إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

محيّاه ، ومن الود مالا ينقضي يومه ولا غده ، ومن الشوق ما أحر نار الجحيم أبرده. وإنا له ببلوغ الأوطار وعلو المنار على أبلغ ما يكون ، حقق الله تعالى فيه كمال ما أرتجيه ، وسرني سريعا بتلاقيه.

ومن شعره قوله :

ودعتكم ورجعت عنكم والنوى

سلبت جميع تصبّري وقراري

والجفن يقذف بالدموع ولم أكن

لو لاه أنجو من لهيب النار

وقوله :

ومن يغترر بالبشر منك فإنه

جهول بإدراك الغوامض مغرور

فإنك مثل السيف يخشى مضاؤه

إذا لمعت في صفحتيه الأسارير

ومن جيد شعره قوله من قصيدة :

من شفيعي إلى الثنايا العذاب

من عذيري من الغصون الرطاب

من مجيري مما أقاسي من

الأيام من فرط لوعة واكتئاب

من نصيري على الليالي التي ما

زلت منها ما بين ظفر وناب

أترجّى منها الخلاص فألقى

من أذاها ما لم يكن في حساب

صار منها قلبي كقرطاس رام

مزقته مواضع النشّاب

أهو البين أشتكيه وقد عا

ندني في الديار والأحباب

وكساني المشيب من قبل

أن أعرف مقدار حق الشباب *

أم هو الخطب خطّ ما جنت الأيام

من طول محنتي واغترابي

ومقامي على الهوان بأرض

أنا فيها مقوّض الأطناب

أصطلي جمرة الهجير فإن رمت

شرابا لم ألق غير سراب

ليس لي من إذا عرضت عليه

شرح حالي يرق يوما لما بي

بخستني الأيام حقي ظلما

ورمتني بالحادث المنتاب

وأضاعت بين الصدور بطرق

الفضل سعيي وجيئتي وذهابي

__________________

(*) البيت هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : ... أعرف مقدار حق ذاك الشباب.

٢٦١

ليت شعري ما كان ذنبي إلى

الأيام حتى قد بالغت في عقابي

وجفتني حتى لقد صرت

من كل مرام مقطّع الأسباب

وقوله من أخرى أحسن في غزلها كل الإحسان :

مهلا أبثك بعض ما أنا واجد

دمع مقر بالذي أنا جاحد

قد كان يخفى ما تكنّ ضمائري

لو لا الشؤون على الشجون شواهد

ولطالما خفيت سطور الوجد من

حالي فضل بها وغاب الناقد

ليت الذي لم يبق لي من مسعد

فيما ألاقي من هواه مساعد

لو لم يحل بيني وبين تصبري

ما بان ما أشقى به وأكابد

حال كما شاهدت عقل واله

وجوانح حرّى ووجد زائد

لله ما أشقى أخا حب له

مع وجده اليقظان حظ راقد

يوري زناد الشوق ذكراه لهم

فتشب من بين الضلوع مواقد

وآثاره كثيرة ، ولو لا خوف الإطالة لا السآمة لأوردت له جل شعره ، فإن مثل هذا الشعر لا يهمل ذكره ، ومن وقف عليه عرف كيف يكون الشعر.

وكانت وفاته بدار الخلافة في سنة أربع وخمسين وألف. ا ه.

وترجمه الشهاب الخفاجي في الريحانة وأورد له الكثير من شعره ، فمن ذلك قوله :

قد كنت أبكي على من مات من سلفي

وأهل ودي جميعا غير أشتات

واليوم إذ فرقت بيني وبينهم

نوى بكيت على أهل المودات

فما حياة امرىء أضحت مدامعه

مقسومة بين أحياء وأموات

وله مضمنا :

صب على الشنب المعسول ذاب أسى

وبات من حر نار الشوق في شعل

كالشمع يبكي ولا يدري أعبرته

من صحبة النار أم من فرقة العسل

وله رباعية :

يا جيرتنا في حلب الشهباء

من يوم فراقكم سروري نائي

قدمتّ لبعدكم غراما وأسى

لكن غلطا أعدّ في الأحياء

٢٦٢

٩٧٤ ـ النجم محمد بن محمد الحلفاوي المتوفى سنة ١٠٥٤

محمد بن محمد الملقب نجم الدين الحلفاوي الأنصاري ، الحلبي الدار الحنفي المذهب ، خطيب جامع حلب وصدرها المستوفي أقسام النباهة والبراعة.

وكان في عصره أوحد الفضلاء وأبلغ البلغاء ، وله الصيت الذائع بالسخاوة والمروءة ووفور المهابة والفتوة.

ذكره الخفاجي في الخبايا فقال في وصفه : نجم طلع من أفق المكارم زائد الارتفاع ، ونزل منازل سعد رقي فيها عن قوس الشرف بأطول ذراع ، يقطع أوقاته في طلب الفضائل والكمال ، ولا ينزه طرفه في غير سماء خلال أو رياض جمال. فلو كان العلم بالثريا لناله ، أو بالعيوق لطاله. ثم أورد له أبياتا كتبها إلى النجم فيها سؤال نحوي ، والأبيات هذه :

أنجما أضاءت سماء الرتب

به وتسامت فخارا حلب

أخا لي واسمي أخ لاسمه

وكم من إخاء يفوق النسب

أبن كلمة قيل مبنية

بغير اختلاف لهم أو شغب

وإن نعتت كان إعرابها

بإعراب ناعتها ما السبب

فمتبوعها لم يزل تابعا

على عكس ما في لسان العرب

فدم نجم سعد برأس العلا

وطالع أعدائه في الذنب

فأجابه النجم بقوله :

