إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٦

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٥

ولقد عن لي أن أعوّل على جنابك ، وأسأل من شريف أعتابك ، عن اسم يعرف بالشجاعة ، تقر له أبناء جنسه بالطاعة ، تخدمه الملوك والأعيان ، وتتبعه في المهامه الفرسان ، موضوع وهو محمول ، وعزيز مع أنه مقيد مغلول ، طالما سطا على عدوه فأورده الحمام ، ونال من إراقة دمه المرام ، ومع ذلك فهو يؤثر بما لديه وهو جائع ، ويفعل ولا يقول وهذا من أشرف الطبائع ، رباعي مع أن نصفه حرف من حروف الهجاء ، وإن صحف كان حرفا يستعمل عند الطلب والرجاء ، وإن حذفت أخيره وصحفت الباقي ظهر لك أنه أحد العناصر ، وبتصحيف آخر من غير حذف يبدو لك أحد أسماء القادر القاهر ، مظلوم مع أنه إن لوحظ نصفه الأخير كان في زي ظالم ، وربما أشعر بتصحيفه وحذف ثانيه أنه بريء من جميع المظالم ، فبالذي شيّد بك دعائم الأدب والكمال ، وجلى بفكرك غيهب كل إشكال ، إلا ما أوضحت مشكله ، وبينت خفيه ومقفله ، ولا برحت بنو الآداب ترد حياض آدابك الدافقة ، ويجنون من أزاهير رياض فضائلك الفائقة ، ما ترنم عندليب على فنن ، وحرك بشجوه من كل مغرم ما سكن. انتهى.

قال السيد أحمد ابن النقيب المذكور في ترجمة صاحب الترجمة : وكان بالقرب من ضريح المرحوم ، يعني والده السيد محمد ، عدة أشجار من العنّاب ، فشاهدت يوما أغصانها المخضرة ، تزهو بثمارها المحمرة ، فأتبعت الحسرة بالحسرة ، ولم أملك سوابق العبرة ، وجادت الطبيعة بأبيات على البديهة هي :

وقائلة والدمع في صحن خدها

يفيض كهطّال من السحب قد همى

أرى شجر العناب في البقعة التي

بها جدث ضم الشريف المعظّما

له خضرة المرتاح حتى كأنه

على فقده ما إن أحس تألما

وأغصانه فيها ثمار كأنها

بحمرتها تبدي السرور تلوّما

ولو أنصفت كانت لعظم مصابه

ذوت واكفهرت حيرة وتندّما

فقلت لها ما كان ذاك تهاونا

بما نالنا من رزئه وتهضّما

ولكنها لما وضعنا بأصله

غديرا بأنواع الفضائل مفعما

بدت خضرة منه تروق وحزنه

كمين فلا تستفظعيه توهّما

وما احمرت الأثمار إلا لأننا

سقيناه دمعا كان أكثره دما

فوقف الكوراني على ذلك فقال أبياتا منها :

٢٤١

فيا شجر العنّاب مالك مثمرا

سرورا ولم تجزع على سيّد الحمى

على رمسه أورقت تهتز فرحة

وتدلي إليه كل غصن تنمنما

أهذي أمارات المسرة قد بدت

أم الحزن قد أبكاك من دونه دما

ومنها على لسان العنّاب :

نعم فرحتي أني مجاور سيد

نما حسبا في عصره وتكرّما

وحضرته روض من الجنة التي

زهت بضجيع كان بالعلم مغرما

أتعجب بي إذ كنت في جنب روضة

وحقي فيها أن أقيم وألزما

كعادة أشجار الرياض فإنها

تمكّن فيها الأصل والفرع قد نما

وقد قيل في الأسماع إن كنت سامعا

خذ الجار قبل الدار إذ كنت مسلما

أما سار من دار الفناء إلى البقا

وأبقى ثناء بالجميل معظّما

ومن كان بعد الموت يذكر بالعلا

فبالذكر يحيا ثانيا حيث يمما

فقلت له يهنيك طيب جواره

وحيّاك وسميّ الغمام إذا همى

لتسقط أثمارا على جنب قبره

ليلقطها من زاره وترحّما

فواعجبا حتى النبات زها به

فحق لنا عن فضله أن نترجما

فلا زالت الأنواء مغدقة على

ثرى قبره ما ناح طير وزمزما

ومما اشتهر له قوله في دخان التبغ :

لقد عنّفونا بالدخان وشربه

فقلت دعوا التعنيف فالأمر أحوجا

ألا إن صلّ الغم في غار صدرنا

عصانا فدخّنا عليه ليخرجا (١)

__________________

(١) قال الشيخ محمد العرضي في مجموعته : وقد رد عليه شيخنا الأخ الوفائي مد الله عمره بقوله :

لقد دل هذا القول منك صراحة

على أن صل الغم ما كان مخرجا

وأن عموم الشاربين تواترت

عليهم غموم دائما لن تفرّجا

ومنه قول الفاضل الشاهيني مضمنا :

ولم أشرب الدخّان من أجل لذة

حواها ولا فيه روايح كالعطر

ولكن أداوي نار قلبي بمثلها

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

ا ه. ورأيت في قطعة من ديوان المترجم مضمنا الشطر الأخير بقوله :

ولما تغشّاني دخان تأوهي

من الشوق عن قلب يقلّب في جمر

تداويت شربا بالدخان لدفعه

كما يتداوى شارب الخمر بالخمر

٢٤٢

الصلّ : الحية السوداء ، ومن شأنها أنها إذا عصت في وكرها دخّن عليها لتخرج. وللصلاح أيضا فيه وهو معنى حسن :

لو لم تكن أيدي الأكارم لجة

ما كان في أطرافها الغليون

والغليون أطلق على سفينة معهودة بين العوام ، وعلى آلة يوضع فيها ورق التبغ ويشرب ، وكلاهما غير لغوي ، وهو في اللغة اسم للقدر. وفيه يقول عبد البر الفيومي صاحب المنتزه مع احتمال الغليون للمعنى اللغوي :

