إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

دار للمياء كنت أعهدها

يجمع شمل السرور معهدها

أقوت فلا ريمها وربربها

بها ولا غيدها وخرّدها

لا تلحني إن وقفت أنشدها

بيت أخي الشعر وهو سيّدها

(أهلا بدار سباك أغيدها

أبعد ما بان عنك خرّدها)

وكف عن عبرة أحدّرها

فيها وعن زفرة أصعّدها

هل هي إلا بلوى أحققها

ونار وجد بالدمع أخمدها

ما لبنات الهديل تطربني

ألحانها عندما ترددها

حمائم كلما هتفن ضحى

يشب من لوعتي توقّدها

أبكي وتبكي معي فنحن كذا

تسعدني تارة وأسعدها

يا من لنفس عن برئها عجزت

أساتها واستعاذ عوّدها

ومهجة قد قضت صبابتها

لها وقد خانها تجلّدها

ساروا بريا الشباب ناعمة

يزين أعطافها تأوّدها

ما لغصون النقا موشّحها

ولا لسرب المها مقلّدها

ساروا وفي حمولهم كبدي

تائهة ما أطيق أرشدها

بالله يا حاديي ركائبها

قفوا لعلّي في الركب أنشدها

في كل يوم دار أفارقها

وأهل دار بالرغم أفقدها

ترمي النوى بي وناقتي سعة

للبيد ينصي المصيّ فدفدها

أرح بمثواك همة تعبت

وعن بلا * لا تزال تجهدها

سينظر الناس بعدها ويرى

أطواق مدحي لمن أقلدها

قيل فأي الكرام تطلب أو

تقصد والحال أنت أحمدها

قلت منجّي العباد هاديها

إذا ما عرت ومرشدها

وقوله :

بالله إن لحظات فتان الهوى

لحظت فكن للناس أكبر ناسي

(متهتكا في هاتك بجماله

بل فاتك بقوامه المياس) (١)

__________________

(*) هكذا في الأصل ، وفي سلك الدرر : وعزبلا. ولعل الصواب : وعزة.

(١) هذان البيتان لأبي نواس من خمرية أتى بهما المترجم مضمنا.

٤٢١

(وإذا جلست إلى المدام وشربها

فاجعل حديثك كله في الكاس)

وتناول الأفراح في حاناتها

بالزق أو بالدن أو بالطاس

واجعل نديمك فيه غير مقصر

ابن الكرام لبنت كرم حاسي

الراح طيبة وليس تمامها

إلا بطيب خلائق الجلاس

ومديرها رشأ كأن عيونه

وسنانة كالنرجس النعاس

فاشرب ولا تقنع بحسو قليلها

فأقل فعل الخمر ميل الراس

وإذا مللت من المدام فثغره

نعم المدام الطيب الأنفاس

وقوله من قصيدة :

يا رشادي وأين مني رشادي

غاب غني مذ غاب عني فؤادي

كان عهدي به بأطلال سلع

ضل مني ما بين تلك الوهاد

أسرته من ساكنيه مهاة

فهو في أسرها ليوم المعاد

فهو في قبضة الجمال معنّى

في هواها وهالك دون وادي

يا خليليّ عرجا نحو سلع

وانشداه من رائح أوغادي

واشرحا حالتي وسقمي لميّ

وغرامي بها وطول سهادي

وابكيا لي بين الطلول بدمع

فدموعي قد آذنت بنفاد

علّ ذات الحمى ترق لصب

قد خفى رقة عن العواد

وله :

إن لم يكن لي أجداد أسود بهم

ولم تثبت بنو الشهباء لي شرفا

ولم أنل من ملوك العصر منزلة

لكان فخري في ذا العلم منه كفى

وبعد نفيه وإجلائه إلى قبرس وعزله عن الإفتاء بلا جناية تقتضي ذلك ارتحل للروم ، وكان خلاصه على يد الوزير الصدر علي باشا ، فألف كتابا باسم السلطان أحمد خان ، وهو مبني على تعريف السلطان والرعايا وما يجب له عليهم وما يجب لهم عليه ، وجمع به نوادر ومسائل علمية وغير ذلك ، وأعقبه بنثر هو فرائد جمان ودرر ، وامتدح الوزير بقصيدة يذكر بها تراكم الخطوب عليه ومطلعها :

حلف الزمان يمينه مأجورا

من دون مجدك لا يروم وزيرا

٤٢٢

وبلابل الأفراح غنت في الربا

طربا بمن ملأ الوجود سرورا

بمجدد الدين الذي علم الهدى

لا زال في ساحاته منشورا

صدر له شم المعالي رتبة

بالصدق يعرف ظاهرا وضميرا

إنسان عين الدهر جوهره الذي

ما مثله بين الأنام نظيرا

ألقت له الدنيا مقاليد الملا

فغدا العصيّ بعزمه مأسورا

تجري الأمور بوفق ما يختاره

فالعسر كان ببابه ميسورا

ما قبلته كتيبة إلا غدا

سلطانها من بأسه مقهورا

فكأن وقع سيوفه في هامهم *

قلم يسطر طرسهم تسطيرا

كل الولاة لأمره منقادة

حتى الزمان غدا له مأسورا

يا أيها البدر الذي في أفقه

أضحى على أهل الزمان منيرا

بشرت طالعك السعيد بأنه

في الخافقين بنى علا وقصورا

هابتك أجناس الخلائق كلهم

وغدا الكبير براحتيك صغيرا

وعليّ قدر شارفت شرفاته

شرف النجوم غدا لديك حقيرا

لك هيبة لولا تبسم سنك ال

ضحاك ألقت في القلوب سعيرا

منها :

والعبد يعرض حاله فلقد غدا

بالعزل ظلما جابرا مكسورا

فغدا يكابد همه وغمومه

في قعر دار لا يريد سميرا

يدعو لسلطان البسيطة والذي

أضحى بنصرة دينه مشهورا

بعلاك يرجو أن يكون مؤيدا

في خدمة تدع الفقير أميرا

أيحل من كانت تراجعه الورى

من كل مصر أن يرى محجورا

فإذا تصادمت الفحول بمشكل

أضحى بخافيه البهيم بصيرا

وغدا يقول الفاضلون بأنه

فخر غدا للفاضلين أميرا

وامنن على قوم كرام لم يروا

مما دهاهم منقذا ونصيرا

كانوا بحال في الغنى متوسط

حالت إلى حال أراه خطيرا

لا زلت في أوج المعالي صاعدا

متأيدا متأبدا منصورا

__________________

(*) في الأصل وفي سلك الدرر : حامهم.

