من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

___________________

(١) (لا تُقَدِّمُوا) : لا تتقدّموا.

(٣) (يَغُضُّونَ) : يغضونها ولا يرفعونها.

٣٦١

لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ

بينات من الآيات :

[١] الامة المؤمنة أمة ملتزمة تسلم لقيادتها الشرعية بوعيها الديني ، وتستقبل أوامرها برضا واطمئنان ، وتحترم القيادة لأنها من عند الله ، وهي أشد حبا لله من كل شيء ـ ولأن أفئدة أبنائها قد طهرت من الكبر والعنجهية وامتحنت للتقوى ـ وهي لذلك أمة منضبطة لا تسترسل مع الأحداث بل تنتظر أوامر القيادة الراشدة ، ولا تجرفها رياح الفتن ، بل يقودها المنهج العلمي الرصين القائم على أساس التثبت والتبيّن.

هكذا أدب الله المؤمنين عند ما وجه إليهم بالذات خطابه قائلا :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

فقالوا لبيك يا رب.

٣٦٢

(لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ)

ما دمتم بين يدي الله يحيط بكم علمه وقدرته ، ويرعاكم بسمعه وبصره فلا تقدموا شيئا على أمر الله ، ولا تتقدموا قبل أن تستمعوا الى أمره وأمر الله يبينه رسوله الأمين ، الذي أنتم بين يديه ، أو ليس هو الامام والقائد.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

بلى. لا بد أن تستوعب التقوى كافة شؤون الحياة ، فما من شأن إلّا ولله فيه حكم لا يجوز تجاوزه ، والمتقون يبحثون أولا عن حكم الله قبل أن يبادروا بالعمل في أي حقل.

ومن هنا وجب التفقه في الدين وتعلم أحكامه تمهيدا للعمل بها ، وجاء في الحديث المروي عن الامام الصادق (عليه السّلام) في تفسير قول الله سبحانه (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) قال :

«إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالما؟ فان قال نعم قال له : أفلا عملت بما علمت ، وإن قال : كنت جاهلا قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل فيخصم بتلك الحجة البالغة» (١).

وإذا لم يجد المؤمن في الفقه حكم الحوادث المستجدة أو المتطورة فان عليه أن يراجع الفقهاء الذين يستنبطون ذلك الحكم من القواعد العامة الموجودة في الشريعة. ذلك انه ما من حادثة إلّا وللدين فيها حكم ، ابتداء من بصائر الوحي في حكمة الحياة ، ومقاييس المعروف والمنكر حتى حكمه في أرش الخدش.

قال الله تعالى : «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٢ / ص ٢٩

(٢) الانعام / ٣٧

٣٦٣

وقال رسول الله في حجة الوداع :

«أيها الناس! اتقوا الله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به» (١).

وجاء في الحديث الشريف عن أبي أسامة قال كنت عند أبي عبد الله الامام الصادق (عليه السّلام) وعنده رجل من المغيرية (أتباع المغيرة بن سعيد وكان من الغلاة لعنة الله عليه ولعله كان يقول بالتفويض) فسأله عن شيء من السنن فقال : «ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلّا وقد خرجت فيه السنة من الله ومن رسوله ، ولولا ذلك ما احتج علينا بما احتج».

فقال أبو عبد الله قوله : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً». فلو لم يكمل سنته وفرائضه وما يحتاج اليه الناس ما احتج به (٢).

وقال عليه السّلام : «ما رأيت عليا قضى قضاءه إلّا وجدت له أصلا في السنة. قال وكان علي يقول : لو اختصم إليّ رجلان فقضيت بينهما ثم مكثا أحوالا كثيرة ثم أتياني في ذلك الأمر لقضيت بينهما قضاء واحدا لأن القضاء لا يحول ولا يزول» (٣).

وسواء كان الحكم الالهي واردا في خصوص المورد أو في الأصل العام الذي يشمله فانه بالتالي حد لا يمكننا تجاوزه ولا يجوز لنا أن نزعم أن الله فوض أمره إلينا ، وحتى الأئمة المعصومون كان لا بد لهم الفتيا وفق الكتاب والسنة ، وقد أكدوا ذلك

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٢ / ص ١٧١

(٢) المصدر / ص ١٦٩

(٣) المصدر / ص ١٧٢

٣٦٤

لنفي مزاعم بعض القائلين بالتفويض.

