إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

وأخبرني أنه أنشد بمجلس بعض مشايخ القاهرة قول جده :

كيف أسلو عنك أو أخلو وقد

صرت جثمانا وفيه أنت روح

لا ترح عني وترضي عاذلي

أنت روحي كيف أرضى أن تروح

فصرخ الشيخ في المجلس صرخة ، ثم حمل إلى بيته فتعلل أياما ومات. ومما كتبت له من كلماته الدرية وعبرات عبراته اللؤلؤية ما هو من شرط كتابي هذا قوله :

يا لنهر لاعبت أمواجه

نسمات الريح في اليوم الأغر

فاكتست من أخضر الديباج ما

كللته الشمس من باهي الدرر

ا ه. ولم يذكر تاريخ وفاته لكنها في أوائل هذا القرن.

٩٤٨ ـ سرور بن الحسين الشاعر المتوفى في حدود العشرين

سرور بن الحسين بن سنين الحلبي الشاعر المشهور.

كان أحد أفراد الزمان في النظم ، وله شعر بديع الصنعة مليح الأسلوب مفرغ في قالب الحسن والجودة. ولما فارق وطنه بحلب وسارع إلى طرابلس الشام لمدح أمرائها بني سيفا ، والأمير محمد بينهم إذ ذاك مقصد كل شاعر وممدوح كل ناطق ، أكرم مثواه وأحسن قراه ، فبغضه شعراء الأمير الموجودون عنده والمقربون إليه ، وذلك لإقبال الأمير عليه وركبوا كل صعب وذلول في سبه ، حتى خاطب الأمير حسين بن الجزري الآتي ذكره بقوله معرضا بسرور :

وحقك ما تركتك عن ملال

وبغض أيها المولى الأمير

ولكن مذ ألفت الحزن قدما

أنفت مواطنا فيها سرور

ولم يزل في تلك الغربة إلى أن قضى ما قضى وطره ، ومدائحه في بني سيفا غاية ، ومن جيدها قصيدته الرائية التي قالها في مدح الأمير محمد ومستهلها :

خلا ربع أنسي بعدكم فهو مقفر

وأعوزني حتى البكا والتصبّر

وقد كنت عما يسهر العين غافلا

فعلمني حبيكم كيف أسهر

ووالله ربي ما تغيرت بعدكم

وإن رابكم جسماني المتغيّر

١٨١

عدمت اختياري والحوادث جمة

وهل بيد الإنسان ما يتخيّر

تذكرتكم والعين تهمي دموعها

وأي دموع لم يهجها التذكّر

وليست كما ظن الغبي مدامعا

ولكنها نفس تذوب فتقطر

أخذ الأخير من قول بشار :

وليس الذي يجري من العين ماءها

ولكنها روح تذوب فتقطر

وقد أخذه المتنبي فحسنه بقوله :

أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس

تسيل من الآماق والسم أدمع

وقد تداول الشعراء هذا المعنى كثيرا ، ولو جمعت ما قيل فيه لناف على خمسمائة بيت تتمة الرائية :

لعل ليال سامحتني بقربكم

تعاد فتنهى في البعاد وتأمر

هنالك أجزي الدهر عن حسن فعله

وأصفح عن ذنب الزمان وأغفر

بكم روّضت داري وعزت وأشرقت

فأنتم لها بحر وبدر وقسور

بحيث التصابي كان سهلا جنابه

بكم وشبابي أبيض العيش أخضر

ومنها في المديح :

أأكفر إحسان ابن سيفا محمد

فذلك ذنب ليس عنه مكفّر

متى وردت جدوى الأمير بنا المنى

شربنا ببحر صفوه لا يكدّر

كثير سخاء الكف تحسب جنة

تفجر فيها من عطاياه كوثر

ومن نعمة قد أودعت قلب حاسد

تفوح كما يستودع العود مجمر

وإن جدّ أمضى في الأمور عزيمة

يحيض دما منها الحسام المذكّر

يدبّر أمر الجيش منه ابن حرة

بصير بتدبير الأمور مدبّر

حسام له من حلية الفضل جوهر

يروق كما راق الحسام المجوهر

وينتاش شلو المجد من نوب الردى

وقد نشبت فيه نيوب وأظفر

وإن زارت الخيل السوابق خيله

أتى الطير من قبل اللقاء يبشّر

تفدّيه بالشهب الصوافن ضمّر

عليها أسود من بني الحرب ضمّر

١٨٢

خلفت عليا يا ابنه في خلائق

تساوى بها فرع زكي وعنصر

قلت : هذا القدر هو المقصود مما نحن فيه ، وهذا الشعر هو السحر الحلال ، فلله دره ما أسلس قياده وأعذب ألفاظه وأحسن سبكه وألطف مقاصده.

ومن ملحه قوله :

نزلنا بحكم الراح عندك منزلا

نهبنا به الأفراح في ظله نهبا

تدير علينا من حديثك خمرة

وأخرى من الراح المعتقة الصهبا

فرحت فلا والله أعلم ما الذي

تعاطيت راحا كان أم لفظك العذبا

كانا إذا ما شعشعتها أكفنا

نقلّب من كاستها أنجما شهبا

ومن غزلياته قوله :

ولكم بكرت إلى الرياض للذة

في فتية بيض الوجوه صباحها

تهتز في ورق الشباب قدودهم

كغصونها وثغورهم كأقاحها

حتى إذا عادوا لوصلي عاودت

أرواح لذاتي إلى أشباحها

ومن مطرباته التي استوفت أقسام الظرف قوله :

بدا فكأنما قمر

على أطواقه ظهرا

يعز إذا خضعت له

وإن دانيته نفرا

ولم أر قبل مبسمه

ثمين الدر ما صغرا

يظل به على خطر

فؤادي كلما خطرا

ومما يستجاد له قوله :

صب جفا في فراقك الرفقا

جار عليه الهوى وما رفقا

يكفيه من حالتيه أنّ له

فما صموتا وناظرا قلقا

ودمع عين يبدو فأكتمه

منحبسا تارة ومنطلقا

وقفت أستنطق الربوع له

لو أن ربعا لسائل نطقا

عين ترى أن تراك لا سكبت

للبين دمعا ولا اشتكت أرقا

هل فيك من رحمة تعين بها

إنسان عين أحرقته غرقا

١٨٣

وغصن بان مشى فعلمني

لما تثنّى وشاحه القلقا

أحسن منه قول أبي تمام :

وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما

بحليّها من كثرة الوسواس

(رجع) :

أورق بالحسن نبت عارضه

وأحسن الغصن ما اكتسى الورقا

يمدّ لي من عذاره شركا

يطول فيه عذاب من علقا

ويحمل الصبح تحت ليل دجى

فوق قضيب على كثيب نقا

أخذت بالمذهب الصحيح وقد

تفرّق الناس في الهوى فرقا

مقسّمين الحظوظ بينهم

في الحب قسمي سعادة وشقا

وله من قصيدة يذكر فيها متنزهات حلب :

ألا ليت ما بيني وبينك من بعد

على القرب ما بين القلوب من الودّ

غرامي غرامي والهوى ذلك الهوى

قديما ووجدي في محبتكم وجدي

ووالله (إني) * ما تغيرت بعدكم

لبين فهل أنتم تغيرتم بعدي

تذكرت أيامي وعودي بمائه

وعيشي بكم لو دام في جنة الخلد

وقلت تديموني على القرب دائما

فخالفتموني واتفقتم على البعد

وليلة غاظ البدر فيها اجتماعنا

فكنا نرى في وجهه أثر الحقد

وملتقطات من فؤادي تجتني

أحاديث أحلى مجتنى من جنى الشهد

ألذ من الماء القراح على الظما

وأعذب من طيب الكرى عقب السهد

وبالبقعة الغناء من سفح جوشن

فتلك الربى فالسفح من جوشن الفرد

كأنا إلى شاطي مجر قويقها

وقد أشرف السعدي بكم أنجم السعد

تجدّ بنا أهواؤنا فحلو منا

موفّرة فيها على الهزل والجد

وكم بردت للتل عين قريرة

سرورا بنا والشمل منتظم العقد

لبسنا لها والليل يعثر بالصبا

بقية قطع من دجى الليل مسودّ

__________________

(*) أضفناها ليتم الكلام ، وهي ليست في الأصل ولا في خلاصة الأثر.

١٨٤

منازه قطر لابس القطر نورها

فألبسها مما ينيل وما يسدي

رياض حكى البرد اليمانيّ وشيها

وشاطي غدير مثل حاشية البرد

تحرى بها النوروز فصل اعتدائه

فعدّل فيها قسمة الحر والبرد

ومن ورق للورد يصقله الندى

فيجري يجاري الدمع من حمرة الخد

فيا نعمة أغفلتها فتصرمت

مضت لم أقيدها بشكر ولا حمد

وقد تضمن أكثر شعره مدح الشهباء تبعا للمتقدمين كقول البحتري :

أقام كل ملثّ الودق رجّاس

على ديار بعلو الشام أدراس

إلخ الأبيات التي ذكرناها في آخر الجزء الثالث وساق المحبي من مدحها ما أثبتناه ثمة.

(ثم قال) : وكانت وفاة سرور في حدود العشرين بعد الألف بالتقريب كما يرشد إلى ذلك مدائحه في بني سيفا والله أعلم. ا ه.

وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة فقال : شاعر سمح السجية ، له أنفاس ندية. كانت نسمات المسامرة تهب بنفحاته ، وأفواه الأسماع تحتسي في نادي الأدب سلافة أبياته ، ونور روضه يتبسم في الأكمام ، فترى منه ما هو ألذ من نظر معشوق في وجه عاشق بابتسام ، فتستعذب في مذاق الأدب ، وتتلقى بضائعها من الركبان القادمة من حلب. ثم رأيته لما ورد الروم ، إلا أنه لم يطل مكثه بها لفقد ما يروم ، وآفة التبر ضعف منتقده ، فرجع قائلا لكل يوم غد ، ولكل سبت أحد ، فلم ترعين أمله سرورا ، ولم يذق كأسا كان مزاجها كافورا ، ولم يلبس برد العمر قشيبا حتى احتضر غصنا رطيفا. فمما أنشدني من شعره قوله من قصيدة :

وليل هدتنا فيه غرّ الفراقد

لحاجات نفس هن أسنى المقاصد

وقد صرفت زهر الدراري دراهما

تمدّ الثريا نحوها كفّ ناقد

وباتت تناجيني ضمائر خاطري

تقرب نيل المطلب المتباعد

لحا الله طرفي ماله الدهر ساهرا

لمكتحل الأجفان بالنوم راقد

حبيب كأن البعد يهوى وصاله

معي فهو لا ينفكّ فيه معاندي

أخذت الهوى من لحظه وابتسامه

بما قاله الضحّاك لي عن مجاهد

١٨٥

وقوله حبيب إلخ كقول أبي الطيب :

كأن الحزن مشغوف بقلبي

فساعة هجرها يجد الوصالا

وقول أبي العلاء المعري :

لئن عشقت صوارمه الهوادي

فلا تعدم بما تهوى اتصالا

وفي معناه ما قلته :

لك الله من دمع كشمل مبدّد

وطرف بنعسان الجفون مسهّد

لئن عشق التسهيد أجفان مقلتي

لهجرك فلينعم بوصل مخلّد

ومن تقريظ له على شعر ابن عمران :

حملت إلينا يا بن عمران روضة

من النظم يسقيها الحجى صوب وكفه

خميلة شعر يزدري البدر نورها

وينأى عن الشعرى العبور بعطفه

كأن غصونا أودعت في سطورها

لها ثمر يلتذ سمعي بقطفه

إذا ما مشى ليل المداد بطرسها

نهارا زهت فيه كواكب وصفه

فكانت كما زارت معطرة اللمى

مبرّدة من حرّ قلبي ولهفه

ووافى إلى الصب الكئيب شويدن

لوجرة أحوى فاحم الشعر وحفه (١)

فأحبب به عبل الروادف خصره

يجوع إذا عض الإزار بردفه

أقول : كانت وفاة الشهاب أحمد الخفاجي سنة ١٠٦٩ ، وكان رحل إلى بلاد الروم تين ، ويغلب على الظن أن رحلته الأولى كانت ما بين الثلاثين والأربعين ، فإن كانت يته للمترجم في الرحلة الأولى فتكون وفاته في هذه السنين والله أعلم.