٤٢٣

واسلم ودم تمضي أمورك في الورى

كمضاء سيف لم يزل مشهورا

وامتدح بالقصائد من دمشق وغيرها ، فمن مدحه الأمين المحبي المذكور بقوله :

يهيجني للوجد ذكر الحبائب

وللمدح أشواقي لوصف الكواكبي

همام به الشهباء تسمو وتعتلي

وتجري على مضمارها بالغرائب

فتى لبس المجد المؤثل فخره

فكان إذا كشاف كل النوائب

إذا فسروا والتفت الساق بينهم

ودارت رحاهم في دقيق التشاغب

فما عدلوا منه بمثل ابن عادل

ولا فخروا بالفخر عند الثعالبي

وإن حدثوا قال البخاري ليته

تقدمني يوما ليسند جانبي

وإن ذكروا الأسناد سلّم مسلم

فمن فوقه حتى البراء بن عازب

ومهما رووا قال الإمامان سلموا

له فهو منا عوض ضربة لازب

ومهما نحوا بز الكسائيّ ثوبه

وجر به عمرو ذيول المآرب

وإن وزنوا قال الخليل بن أحمد

عروض عروضي ثم غير مناسب

وإن نظموا قال ابن أوس مدائحي

سبايا وقال البحتري نسائبي

جواد تناجي الفكر آثار جوده

بأن ثرى ناديه مثوى المواهب

لقد سارت الركبان شرقا ومغربا

بأوصافه الغر النقايا المناقب

ترقرق ماء البشر فيه ورنقت

على خلقه الأيام صفو المشارب

له سودد لو كان للشهب أصبحت

شموس نهار لا نجوم غياهب

وثمة آراء بنجح حوافظ

تسدد من أطراف سمر سوالب

تقلم أظفار المكارم تارة

وتمسح طورا من وجوه المطالب

من القوم يثنى نحو سدة مجدهم

عنان القوافي والثنا المتراكب

وإن كثروا أحصوا بفضل بيانهم

على ذلك التدوير زهر الكواكب

كأني وقد أسجيته المدح ريطة

تثنث على عطفيه حلة كاعب

أحييه بالمدح الذي فاح نشره

وأودعه قلبا نزوع المآرب

ولي أمل أرجو به طول عمره

يجدد ما أبلته أيدي الحقائب *

__________________

(*) بعده في «سلك الدرر» :

فلا زال يبقى للأنام يفيدهم

علوما كحد الماضيات القواضب

٤٢٤

وكانت وفاة المترجم في قسطنطينية في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب سنة أربع وعشرين ومائة وألف ، ودفن خارج باب أدرنه. وفي حصر آثاره واستقصائها تجاوز الحد وكمال التطويل ، رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٢٧ ـ مصطفى نعيما المتوفى سنة ١١٢٨

مصطفى المعروف بنعيما الحنفي الحلبي ، نزيل قسطنطينية وأحد خواجكان ديوان السلطان ، الأديب العارف المنشىء الكاتب المؤرخ الشاعر الشهير.

ارتحل لدار الخلافة والملك في الروم قسطنطينية العظمى وصار في تربدارية سراية السلطان ، ثم بعد ذلك انتسب إلى الوزير أحمد باشا القلائلى وخدمه وصار عنده كاتب ديوانه. وفي سنة عشر ومائة وألف في جمادى الأولى تولى الوزير المذكور الصدارة الكبرى ، فوجه على المترجم محاسبة أناطولي. وفي سنة إحدى وعشرين صار تشريفتجي الدولة العثمانية ، ورؤي لائقا للخدمة المرقومة ، وصار كاتبا لوقائع الدول المعبر عنه بينهم بوقعه نويس. وفي سنة خمس وعشرين في رجبها صار دفتر أميني الدولة ، وهذا المنصب من المناصب المعلومة بين خواجه كان الدولة. وفي سنة ست وعشرين أعطي منصب باشا محاسبه. ثم في ربيع الأول سنة سبع وعشرين لما ذهبت العساكر الإسلامية من طرف الدولة العثمانية بعد الفتح والظفر في أواخرها صار المترجم عند رئيس العسكر دفتر أميني أيضا.

ومن آثاره تبييض تاريخ ابن شارح المنار ، وذيل عليه أيضا بمقدار ، وهو الآن مشهور بتاريخ نعيما (١).

وكان له بالتركية شعر جيد يعرفه أولو الفهم بذلك اللسان ، ولم أر له في العربية شيئا.

وكانت وفاته خلال سنة ثمان وعشرين ومائة وألف في قلعة بادره رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٢٨ ـ عبد الرحمن العاري المتوفى سنة ١١٢٨

عبد الرحمن العاري الحلبي الشافعي ، الأديب الفاضل المتفوق المعمر العالم. استفاد من الجهابذة وأفاد ، وألحق الأحفاد بالأجداد.

__________________

(١) هو مطبوع في ستة مجلدات ، وقد ترجمنا عنه كثيرا في الجزء الثالث وذكرناه في المقدمة.