أمولاي منشي لسان العرب

وقاضي دواوين أهل الأدب

ومن فضله شاع في الكائنات

ونال به ساميات الرتب

سبقت الأولى في نظام القريض

وفي كل علم بلغت الأرب

وجادت أكفك بالنائلات

وفاضت بها غاديات النشب

لعمري لقد فقت كل الأنام

بذوق حلا وبفهم ثقب

كأن المسائل قطر الندى

وفكرك كالسحب منها انسكب

وقد كنت أسمع أوصافكم

فلما تبدت رأيت العجب

وقد كنت في تعب للعلوم

فلما رأيتك زال التعب

٢٦٣

وقد شرفت بك كل البلاد

وضاق بفضلك نادي حلب

بعثت لعبدك در النظام

وصغت له أنجما من ذهب

سكرت بخمر معان صفت

به نقط الخط مثل الحبب

تضمن لغزا ينادى بيا

شهاب بن شمس حويت الطلب

فلا زلت تنظم نثر اللآل

وتنثر من دره المنتخب

ولا زلت أنشد فيه المديح

وأطوي الزمان به والحقب

وأثني عليه بآلائه

وأقرب منه نأى أو قرب

وأذهب من نور آدابه

ظلام الدياجي وظلم النوب

مدى الدهر ما انقض نجم وما

شهاب سما من سماء الرتب

وترجمه تلميذه البديعي فقال في وصفه : إمام الفضلاء الذي به يقتدون ، وبأنواره من حنادس الشبه يهتدون ، عالم جدد رسوم البلاغة بعد أن نسجت عليها العناكب ، وأحيا ربوعها بعد أن قامت عليها النوادب ، وافتتح بصوارم أفكاره مقفلات صياصيها ، واستخرج خرائدها الممنعة بمعاقلها واسترق نواصيها. حسن سيرته ، وطهر سريرته ، وقد زها بخطابته الجامع الأكبر :

لو أن مشتاقا تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليه المنبر

* وقد نسجت أفكار شعراء العصر وشائع مفاخره ، وخلدت في دواوينها ظرائف مآثره.

ولم تزل حضرته الشريفة كعبة الجود ، وسدته المنيفة قبلة الوفود ، مع سماحة شيم ، وفصاحة كلم ، ورجاحة كرم. وقد أصاب شاكلة الصواب ، وأتى بفصل الخطاب من قال في مدحه :

لقد بت في الشهباء ما بين معشر

تهاب الليالي أن تروع لهم جارا

مقاديرهم بين الأنام شريفة

ولكن نجم الدين أشرف مقدارا

ترى البشر يبدو من أسارير وجهه

فلو جئته ليلا لأهداك أنوارا

ثم أنشد له من شعره قوله من قصيدة :

أترى الزمان يعيد لي إيناسي

ويرق لي ذاك الحبيب القاسي

__________________

(*) البيت للبحتري.

٢٦٤

كم قد نشرت به بساط لذائذي

وهصرت من عطفيه غصن الآس

أيام لا غصن الشباب بملتو

عني ولا حبي لعهدي ناس

قطر الحيا في وجنتيه مكلل

مثل الحباب على صفاء الكاس

ساقيته طعم المدام فلم يشب

صفو الحياة بكدرة الأدناس

لم أنسه متسربلا ثوب الحيا

متبخترا في قدّه الميّاس

وقوله من قصيدة :

نثر الدر من كلامك نظما

لم نكن بعد ورده الدهر نظما

قلت : وهو ممن أخذ عن شيخ الإسلام عمر العرضي وغيره ، وتصدر للإقراء فانتفع به الجم الغفير من أهل دائرته من أجلّهم العلامة محمد بن حسن الكواكبي مفتي حلب ، والفضائل الأديب مصطفى البابي ، وشيخنا العلامة الأجل أحمد بن محمد المهمنداري مفتي الشام وغيرهم.

واجتمع به والدي في عودته من الروم سنة اثنتين وخمسين وألف وذكره في رحلته التي ألفها ، وقرظ له عليها النجم المترجم فقال بعد الحمدلة والتصلية : وبعد فلما تشرفت الشهباء بقدوم مولانا فخر الأفاضل وعمدة الأدباء الوارث سلافة المجد عن أبيه وجده ، الحائز قصبات الرهان في ميدان البلاغة بعزمه وجده ، من فاق ببلاغته نثر النظام ، وسما في متانة نظمه على البحتري وأبي تمام ، وملك ديوان الإنشاء ، ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وكان قدومه عليها ووروده إليها من دار السلطنة العليا قسطنطينية المحمية ، راتعا طيب العيش بحصول المآرب ، ناهلا من وروده على ألذ المشارب ، فأوقفني على هذه الرحلة التي تشد إليها الرحال ، وتقف عندها مطايا الآمال ، فوقفت على حديقة أريجة النبات ، وصحيفة بهيجة الصفات ، وأجلت طرفي في ألفاظ أرق من السلافة ، وألذ من الأمن بعد الإخافة ، ومعان أحلى من لعاب النحل ، وأعذب من الخصب بعد المحل ، جمعت فضائل الآداب ، وملكت معاقل الألباب ، تعرب عن بلاغة منشيها ، وتبلغ الأنفس من أمانيها ، فلا زالت الأعين من لقائها مبتهجة ، والألسن بحسن ثنائها ملتهجة ، وأمده الله بسعد لا انقطاع لحبله ، وأيده بمجد لا انصداع لشمله ، لا برح يرتع في رياض الفضائل ، ويطبق من أصول دلائله المسائل على الدلائل. انتهى.

٢٦٥

وكانت وفاته في سنة أربع وخمسين وألف ، وجاء تاريخ وفاته (زفّت لنجم الدين حور الجنان).