٩٤٩ ـ محمد بن أحمد المعروف بابن قولاقسز المتوفى سنة ١٠٢١

محمد بن أحمد المعروف بابن إدريس ، المنعوت بشمس الدين ، الحلبي ثم الدمشقي ، معروف بابن قولاقسز.

كان فاضلا بارعا فقيها ، له اطلاع على مسائل فقه الإمام الأعظم أبي حنفية.

__________________

(١) في الأصل : وصفه ، وهو تصحيف.

١٨٦

قرأ بحلب على عالمها الإمام الرضي بن الحنبلي الأصول والفقه والحديث ، وأخذ عن منلا أحمد القزويني المعاني والبيان والتفسير. ثم رحل إلى دمشق وأخذ بها الفقه عن خطيب الشام وفقيها النجم والبهنسي ، والحديث عن شيخ الإسلام البدر الغزي ، وقرأ البخاري على النور النسفي ، وأخذ الفرائض عن الشيخ عبد الوهاب الحنفي ، والقراءات عن الطيبي ، والمنطق عن منلا إبراهيم الكردي القزويني الحلبي وبه تفقه ولده أحمد.

وكان يحب العزلة والانجماع عن الناس ، ولم يكن له وظيفة ولا مدرسة. وبالجملة فقد كان من خيار الأفاضل.

وكانت ولادته سنة ست وثلاثين وتسعمائة. وتوفي رابع عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وألف ، ودفن بمقبرة باب الصغير رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وولده أحمد ولد بدمشق وصار من كبار فقهاء الحنفية ، وله ترجمة في الخلاصة.

٩٥٠ ـ أحمد بن محمد الكواكبي المتوفى سنة ١٠٢٣

الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد المعروف بالكواكبي ، البيري الأصل ثم الحنفي الصوفي ، أحد أعيان علماء حلب وكبرائها.

ذكره أبو الوفا العرضي وقال في ترجمته : لزم الاشتغال على الوالد ، يعني الشيخ عمر العرضي ، برهة من الزمان ، حتى وصل إلى قراءة «المطوّل» وحواشيه قراءة تحقيق. وقرأ على الشيخ محمد بن مسلم المغربي أحد شيوخ الوالد في «المغني» وحاشيته. وقرأ فقه الحنفية على الشيخ محمد المصري الحنفي.

وكان يحضر مجالس ذكر والده ، وكان يخرج بالذكر أمام الجنائز كما هو سنن الصوفية.

وكان حنق على والده فأخذ الطريق على الشيخ عيواد الكلشني وهو أردولي أيضا ، واتخذ له حلقة ذكر في جامع بانقوسا.

ثم رجع إلى طاعة والده وتاب إلى الله تعالى. وتقدم عليه في بعض مجالس الذكر الشيخ عبد الله فضربه صاحب الترجمة وألقى عمامته عن رأسه ، وكان في وقت هوية الذكر ، فلم ينزعج الشيخ عبد الله بل استمر في ذكره ، وهذا خلق حسن عظيم.

١٨٧

ثم ترك زي الصوفية وشرع في أخذ المدارس الحلبية. ثم حركه مبغضو الشيخ أبي الجود على أخذ إفتاء حلب منه فاستعظم ذلك. ثم توجه إلى القسطنطينية وأخذها.

وتولى القسمة العسكرية بحلب مرارا وصار قائما مقام القاضي إذا تولى جديدا حتى جمع في سنة واحدة بين الفتوى والقسمة العسكرية مع النيابة الكبرى عن قاضي حلب والنظر على كتخداي الباشا وكتخداي الدفتردار.

وكان عفيفا في أقضيته له حسن معاملة مع أصحابه ومحبيه ، وأحبه كافل حلب نصوح باشا نكاية في أبي الجود لكون أبي الجود صاهر العسكر الدمشقيين ونصوح باشا كان يبغضهم ، وكان يتردد إليه وتزدحم على بابه الأكابر والأعيان.

وبنى دارا عظيمة بالجلّوم إلى جنب زاوية جده بها مجالس عظيمة ، وبنى مكانا في دهليزها لطيفا له شباك مشرف على زاوية جده من جهة الشرق.

ولما تولى حسين باشا كفالة حلب وعزل نصوح باشا ووقع بينهما تلك الفتن والمحن كان حسين باشا ينظر إلى صاحب الترجمة شزرا ويسمعه هجرا ، واشتد الوهم به حتى تدلى ليلا من السور وانهزم حتى وصل إلى طرابلس سريعا جدا ، فالتجأ إلى كرم بني سيفا فاستقبلوه بالإجلال ، فجلس هناك شهورا قليلة.

ثم توجه إلى مصر وحج ، واستمر بمصر حتى ذهبت دولة جانبولاد ، فعاد إلى حلب ولبس ثياب الصوفية ، وجمع ليالي الجمع المشايخ والفقراء واتخذ له مجلس صلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان يأتي إليه نحو ألف إنسان ما بين ذاكر وناظر. وكان يطيل مجلس الصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يمل المصلي والسامع ، فقال له أخوه الشيخ أبو النصر : طريقتنا قسم تهليل وليس فيه الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وصاحب الترجمة يقول : الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) * بعضهم يرجحها في الفضل على لا إله إلا الله. ثم طال الجدال بينهما حتى أصلح الشيخ أبو النصر مسجدا وكان مهجورا واتخذه للذكر في ليالي الجمع ، فكان الأكثر من الناس يأتون إلى الشيخ أبي النصر لكون ذكره بالنغم والأساليب الحسنة مع العبادة ، ومجلس صاحب الترجمة عبادة محضة. وكان كتب في إمضائه : نقل من السجل المصان ،

__________________

(*) ما بين قوسين ساقط في الأصل ، وأثبتناه نقلا عن خلاصة الأثر.

