسعمائة ، وتوفي في حدود سنة أربعين وألف بحلب. ا ه.

٢٢٠