٤٢٥

وله شعر لطيف ، فمنه قوله :

أما أنا فكما عهدت

فكيف أنت وكيف حالك

يمسي حديثك في فمي

ويبيت في عيني خيالك

وكانت وفاته في سنة ثمان وعشرين ومائة وألف ، ودفن بحلب الشهباء رحمه‌الله تعالى

١٠٢٩ ـ الشيخ زين الدين بن عبد اللطيف الجلّومي المتوفى سنة ١١٣٠

الشيخ زين الدين بن عبد اللطيف الحلبي الجلّومي الحنفي ترجمه تلميذه الشيخ يوسف الحسيني الحنفي الدمشقي ثم الحلبي في ثبته الذي سماه «كفاية الراوي والسامع وهداية الرائي والسامع» رأيته بخطه عند الشيخ كامل أفندي الهبراوي وعنه نقلت ترجمة المترجم وغيرها. قال فيه ما خلاصته :

ومن مشايخي الذين أروي عنهم الشيخ الكامل جامع أشتات الفضايل ، ملحق الأحفاد بالأجداد ، المشهور بعلو الإسناد ، بقية السلف الصالحين من العلماء العاملين ، شيخنا الشيخ زين الدين بن عبد اللطيف الحلبي الجلّومي الحنفي أمين الفتوى بحلب نحو سنة. مولده كما أخبرني سنة ١٠٣١ ألف وإحدى وثلاثين وهو الآن (أي سنة ١١٢٦) في الأحياء ، وأنا أقول فيه كما قال صاحبنا المحبي في غيره : شيخ هرم ، يحدث عن سيل العرم ، أخذ عن جمع غفير ، وأخذ عنه جماعة كثير ، صحبته مدة وهو في خدمة الفتوى ، فإذا هو للعلم والأدب زين ، وبه ينجلي عن القلب كل زين. وكانت مثابته عندي مثابة الروض العاطر ، ومكانته من ودي محل القلب والخاطر. وسمعت من لفظه ما هو غذاء الروح ، وشاهدت من خلقه فيض الملائكة والروح ، إلى تثبت يستخف الجبال الرواسي ، وانعطاف يلين القلوب القواسي. وهو في ميدان التحقيق والتدقيق طلق عنانه ، وبرهان التطبيق ماثل بين يراعه ولسانه ، وكأنما حشر الصواب والتوفيق بين بيانه وبنانه. ثم لما أخذت منه السن انقطع في داره في محلة الجلّوم فزرته ثمة المرة ، بعد المرة ، وتشرفت به وقرأت عليه وأخذت عنه الكرة بعد الكرة ، وقرأت عليه من أوائل صحيح البخاري وأجازني بباقيه قراءة ومناولة وببقية الكتب الستة وبجميع مقروءاته ومسموعاته ومروياته من كتب التفسير والحديث وغير ذلك ، وذلك بحضور تلميذه العلامة المحقق أبي السعود أفندي الكواكبي في سنة

٤٢٦

١١٢٤ ، وقد تكررت لي الإجازة من شيخنا المومى إليه في هذا المجلس وفي غيره من المجالس ، وهو يروي صحيح البخاري عن سادات ثقات من أجلّهم شيخه الشيخ إبراهيم ابن سليمان الكردي ثم الحلبي. (وبعد أن ساق سنده قال) :

ومن مشايخ شيخنا الزين الحلبي سيدي الملا محمد شريف بن ملا يوسف القاضي ابن القاضي محمود بن ملا كمال الدين الكوراني ، ومنهم الملا محمد أمين اللاري الصديقي البصير ، قال شيخنا : قرأت عليه أكثر شرح التجريد ، ومنهم شمس الدين محمد بن الحسن الكواكبي ، قرأ عليه العقليات وغيرها وانتفع به وتشرف بخدمته في فتواه وصار أمين الفتوى له طول مدته فيها ، ثم من بعده كان في خدمة فرعه العلامة أحمد أفندي الكواكبي ، وبقي أمين فتواه مدة إفتائه بعد أبيه إلى أن تنزه عن فتوى حلب وأعرض عنها باختياره ، وتولى مولوية طرابلس الشام (كما تقدم). ولم يذكر تاريخ وفاته ويظهر أنها كانت حول سنة ١١٣٠.

١٠٣٠ ـ يحيى العقّاد الشاعر المتوفى حول سنة ١١٣٠

يحيى الحلبي الشهير بالعقّاد ، الفاضل الكامل الأديب الشاعر المجيد.

ولد بحلب ونشأ بها وأخذ عن أفاضلها ، وبرع في علمي العروض والقوافي ، وله بذلك اليد الطولى ، وله النظم العجيب. وكان يعاني حرفة العقادة بسوق الباطية وترد عليه أحبابه لأجل المذاكرة والاستفادة.

ومن شعره حين بنيت منارة جامع البهرمية لما سقطت تاريخ مكتوب على بابها وكان ابتداء البنيان سنة إحدى عشرة ومائة وألف ، وذلك قوله :

قامت فصادمها السحاب بمرّه

وسمت بقدّ قد كل مشاد

حاكت علاء قدر طه المصطفى

أس السخاء ومنهل القصاد

فهو المعمر من أنار منارها

وأثار أجرا آب دون نفاد

بشراه أجرى بالسرور بناءها

والخبر أمنح بالهناء ينادي

ها كل وزن تم فيه مؤرخا

جل استواها باستوا الأعداد

٤٢٧

وهلالها باللطف حلي مؤرخا *

في عكس رقم كالجلالة بادي ١١١١

أقول : إن في كل شطرة من هذه الأبيات تاريخا لبناء هذه المنارة وهو سنة ١١١١.

إصلاحات هامة في هذا الجامع وفي عقارات وقفه :

قلنا في الجزء الثالث (ص ١٧٥) : إن متولي هذا الجامع عبد الله بيك العلمي مد أنابيب حديدية من المطحنة الموضوعة أمام هذا الجامع إلى غرفة قديمة واسعة في الجهة الشرقية منه ، وساق الماء الحار إلى قصطل داخل هذه الغرفة ، وذلك في السنة الماضية وهي سنة ١٣٤٣.

ولما تم ذلك صار المصلون يهرعون إلى هذا المكان للوضوء بالماء الحار في فصل الشتاء ، فضاق المكان بالناس ، ففي هذه السنة وهي سنة ١٣٤٤ أزال هذه الغرفة وكانت موهنة البناء مع حجرتين كانتا أحدثتا أمامها واتخذ الجميع مصطبة كما كانت قديما ، وعمر في الجانب الغربي من صحن الجامع قبلية واسعة طولها ٢١ مترا وعرضها ٦ أمتار وسقفها بالقضبان الحديدية ، وحول أنابيب الماء إلى قصطل بني في شمالي هذه القبلية وشكر المتولي على هذا العمل الحسن.

وموضع هذه القبلية كان ميضاة حولها المتولي المومى إليه إلى عرصة غربي الجامع هي من جملة وقفه ، وقد كانت هي الميضاة قديما ، وبنى بجانبها دارا من ماله ألحقها بأوقاف الجامع.