غليوننا لقد غلا

ما فيه والماء يفور

في مهجتي وفعلتي

دخانه أضحى يدور

وللصلاح معمّى باسم أحمد وهو قوله :

فؤادي محا عن لوح خاطره الهوى

فأثبته صدغ له قد تسلسلا

وله باسم عمر :

تساقط در من سحاب مسيره

إلى تاج روض قل وما كان منقطع

وله باسم يوسف :

إذا صح تقبيل على خال خده

أحاول شيئا منه في داخل الشفه

ومن غرامياته قوله :

أين فصل الربيع أين الشباب

يئست من رجوعه الأحباب

غادرته مواقع أعدمته

فشراب الربيع رغما سراب

خرس العندليب فيه وأضحى

صاحب النطق في رباه الغراب

لو علمنا أن الزمان خؤون

فيه تنأى عن اللقا الأصحاب

لشفينا من اللقاء قلوبا

لم يرعها من الزمان انقلاب

لكن المرء لا يزال غفولا

بين هذا وبين ذاك حجاب

 وله غير ذلك.

وكانت وفاته بحلب في سنة تسع وأربعين وألف ا ه.

٢٤٣

وترجمه الشيخ محمد بن عمر العرضي فقال : هو وإن كان أحد الشهود بالعدول بحلب ، إلا أنه غبّر في وجه ابن الوردي بسنابك أقلامه في ميدان القريض والأدب ، ونشر من كلامه الملوكي دواوين ثلاثة أقام بها سوق عكاظ الفخر في العجم والعرب. نظم بديعية بديعة ، أحسن فيها المخلص من رقة نسيبها بمديح صاحب الشريعة ، وشرحها شرحا غريب الطرز والأسلوب ، كأنه القدح المسكوب أو القدح المشبوب. وله رسالة في المعمّى ، تضاهي رسالة القطب المكي ومعين الدين ابن البكا والشيخ جدي الأعلى ابن الحنبلي المسماة «بكنز عن حاجي وعمّى». وعارض همزية الأبو صيري التي أضحى في طرازها البديع نسيخ وحده ، ولم ينسج على منوالها أحد من قبله ولا من بعده ، حتى إن البرهان القيراطي مع إحرازه قصب السبق في كل فن ، حاول معارضتها فأسمع قعقعة ولم يأت بطحن ، وما أتى في ادعاء المعارضة ببرهان ، ولو لم يرجح صيرفي الكلام ديناره بقيراط لخاس في كفة الميزان ، بقوله في مطلعها :

ذكر الملتقى على الصفراء

فبكاه بدمعة حمراء

ومطلع همزية صاحب الترجمة :

كيف لا تنجلي بك الغبراء

واستضاءت بنورك الخضراء

وكستك العباء نورا ولا

أشرف ممن كسته تلك العباء

وتغشّى سناك كل لحاظ

وغشاء الأنوار منك جلاء

حصحص الحق واستحال بك الريب

أيبقى مع الصباح المساء

وسبقت الكرام شأوا فقل لي

كيف ترقى رقيك الأنبياء

أيرومون من علاك لحاقا

يا سماء ما طاولتها سماء

وأنشأ مقامات نسجها على منوال مقامات الحريري والبديع ، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع ، منمنما كم مقامة علمية ، ما بين تفسيرية وحديثية وأصولية. وكان رحمه‌الله مغرى بنظم المسائل العلمية ، حتى إنه إبّان اشتغاله بشرح المنار في أصول الحنفية ، نظم أكثر مسائلها وطارح بها أخدانه من الطلبة. وآخر ما ألفه رسالة سماها «بمطلع النيّرين في مناقب الشيخين» أعني شيخ الإسلام الوالد وأبا الجود البتروني قدس‌سرهما ، وسرد مقروءاته عليهما واستطرد من ذكرهما إلى ذكر المرحوم الفقيه نعمان الثاني أبي اليمن البتروني مفتي الديار الحلبية ، وإلى ذكر والدهما الشيخ المسلك الصوفي صاحب الكشف والشهود

٢٤٤

عبد الرحمن البتروني ، وإلى ذكر شيخنا الأخ الوفائي مد الله ظل حياته ، وإلى ذكر صاحبنا المرحوم النجم الحلفاوي ، وإلى ذكر هذا العبد الفقير وذكر ما دار بيني وبينه وبين المذكورين من سلاف المساجلة ، وما أحرز من قصبات أقلامهم في برهان المناضلة. وقد كان في فيض البديهة وجودة القريحة مدرارا ، ولإنشاء الخطب ونظم القصائد المطولات مكثارا ، بحيث إنه لا يجف دويّه ، ولا يغيض أتيّه ، ولا يرد ما جادت به عليه قريحته من كل معنى جيدا كان أو زيّفا ، بعيدا كان أو قريبا ، ويصطاد بسبب ذلك ما بين الكركي والعندليب.