فقد سأل رجل أبا عبد الله الامام الصادق (عليه السّلام) فأجابه فيها فقال الرجل : إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها (لعله زعم ان الافتراضات الجديدة لا حكم لها في الشريعة) فقال له : «مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله لسنا نقول برأينا من شيء» (١).

وروي سماعة عن الامام أبي الحسن عليه السّلام أنه قال : قلت له كل شيء تقول به في كتاب الله وسنته أو تقولون برأيكم؟ قال : «بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنته» (٢).

فلكي لا نتقدم على الرسول ، ولا يسوقنا الهوى والجهل لا بد من التفقه في الدين ومعرفة أصول الحكم فيه والانبعاث منها لمعرفة الحياة وتفاصيل سلوكنا فيها.

[٢] ذلك كان أدب التعامل مع الرسول (ص) والقيادة الرسالية ، وأما أدب التحادث معه فقد بينته الآية التي تخاطب المؤمنين للتذكرة بأن مثل هذه الآداب من علائم الايمان ومن شروطه. وقد جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر عليه السّلام أنه ما خوطب المسلمون بهذه الكلمة إلّا عند إسلام الأوس والخزرج قال الامام :

ما سلت السيوف ، ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف (حرب) ولا جهر بأذان ، ولا أنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج (٣).

__________________

(١) المصدر / ص ١٧٣

(٢) المصدر

(٣) نور الثقلين / ج ٥ / ص ٨٠

٣٦٥

ويبدو أن سبب ذلك تكوّن المجتمع الاسلامي عند إسلام هاتين الطائفتين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ)

وتتسع الآيات للأحكام التالية :

أولا : إذا تحدثوا الى الرسول خفضوا أصواتهم احتراما للرسول ، وللوحي الذي يحتمله .. إن هذا السلوك المهذب يعكس مدى احترام الأمة للرسول وللقيادة الوريثة ، ذلك الاحترام الذي يساهم في تنفيذ القرارات بوازع نفسي وبيسر وبلا تكلف.

ثانيا : لا يجادلون الرسول فيما يأمر به ، فهو من أبرز مظاهر رفع الصوت عند الرسول ، ولا يجادلوه بما يؤذيه.

ثالثا : إذا قضى الرسول بشيء يسلموا له ولا يرفعوا صوتهم بالمعارضة.

وقد ذكر المفسرون في أسباب نزول هذه الآيات موارد شتى تنطبق على كل هذه الأحكام ، ولعلهم كانوا يقصدون تأويل الآية ، وتطبيقها على تلك الموارد.

فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم : أنها نزلت في وفد بني تميم كانوا إذا قدموا على رسول الله وقفوا على باب حجرته فنادوا يا محمد أخرج إلينا ، وكانوا إذا خرج رسول الله تقدموه في المشي ، وكانوا إذا كلموه رفعوا أصواتهم فوق صوته ويقولون : يا محمد (يا محمد) ما تقول في كذا كما يكلمون بعضهم فأنزل الله هذه الآيات (١).

وهذا تأويل يتطابق وأول الأحكام التي استوحيناها من الآية الكريمة ، وهو ظاهر الآية.

__________________

(١) المصدر

٣٦٦

وروى البخاري أن الآية نزلت في أبي بكر وعمر حين قدم على النبي ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجل آخر فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلّا خلافي فقال : ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله عزّ وجلّ الآية (١).

وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذ مضى الى خيبر فأشار عليه عمر برجل آخر فنزلت الآية (٢).

وهذان الحدثان يتناسبان والحكم الثاني والثالث ، مما يشهد على أن للآية تطبيقات عديدة يجمعها النبي عن معارضة الرسول بأي صورة ما كانت.

(وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)

كانوا إذا حضروا رسول الله خاطبوه باسمه بعيدا عن جلال النبوة ، وكان المنافقون بالذات يرفعون أصواتهم ليسقطوا أبهة القيادة عن أعين الناس ـ فجاء القرآن ينهاهم عن ذلك ويعلمهم أدب الحديث مع الرسول ـ ومن خلال ذلك مع كل قيادة شرعية.

ولعل الآية تشمل النهي عن انتقاد آراء القيادة الرسالية علنا ، مما يسبب وهنا في عزيمة الأمة وتقليلا من شأن مصدر القرار.