والزقاق الذي بين الجامع وبين الميضاة والدار المتقدمين يدعى زقاق السودان ، وقد كان مسدودا من الجهة الشمالية الملاصقة للسوق ، ففي سنة ١٣٢٦ أزيل هذا السد وصار الناس يمرون منه.

ولم يأل المتولي عبد الله بك جهدا في تعمير عقارات الوقف وترميمها. ومن جملة ما رممه القاسارية التي في شمالي الجامع وقد كانت مشرفة على الخراب ، وغرس في جنينة الجامع أشجار الليمون والكبّاد والبرتقان.

ومن جملة الإصلاحات التي قام بها إصلاحه لحمّام بهرام الواقعة في محلة الجديدة التابعة

__________________

(*) هكذا في الأصل.

٤٢٨

لوقف الجامع ، وقد كان فيها خمسة أجران وتؤجر بمائه وخمس وسبعين ليرة عثمانية ذهبا ، فجعل في خلاويها (٢٢) جرنا يأتي الماء إلى جميعها.

وكان للحمّام خزانة للماء صغيرة بقدر ما يكفي لخمسة جران ، فاتخذ هناك خزانة كبيرة تستوعب كفاية (٢٢) جرنا وألحقت بتلك. وكذلك بلط أرض الحمّام بالرخام الملون فغدت بهجة للناظرين بحيث أصبحت أحسن حمّام في الشهباء وصارت تضاهي الحمّامات التي في الشام والآستانة. وعلى أثر هذا الإصلاح أوجرت بخمسمائة ليرة عثمانية ذهبا وهي أعظم أجرة للحمّامات التي في حلب ، وحبذا لو يحذو أصحاب الحمّامات التي في حلب حذو المتولى المومى إليه فيقومون لإصلاحها فتحسن منظرا وتعظم ريعا.

ووالد المتولي وهو عبد الرحمن بك كان بنى ثلاثة دكاكين بطريق بوابة القصب في محلة الجديدة وألحقها بوقف الجامع.

١٠٣١ ـ علي بن أسد الله المتوفى سنة ١١٣٠

علي بن أسد الله بن علي ، كان عالما نحريرا وفاضلا كبيرا.

ولد سنة ثمان وأربعين ، وألف وقرأ على جماعة من العلماء ، منهم الشيخ سعيد أفندي نقيب زاده ، والشيخ العالم العلامة السيد محمد أفندي الكواكبي ، وكان جل قراءته على الشيخ العالم العامل أبي الوفاء العرضي. وتولى إفتاء الحنفية بحلب مدة خمس عشرة سنة إلى أن مات ، وكان إذ ذاك متوليا على جامع بني أمية بحلب ، وفي أيام توليته عليه أمر بمرمات الجامع المذكور ومرمات بعض حيطانه ، فظهر من أحد الحيطان لما قشروا عنه الكلس رائحة تفوق المسك والعنبر ، وإذا فيه صندوق من المرمر مطبق ملحوم بالرصاص مكتوب عليه : (هذا عضو من أعضاء نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام) فاتخذوا له هناك في ناحية القبلة في حجرة قبرا في مكانه الآن ، وحمل الصندوق إليه جميع العلماء والصالحين بالتعظيم والتبجيل والتوقير والتكبير ، وذلك سنة عشرين ومائة وألف. وكانت وفاة المترجم سنة ثلاثين ومائة وألف رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : حققنا في الجزء الثاني في (ص ٣٢٠) أن الضريح الذي في جامع حلب الأعظم عن يسار المحراب فيه رأس يحيى عليه‌السلام ، وذكرنا في الجزء الثالث في حوادث سنة

٤٢٩

١١٢٠ تجديد تربة هذا الضريح في زمن الوالي عبدي باشا وأن ذلك كان في أيام تولية مفتي الحنفية وقتئذ علي بن أسد الله وهو المترجم الآن ، وذكرنا ثمة ما فيه الكفاية.

وهو باق على ما تجدد عليه في تلك السنة إلى يومنا هذا. وجانبا الضريح من خارجه مفروش بالرخام المعروف بالقاشاني (١) ، وكان توهن منه بعض حجرات فأصلح ما توهن وأعيد كما كان ، وداخل الضريح من جوانبه جميعها من الأرض إلى السقف مفروش بهذا الرخام وهو بصورة تدهش الناظر إليه لحسن الصنعة في فرشه على الجدران وبداعة هندسته ، وإليك رسمه :

١٠٣٢ ـ عبد اللطيف الزوائدي المتوفى سنة ١١٣٢

عبد اللطيف بن عبد القادر الزوائدي الشافعي الحلبي ، خطيب جامع الخسروية بحلب.

كان ملازما خدمة العلامة صدر حلب أحمد الكواكبي ، ولما ولي قضاء طرابلس الشام أخذه صحبته وجعله قساما فأساء السيرة فعزله ، فقدم حلب ولازم خدمة ولده العالم المولى أبي السعود الكواكبي ، فلما صار مفتيا جعله أمين الفتوى شركة مع الشيخ إبراهيم البخشي.

وكان حفظ القرآن أولا على الشيخ عامر المصري نزيل الحلاوية ، وقرأ التفسير على الكواكبي أحمد المذكور ، والفقه على الشيخ مصطفى الحفسر جاوي ، والعربية والصرف على الشيخ سليمان النحوي.

وكان فقيها حافظا ، ذا صوت حسن شجي ، خطاطا ، وقل أن تجتمع هذه المحاسن في عالم. وكان أبوه عاميا فقيرا صبّاغا ، نشأ المترجم في الفقر الحالك المهلك ، وكان يحث مخاديم أصحابه على اكتساب الكمالات ويخبرهم عن نفسه أنه كان فقيرا جدا لا يملك

__________________

(١) مما يجدر ذكره هنا ما حدثني به الوجيه الأديب جورجي بك الخياط قال : أطلعني معتمد دولة إنكلترا في حلب المستر هاندورسون الذي كان هنا في نواحي سنة ١٣٠٢ على قطعة من القاشاني محرر فيها في داخلها (شغل المعلم ميخائيل بحلب) وهذا يثبت أن هذه الصنعة كانت من جملة الصنائع في حلب ، وقد درست بموت عارفيها شأن صناعات كثيرة كانت في الشهباء ، ولا ندري الأمكنة التي كان يعمل فيها هذا الرخام البديع.

