من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ

___________________

(٢١) (اجْتَرَحُوا) : أي اقترفوا وارتكبوا ، والاجتراح : الاكتساب.

٨١

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)

٨٢

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ

هدى من الآيات :

تشترك الأمّة الاسلامية وبنوا إسرائيل في عهدهم الرسالي في القضايا الجوهرية ، بالرغم من بعض الفوارق ، فلقد فضّل الله الأمة الاسلامية على سائر الأمم بالرسالة الخاتمة ، كما فضّل الله بني إسرائيل على من عاصرهم برسالته التي أنزلها على موسى بن عمران (عليه السلام) ، كما فضّلهما على الناس ببيّنات من الأمر ، تبصّرهم سبيلهم المستقيم ، وتوفّر لهم فرصة الوحدة ، ولكن لم تكن الرسالة لتعصم الناس عن أن يختلفوا لو لم يرد الناس أنفسهم ذلك ، ومن هنا فقد اختلف الناس من بعد موسى كما اختلفوا بعد نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) بغيا بينهم ، وليس لنقص في عوامل الوحدة المتوافرة لديهم من عند الله سبحانه.

ولعلّ سبب المقارنة بين بني إسرائيل والأمة الاسلامية يوجز في أمرين :

الأول : ما سبق من حديث الرسول الدال على أنّ الأمة الاسلامية ستحذو حذو

٨٣

بني إسرائيل حذو القذّة بالقذّة ، والنعل بالنعل ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلوه.

الثاني : للدلالة على أنّ ما جرى عند بني إسرائيل يشبه القانون الاجتماعي أو السنّة الحياتية التي تتكرّر عادة بين الأمم إلّا من عصم الله.

ونستوحي من هذه الآيات بصيرتين :

الأولى : لقد وفّر الله لبني إسرائيل كلّ أسباب السعادة ، فأعطاهم الكتاب والحكم والنبوة ، وفضّلهم على العالمين ، وآتاهم بيّنات من الأمر ، وأعطاهم العلم والوعي ، ولكنّهم اختلفوا من بعد ذلك بغيا ، وجرّوا على أنفسهم الويلات ، ممّا يدلّ على أنّ البغي ليس ذا طابع فردي ، لأنّ من يظلم يشجّع الآخرين على الظلم ، وتنتشر عادة البغي حتى يظنّ كلّ واحد أنّ من (لا يظلم الناس يظلم) أو (إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب).

ثم إنّ الظالم لا يلبث أن يبحث عن فلسفة لظلمه ، ومحور يجتمع الظالمون حوله ، وينظّمون ويسنّون شرائع له ، وينصبون له أعلاما يدعون الناس إلى الرضوخ له ، وهكذا يبدو الظلم عملا فرديّا يرعاه الحرص والتعالي ، وسرعان ما يتحول إلى تيّار اجتماعيّ منظّم ، له مؤسساته وقوانينه ودعائمه وقياداته و.. و.. ، حتى يصبح الناس فريقين : طبقة ظالمة مستكبرة متسلطة ، وطبقة مظلومة مستضعفة مقهورة ، وتلك الطبقة قد تختلف صورها ، ولكنّ جوهرها واحد ، كأن تتسمّى باللّوبي ، أو الاقطاعيّين ، أو اتحاد الشركات ، أو الحكومة ، أو .. أو ..

الثانية : وحينما ينحرف الناس ، وتتسلّط عليهم طبقة مستكبرة مستضعفة ، تظلّل الناس بسحابة سوداء من الإرهاب والاعلام المضلّل ، لا بد أن يقف الصالحون (أنبياء كانوا أم تابعين لهم) متسلحين بالشجاعة والاستقامة ، ويرفعوا أصابعهم إلى السماء مشيرين إلى الله الواحد الأحد ، فإذا رأى الله منهم الصبر على

٨٤

البلاء نصرهم بعزّته.

بينات من الآيات :

[١٦] (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ)

أوّلا :

(الْكِتابَ)

التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، التي أثارت عقولهم ، وبرمجت حياتهم.

ثانيا :

(وَالْحُكْمَ)

فلقد جعل الله في بني إسرائيل ملوكا حاكمين ولقد فسّرنا ذلك في آية (٩٨) من سورة الأنعام.