من هنا قال البعض : إن حرمة كلام النبي اليوم كحرمته في مشهده ، فاذا قرئ على جمع كلامه وجب عليهم أن ينصتوا اليه ، لأن حديثه وحي من عند الله. ألم يقل ربّنا سبحانه : «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» فذات

__________________

(١) تفسير القرطبي (باختصار) / ج ١٦ / ص ٣٠٣

(٢) المصدر / ص ٣٠١

٣٦٧

الملاك الذي فرض به الإنصات عند تلاوة القرآن موجود في سنة الرسول. وقد قال ربّنا سبحانه : «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» (١).

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ)

لما ذا يسبب الاستخفاف بالقيادة الشرعية حبطا في العمل؟ لعل السبب يتلخص في أمرين :

أولا : إن أغلب الفرائض تروّض النفس وتطهّرها من الكبر. فاذا طغت النفس وتكبرت على القيادة الشرعية فقد تبين ان هدف الفرائض لم يتحقق ، فاحبطت الصلاة التي تكرس الذاتية ، بدل الخشوع ، والزكاة التي تزيد الهوة والطبقية في الامة ، والحج الذي يورث صاحبه التعالي والتفاخر ، والصيام الذي لا يورث التقوى في النفس ، إنّها جميعا عرضة للاحباط لأنها لم تحقق أهدافها.

ثانيا : إن الولاية عمد الدين ، فاذا سقط العمد ماذا يبقى من الدين؟ أليس الدين نظام اجتماعي متكامل يدور حول محور القيادة الشرعية؟ فاذا ذهبت أنهار كل شيء.

(وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)

إن أعظم الأمراض خطرا ذلك المرض الذي لا يحس به المبتلى ، لأنه لا يبادر لمعالجته وقد لا يقتنع بالمعالجة ، كذلك أخطر الذنوب الذنب الذي لا يشعر به المتورط فيه لأنه يسير به في طريق جهنم وهو يزعم أنه من أهل الجنة ، ومخالفة القيادة من هذه الذنوب قال الله سبحانه : «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ

__________________

(١) الأعراف / ٢٠٤

٣٦٨

سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (١).

ونتساءل:لماذا لا يشعر الإنسان بخطورة مخالفة القيادة الشرعية أو الاستخفاف بها؟

ويبدو ان النفس تسول لصاحبها بعض الذنوب بصورة تجعلها حسنات ، فهي كمرض النوم (تسي تسي) يجعل ضحيته يخلد الى النوم حتى الموت ، وكلما اقترب الى نهايته كلما أوغل في اللاوعي.

ثم ان حبط العمل بذاته من الأمور التي يصعب التحسس بها. أرأيت لو قيل لك أن ثواب حجتك التي أرهقت بها نفسك ، وأنفقت فيها مالا كثيرا قد ذهب أدراج الرياح بمجرد رفع صوتك في مجلس القيادة الشرعية. لا تصدق بذلك بسهولة ولكنه هو الواقع.

وأبسط دليل على تزيين الشيطان لنا مخالفة القيادة الشرعية ان المسلمين اليوم ـ كما في التاريخ ـ يتولون عن قيادتهم دون أدنى إحساس بالذنب ، بل ترى الكثير منهم يزعم أن لا علاقة للدين بشؤون الحياة الفعلية ، فلا حاجة الى الامام والقيادة الشرعية اليوم.

[٣] هل تريد أن تعرف مدى قبول أعمالك الصالحة ، قبل يوم القيامة ، أي قبل فوات الأوان؟ إذا تعال وقس نفسك بميزان القرآن كيف؟ أليست الفرائض ذات حكم وفوائد تتجلى في حياة البشر؟ بلى. إذا دعنا نقيس أنفسنا بمدى تحقق تلك الحكم والفوائد في أنفسنا وواقعنا من خلال الفرائض.

هل قبلت صلاتك أم لا؟ أنظر الى نفسك هل انتهت عن الفحشاء والمنكر

__________________

(١) الكهف / ١٠٤

٣٦٩

واقتربت الى ذكر الله. فان كانت ، فقد قبلت صلاتك.

وهل تقبل منك الصيام؟ انظر الى مدى التقوى في نفسك ، فان زادت تقواها ، فقد تقبّل صيامها.

وبكلمة : إذا وجدت في نفسك علائم الايمان فاعرف بقبول إيمانك. ومن أبرز علائمها التسليم لقيادة الرسول من دون حرج ، ورعاية آداب التعامل معه ، فذلك دليل زكاة القلب ، وطهارته بالايمان.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى)

وإذا كان معنى الامتحان لغويا تطهير الذهب من الشوائب بصهره ، فان امتحان القلب بمعنى تزكيته من الشك والشرك والكبر والحسد حتى يتهيأ للتقوى أي اتقاء الشهوات والذنوب ظاهرا وباطنا.