١٨٨

فاعترضه الشيخ أبو الجود *

وقال الشيخ أبو الوفا : وكان سألني وأنا شاب : لم كان اسم الفاعل مع فاعليه ليس بجملة والفعل مع فاعله جملة؟ فأجبت بأنه لما لم يختلف غيبة وتكلما وخطابا عومل معاملة المفردات ، وأما الفعل مع فاعله لما اختلف عومل معاملة الجمل ، فأعجبه.

ومن نظمه حين أحب أخوه شابا يقال له محمود فأنشد :

قد قلت للأخ لما زاد في شغف

ارفق بنفسك إن الرفق مقصود

فقال لا أبتغي عن ذا الهوى بدلا

هواي بين أهيل العشق محمود

وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وتسعمائة ، وتوفي في رمضان سنة ثلاث وعشرين وألف ، ودفن في قبور الصالحين. ا ه.

ومدحه بعض شعراء عصره ، ويغلب على الظن أنه سرور بن الحسين المتقدم ، بقصيدة غراء ، وهي عندي مع عدة قصائد بخطه ، وقد توجها بقوله : وقلت مهنئا للشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن الولي بالله أبي عبد الله محمد الكواكبي حين قدم من مصر لبلده حلب في ربيع الأول سنة ١٠١٧ :

نسيم ورد المنى بالأنس قد وردا

وكوكب السعد في أفق الهناء بدا

وأشرقت أوجه الأفراح باسمة

تبدي لنا من ثنايا البشر صبح هدى

وأينعت غصن الإقبال دانية

قطوفها وغدا عيش الوفا رغدا

وغنّت الورق في روض الرضا طربا

وساجع الجدّ في أفنانها نشدا

وعاد عيد مسرات ببهجته

وأنجز الدهر بالوعد الذي وعدا

وأصبحت حلب الشهباء ضاحكة

وأظلمت أوجه من حسّد وعدى

وهار ليل ظلام الجهل حين بدا

للناظرين شهاب الدين متقدا

مولى سما في سماء الفضل منزلة

منالها عن ذرا الجوزاء قد بعدا

صدر تواضع لما أن علا شرفا

مكانة وحياض العز قد وردا

كأن آراءه بين الورى فلك

يبدي نجوم الهدى من أفقه رصدا

__________________

(*) يقصد أن الصواب : السجل المصون.

١٨٩

قد زاده الله إجلالا ومكرمة

وخصه بعظيم اللطف حيث غدا

قضى له الله بالعلياء من قدم

فكل عز لعالي عزه سجدا

مسدد الرأي بالتوفيق معتصم

فكلما رام أمرا لم يشبه سدى

من الألى أحرزوا سبقا ومكرمة

وساحبي فوق هام النجم ذيل ندى

وشيدوا من مباني المجد عالية

شماء من دونها للطالبين مدى

وقلدوا الدهر عقدا من محامدهم

وخلدوا عند كل العالمين يدا

وقد أقاموا منار المكرمات على

متن العلا كي يراهم كل من قصدا

هدوا إلى الحق من قدم بكل هدى

ومن يضل يرى فيهم له رشدا

آثارهم حمدت في الناس واشتهرت

آيات فضلهم تتلى لهم أبدا

يا واحد العصر لا مثتثنيا أحدا

في الناس غيرك بل لا ذاكرا أحدا

إن المقام الذي استوطنت ذروته

من دونه فلك الأفلاك قد قعدا

قضيت حجا قضاه الله من قدم

يسوقه سائق من ربه قودا

أحييت دارس علم كان مندرسا

فمات غيظا وغبنا كل من حسدا

لازلت ترفل في ثوب العلا أبدا

والحاسدون بجلباب العنا وردى

٩٥١ ـ بهاء الدين بن زهرة المتوفى سنة ١٠٢٤

بهاء الدين بن زهرة بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن حمزة بن عبد الله ابن محمد بن محمد بن عبد المحسن بن الحسن بن زهرة بن الحسن بن عز الدين أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة بن علي بن محمد بن محمد بن أبي إبراهيم محمد الممدوح بن علي ابن أحمد بن محمد أبي الحسين بن إسحق المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي ابن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، السيد الشريف الحسيني الإسحاقي ثم الفوعي ثم الحلبي.

ولد سنة ٩٤٦ ، وقدم حلب سنة ٩٦٨. توفي ليلة الجمعة ثالث عشر صفر الخير سنة ١٠٢٤ ودفن على جده أبي المكارم حمزة بالقرب من مشهد الحسين بسفح جبل الجوشن رحمنا الله وإياه ا ه (من مجموعة العرضي).

١٩٠

٩٥٢ ـ شيخ الإسلام عمر بن عبد الوهاب العرضي المتوفى سنة ١٠٢٤

عمر بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمود بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين العرضي الحلبي الشافعي القادري ، المحدث الفقيه الكبير ، مفتي حلب وواعظ تلك الدائرة.

كان أوحد وقته في فنون الحديث والفقه والأدب ، وشهرته تغني عن الإطراء في وصفه.

اشتغل بالطلب على والده ، ثم لزم الشيخ الإمام محمود بن محمد بن محمد بن حسن البابي الحلبي المعروف بابن البيلوني ، وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة ، فقرأ عليه الجزرية ومقدمة التصريف العزية وتجويد القرآن وقطعة من تيسير الداني. ثم انحاز إلى المنلا إبراهيم بن محمد البياني الكردي ثم الحلبي الشافعي ، فقرأ عليه كثيرا من الفنون. ثم وصل إلى العالم الكبير محمد رضي الدين بن الحنبلي فقرأ عليه وانتفع به وتخرج عليه ، وأخذ عن العالم العلامة محمد بن المسلم التونسي الحصيني نسبة إلى بني الحصين ، طائفة من الأنصار ، المالكي نزيل حلب ، لازمه سنين وانتفع بعلمه وسمع من لفظه صحيح البخاري تماما مرات عديدة وجانبا كبيرا من صحيح مسلم بقراءة ولده محمد المقتول ومن لفظه حصة كبيرة من الشفاء للقاضي عياض ، وقرأ عليه في المطول من بحث أحوال متعلقات الفعل إلى آخر الكتاب ، وكان قرأ من أوله إلى هذا المحل على شيخه المنلا إبراهيم الكردي المذكور آنفا ، وسمع عليه بقراءة غيره في شرح الألفية للمرادي وفي مغني اللبيب وفي شرح ابن الناظم على ألفية أبيه ، وقرأ عليه شرح العراقي على ألفيته بتمامه وحصة يسيرة من شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ، وشرع عليه في قراءة الأصفهاني شرح طوالع البيضاوي وفي بحث الإلهيات فقرأ عليه درسين ، ثم حم ابن المسلم ومات.