ثالثا :

(وَالنُّبُوَّةَ)

فقد جعل الله في بني إسرائيل أنبياء كثير منذ يعقوب (ع) حتى عيسى (ع) ، وهذا العدد من الأنبياء نعمة كبيرة لبني إسرائيل وفخر عظيم ، لأنّ عظمة الأمة تقاس بعدد ونوعية النخبة الطيبة فيها ، وعالمنا اليوم يقيس تقدّم الأمم بنسبة الكفاءات فيها ، وهكذا أضحت بنو إسرائيل أمّة متقدّمة بالنسبة إلى سائر الأمم في عصرهم ، ثمّ إنّ الله يحفظ الناس ويمنع عنهم العذاب بأنبيائهم وصالحيهم ، قال تعالى : «وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ». (١)

__________________

(١) الأنفال / (٣٣).

٨٥

وبالنسبة لنا كمؤمنين يجب أن نعرف أنّه كلّما كثر فينا الصالحون والعلماء الربّانيون والرساليّون المخلصون كلّما أمسينا أقرب إلى الانتصار بإذن الله.

رابعا :

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ)

فقد رزق الله بني إسرائيل رزقا حسنا بعد أن أمرهم بدخول باب حطّة إلى القرية المقدّسة التي بارك فيها.

خامسا :

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)

في الحضارة عن غيرهم من سائر الأمم من قبلهم ومن كانوا في زمانهم ، ولعلّ في الآية إشارة إلى أنّ هذا التفضيل كان بسبب تلك النعمة الآنفة ، فلمّا زالت زال فضلهم.

سادسا :

[١٧] (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ)

يبدو انّ الأمر في لغة القرآن يعني المسألة العامة ، قال تعالى : «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ» (١) فقد أعطى الله بني إسرائيل بصيرة الأمر وبيّناته (أي تفصيلاته) فعرّفهم كيف يصرّفون حياتهم ، وكيف يتعاملون مع غيرهم ، وكيف يرتّبون اجتماعهم.

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)

__________________

(١) النساء / (٨٣).

٨٦

اختلفوا ولم يكن اختلافهم لنقص في رسالتهم أو شحّة طعامهم ، إنّما كان ببغيهم بالرغم من وجود العلم الذي كان جديرا بفضّ خلافاتهم لو تجنّبوا البغي ، ولقد كان العلم عند وصي موسى يوشع بن نون ، وكان الناس يعلمون ذلك ، إلّا أن حبّ الرئاسة وهوى السلطة لعب دورا خبيثا في إزالة الحقّ عن مرساه ، والولاية عن مستقرّها ، فاختلفوا أشدّ اختلاف.

ويضرب القرآن صفحا عن ذكر ويلات الاختلاف ، من حروب داخلية تؤدّي الى زعزعة أساس المدنيّة ، وغلبة الأعداء الخارجيين.

ولا ريب أنّ العلم هنا هو علم الدّين الذي يقضي على الاختلاف بين أصحاب الرسالة ، ولا يعني أيّ معلومات كانت ، لأنّ سلاطين الجور يحاولون أبدا الاستغناء عن علماء الدّين بمن يسمّى عالما من أصحابهم ، ويغرونهم ليصنعوا لهم فلسفة ومذهبا.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

إنّ الله سيقضي بينهم بالحق ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ولا تعجل عليهم ، واطمأن إلى أنّ الحق باق برغم التشويش عليه.

[١٨] (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ)

الشريعة : الطريقة الواضحة ، فقد جعل الله الرسول (ص) على الطريق الحق ، والدين الواضح.

(فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

ومن لا يتبع شريعة الله فإنّه يتبع «أهواء» قوم لا يؤمنون بالله ، وهذه مشكلة

٨٧

العلماء الذين باعوا دينهم (شريعة الله) بالدنيا فاتبعوا أهواء الطغاة ، ومن هنا فإنّ مسئولية العلماء الاستقامة على هدى الله ، بالرغم من كلّ الضغوط التي يمارسها أصحاب القوة والثروة.