وقد ذكره الأستاذ العلامة الخفاجي في «خبايا الزوايا» وترجمه بأحد شيوخ الشعر بحلب ، وأنا مورد من كلماته ما وقع عليه اختياري ، وأنا استغفر الله مما جرى به القلم في غير طاعة الباري. فمن ذلك قوله من قصيدة مطلعها :

طارقات الردى علينا تحيف

وطريق الهدى سريّ مخيف

ومنها وهو معنى بديع :

نكرت حالة الأفاضل طرا

لام فضل من شأنها التعريف

وله من قصيدة تلقّى بها المولى شيخ الإسلام بالممالك العثمانية أسعد أفندي حين ألم بحلب قاصدا الحج :

لو سعد تفتازان حاول فضله

يوما لقال الناس هذا أسعد

ا ه

وترجمه الشهاب الخفاجي في «الريحانة» فقال : فاضل شاعر ناظم ناثر مكثر مسهب مطرب معجب ، رأيته بحلب يعاني حرفة الوراقة ، ويكتب للقضاة الوثائق التي شدت وثاقه ، وقد قيده الكبر ، وعاقه الدهر أبو العبر ، فحجل بين الغرائب والرغائب ، وقتل بيد فكره في الذروة والغارب ، وهو في مهد الخمول راقد ، فمرت به النوائب وهو على طريقها قاعد. وقد كان امتدحني بعدة قصائد ، منها قوله :

شهاب المعالي قد أضاءت به الشهبا

وقد أطلعت من غر أفكاره الشهبا

ومن قبل أخبار الثناء تواترت

وقد ملأت أسماعنا لؤلؤا رطبا

إلى أن قال :

على حلب لما قدمتم تبسمت

ثغور مبانيها وتاهت بكم عجبا

٢٤٥

وأبناؤها القوم الذين مرادهم

وداد ولا يبغون مالا ولا كسبا

وختمها بقوله :

فلا زلت في أعلى مقام إذا حدت

حداة حجاز في السرى تطرب الركبا

قال الشهاب : وأنشدني :

لعمرك لم أشرب دخانا لأجل أن

تسرّ به نفس تدانى خروجها

ولكن زنابير الهموم لسعتني

فدخّنت حتى يستبين عروجها

ولما أنشدني هذا أنشدته قطعا لي في معناه ، منها قولي :

ما شربت الدخان إذ سرت عنكم

لتلهّ به عن الأحزان

أحرقتني الأشواق فالقلب منها

صار بالوجد مخزن النيران

فخشيت الأنفاس تفضح حالي

فلهذا سترتها بالدخان

ا ه وظفرت بثلاثين ورقة من ديوانه عند السيد جودة الكوراني من ذرية المترجم فاخترت منها قوله :

إذا ما أراد الخل منك قطيعة

تحمل له واحفظ عقود ولائه

وكن كسراج إن قطعت ذبالة

له زاد في إشراقه وضيائه

وقوله :

يا عامرا قصر الفناء مشيدا

والعمر في قصر له وفناء

تبنى قبابا لا يدوم بناؤها

إن القباب حكت حباب الماء

وقوله (دو بيت) :

أهوى قمرا لكل عقل قمرا

وافى سحرا وحسنه لي سحرا

كم قلت له وقد تهتكت به

يا أسمر قد جعلت عشقي سمرا

وقوله :

قال أهل الغرام بالدمع جدنا

قلت ذا الجود ماله من نجاح

٢٤٦

جودكم في الغرام بالدمع بخل

وسماحي بالعين عين السماح

وقوله في غليون الدخان :

لقد عاين المحبوب قوم أجانب

فخفت عليه أن يصاب تعجّبا

فناولته الغليون حتى إذا علا

على وجهه الدخّان عنهم تحجبا

وقوله فيه :

إذا أودع الغليون بارق ثغره

غزال كحيل الطرف من آل سابق

وأكسبه العذب النمير من اللمى

(تذكرت ما بين العذيب وبارق)

وله غير ذلك في غليون الدخان ، وفيما قدمناه كفاية.

وقوله :

وليس الشعر قافية ووزنا

وألفاظا على نسق النشيد

ولكن شرطه حكم ووضع

على بيت من العليا مشيد

يترجم فيه قائله فنونا

وعلما قائلا هل من مزيد

يعبر عن فضائله وما قد

حواه من العلوم لمستفيد

لذلك قال من لم يعتمده

ونفر عنه في نظم سديد

(ولو لا الشعر بالعلماء يزري

لكنت اليوم أشعر من لبيد)

ومن نظمه :

كأن هلال التّمّ في غسق الدجى

وقد لاح بالأنوار في أفق السما

عروس تجلت والكواكب حولها

كما تنثر الأيدي عليها الدراهما

قال في الديوان : وقلت هذه القصيدة على طرز لم يسبقني إليه أحد من شعراء العرب ، وإنما هي على حذو شعراء الفرس والروم ، والتزمت في كل بيت منها بذكر السيف والقلم بالصناعات البديعية والتخيلات الشعرية والمعاني المجازية :