والحلفاوي بفتح الحاء المهملة وسكون اللام ثم فاء بعدها ألف مقصورة. قال ابن الحنبلي في ترجمة العفيف محمد بن أبي النمر : أخبرني إنما قيل لأجداده بنو حلفاء لما أنه كان لهم أب ولد في طريق الحجاز بجوار أرض كانت تنبت الحلفاء ، ولم يكن له مهد يوضع فيه ، فكانت أمه تأخذ شيئا من ورق الحلفاء وتضعه تحت ولدها إلى أن فارقت تلك الأراضي ، فكني بأبي حلفاء. قال : فنحن بنو أبي حلفاء ، إلا أنه اختصر فقيل بنو حلفاء بحذف مضاف.

قال : وكان أمر أن يكتب في نسبه الأنصاري في آخر وقته لما بلغه أن أباه كان من ذرية حباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي ، وهو الذي ذكر ابن دريد في ترجمته في كتاب «الإسعاف» أنه شهد بدرا ، قال : وهو ذو الرأي سمي لمشورته يوم بدر ذا الرأي. ا ه.

وقال المحبي في ترجمة يوسف المعروف بالبديعي الدمشقي نزيل حلب وتلميذ المترجم المتوفى بالروم : وله أي ليوسف في مدح النجم الحلفاوي :

رويدا هو الوجد الذي جلّ بارحه

وقد بعدت ممن أحب مطارحه

هوى تاهت الأفكار في كنه ذاته

ومتن غرام عنه يعجز شارحه

منها في المدح :

إمام أطاعته البلاغة ما رقى

ذرى منبر إلا وكادت تصافحه

تعدّ الحصى والليل تحصى نجومه

ولم يحص جزءا من سجاياه مادحه

ا ه

٩٧٥ ـ أبو السعود الكوراني المتوفى سنة ١٠٥٥ ووالده محمد

أبو السعود بن محمد الحلبي المعروف بالكوراني ، الأديب الشاعر المفلق.

كان لطيف الطبع جيد الفكرة ، وله محاضرة رائقة ومفاكهة فائقة مع حداثة سنه وطراوة عوده.

٢٦٦

وشعره عليه طراوة وفيه عذوبة ، وقفت له على قصيدة غراء فريدة زهراء مطلعها :

أجل إنها الآرام شيمتها الغدر

فلا هجرها ذنب ولا وصلها عذر

ففز سالما من ورطة الحب واتعظ

بحالي فإن الحب أيسره عسر

وقد هاجني في الأيك صدح مغرّد

به حلّت الأشجان وارتحل الصبر

يذكرني تلك الليالي التي انقضت

بلذة عيش لم يشب حلوه مرّ

سقيت ليالي الوصل مزن غمامة

فقد كان عيشي في ذراك هو العمر

فكم قد نعمنا فيك مع كل أغيد

رقيق الحواشي دون مبسمه الزهر

لقد خطّ ياقوت الجمال بخده

جداول من مسك صحيفتها الدرّ

وروض به جر الغمام ذيوله

فخرّ له وجدا على رأسه النهر

وقد أرقص الأغصان تغريد ورقه

وأضحك ثغر الزهر لما بكى القطر

وضاع به نشر الخزامى فعطّرت

نسيم الصبا منه ويا حبذا العطر

بدائع من حسن البديع كأنها

إذا ما بدت أوصاف سيدنا الغرّ

ومن مقاطيعه قوله :

كأنما الوجه والخال الكريم به

مع العذار الذي اسودّت غدائرة

بيت العتيق الذي في ركنه حجر

قد أسبلت من أعاليه ستائره

وله غير ذلك.

وكانت وفاته بحلب سنة ست وخمسين وألف.

وأبوه محمد شاعر مثله ، حسن السبك دقيق الملاحظة. ولقد سألت عن وفاته كثيرا من الحلبيين فلم أظفر بها ، فلهذا لم أفرده في هذا الكتاب بترجمة ، وذكرته هنا رغبة بتطريز هذا التاريخ بشعره ، وما أورده له قد ذكر غالبه البديعي ولم يوفه حقه ، فمما أورده له قوله :

بدر أدار على النجوم براحه

شمسا فنارت في كؤوس رحيقه

شمس إذا طلعت كأن وميضها

برق تلألأ عند لمع بريقه

يسقي وإن عزت عليه ورام أن

يشفي لداء محبه وحريقه

فيديرها من مقلتيه وتارة

من وجنتيه وتارة من ريقه

٢٦٧

وقوله :

عجبت لما أبداه وجه معذبي

من الحسن كالسحر الحلال وأسحر

بوجنته ياقوت نار توقدت

عليها عذار كالزمرد أخضر

وقوله مضمنا :

مليك جمال أنبت العز خده

نباتا له كل المحاسن تنسب

فكررت لثم الخد منه لطيبه

وكل مكان ينبت العز طيب

* وقوله :

ومهفهف لدن القوم ووجهه

قمر تقمص بالعذار الأخضر

فتق العذار بخده فكأنما

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر

وترجم الشيخ محمد العرضي أبا السعود فقال : هلال فضل بزغ ، وفرع مجد نبغ ، وزهرة عاجلها القطع وهي كمام ، وقمر رماه الخسوف قبل أن يصير بدر تمام. فيا له من كوكب استهل ميلاده بالسعود ، وشفع شرف الأجداد بإقبال الجدود. حصل طرفا من العلم والأدب الغض ، ما يفوح عطره متى مس مسك ختامه بالفض ، مع الخط المخجل ريحانه لزهر الرياض ونور الغياض ، ما تحسد عليه كل الجوارح عندما تتملى به المقلة ، وتنعقد على حسنه الخناصر ويغبّر به في وجهه ابن مقلة. إلا أنه لم تطل أيام مدته ، ولم تسمح له بالتجافي عن مهجته ، حتى رمي بدره بالمحاق ، وهو إذ ذاك في كن الصبا يرسف من الحداثة في وثاق ، فانتقل إلى جوار به بالطاعون في سنة ٥٦ ، فما أحقه بقول أبي تمام :

عليك سلام الله وقفا فإنني

رأيت الكريم الحر ليس له عمر

وها أنا كاتب من شعره الرقيق ، كل بيت جديد يليق تعليقه بالبيت العتيق ، مثل قوله متغزلا (بدر أدار على النجوم براحه) الخ الأبيات التي نسبها العلامة المحبي لوالده محمد وهي له لأن رب البيت أدرى.