وإذا بقي العلماء صامدين أمام أهواء الجاهلين فإنّهم يكونون مقياسا للحق ، ومحورا لأهله ، وقيادة موثوقة للثائرين من أجله.

أمّا إذا اتبعوا أهواء أولي القوة والمال فسوف يضيع الحق ، ويختلف الناس من بعد ما جاءتهم شريعة الله بغيا بينهم ، كما فعلت بنوا إسرائيل من بعد نبيّهم ، ودالت دولتهم ، وزالت الفضائل التي فضّلهم الله بها.

ونستفيد من الآية أنّ أهمّ بنود الشريعة هي التي تمنع الاختلاف ، وتحقّق العدالة ، وتقاوم البغي ، ولا ريب أنّ كلّ ذلك موجود في نظام الحكم عند الدين.

[١٩] ثم يهدّد ربّنا هؤلاء العلماء الغاوين الذين يتبعون أهواء الظالمين :

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً)

يوم القيامة ، فلا يدفعون عنك العذاب ، إذا أطعتهم وصاروا يستغلّونك من أجل تضليل الناس ، بل دخولهم النار.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)

فالأفحش ظلما يتولّى جمعهم ، ويذيقهم من ويلات ظلمه ما يشاء ، ثم يتسلسل الظلم نازلا حتى يصبح كلّ واحد منهم ظالما لمن دونه ، ومظلوما ممّن فوقه ، لا يذوقون برد العدالة والأمن أبدا.

٨٨

ومن أيّدهم دخل في حزبهم ، واحتمل وزر أعمالهم الذي يتجسّد في الآخرة عذابا شديدا ، أمّا في الدنيا فيشمله ظلمهم الناشئ في مجتمعهم.

وقد دلّت آية كريمة على أنّ الله يولّي الظالمين بعضهم (قد يكون أشدّهم ظلما) ، حيث يقول ربّنا : «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً» (١) ، وفي الحديث المعروف : «كما تكونون يولّى عليكم».

أمّا العلماء الذين يواجهون الظلم فإنّهم ينجون من آثاره في الدنيا وفي الآخرة.

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)

فهو سبحانه يؤيّد المتقين بنصره في مقاومة الطغاة.

[٢٠] (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ)

واضحة تهدي القلوب والعقول ، وطريقة للرؤية الصائبة ، ومنهج للتفكير السليم.

(وَهُدىً)

فالقرآن لا يكتفي ببيان البصائر ، بل ويقرّبنا حتى نلامسها ، ونتفاعل معها ، ونشهدها عن كثب ، وهذا هو الهدى.

(وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

إذ أنقذهم من الغواية والاختلاف ، وهداهم إلى شريعته الواضحة السمحاء.

أمّا الذين لا يوقنون ، وبالتالي لا ينفّذون أوامره في الأوقات الحرجة ، وبالذات عند اختلافهم ، فإنّ القرآن لا يغني عنهم شيئا ، ولعلّ الآية هذه تشير إلى ما تدلّ

__________________

(١) نهج البلاغة / ج (٢١١) / ص (٥٠٦).

٨٩

عليه الآية الكريمة : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (١).

[٢١] لان الدنيا دار ابتلاء فهي دار غرور يخيّل للإنسان ان المجرم والمحسن فيها سواء ، وما هي إلّا فتنة قصيرة الأمد ، وبعده يتميز المحسن بالثواب ، والمجرم بعقاب شديد.

ويوغل البعض في التمني والغرور حين يزعم أن الآخرة كما لبعض الحالات في الدنيا يتساوى بها المحسن والمسيء ، وهكذا تسوّل له نفسه الاسترسال في السيئات دون رادع ، كلا. إن ذلك حكم جائر بعيد عن سنن الله في الخليقة.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ)

والاجتراح : الاكتساب ، ونستوحي من الاية ان اجتراحهم للسيئات هو الذي جعلهم يظنون هذا الظن السيء ، ذلك لأن الشيطان يزيّن للإنسان عمله.

(أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ)

كلا فحياة المؤمن زاخرة بالاطمئنان ، والفلاح ، والأمل ، بينما يجعل الله صدر الكافر حرجا ضيّقا ، ويمنع عنه الالتذاذ الكافي بنعيم الدنيا ، ويجعله يأكل كما تأكل الانعام ، ويجعله عرضة للعذاب.