أما إذا كان الامتحان ـ في اللغة ـ بمعنى امتداد الجلد فمعناه هنا اتساع القلب للمعارف الإلهية مما يجعله يستوعب كلمة التقوى.

إن التقوى بذرة مباركة لا تنمو إلّا في الأرض النقية.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)

لأن طاعة الرسول (والقيادة الشرعية) والتأدب في حضرته واحترام مقامه ، إنها جميعا تشفع للذنوب فيغفرها الله ، كما ان معصية الرسول والاستخفاف بمقامه ومجافاته تحبط الأعمال الصالحة.

٣٧٠

[٤] أما الذين لم تصقل آداب الرسالة نفوسهم ، ولم تصلح سلوكهم فتراهم يغلظون القول مع الرسول ، ويرفعون أصواتهم فوق صوته ، ولا يراعون حرمة البيوت التي لا بد أن تحجرهم عن الإيذاء .. فإنهم لا يعقلون ، وأي عقل لمن لا يحترم مقام الرسالة ، ولا يكرم العلم ولا يعترف بدور القائد القائم بتنظيم الحياة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)

ولماذا أنشأت الحجرات؟ أليس لتكون سورا تحجر الأذى عمن يسكنها؟

فمن معالم المدنية احترام البيوت ، وعدم انتهاك حرمتها ، سواء بدخولها عنوة أو بإلقاء حجارة أو أذى عليها أو بتسبيب أذى لأهلها ، مثل رفع الصوت المزعج أو إثارة الغبار المؤذي أو تلويث البيئة المضر بأهل البيت ، كل ذلك يعتبر انتهاكا لحرمة البيت ، ومخالفة لحكمة وضع البيوت ، وتعديا على مكان أمن الناس ، ولعله لذلك سميت هذه السورة بالحجرات ، لأن الحجرة تشكل ظاهرة حضارية ، خصوصا إذا كان في الحجرة شخص رسول الله صلّى الله عليه وآله.

جاء في الأثر عن سبب نزول هذه الآية عن زيد بن أرقم أتى أناس النبي صلى الله عليه وآله فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا الى هذا الرجل فان يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه وإن يكن ملكا نعش في جنابه ، فأتوا النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد يا محمد! فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

[٥] إن للقائد ظروفه الخاصة ، ومهامه التي تكون ـ غالبا ـ ذات صبغة عامة ، ولا بد للناس من رعايتها حتى يسهل عليه أداؤها بأفضل وجه .. أما إذا زاحموه خصوصا في الشؤون الخاصة ، وخلطوا عليه الأوراق ثم انصرف عن مهامه العامة

__________________

(١) تفسير القرطبي / ج ١٦ / ص ٣٠٩

٣٧١

فان الضرر يكون عليهم جميعا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)

فما دام القائد هو الذي بيده القرار وعليه مسئولية التنفيذ فلا بد من إعطاء صلاحية ذلك له ومنحه الفرصة المناسبة ، وعدم التدخل في جزئيات عمله.

ثم إن الرسول حين يكمل أعماله في البيت ثم يخرج إليهم يكون أكثر استعدادا لاستقبالهم وبالتالي يكون خيرا لهم.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

فلو لم يراع أحد هذه الآداب مع الرسول وارتكب بذلك خطيئة فلا ينبغي أن يقنط من رحمة الله.

جاء في الأثر : إن ثابت بن قيس بن شماس كان رفيع الصوت فافتقده النبي صلى الله عليه وآله فقال رجل : يا رسول الله أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده جالسا في بيته ، منكسا رأسه ، فقال له : ما شأنك فقال : شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي فقط حبط عمله وهو من أهل النار فأتى الرجل النبي صلّى الله عليه وآله فأخبره انه قال كذا وكذا ، فقال النبي : «اذهب اليه فقل له : إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة» (١).

__________________

(١) المصدر / ص ٣٠٤

٣٧٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)

___________________

(٧) (لَعَنِتُّمْ) : لوقعتم في العنت ، والعنت هو المشقّة.

