من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)

المشرك ليس الذي يعتقد بإله مع الله ، بل الذي يخضع لقيادة لم يأمر بها الله فالذي يرضى عمليا بالحاكم الظالم ، أو يطيع أمره في معصية الله مشرك ، وإن لم يعتقد بأنه ربّ وإله ، كما ان من يطيع هواه فهو عابد له ، وهو بذلك يستحق العذاب ، وربنا يأمر الملكين بالقائه في جهنم.

(فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ)

والإلقاء لا يكون إلّا من الأعلى إلى الأسفل ، وإنما يفعل بأهل النار كذلك ، لأن الله خلق الإنسان في مرتبة عالية فضله بها على الكثير من خلقه ، فاذا أشرك به وانحرف عن الصراط بدأ سيرته التسافلية والإلقاء في جهنم من الأعلى إلى الأسفل هو تجل لهذه الحقيقة التي تبينها سورة التين في قوله تعالى : «(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (١) أما حينما يستمر على خط الفطرة ويتمسك بحبل الله المتمثل في رسالته وأوليائه ، ويستزيد من عمل الصالحات فانه ينطلق في مسيرة تصاعدية نحو الأعلى ، يتقرب إلى الله درجة بعد أخرى «(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢).

[٢٧] وحيث يلقى المشرك في جهنم يظل يهوي إلى الأسفل مدة من الزمن حسب انحرافه وسيئاته إلى أن يحل في مكانه المعد له بين يدي عذاب إلهي شديد ، وهناك كما عند الحساب يلقى قرناءه عملا فيدور بينهم خصام شديد يلقي كل طرف فيه اللوم على الطرف الآخر محاولا بذلك التهرب من المسؤولية ، فاذا بالذي

__________________

(١) التين / ٤ ـ ٥

(٢) المطففين / ١٨ ـ ٢١

٤٨١

جعل مع الله آلهة أخرى ـ وقد أمر به إلى النار ـ يريد التخلص من عذابها بإلقاء مسئولية انحرافه وضلاله على قرينه.

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ)

إنه كاذب في ادعائه بانني السبب في طغيانه ، ثم يستدل قائلا :

(وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)

ربما يكون للآخرين دور في انحراف مسيرة الإنسان ولكنه لا يعدو كونه مساعدا ، أما الدور الأكبر والسبب الحقيقي مرهون باختياره وإرادته للباطل دون الحق ، فلأنه أساسا اختار الضلال تجد مساعي الآخرين والظروف المتجانسة مع اختياره موقعا مؤثرا في حياته.

[٢٨] ثم إن التخاصم عند الله لا ينفعهم شيئا وذلك لما يلي :

أولا : إن المصير الذي صاروا اليه لم يكن مفاجئا ولا غامضا بالنسبة لهم. وكيف يكون كذلك وقد أقام الله الحجة البالغة عليهم ، وأنذرهم من هذه العاقبة ، عبر كتبه ورسله؟

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)

وأنذرتكم من أن الشرك والضلال يستوجب العذاب الشديد ، وضربت لكم المثل تلو المثل من حياة الأقوام السابقة (الآيات ١٢ إلى ١٤) ولكنكم كذبتم النذر ، واستهزأتم بالوعيد ، والقرآن يفصل هذه الحقيقة في موضع آخر ، يقول تعالى : «(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ*

٤٨٢

وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)». (١)

[٢٩] ثانيا : إن لله سننا وقيما في هذه الحياة ، جعلها حاكمة وجعلها الميزان في كل قضية ، وعلى أساسها يكون حساب الناس ومصيرهم ، وهي ثابتة لا تتغير. ومنها ان جزاء الكافر والمشرك النار وجزاء المؤمن الجنة ، ولا يمكن أن يكون العكس وإلّا فما هي حكمة الحياة الدنيا ، وما هو دور النذر إذا لم يجعل الله للثواب والعقاب نظاما محددا؟!

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ)

ومن القول الثابت الذي تعنيه هذه الآية ما جاء في سورة (ص) عند ما أقسم الشيطان أن يغوي العباد فردّ الله عليه : «قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ* لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (٢).