٤٣٠

٤٣١

شيئا ، وأنه من احتياجه لا تصل يده إلى شراء ورق لتعلم الكتابة ، فكان يأخذ ألواح الغنم من عند القصاب ويفركها بالرماد لتزول الزهومة منها ، ويكتب عليها ، ويأخذ أوراق البن فيلصقها ويصقلها ويتعلم الكتابة بها ، فحسن خطه وصار ينسخ بالأجرة ويأخذ على الكراس الربعي قرشا لجودة خطه واتساق سطوره ، فانتعش حاله.

ثم ارتحل من محلته إلى محلة باحسيتا وسكن في جوار بقية الكرام الشيخ أحمد العلبي ، فاعتنى به وأسكنه دارا من دوره وزوجه. ثم انحلت خطابة القرمانيه فوجهها إليه مع الإمامة لكون تولية جامع القرمانية مشروطة على بني العلبي ، واستقام حاله وقطن في حجرة داخل الجامع المذكور يقري وينسخ ، ولازم صحبة العلبي المذكور وصار لا يكاد أن يفارقه ، فإن المترجم كان خفيف الروح دمث الأخلاق مزاحا صغير الجثة جدا بحيث إنه كان إذا وقف في المنبر لا يرى منه سوى العمامة ، فاستقام بجوار المذكور إلى أن مات ، فارتحل المترجم إلى محلته الأصلية ، ثم انحلت خطابة الخسروية فوجهها له العلامة أبو السعود الكواكبي المذكور آنفا. وكان له المعرفة التامة في الوعظ مع جهارة الصوت ، وكان يعظ في جامع قسطل الحرامي ، وكان له بقعة تدريس في الجامع الأموي بحلب.

وكانت وفاته في أوائل سنة اثنتين وثلاثين ومائة وألف فجأة بالقرب من باب النصر بحلب ، سقط عن ظهر البغلة ميتا ، ودفن بمقبرة جب النور بمحلة الشريعتلي رحمه‌الله تعالى. ا ه.

أقول : دفن في قبره سنة ١٣٢٠ الصالح المعمر الشريف السيد أمين تاج الدين وعمر عليه ضريح ، أخبرني بذلك الشيخ صالح تاجو خطيب الخسروية ، ثم زرت التربة ورأيت ذلك.

١٠٣٣ ـ الشيخ علي داده ابن الشيخ محمد داده الوفائي المتوفى سنة ١١٣٥

ترجمه الشيخ يوسف الحسيني في كتابه «مورد أهل الصفا» فقال :

لما توفي الشيخ محمد داده سنة ١١١٩ شيخ تكية الشيخ أبي بكر خلفه في المشيخة ولده الشيخ علي داده ، وهو الشيخ الفاضل ، جامع أشتات الفضائل ، العابد الناسك التقي ، والخّير الديّن المتقّي ، الصوام القوام الصالح ، والحبر الهمام الفالح ، وهو وإن كان

٤٣٢

إنسان عين المشايخ الكرام ، فهو أيضا في زمرة العلماء الفخام. نشأ في حجر التقوى ، وتربى في كفالة الصيانة ، لا يعهد له شغل فيما يزريه ، ولم يسمع عنه تكلم فيما لا يعنيه. وقد قرأ النحو والبيان والفقه والعقايد والتصوف والحديث الشريف ، وأكثر قراءته على هذا العبد الفقير (الشيخ يوسف الحسيني). إلى أن قال :

وهو كأسلافه حنفي المذهب ما تريدي الاعتقاد وفائي الخرقة والطريقة. وقد قام بأعباء المشيخة وسار فيها أحسن سير ، مع مراعاته للدراويش والمريدين والمسافرين والمجاورين والواردين والصادرين وإكرام الأصناف وتلقيهم بالبشر والبشاشة وسياسة لأمور التكية كما ينبغي ، وهو منزو في التكية المذكورة لا يخرج منها أصلا إلا لصلاة الجمعة في جامع البختي خارج حلب ، وأما نفس البلدة وداخلها فلا يدخلها لا في فرح ولا في ترح ، ولا يجتمع بأحد من أهاليها ولا من حكامها إلا في تكيته المذكورة. وقد ألف العزلة عن الناس وأكب على العبادة والكراس. إلى أن قال وهو مما كتبه على هامش كتابه مورد أهل الصفا بخطه : وقد انتقل بالوفاة الشيخ علي داده في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان سنة خمس وثلاثين وماية وألف ، ودفن في مزار أسلافه في قبر جده لأمه الشيخ مصطفى داده قبلي مزار الشيخ أبي بكر ، وخلفه من بعده ولده لصلبه الشاب الصالح العابد الناسك الشيخ حسين داده ، وهو ملازم لوظائف الأوراد والأذكار ، ومجد في تحصيل العلم الشريف على هذا العبد الضعيف كأبيه ، مشتغل بالفقه والنحو والصرف والتصوف.

أقول : وكانت وفاة الشيخ حسين داده سنة ١١٥٦ وستأتيك ترجمته في موضعها.

١٠٣٤ ـ أحمد بن عبد الله الشراباتي المتوفى سنة ١١٣٦

أحمد بن عبد الله بن علوان الحلبي الشافعي الشهير بالشراباتي ، الشيخ الفاضل العالم العامل المحدث الفقيه الورع الصالح المفنن ، أبو العباس شهاب الدين.

ولد بحلب سنة أربع وخمسين وألف ونشأ بها ، ورحل إلى القاهرة لطلب العلم وأخذ عن جماعة من الأئمة المسندين كأبي العزائم سلطان المزاحي ، والنور علي الشبراملسي ، والشمس محمد بن علاء الدين البابلي ، وعنهم أخذ الفقه وأصوله ، وعبد الباقي الزرقاني. ثم رجع إلى دمشق وأخذ بها عن الشمس محمد بن علي الكاملي ، وعن السيد محمد بن

٤٣٣

كمال الدين بن حمزة نقيب الأشراف بدمشق ، والعلامة عبد القادر بن مصطفى الصفوري الشافعي ، والشيخ محمد البطنيني ، والقطب أيوب بن أحمد الخلوتي ، وأخذ أيضا عن جماعة غيرهم كأبي الوقت إبراهيم بن حسن الكوراني نزيل المدينة المنورة ، والشهاب أحمد بن محمد الأدريسي المغربي نزيلها أيضا ، ومحمد بن سليمان المغربي ، وعبد العزيز الزمزمي ، وأبي الروح عيسى بن محمد الثعالبي المكي ، وأحمد بن محمد الحموي المصري ، وأبي الوفا العرضي الشافعي ، وموسى الرام حمداني البصير الحلبي الشاعر ، والشيخ خير الدين بن أحمد الرملي الحنفي وعن غيرهم. وبرع في سائر العلوم وفاق في معرفته المنطوق والمفهوم. ودرس بجامع حلب وانتفع به الناس.