السيف ما أصبحت أغماده القمم

في حكمه القلم الماضي له حكم

لا فخر إلا إذا أبكى الفتى قلما

وأشهر السيف في الهيجاء يبتسم

لا سيف يقطع إلا بالدعاء له

وكم دعا قلم لبّت له الأمم

٢٤٧

قد علّم الخلق ما لم يعلموا قلم

وأظهر السيف دينا كان * يكتتم

والرزق قدّره قبل الورى قلم

والسيف قسمته الآجال تنقسم

وكم إلى طاعة الباري جرى قلم

والسيف يخدم من تعلو له الهمم

والسيف يمضي الذي يقضي القضاء به

من دونه قلم يرضى به القدم

وربما فلّ سيف عن مضاربه

إن خانه قلم زلّت به القدم

والسيف ما دام عريانا كسا حللا

والعلم في قلم يعلو به العلم

والسيف يرقص في حرب ويطرب في

صريره قلم تحلو به النغم

ويترف السيف من أهل القتال دما

إن ينفث القلم السحار بينهم

والسيف إفرنده ماء الحمام به

يسقى وكم قلم يشفى به السقم

من سالم السيف يسلم من غوائله

والخير في قلم بالصلح يستلم

إن يشرح السيف متنا يوم معركة

فالقلب من قلم التحذير ينعجم

والسيف فرّق جيشا بالفتوح وكم

بنصره قلم التبشير يلتئم

والسيف في ظله دار مخلّدة

والوشي من قلم التحرير يغتنم

ورب سيف به طالت يد حكمت

في ظله قلم دامت له النعم

بعد الركوع على المرسوم من قلم

صلى على العنق سيف في الوغى فدم

لا سيف إلا إذا صار العراب دما

من قبله قلم بالجرح ينتقم

يربو على السيف عزم المرء إن بطلا

حكما وفي قلم الإنشاء يحتكم

ومجّ في نفس حساد له قلم

سمّا وعاتقهم بالسيف يحتجم

كم نكبة هاجها عن نكتة قلم

والسيف يفضي إلى ما يحدث الندم

إن يقطر السيف من نحر العداة دما

فقد جرى قلم كالغيث منسجم

والسيف في حده حد الهدى وإلى

كلامه قلم تهدى به الكلم

يجيد مدحة أرباب الندى قلم

فيرفع السيف عنه وهو متهم

ومن حماقته لم يشفها قلم

فالسيف أولى بداء ليس ينحسم

غاظ العدى قلم يبدي السرور ومن

صليل سيف الوغى في سمعهم صمم

والبوح بالسرشق الرأس من قلم

والسيف تأديبه بالنار تضطرم

__________________

(*) لعل الصواب : كاد.

٢٤٨

فلا يغرّك من وشي العدى قلم

فإنه بدماء السيف يرتسم

واسلك سبيلا قويما قد حكى قلما

فالعرض كالسيف يقلى حين ينثلم

وإنما القلم الساري برقته

إلى المعالي ببأس السيف يحترم

والسيف أنزل فيه البأس يخدمه

وبرّ بالقلم الجاري به القسم

نور الهدى قلم تهدي السراة به

والسيف برق الوغى والغيت منه دم

والسيف ما كان كالمرآة صيقله

والنور من قلم تجلى به الغمم

إني لكالسيف يخشى حين لمعته

والدر من قلمي في الطرس ينتظم

سالت على السيف نفسي إن أبت أدبا

يوما ولي قلم كالبحر يلتطم

السيف يعرفني بالعزم كابن جلا

والنظم والنثر والقرطاس والقلم

وكتبت إلى نجل شيخنا أبي الوفا العرضي في محرم افتتاح سنة ثلاث وعشرين وألف ملغزا فيه ، وكان الوقت مستقبل الربيع وذكرته بأيام الربيع الماضي :

تكلل زهر الروض في الغصن بالقطر

كمنطقة صيغت من الدر والتبر

وقد نثرت أوراقه في رياضه

كنثر عقود الدر من ربة النحر

وفي الدمنة الخضراء ينظم نثرها

كنسج اللآلي وهي في الفرش الخضر

وكم لعبت فيها الرياح كأنها

طيور فراش في الرياض على النهر

ترفرف فوق الدوح حين هبوبها

بأجنحة بيض وأجنحة حمر

كأن الصبا تعطي الرياض دراهما

جيادا كما تعطى العروس من المهر

وتطرحها فوق الغدير كأنها

نجوم سماء في مجرتها تجري

تضاحك أزهار الربى فكأنها

تبسم ثغر الحب عن حبب الدر

تطايرها كالصحف في كل جانب

يشير إلى نشر الدفاتر في الحشر

ويشهد أن الله لا رب غيره

بقدرته قد أخرج الدر من ذر

كأن نبات النبت غيد رواقص

ينقطهن الريح بالأنجم الزهر

كأن غصون الزهر لما تكللت

سرادق بيض والمسامير من تبر

فأعظم بنبت من ثرى الأرض مخرج

كما يخرج الموتى الآله من القبر

وهذا دليل واضح وهو حجة

على منكر لم يرض بالحشر والنشر

تفرقه أيدي الرياح وهكذا

يقابل أرباب الندى المال بالنثر

٢٤٩

كما نثرت أيدي اللبيب مسائلا

على الطرس مثل الدر يخرج من بحر

سليل المعالي نجل شيخي وقدوتي

إلى الله في الإرشاد بالنهي والأمر

إلى أن قال :

وخذها عروسا تنجلي بنت ليلة

تقلد منها جيدها أنجم الفجر

ولا زلت محفوظ الجناب مؤيدا

بحب الفتى الفاروق ثم أبي بكر

متى رقصت في الروض أغصان دوحة

وغرد شحرور وجاوبه القمري

فأجاب وأجاد :