٣٧٣

إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا

هدى من الآيات :

لكي نحصن التجمع الاسلامي من التهافت والتآكل لا بد أن ننمي فيه احترام القيادة الشرعية ، ونحصنه من إشاعات الفاسقين الذين دأبهم تخريب العلاقات ، ونجعل قرار الرسول (أو من يخلفه) هو الحكم الفصل في العلاقات ، ونشكر الله (بذلك) على إسباغ نعمة الايمان علينا حين حببه الى نفوسنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق. أو ليس ذلك فضل عظيم ونعمة من الله (اجتبى لهما الصالحين من عباده) بعلم وحكمة؟

والملاحظ ان السياق كرس القيادة الاسلامية واحترامها قبل كل شيء ، لأنها الضمانة لسائر التعاليم كما أكد على مسئولية الامة تجاه الصلح بين طوائفها ضمانة أخرى لذات التعاليم.

٣٧٤

بينات من الآيات :

[٦] في كتاب ربنا الكريم شفاء لأمراض المجتمع المستعصية لو استشفيناه ، ونفذنا تعاليمه .. والصراع أعظم تلك الأمراض الذي يقتلع نهج القرآن جذوره البعيدة. ألا ترى كيف يحصن التجمع الايماني من رياح الفتنة بتذكير المسلمين عن دور الأنبياء الكاذبة التي يبثها الفسقة فيفرقون بين الناس .. ونهيهم عن الاسترسال معها ، لأنها تؤدي الى معارضة قوم أبرياء مما يجر إليهم ندامة وجسرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)

ذلك ان دوافع الفاسق ومنطلقاته شيطانية فقد يكذب أو يمشي بنميم أو ينقل جانبا من الحقيقة ويسكت عن سائر الجوانب .. فاذا قبلناه على علّاته فسوف نقع في أخطاء جسيمة ، أبرزها إثارة الفتن في المجتمع.

الفاسق الذي تجاوز الحدود الالهية لا يمكنه أن يكون موجها للامة ، ومجرد الاستماع الى نبأه دون تحقيق وتثبيت يجعله في مقام التوجيه.

(أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)

أي لكي لا يورطكم الفاسق في معارضة فئة مؤمنة من دون تحقيق منكم ، ثم تندموا بعد فوات الأوان ..

ونستوحي من الآية عدة بصائر :

أولا : إن أكثر الصراعات الاجتماعية التي تعصف بالمؤمنين منشأها الفاسقون الذين لا تروق لهم وحدة المؤمنين فيثيرون الفتنة بينهم. وحين نتفكر في واقع المسلمين اليوم نجد ان الذين يذكون نار الصراع بينهم هم في الأغلب أبعد الناس

٣٧٥

عن القيم ، وقد تكون سوابقهم السيئة وأحقادهم ضد الإسلام ، وخشيتهم من الفضيحة هو السبب في تطرفهم ضد هذه الطائفة أو تلك.

وإذا استطاع المؤمنون إبعاد أثر الفسقة عن تجمعاتهم قدروا على سد أكبر ثغرة تهدد كيانهم!

ثانيا : واليوم حيث يتعرض المسلمون لغزو ثقافي وهجمة إعلامية عبر ألوف المؤسسات الدعائية المتنوعة ترانا أحوج مما مضى الى تنفيذ هذه الوصية الالهية أن نتبين عما يقولون لأنهم فسقة لا يتقون الله فيما يقولون ، هذه الوكالات الخبرية التي تمولها وتقودها الرساميل والأنظمة هل تلتزم بالصدق؟ هذه الصحف الصفراء التي تنطق باسم المترفين والطغاة هل ترعى جانب الحق؟ هذه الاذاعات التي تصب في آذاننا وأذهاننا كل يوم شلالا من المعلومات المختلطة هل نضمن صدقها؟ كلا .. إذا لا بد من التثبت ، ولكن كيف؟ لأن حجم الأفكار والأخبار التي تبث عبر أجهزة الدعاية كبير ، فأن قدرة الأفراد على التثبت منها محدودة ، فلا بد إذا من وجود مؤسسات موثوق بها تقوم بدور المصفاة وتنتقي السمين وتقدمه للمؤمنين.

هذه المؤسسات قد تكون معاهد ومراكز للدراسات والبحوث ، وقد تكون تنظيمات دينية ، وقد تكون خبراء أكفاء يرجع إليهم المؤمنون في توثيق المعلومات ، وقد تكون مؤسسات إعلامية بديلة ، إذاعة صادقة ، صحيفة ملتزمة أو وكالة للأنباء موثوق بها.