ولم يزل على طريقته المثلى إلى أن توفاه الله سنة ست وثلاثين ومائة وألف ، ودفن خارج باب المقام. ولم أقف له على شيء من الشعر ، وستأتي ترجمة ولده عبد الكريم رحمه‌الله.

١٠٣٥ ـ إبراهيم بن محمد البخشي البكفالوني المتوفى سنة ١١٣٦

إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البخشي الخلوتي البكفالوني الحلبي ، العالم العامل الفاضل الكامل الناسك الزاهد التقي العابد.

أخذ عن علماء بلدته ، وارتحل إلى الحج صحبة والده في أواخر القرن الحادي عشر ، وجاور بمكة مدة ، وأخذ عن علمائها وعلماء المدينة في مدة مجاورته ، وأخذ عن والده فقه الإمام الشافعي وفنون الحديث والعربية. ثم عاد إلى حلب بعد وفاة والده واستقام بها مدة وأخذ عن علمائها ، ثم ارتحل إلى دمشق وأخذ عن علمائها ، وعاد إلى حلب بعد استقامته برهة من الزمن بدمشق ، وكانت مدرسة المقدمية يومئذ في تصرف أخيه الشيخ العالم عبد الله البخشي الخلوتي ، فقصر له يده عنها واستقام بها إلى منتهى أجله مشتغلا بالإفادة والتدريس ، وانتفع به خلائق ، واشتغل في تلك الأوقات بكتابة وقائع الفتاوي الحنفية ، وإليه انتهت رياسة فقهاء المذهبين بحلب مع ثباته على مذهب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه.

وبرع في فن الحديث الشريف وسائر علومه حتى صار يشار إليه فيه بالبنان ، وأخذ عن كثير من أعيان هذا الشأن ، وله في الفتاوي الحنفية ثلاث مجلدات أفاد فيها وأجاد.

٤٣٤

وله في فقه الإمام الشافعي تحريرات مفيدة. وكانت له اليد الطولى في سائر العلوم. وكان اشتهاره بالفقه في المذهبين وبالحديث.

وكان علما في الورع والزهد صابرا على ما ابتلاه الله به من حصاة كان الشق عنها سبب وفاته.

وكانت وفاته في سنة ست وثلاثين ومائة وألف. والبكفالوني نسبته لبكفالون بفتح الموحدة : قرية من أعمال حلب. والبخشي هو جدهم الكبير أحمد بخشي خليفة الأماسي نسبة إلى أماسية ، كان له يد في التفسير ، وقرأ عليه جماعة كثيرون ، وترجمه طاش كبري في «الشقائق النعمانية» وأثنى عليه في الطبقة التاسعة ، وذكر أن وفاته كانت في سنة ثلاثين وتسعمائة. وقد رأيت نسبة المترجم إليه محررة في خط أحد الحلبيين كما ذكرناه ، وسيأتي في تاريخنا هذا ذكر حسن وإسحق أخوي المترجم وذكر ابن أخيه إن شاء الله تعالى. ا ه.

١٠٣٦ ـ أبو السعود بن أحمد الكواكبي المتوفى سنة ١١٣٧

أبو السعود بن أحمد بن محمد بن حسن بن أحمد ، الشهير كأسلافه بالكواكبي ، الحنفي الحلبي ، مفتي الحنفية بها وابن مفتيها ، نجل السراة الصناديد الذين أشرقت سماء الشهباء بكواكب مجدهم وحسبهم ، وافتخرت بفضائلهم ونسبهم ، الذين تسنموا مراقي المعالي ، وازدانت بهم الأيام والليالي.

ولد بحلب في سنة تسعين وألف وبها نشأ ، وأخذ العلم عن فحول علمائها ، أجلّهم والده ، أخذ عنه التفسير والمعقولات ، وأخذ النحو عن الشيخ سليمان النحوي والشيخ عبد الرحمن العاري ، والفقه عن الشيخ زين الدين أمين الفتوى ، والحديث عن الشيخ أحمد الشراباتي ، وبالواسطة والإجازة أخذ الشيخ عن حسن العجيمي المكي ، وأجازه الشيخ أحمد النخلي ، وأخذ سائر الفنون من أجلاء العلماء.

وتولى الإفتاء بحلب بعد والده سنة خمس وعشرين ومائة وألف ، واستمر مفتيا إلى أن توفي. وأقرأ التفسير مدة إفتائه بالمدرسة الخسروية المشروطة لمفتي حلب قراءة تحقيق. والتزم المحاكمة بين ما ناقش به جده العلامة محمد بن حسن الكواكبي مع العلامة عصام والعلامة سعدي جلبي وبين والده وجده فيما تناقشا به.

٤٣٥

وألف في مبدأ عمره لكن لم يسعه عمره ، فمما نظمه في مبدأ عمره وعنفوان شبابه رسالة آداب البحث ، ورسالة الوضع ، وكتب على منظومة آداب البحث شرحا مفيدا ، وباشر تحرير شرح على نظم الرسالة الوضعية فمنعته من ذلك شواغل الفتوى.

ولازم التدريس وتصدى للإفادة وأخذ عنه أفاضل حلب وغيرهم جماعة كثيرون وفاق أهل عصره.

وكان له شعر رقيق. وكان رحمه‌الله لطيفا خلوقا عفيفا نظيفا شريفا شفوقا عالما محققا مدققا رئيسا محتشما ، علامة مفردا علما وزهدا وورعا ، ذا حلم ووقار وصلاح ، حائزا للأوصاف الحميدة.

وكانت وفاته في ثاني رجب سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ، ودفن عند آبائه بالتربة التي بداخل المسجد المعروف الآن بمسجد أبي يحيى.