ثالثا : إن العدالة الإلهية تأبى ذلك ، إذ كيف يستوي المحسن والمسيء؟! أم كيف يصير الظالم إلى جانب المظلوم في الجنة دون أن يقتص من الأول ، وربما فات الأخير الثأر في الدنيا؟! أترى من العدالة أن يدخل الجنة المانع للخير والممنوع عنه؟! أو المعتدي والمعتدى عليه؟! أترى يدخل ابن ملجم الجنة مع الامام علي وقد فجع المسلمين بقتله؟! أم يدخل يزيد الجنة مع الحسين وقد ذبحه كما تذبح الشاة وهو ابن خاتم الأنبياء ، وسيد الأوصياء ، وسيدة نساء العالمين؟! .. كلا. وحاشا لله عزّ وجلّ وهو العادل أن يفعل ذلك ، وهذا كتابه ينطق عنه قائلا :

(وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)

__________________

(١) الملك / ٨ ـ ١١

(٢) ص / ٨٤ ـ ٨٥

٤٨٣

وإلى هذا المعنى يشير دعاء الامام علي (ع) حيث يناجي ربه قائلا : «فباليقين أقطع صادقا لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلها بردا وسلاما ، وما كان لأحد فيها مقرا ولا مقاما ، لكنك تقدست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين من الجنّة والناس أجمعين ، وأن تخلد فيها المعاندين ، وأنت جلّ ثناؤك قلت مبتدئا وتطولت بالانعام متكرما ، (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١).

[٣٠] رابعا : وأخيرا يثير القرآن في أذهاننا وبصورة غير مباشرة تساؤلا هاما وهو لماذا خلق الله النار؟ هل خلقها عبثا وكيف يصدر منه ذلك وهو الحكيم الخبير. وقد قال في كتابه : «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» (٢)؟!

إذن ما هو هدف خلق النار؟ والجواب واضح نجده في كثير من آيات القرآن ألّا وهو مجازاة العاصين لله ، كما إن الجنة خلقت لاكرام المطيعين.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)

وهذه الآية وآيات أخرى في القرآن تفند ما ذهب اليه البعض من انه لا يوجد عذاب عند الله وعللوا ذلك بأنه عزّ وجلّ رؤف خلق عباده ليرحمهم لا ليعذبهم ، ومن هذا المنطلق راحوا يؤولون الآيات التي جاءت بصدد التحذير والوعيد بأنها لمجرد التخويف حتى يطيع الناس ربهم ، وإلّا فهي لا واقع لها.

__________________

(١) مفاتيح الجنان / دعاء كميل / طبعة دار إحياء التراث العربي المخطوطة / ص ٦٦.

(٢) الأنبياء / ١٦ ـ ١٨

٤٨٤

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا

___________________

(٣٢) (أَوَّابٍ) : من آب بمعنى رجع ، أي كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والتذكّر.

(٣٦) (فَنَقَّبُوا) : كأنّ دخولهم في البلاد تنقيب ، لأنهم كانوا يفحصون عن مواضع الثروة والنزهة ، كالمنقب الذي يخرق ويثقب الأرض طلبا للمال والكنز.

٤٨٥

مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)

___________________

(٣٨) (لُغُوبٍ) : تعب وإعياء.

(٤٤) (سِراعاً) : أي مسرعين لما يصيبهم من الهول والوحشة.

٤٨٦

فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ

هدى من الآيات :

لا تزال الآيات القرآنية تعالج العجب الذي اعترى الكفار من حديث البعث ، وهي في هذا الدرس تصوّر لنا بعض مشاهد القيامة ، لنكشف لنا جانبا من أسرار النشأة الأخرى التي لا وسيلة للتعرف عليها إلّا من خلال القرآن لكن الهدف الأهم من ذلك لهذا اللون من الحديث هو التربية ، ذلك أنه لو ترك الإنسان الحجب الشهوانية ، والاجتماعية ، والتربوية ، والوراثية ، لرأى الحقيقة بوضوح تام ، لأن هذه الحجب والأغلال هي التي تمنع عقله من الانطلاق في آفاق الايمان والمعرفة. ولكن كيف يقتحم البشر هذه العقبات ، وينفذ بعقله إلى ما ورائها عن الحقائق؟

إن ذلك لا يمكن إلّا بهزة عنيفة تتعرض لها نفسه ، فتسقط عنها أستارها ومن شأن الآيات القرآنية بحديثها عن مشاهد القيامة السلبية والايجابية ، وبالاسلوب البلاغي والنفسي الرائع أن تحدث هذه الهزّة.

٤٨٧

إن مجرد سماع الإنسان حديث القيامة يكفي أن يبعثه نحو التفكير ، وإذا فكر تفكيرا سليما اهتدى إلى الحقيقة ، ونضرب على هذه الفكرة مثلا فنقول : لو كان شخص يسير باتجاه حفرة في طريقه ، فانّ مخاطبته بكلمة انتبه وحدها ، حري بأن يرفع عنه الغفلة ويوقظ عقله وحواسه ، فيكتشفها دون أن يحتاج الأمر إلى بيان مفصل. وهكذا لو كنت في سيارة تسير بسرعة وقد غفل سائقها في حين اعترضته سيارة أخرى ، فانّ رفع الغفلة عنه قد لا يحتاج إلّا إلى كلمة واحدة ليضغط على الفرامل. وهكذا القرآن يهز ضمير الإنسان لينتبه من غفلته ، ويستثير عقله في مسيرة الحياة ليفكر فيهتدي للحق ، لأن مشكلته الأساسية أنه لا ينتفع بعقله.