ثالثا : وأنى كانت هذه المؤسسات فانها أعمال اجتماعية لا ينتظم أمرها إلا تحت إشراف القيادة الشرعية للامة ، فمن دون القيادة تذهب جهود الأفراد سدى ، لأن مثل هذه الأعمال الكبيرة لا ينهض بعبئها آحاد الناس ، كما انه لو لم تكن القيادة شرعية فانها بذاتها تصبح مبعث الخطر ، ولمثل هذا يذكر السياق القرآني بنعمة

٣٧٦

الرسالة والرسول وضرورة العودة إليه.

رابعا : إن خبر العادل حجة. قالوا بالرغم من ان الآية لا تدل على حجية خبر العادل صراحة وبصورة مباشرة ، بل بما يسمى لديهم بمفهوم الوصف الذي لا حجية فيه عندهم ، إلا ان فائدة بيان الوصف هنا ليست إلا أن الحكم يدور مداره مثل أن نقول : إذا تعاملت مع أهل الباطل فاشهد عليهم ، وإذا ذهبت الى زيارة المريض فتجنّب مواكلته ، وإذا زرت بلاد الكفر فتزوّد بالبوصلة لصلاتك .. وما أشبه.

وأقول : كما أن النفي يتركز في سور الكلمة أو شرطه أو صفته ، كذلك الشرط ، فاذا قلنا : لا أعطيك كل نقودي ، ولا تشرب اللبن إذا أكلت السمك ، ولا تمش في الأرض مرحا ، فان معناه نفي كلية النقود فلو أعطى بعضها لم يخالف وعيده ، أو النهي عن شرب اللبن مقارنا مع أكل السمك ، (أو كل النهي عن الجمع بينهما) وكذلك النهي عن مشية المرح لا كل شيء.

كذلك الشرط فلو قال : إذا جئتني صباحا أكرمتك أو إذا رأيتك شامتا قليتك وما أشبه. فان الشرط يلحق أضيق حلقات الكلام ، أي وقت الصباح أكرمك وعند الشماتة أقليك وكذلك الشرط هنا : إذا جاءكم فاسق بنبإ .. فان الشرط مقصود وغرضه تحديد النتيجة بأضيق الحدود ، وهو كون المخبر فاسقا ، ولهذا قال الأولون : إن هذا من مفهوم الشرط وليس من مفهوم الوصف والله العالم.

خامسا : ماذا يعني التبين؟ يبدو أنه يشمل كل أسلوب يؤدي الى حالة الوضوح عند الإنسان ، ولأن الله قد خاطب عامة المؤمنين بهذه الكلمة ، فان مفهوم التبين يكون عرفيا أيضا ، بمعنى أن كلما تطمئن إليه نفس الإنسان العادي ، حتى لا يبقى فيه شك معقول أو ارتياب يعتني به العقلاء كاف حجة عند الله في الموضوعات.

٣٧٧

فسواء أكانت البينة (شهادة عدلين) أو الشياع المفيد للطمأنينة ، أو شهادة الخبراء من خلال مجموعة متراكمة من الشواهد والآثار أو خبر العاقل العادل فانه من التبين عند العقلاء .. على أن العقلاء لا يعتمدون على بعض هذه الأدلة إذا كانت الظروف المحيطة باعثة للشك الحقيقي مثلا : الشياع الذي يعتقد أن منشأه شائعة مغرضة لا يورث طمأنينة في النفس فهو إذا ليس بحجة.

كما ان خبر العادل فيما لا يخفى عند غيره يرتاب فيه العقلاء إذا انفرد به كما لو أنبأنا بأن الاذاعة الفلانية نشرت هذا الخبر ، علما بأنها لو نشرته لسمع أكثر الناس وتناقلوه .. أو أخبر برؤية الهلال في ليلة صافية مما نعلم أنه لو رآه هذا العادل لرآه غيره أيضا ، وإذ لم يشهد برؤيته غيره فان العقلاء يشكون في كلامه. كذلك الحوادث الخطيرة لا يعتمد العقلاء عادة على الخبر الواحد فيها مثل الحروب ..

عموما : حالة التبين تختلف عند العقلاء حسب الموضوعات فلا بد من الالتفات الى ذلك ، ولعل الحكمة التي سيقت في خاتمة الآية هي محور الحكم فعلينا أن ندور مداره ، ونتفكر كيف نتجنب الوقوع في الجهالة والندم.