وبنو الكواكبي طائفة كبيرة أهل فضل ورياسة ، ولهم طريقة معروفة أردبيلية (تنتهي إلى الأستاذ جدهم الكبير الشيخ صفي الدين والحق إسحاق الأردبيلي) * ، ولهم سيادة الشرف من جهة المذكور. وأما المترجم فكان حائزا للشرفين ، فإنه كان شريفا أيضا من جهة والدته التي هي الشريفة عفيفة ابنة السيد الحسيب الشريف السيد بهاء الدين النقيب الحلبي المعروف هو وآباؤه ببني الزهر الذين امتدح جدهم الشريف أبا محمد إبراهيم المتنقل من حران إلى حلب أبو العلاء المعري في تاريخه وقصائده ، وكلهم نقباء في حلب وشرفهم أشهر من كل مشهور والله أعلم. ا ه.

أقول : رأيت للمترجم رحمه‌الله فتاوي جليلة في مجلد واحد متوسط ، وهي تدل على غزارة علمه وفضله ، رأيت منها نسختين إحداهما في المكتبة الخسروية وعليها ختم واقف المكتبة الكواكبية أحمد أفندي.

١٠٣٧ ـ عمر بن محمد البصير المقري المتوفى سنة ١١٣٧

عمر بن محمد البصير الشافعي المصري نزيل حلب ، المقري المتقن العارف باختلاف

__________________

(*) ما بين قوسين إضافة من «سلك الدرر».

٤٣٦

القراءات ووجوهها ، النحوي الكامل العالم العامل.

قدم حلب في سنة خمس عشرة ومائة وألف ، فاعتنى به الرجل الخير مصطفى الكردي العمادي وأنزله في المسجد الذي تحت الساباط في أول زقاق بني الزهرا ، ويعرف قديما بدرب الديلم بالقرب من داره ، فكان يقرىء القرآن العظيم في المسجد المذكور ، وكان حديث السن.

وقد جمع الله فيه المحاسن والكمالات ، انفرد بحسن الصوت والألحان الشائقة والعلم التام بتحقيق التجويد ومخارج الحروف والإتقان وسرعة استحضار عند جمع وجوه القراءات وطول النفس ، لكنه كان ضنينا بتعليم القراءات السبع لم يقرىء أحدا بذلك ، وكل من طلب منه الإقراء بغير قراءة حفص يسوّفه ويماطله ولا يقرئه.

أخبر تلميذه المتقن عمر بن شاهين إمام الرضائية قال : حفظت عليه القرآن العظيم وسني اثنتا عشرة سنة والتزمت خدمته وكنت أقيم أكثر أوقاتي عنده ويأخذني معه إلى القراءات ، وكنت أقوده إلى مكان يريده ، وكان يتفرس في النجابة ، وبعد القراءة يعلمني الألحان من رسالة كانت عنده ، ويعلمني كيفية الانتقال من نغم إلى نغم ، ويقول : إن ذلك يلزم من كان إماما ، وأنت ربما تصير إماما. وكان يعلمني كيفية قراءة التحقيق والترتيل والتدوير والحدر والوقف والابتدا ، ويباحثني في طول النفس لأنه كان يدرج ثلاث آيات أو أربعا من الآيات المتوسطات في نفس واحد ، وكان يقرأ آية المداينة في ثلاثة أنفاس من غير إخلال في الحرف ولا في مده. وكان يصلي التراويح إماما بالمولى الرئيس طه بن طه الحلبي في الرواق الفوقاني من جامع البهرمية ويقرأ جزءا من القرآن درجا صحيحا بقصر المد المنفصل ، والإمام الراتب يصلي في القبلية الصلاة المتعارفة بين أئمة التراويح ، فكان يسبقه الإمام بالوتر فقط. وكان ذكيا متيقظا أذكى من تلميذه الشيخ محمد الدمياطي. قال :

وجرى لي معه مرة واقعة ، وذلك أني أتيت يوما لأقرأ ، وكنت لم أحفظ ما تلقيته وألزمني بالقراءة ولم يكن ثم أحد غيري ، فأخرجت مصحفا صغير الحجم ، فظهر له أني أقرأ عن ظهر قلبي ، فأصغى إليّ هنيهة ، ثم وثب علي ورمى بنفسه علي وقبض على المصحف من يدي ، فارتعت ، وشرع يضربني ويقول : يا خبيث ، تدلّس عليّ وتغش نفسك ،

٤٣٧

فحلفت له إني لم أفعلها إلا هذه المرة ، فتركني حينئذ ، فلما سكن روعي قبلت يده وقلت له : بحياتك من أين علمت أني أقرأ بالمصحف؟ فقال : سمعت صوتك يأتي من سقف المحل فعلمت أن في يدك شيئا يمنع مجيء الصوت مواجهة.

ومرة أخرى كنت أذهب معه إلى دور بعض أحبابه ، وكان في الطريق بالوعة إذا وصلنا إليها أخبره بها ، فيتخطاها ، فبعد مدة سترت تلك البالوعة بالطوابق ، فلما مررت به من ذلك الطريق بعد مدة وصل إلى موضعها وتوقف ثم تخطى ، قلت له : لم تخطيت؟ قال : أليس هنا بالوعة؟ قلت : بلى ، كانت ولكنها من مدة زالت.

قلت : ومثل ذلك ما حكي عن أبي العلاء المعري أنه كان سافر مع رفيق له إلى جهة ، فمرا في طريقهما بشجرة ، فلما قربا منها قال له رفيقه : إياك والشجرة أمامك ، فانحنى حتى تجاوزها ، فلما رجعا من ذلك الطريق أيضا انحنى أبو العلاء لما قرب من مكان الشجرة ورفيقه ينظر إليه. ويحكى عن حذق أبي العلاء المذكور أنه أنشده المنازي أبياتا بالشام ، فقال له : أنت أشعر من بالشام ، ثم اتفق اجتماعهما بالعراق بعد سبع سنين فأنشده المنازي أبياتا أخر ، فقال له : ومن بالعراق. ومثله ما حكي عن داود الحكيم الأنطاكي صاحب «التذكرة» وغيرها أن رجلا دخل عليه وقال له : أي شيء يقوم مقام اللحم؟ فقال : البيض ، فغاب عنه سنة وجاءه فرآه منهمكا في تركيب معجون وهو يجمع أجزاءه ، فقال له : بأي شيء يقلى؟ فقال : بالسمن. وحكايات حذقه كثيرة ذكرها من ترجمه.