وترجم العرضي أيضا محمدا والد أبي السعود فقال : محمد تاج الدين بن محيي الدين الكوراني. كان أبوه وجده من زمرة العدول ، الذين ليس لهم عن دائرة الشرع حيد ولا عدول ، ولهما الدربة في التوريق وكتابة الصكوك ، بحيث تبرز وثائقهما بروز السيف المحلّى

__________________

(*) عجز البيت للمتنبي ، وصدره : وكل امرىء يولي الجميل محبب.

٢٦٨

والتبر المسبوك. وصاحب الترجمة قد أربى عليهما بقول الشعر والقريض ، وكلمات كالثنايا أو كالدر والإغريض.

وثناياك إنها إغريض

ولآل توم وبرق وميض

* وقد سافر إلى دار السلطنة العليا مرات ، وانتظم في سلك القضاة بل السيوف المنتضاة. وفي سفرته الأخيرة تولى قضاء سرمين ، وفي خلاله بغته الحين ولات حين.

وقد كتبت له من شعره الرقيق المقصور على الغزل ، ما لو سمعه عمر بن أبي ربيعة لبخخ وحيهل ، ما هو من شرط كتابي هذا مثل قوله :

ومهفهف كملت محاسن وجهه

من فوق غصن قوامه المتمايل

وبدا طراز عذاره فكأنه

بدر الخسوف ببدر تمّ كامل

وقوله :

لما تأمل بدر التمّ عارضه

وقد بدا في محيّا نوره سطعا

بدا به غيرة خسف وشبّهه

كأنه في محياه قد انطبعا

ا ه

٩٧٦ ـ أحمد بن محمد الحسني النقيب المتوفى سنة ١٠٥٦

السيد أحمد بن محمد الحسني المعروف بابن النقيب الحلبي ، الأديب المفنن البارع المشهور.

ذكره البديعي في «ذكرى حبيب» فقال في حقه : عنوان الفضل وبسملة كتابه ، وفصل خطابه وفذلكة حسابه ، وسهام كنانته ودلاص عيا به ، ورواء الشهباء فخامة وجلالا ، ووسامة وإقبالا. وقد جمع الله له أسباب السعادة ، كما قصر عليه أدوات السيادة ، وهو في اقتناء السودد فريد ، وإنه لحب الخير لشديد ، ومنزلته في النظم رفيعة ، وطريقته في النثر بديعة ، ينظم فينثر الدرر ، وينثر فينظم الغرر ، وحاشيته على الدرر تشهد بأن الواني وان ، وحبرية أثر نقسه وبراعته برهان حق على مين مان. فكم نمقت أفكاره في غلس الديجور ، ما هو أوقع في النفوس من حور الحور ، وقيدت بسلاسل السطور ،

__________________

(*) البيت لأبي تمام ، وفي الأصل : ... ولآل قدم ، والصواب ما أثبتناه

٢٦٩

وشوارد يقتبس منها مشكاة الهدى والنور ، وهو الآن للأدب وأصوله ، وأنواعه وفصوله ، إمام أئمته ، ومالك أزمته ، ويروي غليل الأفهام سلسال تقريره ، وتحلي أجياد الأقلام عقود تحريره. انتهى.

(قلت) : وقد رأيت خبره مفصلا في بعض كتبه إلى السيد عبد الله الحجازي رحمه‌الله تعالى من تراجم الحلبيين. قال : ولد بحلب وبها نشأ ، وأخذ عن العلامة عمر العرضي وغيره ، وتأدب بإبراهيم بن المنلا وبرع ، ورحل إلى قسطنطينية وولي القضاء برهة ، ثم تقاعد عن رتبة القدس ، وولي نيابة القضاء بحلب. وكان له إحاطة تامة بأنواع الفنون. وقرأ عليه جماعة من مشاهير فضلاء حلب وبه انتفعوا. وألف حاشية على الدرر والغرر في الفقه وأجاد فيها جدا ، واطلعت أنا له على تحريرات كثيرة تدل على دقة نظره وغزارة فضله.

وأما شعره ونثره فإليهما النهاية في الحسن ، فمن شعره قوله من قصيدة :

سقى الله عيشا مر في زمن الصبا

وحيّاه عني بالعبير نسيم

ودهرا بقسطينية قد قطعته

إذ السعد عبد لي بها وخديم

بلاد هي الدنيا إذا ما قطنتها

فوجه الأماني مسفر ووسيم

وما هي إلا جنة الخلد بهجة

وما غيرها إلا لظى وجحيم

فكم في مغانيها قضيت لبانة

وزالت عن القلب الكليم هموم

وقرب أبي أيوب كم روضة إذا

حللت بها يوما فلست تريم

تقول إذ شاهدت عالي قصورها

أهذي جنان زخرفت ونعيم

جرى ماؤها كالسلسبيل فمثلها

إذا ما تذكرت البقاع عديم

كستها الغوادي حلة سندسية

وأهدى شذاها للنفوس شميم

وبالسفح سفح الطوبخانة أربع

لها النسر في جوّ السماء نديم

تلوح بها الغيد الصباح كأنما

علوا وإشراقا تلوح نجوم

يقابلها ذاك الخليج بصفحة

كأن لها متن السماء خديم

ترى السفن فيها جاريات كأنها

جياد فمنها سابق ولطيم

وعند الحصارين المنيعين جيرة

حديث علاهم في الأنام قديم

عجبت لأيامي بهم كيف لم تدم

وهل دام شيء غيرها فتدوم

٢٧٠

وكتب لبعض الكبراء مع قطاع من الصيني أهداها له قوله :