ورواية ابن المسلم البخاري عن البرهان العمادي الحلبي وأسانيده معروفة ، وعن الفخري عثمان بن منصور الطرابلسي وهو يرويه عن أبي العباس أحمد الشاوي الحنفي والزين الهرهامي عن الحافظ العراقي بأسانيده ، ويرويه وسائر كتب السنن عن قاضي الجماعة بتونس سيدي أحمد السليطي سماعا من لفظه لصحيح البخاري وإجازة لباقي كتب السنن. وأجازه البدر الغزي من دمشق بالمكاتبة.

١٩١

ودرس وأفاد وصرف أوقاته في الإفادة ، ولم يكن في عصره واحد مثله مجدا في الاشتغال وإفادة الطلبة. لازم الزاوية الحيشية المنسوبة إلى بني العشائر مدة أربعين سنة.

وكان أكثر فضلاء زمانه تلامذته وأنبلهم الشمس محمد وأخوه البرهان إبراهيم ابنا الشهاب أحمد بن المنلا وولده أبو الوفا العرضي ونجم الدين الحلفاوي وغيرهم من رؤساء العلم.

وصار مفتي الشافعية بحلب وواعظها بجامعها ، يعظ الناس يوم الجمعة بعد العصر ، واستمر على ذلك مدة حياته.

وألف تآليف كثيرة ، منها شرح الجامي ابتدأ فيه من عند قوله : فالمفرد المنصرف إلى المنصوبات ، ولم تساعده الأيام على إتمامه ، وكان شديد الاعتناء بالجامي حريصا على مطالعته وإقرائه ، وفيه يقول :

لله در إمام طالما سطعت

أنوار أفضاله من علمه السامي

ألفاظه أسكرت أسماعنا طربا

كأنها الخمر تسقى من صفا الجامي

واقتدي في ذلك بشيخه ابن الحنبلي في قوله :

لكافية الإعراب شرح منقّح

ذلول المعاني ذو انتساب إلى الجامي

معانيه تجلى حين تتلى كأنها

هي الخمر يبدو جرمها من صفا الجام

وله شرح على رسالة القشيري ، وشرح العقائد ، وشرح الشفا في حديث المصطفى ، أربعة أسفار ضخمة كل سفر قدره أربعون كراسا في مسطرة إحدى وأربعين سطرا ، سماه «فتح الغفار بما أكرم الله به نبيه المختار» صرف همته مدة اثنتي عشرة سنة في تأليفه ، وأبرز فيه علوما جمة ، وشاع في الآفاق ، واستكتبه علماء الروم والعرب ، وكتب حاشية على تفسير المولى أبي السعود في سورة الأعراف.

وأما رسائله فلا تحصر ، وأجوبته وفتاويه كثيرة متواترة ، ومن رسائله رسالة سماها «الدر الثمين في جواز حبس المتهمين» ورسالة «مناهج أهل الوفا فيما تضمنه من الفوائد اسم المصطفى» ، ورسالة «تفضيل الصلاة على البشير النذير» ، ورسالة في «شرح قصيدة ابن الفارض» الدالية ، ورسالة أخرى في شرح التائية وأخرى في شرح اليائية ،

١٩٢

ورسالة على قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ)* وغير ذلك من الرسائل.

ومن تعليقاته جوابه عن مقالة الأستاذ محمد البكري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم جميع علم الله تعالى ، وقد سئل عنها في مجلس درس ، فأجاب بأن مقالة الشيخ هذه صحيحة ولا إنكار عليه فيها ، إذ يجوز أن الله يهبه علمه ويطلعه عليه ، ولا يلزم من ذلك أن يدرك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقام الربوبية ، إذ العلم المذكور ثابت لله تعالى بذاته وللمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعليم الله تعالى إياه ، وإلى مثل ذلك أشار الأبوصيري بقوله :

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

وفي الحديث : قال لي ربي ليلة الإسراء : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت : لا أدري ، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في ثدييّ فعلمت علم الأولين والآخرين ، ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : في الوضوء على المكاره ، إلى آخر الحديث.

وأورد في تاريخه في ترجمة شيخه ابن مسلم ناقلا عن تاريخ شيخه ابن الحنبلي أنه قال : اجتمعت به أي بابن مسلم مرة عند مولاي الرشيد ابن سلطان تونس إذ دخل حلب ، فجرى ذكر بني أمية ، فأوردت أن من المفسرين من ذهب إلى أن الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أمية ، فتغير لذلك ، فقلت : سبحان الله! قيل ما قيل والعهدة على قائله ، فطلب صاحب المجلس مني النقل ، فأظهرته من تاريخ المحب بن الوليد بن الشحنة. قال : وأقول :

إن هذه المقالة لم يقلها عالم معتبر ، وإنما هي من ترهات الشيعة لغلوهم في بغض بني أمية ، وإلا فبنو أمية منهم الجيد والردي ، فماذا يفعل قائل ذلك في عثمان المشهود له بالجنة ، وذي النورين جامع القرآن ، وما يصنع في عمرو بن العاص وولده عبد الله الناسك أحد العبادلة الأربعة ، وفي معاوية بن أبي سفيان وغيرهم من أكابر الصلحاء كعمر بن عبد العزيز ومعاوية الصغير ، وكيف تكون بنو أمية شجرة ملعونة وهم عنصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنو عمه. وابن الشحنة كان رجلا غايته انه من فضلاء الناس ، وليس قوله بحجة ، وتفسير القرآن لا يحتج فيه بمثل ابن الشحنة ولا بمقالته. انتهى.