أما بعد الموت فان الملائكة يستقبلون المؤمنين بالترحاب ، بينما يغلظون على المجرمين ، ثم يتميزون الى الأبد عن بعضهم ، فهؤلاء في الجنة منعمون ، وأولئك في العذاب الأليم.

__________________

(١) الأنعام / (١٢٩).

٩٠

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ)

وعند هذه الآية تتلاشى الاماني التي يعيشها بعض المسلمين ، ويبررون بها اجتراحهم للسيئات ، فبعض يقول : سيغفر لنا ، وبعض يزعم انه يتوب قبيل وفاته ، وبعض يتشبث ببعض الطقوس ويزعم انها تغنيه عن الالتزام بالواجبات.

كلا .. ان ربنا عدل لا يجوز ، ولا يمكن أن يتساوى عنده المحسن والمسيء.

[٢٢] حين نتفكر في خلق الله في السماء التي تظلّنا ، في الأرض التي تقلّنا ، في الظواهر الطبيعية ، في الدورات النباتية ، في التفاعلات الحياتية ، في كل شيء ، فان حقيقة واحدة تتجلى بوضوح وهي : أنّ كل شيء حقّ ، ويدبر بحق. أرأيت الذي يزرع الشعير هل يحصد حنطة. كلا .. ولما ذا لا نتمنى للخامل ان يحصل على علم وافر ، وثروة طائلة؟ وكيف لا يحلم أحد ان تلد البقرة حصانا ، أو ان يطير الفيل في الجو كالغراب؟

لماذا العلم يتوغل في عمق الأشياء لمعرفة الأسباب والنتائج ، أو خصائص المعادن والنبات ، أو ليس لأن كل شيء خلق بحق ، ويجري ضمن سنة عادلة؟!

فكيف نتمنى إذا ان نجترح السيئات ويكدح ذلك المؤمن في إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والجهاد ، ثم نجني نحن وهو ثمرات متشابهة. هل رأيت مثالا واحدا في عالم الخليقة حتى تقيس نفسك به مثلا؟

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ)

ويتجلى هذا الحق في حياة الإنسان عبر سنة الجزاء.

(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

٩١

بلى. قد يتأخر الجزاء أو تخفى علاقته بالعمل ، قد يشرب المرء ماء ملوثا ثم يصاب بمرض خطير بعد مدة ، ولا يصدق أن شر به ذلك الماء كان سبب اصابته بالمرض. قد يعيش مجتمع التخلف ولا يعترف ان خموله ، وتمزقه ، وجهله سبب ويلاته ، ولكن سنة الجزاء جارية. علمنا بها أم لا ، وصدقنا بها أم لا.

٩٢

أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ

___________________

(٢٣) (غِشاوَةً) : غطاء.

٩٣

(٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)

___________________

(٢٨) (جاثِيَةً) : الجثو هو التهيؤ للقيام ، وذلك لأنّ الإنسان الخائف لا يجلس جلسة الاطمئنان بل يرفع ألييه من الأرض حتى إذا نودي أو جاء الفزع قام فورا بلا استبطاء ، والجثو يكون على الركب.

(٢٩) (نَسْتَنْسِخُ) : أي نأمر الكتبة بنسح أعمالكم ، والاستنساخ هو الأمر بالنسخ.

٩٤

أرايت من اتخذ إلهه هواه

هدى من الآيات :

يستعرض السياق في هذا الدرس وبعده صفات الكفّار ، كيف أنّهم اتخذوا أهواءهم آلهة عبدوها من دون الله لمّا أطاعوها ، وكيف ختم الله على سمعهم وقلوبهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، فمن يهديهم من دون الله؟! وأنّهم كفروا بما وراء الحياة حتى يحيي الله أمواتهم فيرونهم عيانا ، ولكن إذا قامت القيامة وجثوا على ركبهم ذلا وخشوعا فهل من محيص؟!