إن قصّر الداعي وأهدى بلا

روية محتقرا نزرا

من عمل الصين قطاعا أتت

لا تستحق الوصف والذكرا

فاعذر فقد أهدى إليك الثنا

عقدا نظيما يخجل البدرا

وكتب مع أخرى يعتذر عن هدية قوله :

وهديت اليسير فانعم وقابل

نزره بالقبول والإمتنان

فلو ان العيوق والشمس و

البدر مع الفرقدين في إمكان

كنت أهديتها وقدمت عذرا

ورأيت القصور مع ذاك شاني

وقال من فصل وهو مما يختار للكاتب مع الهدايا : قد جرت العادة بمهاداة الخدم للسادة رجاء أن يجدّدوا لهم ذكرا ، وإن كانت الهدية شيئا نزرا ، ولهم في ذلك أسوة بالسحاب إذا أهدى القطر إلى تيار البحر ، وبالنسيم إذا أهدى النشر إلى حديقة الزهر.

وله من قصيدة يخاطب بها صديقا له :

تزول الرواسي عن مقر رسومها

وودي على الأيام ليس يزول

ولست بمن يرضيه من أهل ودّه

خفيّ وداد في الفؤاد دخيل

إذا لم يكن في ظاهر المرء شاهد

على سره فالود منه عليل

أأرضى بود في الفؤاد مغيّب

وليس إلى علم الغيوب سبيل

وأقبل عن هجري اعتذرا مزيّنا

تمحّلته إني إذا لجهول

لعمرك قد حركت ما كان ساكنا

وعلمتني بالغيب كيف أصول

وكتب إلى الغلامك البوسنوي يودعه حين توجه إلى الروم من حلب من غير عزل وأقامه مقامه :

ركابك مقرون بعز وإقبال

وسيرك ميمون بطالعك العالي

رحلت فأضرمت القلوب بجمرة

وكل بما أوريت من حرها صالي

وغادرتنا حلف التأسف والأسى

نبيت بآلام ونغدو بأوجال

إذا ما تذكرنا زمانك والذي

جنيناه فيه من جنى كل إفضال

تمزّق درع الصبر عنا تلهفا

عليه ولم نبرح رهائن بلبال

٢٧١

فما أنت إلا الغيث نخصب إن دنا

ونجدب إمّا همّ عنا بترحال

وقد كانت الشهباء لما حللتها

تجرّ مروط العز ناعمة البال

وتفخر إعجابا وما ذاك بدعة

فكم من عرين نال فخرا برئبال

فصارت وقد أعرضت عنها خلية

عن العدل والإنصاف في أسوأ الحال

كأن امرأ القيس انتحالها بقوله

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وقال يخاطب بعض أصحابه بقوله :

رويدك شأن الدهر أن يتغيّرا

وشيمته إما صفا أن يكدّرا

وعادته الشنعاء في الناس أنه

إذا جاء بالبشرى تحوّل منذرا

فلا بؤسه يبقى وأما نعيمه

فكالطيف إذ نلقاه في سنة الكرى

فلاتك مسرورا إذا كان مقبلا

ولا تك محزونا إذ هو أدبرا

فأي دجى همّ دهاك ولم تجد

صباحا له بالبشر وافاك مسفرا

وقد هزلت أيامنا فلو انها

أتتنا بجد كان للهزل مظهرا

ومنها :

وليس يعيب البدر فقدان نوره

إذا كان بعد الفقد يظهر مقمرا

وكتب إلى بعض الموالي يودعه :

إمامك التوفيق والرشد

وخدنك التأييد والسعد

وكلما حليت في منزل

قابلك الإقبال والجدّ

رحلت عن شهبائنا فانزوى

الفضل بها وانطمس المجد

من بعد ما أجريت عدلا بها

فيه تساوى الحر والعبد

فكنت مثل الشمس ما شانها

بالنور إلا الأعين الرمد

وكنت مثل الورد ما زرتنا

حتى ترحّلت كذا الورد

لا بل كريعان الصبا سرّنا

حينا ولكن ساءنا الفقد

فاذهب فأنت الغيث ما حلّ في

منزلة إلا له حمد

وله في غاية الجودة :

٢٧٢

لدواة داعيكم مداد شاب من

جور الزمان وقد رثت لمصابه

فأتت تؤمل فضلكم وتروم من

إحسانكم تجديد شرخ شبابه

وكتب صدر رسالة :

أيها الفاضل الذي خصه الله

من الفضل والحجى بلبابه

إن شوقي إليك ليس بشوق

يمكن المرء شرحه في كتابه

وكتب إلى السيد محمد العرضي قبل توجهه إلى الروم :

ما زلت محسودا على أيامكم

حتى غدوت ببعدكم مرحوما

ومن البلية قبل توديعي لكم

أصبحت رزقا للنوى مقسوما

فأجابه وكان محموما :

وافى الكتاب وكنت قبل وروده

من خوف ذكر فرافكم محموما

هذا ولي أمل بصرفة عزمكم

عنه فكيف إذا غدا محتوما

وله :

إن شوقي يجل عن أن يودّي

بعض أوصافه لسان اليراع

وكتب لمن أعاره مجموعا :

مولاي هب أن المحب فؤاده

هبة مسلمة بغير رجوع

فاقنع فديتك بالفؤاد تفضلا

وانعم ولا تتبعه بالمجموع

قلت : مما يناسب هذا المضمون ويحسن موقعه عنده في المماطلة بمجموع أن الصدر تاج الدين أحمد بن الأمير الكاتب استعار مجموعا من مجاهد الدين بن شقير وأطال مطله به ، فاتفق يوما أن حضر إلى ديوان المكاتبات ، فقال له ابن الأمير : كيف أنت يا مجاهد الدين؟ والله قلبي وخاطري عندك ، فقال له : والله وأنا مجموعي عندك ، فطرب لها الحاضرون.