وللعرضي شعر قليل ، أنشد له بعض الأدباء قوله وهو معنى حسن :

لم أكتحل في صباح يوم

أريق فيه دم الحسين

__________________

(*) الفرقان : ٤٥.

١٩٣

إلا لأني لفرط حزني

سوّدت فيه بياض عيني

وأصله قول بعضهم :

وقائل * لم كحلت عينا

يوم استباحوا دم الحسين

فقلت كفّوا أحق شيء

يلبس فيه السواد عيني

وكانت ولادته بحلب بقاعة العشائرية الملاصقة لزاويتهم دار القرآن شمالي جامع حلب في صبيحة يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة سنة خمسين وتسعمائة. وجاء تاريخ مولده (شيخ حلب) ، ومات يوم الثلاثاء خامس عشر أو سادس عشر شعبان سنة أربع وعشرين وألف.

وقال الصلاح الكوراني مؤرخا وفاته :

إمام العلوم وزين العلا

سراج الهدى عمر ذو الوفا

تولى فأرخ سراج بها

العلوم هوى فرقا فانطفا

وترجمه الشهاب في الريحانة فقال : هو الحبر علامة زمانه ، شيخ الإسلام ، نسيج وحده ، وفريد فضله ومجده ، بحر لا تكدره الدلاء ، ولا تنزف بعض موارده الملاء ، لم يزل صدرا للإفادة والإفتاء بحلب ، ترعى في ربيع فضله سوائم الطلب ، وتآليفه وتصانيفه تنقلها الركبان ، وتقف دونها سوابق الحسن والاستحسان ، حتى رقي شرف السبعين ، وصعد إليها بدرجات السنين ، رافلا في حلل الغنى ، حتى جر الدهر عليه أذيال الفنا ، وهو آخر من صنف بحلب وأفاد وأجاد. ومن أجل مصنفاته شرح الشفاء في مجلدات ، ولنا عليه اعتراضات بيناها في شرحنا. وله نظم ونثر. وأورد له البيتين المتقدمين لكنه ذكر الشطرة الثانية من البيت الثاني هكذا :

هي الخمر تبدو شمسها من صفا الجام

وترجمه الغزي في «لطف السمر» ومما قال فيه : الشيخ الإمام العلامة الهمام زين الدين مفتي الشافعية بحلب وابن مفتيها. (إلى أن قال) : وألف شرحا على الشفا ، وتاريخا كأنه ذيل به تاريخ ابن الحنبلي. ولما كنت بحلب في صحبة شيخنا في سنة خمس وعشرين وألف

__________________

(*) في الأصل : وقائلة.

١٩٤

تردد إلينا ولده الشيخ العلامة (أبو الوفا) وقد دعانا لضيافته ، وطلب منه أن يوقفنا على تاريخ أبيه ، فاعتذر بعذر ما ولم يوقفنا عليه. ثم ذكر وفاته كما تقدم.

أقول : قد ظفرت ببعض أوراق من هذا التاريخ وفيها حوادث ووفيات من سنة ٩٨١ إلى سنة ٩٨٦ ونقلت عنها بعض ذلك ، وقد تقدمت مع عزوها إليه ، ولا أعلم نسخة منه في مكتبة من المكاتب ، وتفيد هذه الأوراق أن له معجما كبيرا لأنه أحال في هذه الأوراق عليه كثيرا ، وذكر فيها أن له من المؤلفات «الفوائد المهمة في مناقب سراج الأمة» أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه وشرح على ألفية السيوطي في علم أصول الحديث المنتخبة من ألفية العراقي.

وللمترجم بيتان وجدتهما في مجموعة بخط الشيخ محمد المواهبي الحلبي وهما :

من عاشر الأشراف صار مشرّفا

ومعاشر الأرذال غير مشرّف

أو ما ترى الجلد الحقير مقبّلا

بالفم لما صار جلد المصحف

وأقول : إني بحمد الله أروي شرحه على الشفاعن الشيخ الزاهد الشيخ كامل الموقت عن أبيه الشيخ أحمد عن أبيه الشيخ عبد الرحمن عن أبيه الشيخ عبد الله موفق الدين الحنبلي عن أبيه الشيخ عبد الرحمن الحنبلي الدمشقي ثم الحلبي عن الشيخ علي المشهور بالميقاتي ، وهو يرويه كما هو محرر في ورقة عندي بخطه عن الشيوخ الثلاثة الشهاب أحمد الشراباتي الحلبي والشيخ زين الدين كاتب الفتوى بحلب والشيخ عبد الرحمن العاري عن أبي الوفا العرضي عن والده مؤلف هذا الشرح شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي رحمهم‌الله تعالى.

ويوجد نسخة تامة من هذا الشرح في مكتبة بشير آغا ، وهي في ثلاثة مجلدات ، ونسخة في مكتبة نور عثمانية في ثمانية مجلدات ، وهاتان المكتبتان في الآستانة. ويوجد نسخة تامة في المدرسة العثمانية بحلب ، وهي في ثلاثة مجلدات محررة سنة ١١٤١ ، وهي منقولة عن نسخة المؤلف ، وذكر ثمة أن ختام تأليفه كان سنة ١٠١٩ ، وأول الشرح :

الحمد لله الذي جعل شفاء القلوب في متابعة سيد الأنام وارتياح الأرواح في دفع الشكوك عن القلوب والأوهام ، والسعادة الأبدية في دك الشبه بالوصول إلى اليقين التام ، والصلاة والسلام على نبي أزال عن الملة الحنيفية الغبار والقتام ، وبين دين الله عزوجل بيانا تاما فوصل فهمه إلى أذهان الخاص والعام.

١٩٥

(إلى أن قال) : وسميته «بفتح الغفار بما أكرم الله عزوجل نبيه المختار». على أنني لم أقف على شرح لهذا الكتاب سلك فيه ما يليق به من البيان ، ويظهر خفياته ويوصلها إلى الأذهان ، سوى أن شيخ أشياخنا قطب الدين عيسى الإيجي كتب على قطعة منه وصل إلى أثناء الباب الثاني منه ، وذلك قدر يسير.