أرتني عروس الروض عقدا من الزهر

تحاكي السما في الحسن بالأنجم الزهر

تبسم وجه الروض وافتر ثغره

فأبكى غزير السحب من أعين تجري

لبسن جلابيب السواد تغيظا

على الروض لما تاه في حلل خضر

أرى الروضة الفيحاء فيها جداول

كأخضر ديباج تكلل بالدر

ومالت عليها الدوح مذ لاعب الهوى

شمائلها لعب الشمول بذي السكر

فسحّت وما شحّت وجادت لناظر

فتدرى لآلي الزهر من حيث لا تدري

تفتّح أحداق الأقاح مشاهدا

ونرجسها قد ذبّل العين من فكر

إذا زرتها تلقاك والثغر باسم

وتخلع أثواب السرور على السر

تسرّح أنظارا وتشرح ناظرا

وتنثر منثورا وتنظم بالزهر

ومذ رقص الشحرور غنت بلابل

فجاءت عليها من دنانيرها الصفر

خليليّ طاب الوقت والمقت ذاهب

وهب نسيم الوصل طيبا لذي هجر

أسير غرام والحبيب غريمه

ترى الحب في يسر ومضناه في عسر

ألا حدّثاه عن قديم صبابة

يجددها صب إلى آخر الدهر

وقولا له هل جاء قتل معذب

شكا الطول من ليل على فرش الجمر

ولست بسال لا وعينيك والهوى

عن الحب إلا أن أوسّد في القبر

وكيف التسلّي والغرام يسوقني

كما سيق جمع الناس في الحشر والنشر

ومن لم يحركه الجمال تشوقا

إلى حبه فهو الجماد من الصخر

ولا سيما ذاك الذي قد عشقته

أورّي به من خشية الهتك والستر

٢٥٠

أغار وذرات الوجود تحبه

لما فيه من جود وما فيه من بر

ألا قد أتى فصل الربيع موافيا

بأنواع بشر جنسها طيّب النشر

تأرّج في الأرجاء عرف رياضها

ونمّ عليها الريح من مطلع الفجر

تيقّظ فإن العمر رقدة نائم

وقم نختلس حظا على غفلة الدهر

ندير كؤوس البحث والنظم بيننا

ونحذر عن صرف العقول إلى الخمر

ونترك مالا يرتضيه فإنه

رقيب علينا حالة السر والجهر

فلله من لغز حكى في نظامه

قلائد عقيان على أبيض النحر

فألفاظه در ومعناه مسكر

ويحلو على التكرير كالسكر المصري

ومن لطفه لما قرأت بيوته

توهمتها عدا أقل من العشر

ولما وعى فكري محاسن قصده

فقلت أدار الراح أم جاء بالسحر

ليهنك أن الله أولاك منحة

فأنت وحيد العصر والله والعصر

وحقك لو جازى نظامك كامل

لما جاز نثر الدر إلا مع التبر

ولكن بنو الشهباء أجمع رأيهم

على ترك أرباب الفضائل بالهجر

ولا فرق بين العلم والجهل عندهم

ولا بين منظوم الكلام من النثر

ومنك أتاني بنت فكر خطبتها

وإني فقير وهي غالية المهر

ثم أخذ في الجواب عن اللغز وهو اسم حسين قاصدا به الحسين رضي‌الله‌عنه. وختم القصيدة بقوله :

ألا فابكياه بالدماء تأسفا

على فقد تلك الذات في عاشر الشهر

وكتب إلى الأخ الفاضل مولانا الشيخ نجم الدين ابن الحلفا الخطيب بالجامع الكبير بحلب في غرض عرض :

المال يفنى والثناء يدوم

ومضيع عهد الأصدقاء ظلوم

حسب ابن آدم سدّ خلته وما

يجدي الطموع ورزقه مقسوم

وقناعة الإنسان صون قناعه

ومآل مال المسرفين وخيم

يا رب شهوة ساعة أحزانها

طالت بها وهوى النفوس ذميم

تتبسم الآجال والآمال في

تقسيمها والنائبات تحوم

٢٥١

والظلم فينا مستفيض شائع

والخلف بين العالمين قديم

إياك تظلم من تحتم شكره

والظلم شرك لو علمت عظيم

واغنم معاملة الصديق فإنه

بالنفس في سوق النفيس يسوم

إلا المراوغ من حفاظ وداده

تلقاه في نفق النفاق يهيم

ومقلد الجود اللئيم مطوّق

بالدرّ جيد الكلب وهو نظيم

إلا الكرام فإن كل صنيعة

تسدى إليهم مسكها مختوم

والناس إما قادح أو مادح

والحر عن حظ النفوس سليم

من لم يذد عن عرضه بسلاحه

يثلم وحامي ساحتيه كريم

ومن اهتدى الساري إليه فإنه

نجم عطاياه الحسان نجوم

خلّ يواسي من تفاقم كربة

والكرب منه مقعد ومقيم

وإذا صفا ود الفتى لك صادقا

وحمى حمى الأسرار فهو حميم

وإذا الحسود رآك في وادي الردى

حيران أعرض عنك وهو نموم

عند النوائب ينجلي لك أمره

عما يسر ويظهر المكتوم

لله در النائبات فعندها

عذر الأحبة والعداة تلوم

٩٧٠ ـ عمر بن أبي الطيب الخشابي الصديقي

المتوفى ما بين ١٠٥٠ و ١٠٦٠ ظنا

عمر الخشابي الصديقي ، شاعر من شعراء الشهباء وأديب من أدبائها ، لم أقف له على ترجمة مخصوصة ، غير أني وقع لي مجموع فيه خطه قد أودع فيه بعض شعره الحسن ونثره اللطيف ، وذكر فيه مطارحات بينه وبين القاضي صلاح الدين الكوراني ، ويظهر من خلال المجموع أنه كان تلميذا للشيخ فتح الله البيلوني. فمن شعره مضمنا :

قلت لما هز عطفا

لسكون القلب حرّك

صل ولا تهتك غرامي

يا جميل الستر سترك

وقد ضمن هذا الشطر كثير من الأدباء أورد ما قالوه في هذه المجموع ، لكني تركته خوف الإطالة. وله :

٢٥٢

بروحي أفدي قهوة البن إنها

شفاء وفاقت في الطبابة نعمانا

وإن لم يكن نفع بها فهي حيلة

لتصيير من أهواه عندي أحيانا

وله :

دعوه أبا زيد وقد زاد جوره

غزال كريديّ غدا حبه قيدي

وكنت دفنت العشق قبل وجوده

وقد حرك الداء الدفين أبو زيد

وله :

أفدّى أبا زيد وأفدي قوامه

بكل خليق لم يحط في الورى خبرا

ولا غرو أن بالغت في وصف حسنه

فإني أرى في وجهه الشمس والبدرا

وله عفا الله عنه :

ولم أر إذ كلمته وهو مسبل

من اللطف والإنصاف سترا على العين

لما صنت إحدى المقلتين فقال لي

مخافة ضرب العاشقين بسيفين

وله :

بروحي من في خده الورد يانع

وغطاه خوفا أن يرى ذاك إنسان

فقلت أما يكفيك طرفك حارسا

فقال بلى لكنّ طرفي نعسان

وله من قصيدة طويلة مدح فيها ابن عمه القاضي جمال الدين :

عجبا لمن أضحى رهين صبابة

كيف المنام يزوره أو يهجع

لهفي على عمر تقضّى دونهم

وعلى زمان كنت عنهم أمنع

أشتاقهم فيظل ناظر ساهري

يرعى السها حتى الصباح يشعشع

إن جاء طيف النوم يطرق مقلتي

فاجاه طيف للخيال فيرجع

لا أشتفي من ذا وذاك لأنه

لو زار حقا كنت لا أتوجع

دائي عضال والطبيب مروّع

والحب باد والحبيب ممنّع

ومنها وهو آخرها :

يبقيك رب العرش ذخرا للورى

ما دام طرفي في الرياض يرجّع

٢٥٣

ولم أقف على تاريخ وفاته ويظهر أنها في أواسط هذا القرن.