ومن رباعيات ابن النقيب قوله :

يا من اخترت لي حبيبا قبله

يا من صيرت حسنه لي قبله

٢٧٣

روحي لك قد أخذتها خالصة

فاجعل ثمن المبيع منها قبله

ولما انتقل أخوه بالوفاة كتب إلى أبي الوفاء العرضي وكان أصيب بولديه قوله :

رزء ألمّ وحسرة تتوالى

ومصيبة قد جرّت الأذيالا

وجليل خطب لو تكلّف حمله

ثهلان ذو الهضبات دكّ ومالا

وفراق إلف إن أردت تصبرا

عنه أردت من الزمان محالا

وغروب عين ليس تفتر دائما

عن سكب رقراق الدموع سجالا

بعدا لدهر شأنه أن لا يرى

إلا خؤونأ غادرا محتالا

نغتر فيه بالسلامة برهة

ونرى المآل تمحّقا وزوالا

ويعيرنا ثوب الشبيبة ثم لم

يبرح به حتى يرى أسمالا

قبّحت يا وجه الزمان فلا أرى

لك بعد أن فقد الجمال جمالا

ذاك الذي قد كان قرة ناظري

وقرار قلبي بل وأعظم حالا

قد كنت أرجو أن يؤخّر يومه

عني ويحمل بعدي الأثقالا

ويذوق ما قد ذقته لفراقه

ويمارس الأهوال والأوجالا

فتطاولت أيدي المنية نحوه

وبقيت فردا أندب الأطلالا

كنا كغصني بانة قطع الردى

منا الأغضّ الأرطب الميّالا

أو كاليدين لذات شخص واحد

كان اليمين لها وكنت شمالا

أسفي عليه شمس فضل عوجلت

بكسوفها وعماد مجد مالا

لا كان يوم حمّ فيه فراقنا

فلقد أطال الحزن والبلبالا

فسقى ضريحا حله صوب الحيا

في كل وقت لا يغيب وصالا

ومنها :

هيهات من لي بالرثاء وفقده

لم يبق فيّ بقية ومجالا

أفحمتني يا رزأه من بعد ما

كنت الفصيح المصقع القوّالا

من لي بطبع اللوذعي أبي الوفا

ذاك الذي بالسحر جاء حلالا

مولى إذا وعظ الأنام رأيته

يلقي على كل امرىء زلزالا

بزواجر لو أنه استقصى بها

أهل الضلال لما رأيت ضلالا

٢٧٤

مولاي يا صدر الزمان ومن غدا

لبنيه غوثا يرتجى وثمالا

ذي نفثة المصدور قد سرّحتها

لحماك تشكو بثّها إدلالا

إن المصيبة ناسبت ما بيننا

إذ حوّلت بحلولها الأحوالا

فثكلت مخدومين كل منهما

قد كان في أفق السعود هلالا

لو أمهلا ملأا العيون محاسنا

وكذا القلوب مهابة وكمالا

ولكان هذا للمعالي ناظرا

ولكان هذا في طلاها خالا

خطفتهما أيدي المنون وغادرت

ماء العيون عليهما هطّالا

فأجابه بقصيدة منها :

لهفي على بدر تكامل بعدما

قد سار في ذاك الكمال هلالا

أعظم به رزأ أتاح مصائبا

فتّ القلوب ومزّق الأوصالا

ما كنت أعلم قبل حمل سريره

أن الرجال تسيّر الأجبالا

وعجبت للبحر المحيط بحفرة

هل غاب حقا أو أراه خيالا

يا دافنيه من الحياء تقنعوا

غيبتم شمس الغداة ضلالا

عهدي الغمام حجابها مالي أرى

أضحى الحجاب جنادلا ورمالا

وكتب إليه في هذا الشأن قوله :

خطب يقرب دونه الآجالا

ويمزّق الأحشاء والأوصالا

فدع الجفون تجود إن نضبت سحا

ئب دمعها فيه دما هطّالا

أفلت نجوم الفضل من فلك العلا

ووهى ثبير المكرمات ومالا

فقدت أولو الألباب ذا المجد الذي

عدموا بفقد حياته الإقبالا

فقدوا حليف الفضل من بكماله

وحجاه كنا نضرب الأمثالا

من شاء للعلياء يسع فإن من

كانت له بالأمس ملكا زالا

ومنها :

أعزز علي بأن أرى رب الفصاحة

والبلاغة لا يجيب سؤالا

ما كنت أعلم قبل يوم وفاته

أن الكواكب تسكن الأرمالا

ما كنت أحسب أن أرى من قبله

للشمس من قبل الزوال زوالا

٢٧٥

ومنها :

صبرا على ما نالني في يومه

كالصبر منه به على ما نالا

ملأ القلوب من الأسى ولطالما

ملأ العيون مهابة وجلالا

لو لا أخوه أبو الفضائل أحمد

لرأيت أندية العلا أطلالا

الكامل الفطن الذي عرفانه

إن صال تلقاه ظبى ونصالا

ومنها :

ما رام بدر التمّ مثل كماله

إلا وصيّره المحاق هلالا

مولاي يا ابن الراشدين ومن لهم

شرف على هام السماك تعالى

صبرا فإن الدهر من عاداته

يدني النوى ويحوّل الأحوالا

وقد اقتفى أثر الشريف الرضي في قصيدته التي رثى بها الصاحب ابن عباد ومطلعها :

أكذا المنون تقنطر الأبطالا

أكذا الزمان يضعضع الأجيالا

وهي طويلة جدا فلا حاجة بنا إلى إيرادها.