(ثم قال) : وقد جاء هذا الشرح مشتملا على أمور ، الأول : ما هو وظيفة الشراح من بيان مقصوده وإظهار مراده. الثاني : إيضاح ما استعمله من اللغات العربية وارتكبه من الأساليب العجيبة. الثالث : رد ما أشكل من تراكيبه إلى قواعد علم العربية. الرابع : ذكر ترجمة من ليس مشهورا من الرجال الذين جرى ذكرهم فيه. الخامس : بيان وجه استشهاده بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. السادس : أن المصنف يورد الأحاديث والآثار ويشير إلى القصص والأخبار غير معزوة إلى مخرّجيها ، وهذا هو الغالب على صنيعه ، ولم أدع ولله الحمد حديثا ذكره غير معزو إلا عزوته إلى مخرّجه ، وبينت كونه صحيحا أو ضعيفا كما ستقف على ذلك كله ، وكذلك أفعل في الآثار والقصص. السابع : أنه لا يذكر من الحديث إلا محل الشاهد ، وقد يكون الحديث طويلا فأنا أذكر الحديث جميعه ، وفي ذلك فائدة عظيمة ، لأنه ربما يكون الاستشهاد به خفيا فيظهر بذكر الحديث كله. الثامن : أنه ربما ذكر مدعى بغير دليل ، فأنا أذكر لمدعياته دلائل متعددة ، وربما ذكر دليلا فيه نظر ، فأنا أذكر لمدعياته دلائل متينة. التاسع : استعصاء ما أورد فيه من المباحث المتعلقة بالاعتقاد والإشكالات الواردة في الأحاديث والآثار التي استشهد بها وذكر ما يتعلق بها من أي فن كان كما سترى ذلك مفصلا في محاله ... إلخ.

والحاصل أنه شرح حافل جليل من مفاخر الحلبيين ، فعسى أن تصح عزيمة بعض أرباب المطابع في إخراجه إلى عالم المطبوعات ليعم به النفع.

ومن مؤلفاته التي لم تذكر في ترجمته «لامية الشرف وسراج الغرف» وهي قصيدة ذكرها في كشف الظنون وقال إنها في تسعة وستين بيتا أولها :

الحمد لله رب العالمين على

ما تم من نعم جلّت من الأزل

وهي في الموعظة والنصيحة ، ثم شرحها في مجلد كبير سماه «نهج السعادة ومواقف الإفادة» أتمه سنة ١٠١٧ ، وقال في تاريخها (أشرقت) ، جمع فيه شيئا كثيرا من كلمات

١٩٦

الصوفية فصار كالفتوحات المكية ، افتتح شرح كل بيت بآية من كتاب الله تعالى.

ومدحه بعض شعراء عصره وأظنه سرور بن الحسين المتقدم كما ذكرته في ترجمة أحمد ابن محمد الكواكبي بقصيدة بديعة ، وإني أذكرها بتمامها على طولها لأنها من غرر القصائد ولندرة وجودها ، وقد توجّها بقوله :

وكتبت بها ممتدحا شيخ الإسلام وبركة الخاص والعام ومجتهد العصر في الأنام وحسنة الدهر والأيام الزيني عمر بن عبد الوهاب العرضي الشافعي في ذي القعدة سنة ١٠١٩ :

سقى عهد هند صيّب العهد يهرع

وحيا حماها الجود يهمي ويهمع

وجاد على أكنافها وابل الحيا

يوشّي حواشيها برودا ويوشع

ولا زال خفّاق الصبا في عراصها

يطوف ويسعى في رباها ويرجع

معاهد أنس كما بأفياء ظلها

مرحت زمانا بالأوانس أرتع

لبست بها من ريّق العيش حلة

مطرّزة خضراء فيها التشعشع

وغصن الصبا ريان بالزهر مزهر

وماء المحيّا بالنضارة أروع

وأيامنا بيض مع البيض تنقضي

وعرف التداني فاح منه التضيع *

وليلاتنا الغر اللواتي كأنها

على جيد صفو الدهر عقد مرصّع

ندير من اللذات راحة غبطة

براحة أنس والخليّون هجّع

بحيث ندامانا البدور وكأسنا

جديد حديث فيه للنفس موقع

رعى الله أيامي بها ورعى الهوى

منازل ذات الخال للخال مجمع

وقفت بها أستنطق الربع سائلا

عن الجيرة الغادين أيّان أقلعوا

وللريح في محو الرسوم تفنن

وللبين في أعراصها الغرّ مصرع

وللعين مدرار كتهتان ديمة

لها من نزيح الدار سحّ ومدمع

وللصبّ في الأحشاء نار ولوعة

وللقلب من داء الغرام مصدّع

وما حال دار غيّرتها يد الردى

وأخرسها من بعد نطق مروّع

ألا أيها الربع الخليّ من المها

وليس به إلا مهاة تربّع

تبدلت من أنس الجليس بوحشة

وعوّضت عنه الوحش يحبو ويرتع

__________________

(*) لعل الصواب : التضوّع.