٩٧١ ـ فتح الله المعروف بابن النحاس الشاعر المشهور المتوفى سنة ١٠٥٢

فتح الله المعروف بابن النحاس ، الحلبي الشاعر المشهور ، فرد وقته في رقة النظم والنثر وانسجام الألفاظ. لم يكن أحد يوازيه في أسلوبه أو يوازنه في مقاصده. وكثير من أدباء العصر يناضل في المفاضلة بينه وبين الأمير منجك ويدعي أرجحيته مطلقا. وعندي أن أرجحيته إنما هي من جهة حسن تراكيبه وحلاوة تعبيراته. أما أرجحية الأمير فمن جهة معانيه المبتكرة أو المفرغة في قالب الإجادة.

وكان فتح الله في حداثة سنه من أحسن الناس منظرا وأبهاهم صباحة ورشاقة. وكان أبناء الغرام يومئذ يفدونه وهو يعرض عنهم ويجافيهم ، حتى تبدلت محاسنه فعطف عليهم يستمد ودادهم. وكانت النفوس قد أنفت منه فرمته في زاوية الهجران ، وفي ذلك يقول وقد رأى إعراضا من صديق له كان يألفه :

إني أنا الفتح سمعتم به

ما همه حرب ولا صلح

من عدّ لي ذنبا قلاني به

فإنما ذنبي له النصح

قولوا له يغلق أبوابه

فإنما حاربه الفتح

ثم اندرج في مقولة الكيف وتزيّا بزي الزهّاد ، واتخذ من الشعر صدارة حدادا على وفاة حسنه ووفاة جماله. وما زال يرثي أيام حسنه وينعي ما يتعاطاه من الكيف. وله في ذلك محاسن ونوادر ، منها قوله في قصيدته التي أولها :

من يدخل الأفيون بيت لهاته

فليلق بين يديه نقد حياته

لو يابثين رأيت صبك قبل ما

الأفيون أنحله وحل بذاته

في مثل عمر البدر يرتع في رياض

الزهر مثل الظبي في لفتاته

من فوق خد الدهر يسحب ذيله

منّاه أنى شاء وهو مواته

وتراه إن عبث النسيم بقده

ينقدّ سرو الروض في حركاته

وإذا مشى تيها على عشاقه

تتفطر الآجال في خطراته

يرنو فيفعل ما يشاء كأنما

ملك المنية صار من لحظاته

٢٥٤

لرأيت شخص الحسن في مرآته

ورفعت بدر التم عن عتباته

ثم مل الإقامة بين عشيرته فخرج من حلب وطاف البلاد. وكان كثير التنقل لا يستقر بمكان إلا جدد لآخر عزما ، وفي ذلك يقول وقد أحسن كل الإحسان :

أنا التارك الأوطان والنازح الذي

تتبّع ركب العشق في زي قائف

وما زلت أطوي نفنفا بعد نفنف

كأني مخلوق لطيّ النفانف

فلا تعذلوني أن رأيتم كتابتي

بكل مكان حلّه كل طائف

لعل الذي باينت عيشي لبينه

وأفنيت فيه تالدي ثم طارفي

تكلّفه الأيام أرضا حللتها

ألا إنما الأيام طرق التكالف

فيملي عليه الدهر ما قد كتبته

فيعطف نحوي غصن تلك المعاطف

ودخل دمشق مرات وأقام بها مدة ، واتفق عند دخوله الأول جماعة من الأدباء المجيدين ، وكان لهم مجالس تجري بينهم فيها مفاكهات ومحاورات يروق سماعها ، فاختلوا به وعملوا له دعوات ، وكانوا يجتمعون على أرغد عيش ، وجرت لهم محافل سطرت عنهم ، ولو لا خوف التطويل لذكرت بعضها.

ثم سافر إلى القاهرة وهاجر إلى الحرمين واستقر آخرا بالمدينة. وله في مطافه القصائد والرسائل الرائقة يمدح بها أعيان عصره (وهنا أورد المحبي من نظمه ونثره ثم قال) :

وكان مع ظهوره بزي الفقراء من الدراويش كثير الأنفة زائد الكبرياء والعجب ، ومن هنا حرم لذات المعاشرة واستعرض أكدار المذمة ، وهذا عندي من الحمق العظيم ، مع أنه ينافيه جودة تخيله في الشعر. وقد يقال إن الشعر موهبة لا يتوقف أمره على وجود الصفات الكاملة بأسرها. وأما أمر التناقض في الأحوال فكثير من يبتلى بها ، وهي وصمة لا راد للطعن فيها بحال. ومما يحسن إيراده في هذا الشأن ما يروى عن الإسكندر أنه رأى رجلا عليه ثياب حسنة وهو يتكلم بكلام وضيع قبيح ، فقال له : يا هذا إما أن تتكلم بمثل قدر ثيابك أو تلبس ثيابا على قدر كلامك. وقولهم (غن تشاكل بعضك) أصله أن سكرانا مر وهو يهلل فقيل له ذلك. انتهى.