ثم إنه أعني صاحب الترجمة في آخر عمره ترك الإقراء وخرج من ذلك المسجد واشترى له دارا بالقرب من محلة الجلّوم الكبرى.

وكانت وفاته بحلب في سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ، ودفن بمقبرة العبارة خارج باب الفرج ، ولم يعقب غير بنت ، وخلف مالا كثيرا رحمه‌الله تعالى. ا ه.

١٠٣٨ ـ طه بن مصطفى الشهير بطه زاده المتوفى سنة ١١٣٧

طه بن مصطفى الحلبي الحنفي الشهير بابن طه. ترجمه الكمال الغزي في كتابه المسمى «بالورد الأنسي في ترجمة العارف بالله النابلسي» (١) فقال :

__________________

(١) اطلعت على هذا الكتاب في رحلتي إلى دمشق سنة ١٣٤٠ عند بعض أحفاد الشيخ عبد الغني النابلسي القاطنين في صالحية دمشق.

٤٣٨

هو الشيخ الصالح الصوفي الفاضل الأوحد الرئيس المحتشم الإمام الهمام الكامل صدر الديار الحلبية. قال الأستاذ في «ديوان المراسلات» : وقد طلب مني فخر المشايخ الكرام جناب طه أفندي الحلبي أن أجيزه بالكلام على شرح كلام العارفين بحسب ما يظهر له من طريق الإلهام موافقا للشريعة المحمدية ، فكتبت له هذه الأبيات :

أجزناك يا طه بن طه المهذبا

بشرح كلام العارفين أولي النبا

ودم قائما بالله لاتك بالذي

تحاوله واصدق وخل التكذبا

تقرب إليه بالنوازل دائما

يكن لك في المعنى لسانا مرتبا

ودع عنك حكم النفس فيما تقوله

فنفس الفتى عنها الصواب تجنبا

ولا تفتكر وانطق بربك إنه

هو الملهم الفياض والنفس في الخبا

وكن مستقيما في ظهور تجده قد

أبان لك المعنى وأعطى وأوهبا

وسلم إليه لا تكن متكلفا

وخف وترجى منه تعذب مشربا

وإياك الدعوى بما هو فائض

عليك ولازم مذهب الفقر مذهبا

وإن هو أعطاك العلوم فلا تجد

لنفسك علما كن به متأدبا

قل العلم عند الله لكن طريقه

هو القلب كالميزاب يقطر طيبا

وقف عند باب القلب تنتظر الذي

به يفتح الفتاح إن شاء أو أبى

ولا تلتفت للفكر فالفكر موصل

إلى سد باب الله عنك فتحجبا

وقل في يد الرحمن يفعل ما يشا

على الشرع إما مبعدا أو مقربا

له الأمر كل الأمر لا رب غيره

وما الخلق طرا في الوجود سوى الهبا

وكانت وفاة المترجم بحلب سنة سبع وثلاثين وماية وألف.

ورثاه الأستاذ (أي الشيخ عبد الغني النابلسي) بقصيدة ذكرها في «ديوان المراسلات» مطلعها :

على روح طه العطر روح وريحان

وفي جنة الفردوس يلقاه رضوان

تصافحه الأملاك عن أمر ربها

وحور تحييه هناك ورضوان

سقى الله أياما بها كان قائما

على الذكر والتوحيد يلجيه إيمان

محبته للصالحين منيرة

له في طريق الصدق دان كما دانوا

٤٣٩

وكانت له الأنفاس من كل جانب

إلى أن تسامى منه فضل وعرفان

وقد كان صدرا في البلاد مؤنّقا

لما هو تقريب لديه وإيقان

به حلب الشهباء زادت محاسنا

فقامت به في الناس تحسد بلدان

هو السيد النحرير نسل أماجد

لهم فوق هامات الأماجد تيجان

سلالة بيت بالنبوة عامر

وناهيك في بيت علت منه أركان

بنو هاشم الشم الأنوف أولو التقى

أماكنهم فيها تسامت وأزمان

لهم شرف عال ومجد مؤثل

وشان عظيم لا يماثله شان

ألا يا ابن طه كنت روحا مجسدا

وهيكل أنس باللطافة ملآن

أفلت كشمس أطلعت قمر الدجى

وأنجم سعد هنّ بعدك أعيان

وقد ضم منك القبر طود شهامة

عليه بك الله المهيمن منان

فنم في أمان الله تحت سرادق

من الغيب حتى ينجلي عنك كتمان

وتبعث معنا يا ابن طه مطهرا

إذا ما استوى فضلا على العرش رحمن

وأسفرت الأحوال عن غاية المنى

وفاز نشيط بالمراد وكسلان

ولم يبق إلا الحق للحق طالبا

هنالك للرحمن حسنى وإحسان

إليك تحياتي أتتك برحمة

من الله يتلو تلك عفو وغفران

على أمد الأوقات ما ناح طائر

وما قد جرى دمع من السحب هتان

وما جاءكم عبد الغنيّ مؤرخا

على روح طه العطر روح وريحان

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في ديوانه المسمى «ديوان الدواوين» : وطلب منا فخر الأكابر والأعيان ذو الفضل والكمال ورفعة الشان جناب طه أفندي الحلبي بمكاتبة وردت علينا من مدينة حلب المحروسة في هذه الأيام يطلب منا عمل تاريخ لعرس ابنه فخر الأفاضل الكرام أحمد أفندي ، فقلت في ذلك وأرسلت به إليه ، وهو تاريخ واحد آخر الأبيات تشتمل على ثلاثة تواريخ ، أحدها بصريح الذكر ، والثاني بالحروف المعجمة فيه إذا حسبت بحساب الجملة ، والثالث بالحروف المهملة إذا حسبت بحساب الجملة إذا حسبت كذلك ، وذلك قولي :

أيها الكامل يا من أخبرت

عن علاه فئة بعد فئة

خذ تواريخا ثلاثا جمعت

لك في مفرد بيت منبئه

٤٤٠