[٧] كيف تتموج الفتنة في المجتمع المسلم؟ إنها تشرع بشائعه تتلقفها الألسن ثم لا تلبث أن تتحول الى تيار يجرف معه البسطاء ، والانتهازيين ، والفوضويين آنئذ تطفق الفتنة وأصحابها بالضغط على القيادة الشرعية التي عليها أن تختار بين الاستسلام لعاصفة الفتنة ، أو خسران شريحة اجتماعية ، فما هو الحلّ؟

الحل ينحصر في تجلي المجتمع بروح الانضباط وأن يعي الجميع أبعاد نعمة القيادة فيشكروها شكرا عمليا. حقا إن المجتمع الذي يعي أهمية القيادة الشرعية يتحصن ضد عواصف الفتنة الداخلية بذات الصلابة التي يقاوم بها قواصف التحديات الخارجية. لذلك يأمر القرآن بأن نعلم دور الرسول فينا (ثم من يخلفه

٣٧٨

ويرث مقامه بدرجة ما).

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ)

فهو إذا مبعوث من عند الله يحمل رسالة الحكمة والمعرفة والبصيرة ، وما دام كذلك فلا بد من الرجوع إليه عند الفتن والشبهات ، ولا يجوز الضغط عليه بقبول آراءكم وشهوات أنفسكم ، لأن ذلك ليس من مصلحتكم.

(لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)

وكيف لا تصيبهم المشقة والعنت وقد خالفوا العلم الى الجهل ، والحكمة الى الجهالة.

جاء في الأثر : في سبب نزول الآية أو تأويلها على عهد الرسول ما يلي :

أولا : إن النبي صلّى الله عليه وآله بعث الوليد بن عقبة ليجمع الصدقات من بني المصطلق فلما أبصروه أقبلوا نحوه للترحاب به ، ولكن خشيهم وهابهم ويبدو أنه كان بينه وبينهم عداوة فخافهم على نفسه أن يقتلوه أو كانت في نفسه ضغينة تجاههم ، فأراد أن يمكر بهم (أو تظاهر بذلك) فرجع الى النبي صلّى الله عليه وآله فأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام.

فبعث نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروا فعاد إلى نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية وكان يقول نبي الله : «التأني من الله والعجلة من الشيطان». (١)

__________________

(١) بتصرف عن القرطبي / ج ١٦ ـ ص ٣١١

٣٧٩

ويبدو من بعض الأخبار ان طائفة من المسلمين كانوا يصرون على النبي بالخروج إليهم وقتالهم قبل التثبت من أمرهم ، ولعل مؤامرة حاكها الحزب الأموي والمنافقون المؤيديون لهم ضد المسلمين ، ومنها نفذ الوليد طرفا منها ، بينما أراد الآخرون تنفيذ سائر جوانبها.

ثانيا : جاء في الأثر ان الآية نزلت في قصة الافك على بعض الروايات. فقد ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره انها نزلت في مارية القبطية أم إبراهيم (عليه السّلام) ، وكان سبب ذلك أن عائشة قالت لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : إن إبراهيم ليس هو منك وإنما هو من جريح القبطي ، فانه يدخل إليها في كل يوم ، فغضب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وقال لأمير المؤمنين (عليه السّلام) : خذ السيف وأتني برأس جريح ، فأخذ أمير المؤمنين (عليه السّلام) السيف ثم قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنك إذا بعثتني في أمرك أكون فيه كالسفود (١) المحمي في الوبر فكيف تأمرني أثبت فيه أو أمضي على ذلك؟ فقال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : بل تثبت ، فجاء أمير المؤمنين الى مشربة أم إبراهيم فتسلق عليها فلما نظر اليه جريح هرب منه وصعد النخلة ، فدنا منه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له : انزل فقال له يا علي اتق الله ما هاهنا أناس اني مجبوب (٢) ثم كشف عن عورته فاذا هو مجبوب ، فأتى به رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : ما شأنك يا جريح؟ فقال : يا رسول الله ان القبط يحبون حشمهم ومن يدخل الى أهليهم ، والقبطيون لا يأنسون إلا بالقبطيين ، فبعثني أبوها لأدخل إليها وأخدمها وأونسها ، فأنزل الله عزّ وجلّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية. (٣)

__________________

(١) السفود : حديدة يشوى عليها اللحم

(٢) المجبوب : الخصي

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٨١

٣٨٠