ولابن النقيب غضة الشغوف ، منها قوله : حضرة تقلدت أعناق الرجال بقلائد بعمها ، وتدبجت رياض الآمال بهواطل سحب كرمها ، وطافت أفهام الطلاب بكعبة حقائقها وعلومها ، وسعت أفكار بني الآداب بين صفا منشورها ومروة منظومها. لا برحت الأيام باسمة الثغر بمعاليها ، والأنام حالية النحر بأياديها. (وكقوله) :

وهو صدر الدنيا وركن العليا ، وواسطة عقد ورثة الأنبياء ، وواحد هذا النوع الإنساني من الأحياء ، دعوى لا يدخل بيّنتها وهم ، ونتيجة لا يشين مقدماتها عقم. فإنّ من كان صدر بني هاشم ، وشنب ثغرهم الباسم ، وهم في الرفعة والمنعة كان أجل موجود ، وأعظم من في الوجود. (وكقوله) :

قسما بمن جعل محاسن الدنيا في تلك الذات محصورة ، وأسباب العليا على ملازمة عتباتها مقصورة ، إن عقد عبوديتي عقد لا تتطاول إليه الأيام بفسخ ، وعهد مودتي عهد لا تتوصل إليه الحوادث بنسخ ، وكيف يفسخ وصورته في الجنان مجلوّة ، أم كيف ينسخ وسورته في كل حين باللسان متلوة. ولعمري مهما نسيت فإني لا أنسى أيامي في خدمتها ،

٢٧٦

والتقاطي الدر من مذاكرتها ، وما كان بيننا من المصافاة التي هي مصافاة الماء مع الراح ، وما يجري بيننا من المفاوضة التي هي في الحقيقة مفاوضة الورد مع التفاح. وعلى كل حال فلا عوض لنا عنها إلا ما تنقله الركبان من أخبار سلامتها ، وما تودعه في صدفة آذاننا من جواهر آثار عدالتها. لا جرم أنه كلما تعطرت مجالسنا بشيء من ذلك ، دعونا الله عزوجل فيما هنالك ، بأن يزيد باع عدلها امتدادا ، وشعاع فضلها سطوعا وازديادا ، وأن يبلغها أقصى ما تطمح إليه عين طامحة ، أو تجنح نحوه نفس جانحة. هذا والمتوقع من كرمها ، كما هو المألوف من شيمها ، أن لا تخرجنا من ضميرها المنير ، وأن تعدّنا في جريدة من يلوذ بمقامها الخطير. والله تعالى يبقي لنا تلك الذات سامية الركاب عالية القباب ، في رفعة دونها قاب العقاب.

وبالجملة فمحاسن هذا السيد كثيرة ، وأشعاره ومنشآته عزيرة ، فلنكتف بهذا المقدار.

وكانت وفاته في سنة ست وخمسين وألف وعمره ثلاث وخمسون سنة ، حتى إنه كان يقول في مرض موته : أحمد واقعة الحال. رحمه‌الله تعالى. ا ه.

وترجمه الشهاب في الريحانة فقال : سيد عجنت طينته بماء الوحي والنبوة ، وغرست نبعته في ساحة الفضل والفتوة ، له مناقب هي الوشي حسنا وبهجة (إذا نشرت كانت ممسّكة النشر) وغرائب رغائب في الكرم واضحة المحجة (يظل بها مستعبد النظم والنثر). اجتليت بحلب محياه ، فأكرمني بجوده ونداه ، ومدحته شكرا لما أولاه :

وكذا الهاشميّ مثلك لا

يمدح إلا بها شميّ الكلام

فاستعار ديواني واشتغل بمطالعته وانتخابه ، وفي أثناء ذلك دعوته فلم يجب ، ثم لاقيته فاعتذر بعد عتابه ، بأن اشتغاله بالديوان منع من الملاقاة ، فأنشدني هذه الأبيات :

وحقك لم أترك زيارة سيدي

للوّ يعوق النفس عنه ولا ليت

ولكن بديوان له قمت خادما

وقد كان فكري قبل ذلك كالميت

فأدهشني حسن به ظلت حائرا

فأدخل في بيت وأخرج من بيت

٢٧٧

٩٧٧ ـ يحيى الصادقي المتوفى بين سنة ١٠٥٠ و ١٠٦٠

السيد يحيى الشهير بالصادقي الحلبي ، الأديب اللطيف.

ذكره البديعي فقال في وصفه : هو مع شرف الأصل ، جامع بين أدوات الفضل ، صافي ورد الأخوة ، ضافي برد الفتوة ، مطبوع على التواضع والكرم ، معروف بحسن الأخلاق والشيم ، وكلامه ليس به عثار ، ولا عليه غبار ، كما قيل فيه :

وإن أخذ القرطاس خلت يمينه

تفتّق نورا أو تنظّم جوهرا

وهو الآن في الشهباء فارس ميدانها فضلا ، وناظر إنسانها نبلا. ثم قال : وأذكر ليلة من الليالي خيلت لحسنها ليلة القدر ، رقد عنها الدهر إلى أن انتبه الفجر ، في منزل حف بأمراء النظم والنثر ، منه بدر ترمقه المقل ، فتجرح منه مواقع القبل ، أفرغ في قالب الجمال ، ولم يوصف بغير الكمال. واتفق أنه بدد نارا هنالك بغير اختياره ، فقال الصادقي :