بينات من الآيات :

[٢٣] هناك علاقة وثيقة بين العقل والايمان ، فالعقل ينبعث من ذات المشكاة التي ينبعث منها الايمان ، فمن اتبع عقله هدي إلى الايمان ، ومن آمن أنقذ عقله ، أمّا من اتبع هواه فقد عطّل عقله ، ولن يهتدي إلى الايمان ، ويكون كمن أوصد منافذ قلبه حتى لا يصل إلى الحقيقة ، ولن يصل إليها ، وحين يتبع الإنسان هواه تكثر

٩٥

أنانيته وشهواته ، حتى لا يرى إلّا نفسه وما يخدمها مباشرة ، ويبلغ به حبّ الذات حدّ العبادة ، إذ يجعل ما تشتهيه نفسه شرعا يلتزم به ، وحينئذ يسجن في زنزانة نفسه ، ولا يؤمن بغيرها ، ولا يقدر أن يسمو بها إلى حالة الايمان بربّ العالمين.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)

لماذا يقول ربّنا : «أَفَرَأَيْتَ» ولا يخاطب من اتبع هواه مباشرة؟

والجواب :

أوّلا : لأنّ مثل هذا الإنسان ليس من السهولة أن يميّز خطأه ، بل هو كالميّت لا يستحقّ خطابا.

ثانيا : لكي يتخذ المخاطب حذره ، فلا يقع فيما وقع فيه عابد هواه ، ويتعلّم عبادة ربّه من عابد هواه ، كما قيل لذلك الحكيم : من أين تعلّمت الأدب؟ قال : ممّن لا أدب له ، عمل ما ساءني فلم أعمل مثله؟ كذلك يكفينا عبرة النظر إلى عاقبة من يعبد هواه ، فلا ندع شهواتنا الطاغية تستدرجنا إلى هذا المصير ، بل نعتبر الهوى أشدّ أعدائنا ، ونعتبر الوقوف أمامه شجاعة بالغة .. على أنّ أكثر الناس يطيعون أهواءهم بقدر معيّن ، إلّا أنّ من يتخذ هواه إلهه عبرة لهم ، ليعرفوا عاقبة الاسترسال مع الهوى.

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ)

إنّه ما أضلّهم إلّا من بعد أن أعطاهم العلم ، فاختلفوا بغيا بينهم ، وقيل على علم من الله أنّه يستحق الإضلال بسبب جحوده بعد اليقين ، وكفرانه بنعمة الهدى ، ويكون كلا التفسيران إلى معنى واحد.

٩٦

(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ)

فلا يسمعون ولا يعون الحقائق ، لأنّ الله أبعدها عنهم ، وهل يعطي ربّنا دينه من يعرف أنّه يكفر به سلفا؟!

(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً)

فعند ما يبصر الآيات لا يرى ما وراءها من العبر ، وما قيمة ظواهر الآيات إذا لم يهتد الإنسان إلى معانيها ، أو تنتفع من سماع لغة لا تعرفها ، أو ينتفع الأمّي إذا نظر في كتاب ، وهل يهتدي غير الطبيب إلى حقيقة المرض من رؤية أعراضه؟

كذلك نظرات الذين يعبدون أهواءهم تذهب عبثا ، لأنّ تركيزهم إنّما هو على ظواهر الأمور ، ولا يريدون بلوغ الحقائق فهم محجوبون عنها.

جاء في الحديث عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في صفة هؤلاء :

«أقبلوا على جيفة (الدنيا) قد افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبّها ، ومن عشق شيئا أعشى بصره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها ، حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل إليها» (١)

(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ)

لقد أنعم الله على الإنسان بالعقل ، وآتاه البينات ، فإن اهتدى فلنفسه ، وإن أساء ، واتبع هواه ، وانحرف عن هدى عقله ، وكذّب بالبيّنات ، سوف يضلّه الله.

__________________

(١) نهج البلاغة / ج (١٠٩) / ص (١٥٩).

٩٧

أرأيت من يعطيه العقل من بعد الله ، ومن يمنّ عليه بهدى البيّنات؟

والآية تحذّرنا من مغبّة الاسترسال مع الذنوب إلى أن تسدّ علينا منافذ الهدى كليّا فلا مناص من النار ، وقد قال ربّنا : «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» (١).