١٩٧

فهل ترجع الأيام أهليك برهة

لعل وهل في نيل عنقاء مطمع

وسرب من الحور الحسان أوانس

لهن فؤاد الصب مرعى ومرتع

أقامت بأحناء الضلوع وكنّست

بوادي الحشا حيث السرائر تودع

تنظّم منها الثغر درا منضدا

كنثر جمان الدمع يذرى * ويسطع

وتبدي وميض البرق منها ابتسامة

وتحسر عن شمس إذا ميط برقع

ألفت بها حوراء ذلّ لها الهوى

ودللها من أحور الطرف أخضع

تميس كما ماس القضيب وتنثني

كخوط ثنته الريح للعجب يرضع

شبيهة بيضات الخدور كأنما

تصوغ من الكافور جسما يشعشع

تريك هلالّا فوق أملود روضة

له من ظلام الليل فرع مفرّع

وخدا حوى ماء النعيم بجنة

زها وردها أن يجتني منه خيدع

وبدر تمام يعتلي غصن دوحة

على متن دعص للملاحة يجمع

أرت وجنتاه روض حسن لناظر

وفي ثغره كأس من الشهد مترع

وأسبل شعرا كالدجى عند هضبة

وأسفر عن صبح يضيء ويلمع

وأرسل من أجفانه الدعج أسهما

فأصمت فؤادا بالهوى يتقطّع

إذا ما بدا في حلة الحسن رافلا

تطامن آساد العرين وتخضع

وإن هز من لدن القوام مهفهفا

يميد القضيب الهندوانيّ يركع

علقت به والقلب خلو من الهوى

وشرخ الصبا بالزهو واللهو مولع

وألزمت كور اليعملات لعلها

تبلّغني أفقا به البدر يطلع

وأرسلتها وجناء في وجنة الفلا

تباري الصبا إن لاح لحب ومهيع

كأن من الريح القبول تكونت

فتفري خطاها للفيافي وتذرع

سريت بها والليل داج كأنه

تموّج بحر فيه للريح مصدع

وخضت خضمّ الآل ظمآن ذاهلا

تصادمني أمواجه وهي يلمع

وجبت قفار البيد من كل موحش

أراقب فيه الشمس إن ضاء مطلع

يصاحبني في صدرها كل أرقط

ويؤنسني فيها غراب وخندع

إذا ما بها مر النسيم يعله

بعيد أقاصيها ويعييه بلقع

تموت القطا الكدري فيها من الظما

ويهفو صبير الركب صبرا ويزمع

__________________

(*) في الأصل : يدري ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

١٩٨

أراقب شهبان الثواقب طلّعا

بأرجائها القصوى إذا جن أدرع

كأن نجوما في الدجنة أزهرت

أزاهر روض بالبديع يضوّع

كأن نجوما في المجرة جردت

مواضي بيضا فهي للصبح تهرع

كأن النجوم الهاويات أسنة

لها في حشا الأعداء وقع وملمع

كأن خفوق البرق والليل دامس

فؤاد صريع بالفراق يروّع

وقالوا أللشهب المنيرات مدلج

فقد ضج نضو في المفازة يسرع

إلام تحث العيس في بطن مهمه

وحتام أسباب السباسب تقطع

فقلت إلى من أنزل البدر رتبة

له في ذرى الشمس المنيرة موضع

(سمّي أبي حفص وللدين زينة

وقطب مدار الكل في الكل مرجع)

إمام علا بين الملا منتهى العلا

له في سماء المجد جد ومهرع

أشم شميم القدر شامخ ذروة

رفيع عماد البيت باذخ أروع

له شيم شم أبت رود غاية *

تجسمها للدهر طرف ومسمع

له قلم ينشي فينسي ** ووشيه

رياض بديع للبلاغة تبدع

إذا صر في القرطاس خلت صريره

مطوّقة في منبر الأيك تسجع

وإن مدفي صبح من الطرس حالكا

أر البيض والسمر العوالي تشرع

يدبر إذا أملى كؤوس مدامة

تخامر ذا لب لبيبا يرعرع

حوى فكره في النظم والنثر بسطة

لها دان في الدنيا أديب ومصقع

نبيّ بيان غادرت معجزاته

فصيح إياد وهو أخرس ألكع

عباراته بالمنطق العذب زجرها

لدى الوعظ يصطاد القلوب ويصدع

وأخلاقه كالماء صفوا وزانه

حياء كثرّ الزهر بالطل يدمع

تلطّف حتى كاد تخفيه رقة

فنم عليه من ثناه التضوع

ومد رواق العلم من بعد قصره

وشد نطاق الدين منه التشرّع

جميع ذوي التحقيق قد سلموا له

مقاليد حل المشكلات وأجمعوا

تصانيفه كالشمس في كل منزل

بها تهتدي أهل العلوم وتقنع

مناقبه جلت وجمت على امرىء

يعد الحصى والرمل منه التتبع

__________________

(*) هكذا في الأصل.

(**) لعل الصواب : فينشي ، من النشوة.

١٩٩

إذا النجم يملي والبحار محابر

وأقلام أشجار البقاع توقّع

فيا طود علم في البسيطة شامخا

وقاموس فضل بالجواهر يترع

ويا جامعا أشتات كل فضيلة

ومغني معان بالبراعة يبرع

ليهنك أن الله أجداك منحة

مقام نبيّ في القيامة تشفع

وجودك روح أودعت قالب الدنا

وشرح على متن الزمان موقع

ودهرك لفظ معجم غير معرب

وذكرك معناه يبين وينصع

فكل بني الغبراء في الفضل أنجم

وأنت كشمس في الفضائل تطلع

وعلم أولي الألباب والرأي قطرة

ببحرك والعلم اللدنّي ينبع

شفيت بشرح للشفا كل معضل

معاياته أعيت بليغا يسجّع

وفضيت للجامي ختاما بمزجه

كما ميط عن وجه الخياليّ برقع

تجاريك فرسان التفاسير والحجى

وكلّ وإن طال المدى يتضرع

سموت إلى أسنى مقام وغاية

عنت لذراها أوجه الأوج تخضع

بك اتضحت سبل الرشاد لمرشد

هدى لصراط الحق من جاء يتبع

لكل زمان واحد يقتدى به

وأنت له بين البرية مرجع

مديحك بين الناس أجللت قدره

فقلت شجاني دار هند وأربع

ولو لا نظام فيك لم يسخ خاطري

ولا رويت زند من الفكر تلمع

ولا نظمت كف الرياض قلائدا

يجود بها منشور درّي ويخلع

إليك فخذها بنت فكر فريدة

كما أنت فرد للفرائد تجمع

إذا طرقت سمع الحسود تخاله

بطارق شيطان يمس ويصرع

وسامح فتى يبغي بلوغ نهاية

لمدحك يا من ذكره الذكر * يودع

٩٥٣ ـ الشيخ إبراهيم بن أحمد بن الملا المتوفى سنة ١٠٣١

الشيخ إبراهيم بن أحمد بن محمد بن علي ** بن أحمد بن يوسف بن حسين بن يوسف ابن موسى ، الحصكفي الأصل الحلبي المولد ، العباسي الشافعي ، المعروف بابن الملا.

__________________

(*) لعل الصواب : الدهر.

(**) في خلاصة الأثر وفي الريحانة : إبراهيم بن أحمد بن علي بن أحمد.

٢٠٠