ضمّنا مجلس لتاج الموالي

عالم العصر بكر هذا الزمان

غرة الدهر أحمد ذو الأيادي

وابن خير الأنام من عدنان

بفريد الحسان خلقا وخلقا

عندليب الأخوان نور المكان

فانثنى كالقضيب تفديه نفسي

عابثا بالسياط والمجان

فأصاب الكانون سوط فطار

الجمر من وقعه على الأخوان

فسألنا ماذا فقال نثار

الحب جمر ولا بدرة من جمان

واعتراه الحيا فأخمدها

من غير بؤس بساعد وبنان

ففرقنا عليه منها فنادى

وكذا النور مخمد النيران

وقال فيه أيضا :

لاموا الذي حاز لطفا

وبهجة وجلاله

إذ بدد النار عمدا

ليلا وأبدى الخجاله

وضاع في البسط شهبا

إذ كان بدرا بهاله

وكفّل الطفي يمنا

ه تارة وشماله

٢٧٨

كذلك الشمس تدني

لكل نجم زواله

فقلت لا تعذلوه

دعوه يوضح حاله

بأنه بدر تمّ

حينا وحينا غزاله

* وقال :

أنشدت من أهوى وقد أخذ الهوى

بمجامعي واستحوذ استحواذا

كبدي سلبت صحيحة فامنن على

رمقي بها ممنونة أفلاذا

فأشار للكانون فانثالت على

الجلاس جمرا وابلا ورذاذا

وبدا يكفكفه حيا ويقول لي

من كان ذا لب أيطلب هذا

فقال السيد أحمد النقيب :

قد قلت إذ عثر الذي ألحاظه

فعلت بنا فعل الشمول مشعشعه

في مجلس بالنار فانتشرت على

بسطي فكلله الحياء وبرقعه

وأكبّ يرفع غيها بأكفه

مستعظما ذاك الصنيع وموقعه

جمرات حبك لو علمت بفعلها

في القلب ما استعظمت حرق الأمتعه

وقال فيه أيضا :

لا تحسب النار التي ما بيننا

نثرت من الكانون كان شتاتها

بل إنما ذاك الذي ألحاظه

سلبت عقول أولي النهى فتراتها

لما رأى عشاقه تخفي الهوى

ولهيب نار رابه زفراتها

وأراد يفضحها أشار بكفه

لقلوبها فتناثرت جمراتها

وقال فيه الشيخ عبد القادر الحموي :

إن الذي أخجل شمس الضحى

في منزل المولى الرفيع العماد

بدد نارا كان للإصطلا

فانبثّ كالياقوت بين الأياد

فانصاع يزوي الجمر في أنمل

كالخزّ إن حاولت منها انعقاد

وقال إذ رامت بتأجيجها

تحكي سنا خدي ومنك الفؤاد

__________________

(*) الغزالة : الشمس.

٢٧٩

نثرتها عمدا على بسط من

أروى نداه كل غاد وصاد

وولاه بعض قضاة حلب نيابة محكمة السيد خان بها ، فكتب إليه :

أصبحت مع الشمس ببرج الميزان

إذ أنزلني الهمام بالسيد خان

لكن وعلاك كل من ناب يخن

والعبد يعاف كلمة السيد خان

ا ه.

٩٧٨ ـ مصطفى العلبي المتوفى ما بين سنة ١٠٥٠ و ١٠٦٠

مصطفى المعروف بابن العلبي ، مفتي الحنفية بحلب ورئيسها السامي المكانة.

نبغ من بين قومه متفردا بشعار العلماء ، فإن أهله كلهم تجار ، غير أن لهم رياسة قديمة في التجارة والتمول.

وكان سافر إلى الروم وانحاز إلى شيخ الإسلام يحيى بن زكريا ولازم منه وتقرب إليه كل التقرب. وكان الشيخ أبو اليمن مفتي حلب لما قارب الوفاة فرغ لابنه إبراهيم المقدم ذكره عن الفتوى ، فلما أرسل عرضه إلى دار السلطنة كان صاحب الترجمة بها ، وكان يتطلب من شيخ الإسلام أمورا يستصعبها ، فوجد الفتوى أسهل وأنفع له ، فوجهها إليه مع المدرسة الخسروية ولم يعتبر عرض القاضي. ثم قدم إلى حلب مفتيا ورأس بها وعلت حرمته. ثم لما جاء السلطان مراد إلى حلب وفي صحبته شيخ الإسلام المذكور أراد الشيخ إبراهيم الشكاية إلى السلطان باعتبار أنه أعلم من صاحب الترجمة ، فوجد لشيخ الإسلام اليد الطولى عند السلطان ، فعرض الأمر عليه ، فزجره زجرا عنيفا ثم قال له : مهما أردت من المناصب أسعى لك فيه إلا الفتوى. فلم يقبل شيئا حنقا.

ثم أضاف شيخ الإسلام لابن العلبي صاحب الترجمة قضاء إدلب الصغرى ، ولم ينل هذه الرتبة من تقدمه من مفتية حلب خصوصا ولا الأخوة الثلاث أبو الجود ومحمد وأبو اليمن مع اتساع علومهم ورفعة مقامهم ، وابن العلبي هذا بالنسبة إليهم في الفضل بمثابة تلميذ لهم ، بل ولا تتأتى له هذه المثابة ، فإنه كان مشهورا بالجهل ، وكان في أمر الفتاوي إنما هو صورة ممثلة ، والذي ينظر في أمرها رجل كان يكتب له الأسئلة يعرف بابن ندى.

ومن غريب ما وقع لصاحب الترجمة أنه حضر يوما الجامع ، فأحضرت جنازة فقدم

٢٨٠