وأشعار فتح الله كثيرة مطبوعة مرغوبة. وهنا أورد المحبي عدة قصائد يطول الكلام بنقلها ، إلى أن قال : وقال يخاطب بعض الصدور ، وكان الفتح قدم من الحج فأهداه تمرا :

٢٥٥

أحسن ما يهديه أمثالنا

من طيبة من عند خير الأنام

بعض تميرات إذا أمكنت

إهدؤها ثم الدعا والسلام

وله :

من أرقني قد استلذ الأرقا

ويلاه ومن أعشقه قد عشقا

من ينقذني منه ومن ينقذه

أفنى حرقا فيه ويفنى حرقا

وأنفس نفائسه تضمينه المشهور لمصراع الرئيس ابن سينا :

لا يدعي قمر لوجهك نسبة

فأخاف أن يسودّ وجه المدعي

فالشمس لو علمت بأنك دونها

هبطت إليك من المحل الأرفع

ومن روائعه قوله :

أيا رب جعلت متاعي القريض *

وقد كان قدما يعد السنينا

فلم لا وقد درست سوقه

كأطلال أصحابه الأقدمينا

ولا بد للشعر من رزقة

فيا ويح من يقصد الباخلينا

أأقطف من روض شعري لهم

فأنثر وردا على نائمينا

فها أنا ذا شاعر واقف

ببابك يا أكرم الأكرمينا

ومحاسنه كثيرة وفي هذا القدر كفاية.

وكانت وفاته بالمدينة المنورة ليلة الخميس لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وخمسين وألف ودفن ببقيع الغرقد. ا ه.

وترجمه ابن معصوم في «سلافة العصر» فقال : ناظم قلائد العقيان ، فاضح نغمات القيان ، الشاعر الساحر ، والباهر بما هو ألذ من الغمض في مقلة الساهر ، فهو صانع إبريز القريض وإن عرف بابن النحاس ، ومسترق حر الكلام فما أشعار عبد (١) بني الحسحاس ، والمبرز في الأدب ، على من درج ودب ، وحسبك أن لقيه الأدباء بمحك الأدباء ، ولو لم تكن إلا حائيته التي سارت بها الركبان ، وطارت شهرتها بخوافي النسور

__________________

(*) هكذا في الأصل وفي خلاصة الأثر ، ولعل الصواب : إلهي .. جعلت ...

(١) شاعر من شعراء الجاهلية. انظر السلافة فقد أطال في بيان خبره.

٢٥٦

وقوادم العقبان ، لكفته دلالة على إنافة قدره ، وإشراق شمسه في سماء البلاغة وبدره ، وهي :

بات ساجي الطرف والشوق يلحّ

والدجى إن يمض جنح يأت جنح

فكأن الشرق باب للدجى

ماله خوف هجوم الصبح فتح

وهي طويلة وقد ذكرها ابن معصوم بتمامها ، وأورد له عدة قصائد ، وآخر ما أورده له قوله :

توهمت إذ مرت بنا الغيد بكرة

تلهّب خال في لظى خد أغيد

وردّدت طرفي ثانيا فرأيته

فؤادي الذي قد ضاع في الحب من يدي

وترجمه الشيخ محمد العرضي في كتابه الذي ذكر فيه شعراء عصره في حلب ومصر والشام ، قال في آخرها : وله في الدخان المتداول الآن :

وأرى التولع بالدخان وشربه

عونا لكامن لوعة الأحشاء

فأديم ذلك خوف إظهار الجوى

فأشوبه بتنفس الصعداء

قلت : ألم في هذا المعنى البديع يقول من قال :

(ولم أدخل الحمام ساعة بينهم

لأجل نعيم قد رضيت ببوسي)

(ولكن لكي أجري مدامع مقلتي

وأذري فلا يدري بذاك جليسي)

ا ه قال فانديك في «اكتفاء القنوع» : ديوان فتح الله الحلبي ابن النحاس المتوفى بالمدينة سنة ١٠٥٢ طبع في مصر سنة ١٢٩٠ في ٦٨ صحيفة. ا ه.

ويوجد ديوانه في باريس ، والمكتبة السلطانية بمصر ، وفي المكتبة الخسروية بحلب جزء من تاريخ للمحبي غير تام فيه تراجم لأعيان عصره منها ترجمة لفتح الله النحاس ، وذكر قصيدته التي مطلعها (تذكر السفح فانهلت سوافحه) وقصيدة (الغصن الرطيب) وغير ذلك من قصائده الطوال.

٩٧٢ ـ إبراهيم بن أبي اليمن البتروني المتوفى سنة ١٠٥٣

إبراهيم بن أبي اليمن بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد السلام بن أحمد البتروني الأصل

٢٥٧

الحلبي المولد الحنفي ، الفاضل الأديب المشهور ، صدر قطر حلب بعد أبيه.

اشتغل في عنفوان عمره وسلك طريق القضاء وتولى مناصب عديدة ، منها حماة ، ثم ترك وعكف على دفاتره وتشييد مفاخره ، وتفرغ له أبوه عما كان بيده من مدارس وجهات ، وبقيت في يده سوى إفتاء الحنفية فإنها وجهت إلى غيره.

وكان حسن المحاضرة شاعرا مطبوعا ، وشعره كثير الملح والنكت حسن الديباجة. أنشد له البديعي في «ذكرى حبيب» قوله في فتح الله بن النحاس الشاعر المشهور الماضي ذكره ، وكان يميل إليه ، وكان فتح الله مع تفرده بالحسن ولوعا بالتجني وسوء الظن بصيرا بأسباب العتب ، يبيت على سلم ويغدو على حرب ، كم من متيم في حبه رعى النجم خوفا من الهجر ، لو رعاه زهادة لأدرك ليلة القدر ، بخيلا بنزر الكلام ، يضن حتى برد السلام.