وجاء في الحديث عن الامام الباقر ـ عليه السّلام ـ : «ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة! إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه ، فيصير أسفله أعلاه ، وأعلاه أسفله» (٢).

قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه ، وإن زاد زادت ، فذلك الرين الذي ذكره الله تعالى في كتابه : «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» (٣).

وجاء في رواية أخرى عن الامام الصادق ـ عليه السّلام ـ : «إنّ الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء ، وفتح مسامع قلبه ، ووكل به ملكا يسدّده ، وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء ، وشدّ عليه مسامع قلبه ، ووكل به شيطانا يضلّه» (٤).

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ)

بهؤلاء وتعتبرون بهم.

__________________

(١) الروم / (١٠).

(٢) روضة الواعظين / ص (٤١٤).

(٣) المصدر.

(٤) بحار الأنوار / ج (٧٠) ص (٥٧).

٩٨

[٢٤] ويبرّر هؤلاء عبادتهم لأهوائهم بقولهم :

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)

لا شيء وراء ظاهرة الحياة والموت ، ولا حتى الله الذي قدّر هما ، وما الدهر سوى الطبيعة ، وهل للطبيعة إرادة وحكمة؟! أفلا ينظرون إلى السموات والأرض وما فيهما من عظمة التدبير ودقّة التقدير؟!

أفلا يهديهم العقل إلى أنّ لكلّ تدبير مدبّر ، ولكل تقدير مقدّر؟! ويبدو أنّ مرادهم من الموت فناء جيل ، والحياة نشأة جيل من بعدهم ، فالزمان في زعمهم يميت الأوّلين ، ويحيى من بعدهم الآخرين ، وهكذا في دورة متتابعة لا يعرف مبتداها ولا منتهاها ، وتبقى الأسئلة حائرة : من أين جئت ، إلى أين أسير؟ وينادي ليس ادري!

ويبدو أنّ هذه النظرية يفرزها القلب المختوم عليه بسبب عبادة الهوى ، وهي تحلّل الإنسان من كلّ قيد ، وتطلق عنانه في اتباع الشهوات حتى النفس الأخير ، وهي نظرية قائمة على أساس الفراغ العقيدي.

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)

أي يتخيّلون أن لا بعث ولا حساب ، أفينبغي أن نرسي بنيان أفكارنا وأساس مجمل ثقافتنا على قاعدة الظن بعيدا عن العلم؟! ولكن ماذا يملك من عبد هواه ، وأضله الله ، سوى الظنون؟! إنّ العلم أعظم نعمة ، وهو من عند الله ، فلو سلبه من أحد ، أترى يعرف شيئا؟ هل يقدر الحائط ـ مثلا ـ أن يعي ما في الحقل ، أم المكيال ما في البيدر؟! ولماذا؟ مستحيل أن يعرفا. أو ليس لأنّ الله لم يرزقهما العلم؟ كذلك محال أن يعرف من عبد هواه بداية الخلق ونهايته ، لأنّه قد سلب منه

٩٩

هذا العلم ، وقد تمّ إضلاله على علم.

الذي يرى الرياض الجميلة تتوق نفسه إليها ، ولكنّ الأعمى يظل يتخيّل ، ويقول ليس ثمّة شيء أبدا. دعه في ضلاله أبدا.

[٢٥] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ)

حتى تكاد تلزمهم بالحقيقة تهرّبوا منها دون أن يملكوا حجة ، بل :

(ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

وهل إذا أحياهم يؤمنون؟

كلّا .. إنّهم يبرّرون بذلك تهرّ بهم من مسئولياتهم.

[٢٦] (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ)

من بعد العدم ، بالقدرة التي خلق بها السموات والأرض من العدم.

(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ)

وليس الدهر كما زعموا أنّه يهلكهم.

ويبدو أنّ هناك فرقا بين الموت والهلاك : فالموت هو انفصال الروح عن الجسد ، أمّا الهلاك فهو اندثار الشيء ، وهو يتناسب مع الزوال بعذاب ومع الظروف التي تمحي آثار الميّت وكأنّه قد تلاشى ، كما استخدم الهلاك في قوله سبحانه : «وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ

١٠٠