شعر :

مهلك العشاق مهلا

فيك لي منك انتقام

بشعيرات كمسك

هن للمسك ختام

وله فيه من أبيات :

بيني وبينك مدة فإذا انقضت

كنت الجدير بأن تعزّى في الورى

رفقا بقلب أنت فيه ساكن

إن الحياة إذا قضى لا تشترى

فاردد على طرفي المنام لعله

يلقى خيالا منك في سنة الكرى

واسأل عيونا لا تملّ من البكا

عن حالتي ينبيك دمعي ما جرى

وقال فيه أيضا وقد عشق مليحا اسمه موسى فتجنى عليه :

كل فرعون له موسى وذا

في الهوى موساك يوليك النكد

فكما أكمدت من يهواك بال

صدّمت صدّا وذق طعم الكمد

ومن شعره قوله من قصيدة في الأمير محمد بن سيفا مطلعها :

أربى على شجو الحمام الغرّد

وشدا فبرّح بالحسان الخرّد

شاد يشاد به السرور لمعشر

عمروا مجالس أنسهم بالصرخد

في مجلس قام الصفاء به على

ساق وشمر للمسرّة عن يد

٢٥٨

إلى أن يقول فيها :

ولقد شكوت له الهوى ليرق لي

فنأى عن المضنى بقلب جلمد

وأبى سوى رقّي فقلت له اتئد

إني رفيق للأمير محمد

وله غير ذلك من محاسن الشعر وعيونه.

وكانت وفاته في سنة ثلاث وخمسين وألف عن نحو أربع وسبعين سنة. ودفن بجانب والده بالصالحية.

والبتروني ، بفتح الباء الموحدة وسكون التاء المثناه ثم راء وواو ونون ، نسبة إلى البترون : بليدة بالقرب من طرابلس الشام ، خرج منها جماعة من العلماء. وأول من دخل حلب من بيت البتروني هؤلاء عبد الرحمن جد إبراهيم هذا ، دخلها في سنة أربع وستين وتسعمائة وتوطنها. وسنذكر من هذا البيت عدة رجال أنجبت بهم الشهباء. ا ه.

٩٧٣ ـ محمد بن أحمد القاسمي الشاعر المتوفى سنة ١٠٥٤

محمد بن أحمد بن قاسم الشهير بالقاسمي الحلبي ، الفاضل الأديب المشهور ، نادرة الزمان وفريد العصر.

كان غزير الفضل لطيف الطبع ، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر. ذكره الخفاجي في «الريحانة» و «الخبايا» وأثنى عليه كثيرا ، وذكر ما جرى بينه وبينه من المراسلة.

وقال البديعي في وصفه : معدن الملح والطرف ، وينبوع النكت والتحف ، وجاحظ زمانه وحافظ أوانه ، ولا يخفى طول باعه ، في فنون الأدب وأنواعه ، فأسرار البلاغة لا تؤخذ إلا منه ، ودلائل الإعجاز لا تروى إلا عنه ، مع دماثة أخلاق تعيد ذاهب الصبّا ، ورقة دعابة كأنما انتسخها من صحيفة الصبّا ، ومنطق يسوغ في الأسماع سلافه ، بلفظ كأنه اللؤلؤ والآذان أصدافه.

وقال الفيومي في ترجمته : كانت ولادته بحلب ، ثم قدم الروم وصار بها من كبار المدرسين ، ثم كف بصره فتقاعد برزق عين له من قبل السلطان ، فانزوى في بيته وهرعت إليه الأفاضل من كل جانب ، فاشتهر فضله وانتشر علمه فاستمر يقرىء أنواع العلوم ،

٢٥٩

من كل منطوق ومفهوم ، ومباد ومقاصد ، لكل طالب وقاصد ، فانتفع به كثير من الطلبة. قال : ولما قدمت الروم وفدت عليه ، فرأيت الفضائل انقادت إليه ، فحضرته مجالس في المطوّل وسيرة ابن هشام ، فرأيت منه رتبة لا تنال بالاهتمام. ومات وأنا بالروم ودفن بدار الخلافة. وكانت له رتبة في الأدب هي من أعلى الرتب ، وشعره غاية في بابه ، له فيه التشبيهات العجيبة والمضامين الغريبة ما يكتب بماء الوجه على الحدق ، لا بالحبر على الورق (ثم أورد في خلاصة الأثر طرفا من شعره ثم قال) وله من رسالة :

ما كنت أحسب أن يكون كذا تفرقنا سريعا

قد كنت أنتظر الوصال فصرت أنتظر الرجوعا

قرة عيني ما أسرع ما طلع نجم التفرق في البين ، وهجمت على ائتلافنا قواطع البين ، هلا امتد زمان الاقتراب ، حتى تتأكد الأسباب ، وتأخرت أيام الفراق ، حتى يتم ميقات الاتفاق ، واها لأيام قرب ما وفت بما في الضمير ، ولا ساعدت على بقائها المقادير.

إلى الله أشكو أن في الصدر حاجة

تمر بها الأوقات وهي كما هيا

وأقسم بالله العظيم إنهم عندما :

قالوا الرحيل فما شككت بأنها

روحي عن الدنيا تريد رحيلا

فيا ليت شعري هل تحس بفقدي ، أتذكرني من بعدي. إن فعلت فما أحقك بالإحسان ، وإن نسيت فمن شيم الإنسان النسيان ، وأما أنا فإني :

أروح وقد ختمت على فؤادي

بحبك أن يحل به سواكا

ولو أني استطعت خفضت طرفي

فلم أبصر به حتى أراكا

وله :

ورد الكتاب مبشرا بقدوم من

ملأ النفوس مسرة بقدومه

فطربت بالأسجاع من منثوره

وثملت بالجريال من منظومه

وسجدت شكرا عند مورده على

إسعاد هذا العبد من مخدومه

وله من فصل : من التحية عندي ما يستعير الروض من ريّاه ، ويستنير الصبح من

٢٦٠