ثم إن القرآن جاء ليحقق هدفين هما : تزكية نفس الإنسان بهدايته إلى الحق ودفعه للالتزام به في كل جوانب الحياة ، كما جاء ليزيده علما بالحقائق من حوله وفي نفسه «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (١) لذلك فالآيات كلها تنتهي إلى أحد هذين الهدفين أو إليهما جميعا في موضع واحد ، ومن هنا ينبغي لنا أن نقرأها مرّة للتعلم ومرّة للاتعاظ.

بينات من الآيات :

[٣١] إن الله لم يخلق ولا شبرا واحدا من النار عبثا ، إنما ليتعذب فيه واحد من المجرمين ، ولم يخلق الجنة إلّا ليكرم بها فريقا من عباده هم المتقون ، وليس يفصل بين الجنة أو النار وبين أي واحد منا إلّا عمله ، فان شاء نقلته سكرة الموت إلى غضب الله وعذابه ، وإن صلح نقلته إلى رضوان الله وثوابه. والإنسان حرّ في عمله فاما يختار الضلال (الكفر والفساد ومنع الخير والاعتداء على الآخرين والارتياب في

__________________

(١) الجمعة / ٢

٤٨٨

الحق) فيكون مصيره النار ، واما يختار التقوى (الأوبة إلى الله ، وحفظ حدوده وأحكامه ، وخشيته بالغيب ، وتصفية القلب من الأدران بالانابة والتوبة) فيكون مصيره الجنة.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)

ونتساءل كيف تزلف الجنة للمتقين؟ والجواب إن لهذه الآية تفسيرين :

الأول : إن الجنّة بما فيها من نعيم ورضوان من الله منزلة رفيعة ، ومهما سعى الإنسان وبالغ في عمل الصالحات فانّه لا يرتقي إليها بعمله وحده ، وإنما يقرّ به منها أو يقر بها منه فضل الله ورحمته ، قال النبي (ص): «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنّة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟! قال : ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (ووضع يده على فوق رأسه وطوّل بها صوته) (١).

وحين يدخل المؤمنون الجنّة تتبين لهم هذه الحقيقة كما أدركوها ببصيرة الوحي في الدنيا ، فهم يعتبرون نجاتهم من العذاب بفضل الله ومنّه لا بعملهم «قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» (٢).

الثاني : إن الجنّة قمة سامقة لا يصلها الإنسان حتى يتصف بما يجعله لائقا لها ، فهي بعيدة كل البعد على الكافرين والعاصين ، ولكنها أقرب ما تكون إلى المؤمنين والمطيعين ، وأن الذي يقربها أو يبعدها إنما هو مقدار عمل الإنسان ومجمل صفاته

__________________

(١) موسوعة بحار الأنوار / ج ٧ ص ١١

(٢) الطور / ٢٦ ـ ٢٨

٤٨٩

الايمانية التي نقرأها في الآيات التالية.

وهذا التفسير لا يتعارض مع التفسير السابق بل يلتقي معه وينتهي اليه ، فرحمة الله التي هي العامل الأساسي والمباشر في الدخول إلى الجنة ، ولكنها لا تشمل أحدا بلا سبب ، بل لا بد أن يكون هو في مستوى استيعاب الرحمة.

ولان من عقد البشر النفسية استعجال النتائج فتراه يكفر بالآخرة ولا يسعى للجنّة سعيها لأنها في نظره جزاء بعيد ، فقد أكّد القرآن على الجنّة :

(غَيْرَ بَعِيدٍ)

[٣٢] ولكن ما هي الأعمال والصفات التي تقرّبنا إلى الجنّة؟

إن جميع الاعتبارات الشيئية تسقط يوم القيامة ، وتبقى القيم والأعمال الصالحة هي الميزان. فلا يقرب أحد من ربه لسانه العربي ، ولا لونه الأبيض ولا نسبه الشريف ، وإنما تنفعه الحقائق التالية :

آ ـ الإياب إلى الله والإياب يعني لغة الرجعة ، قال تعالى : «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً» (١) وقال حاكيا عن سليمان (ع) : «وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ» (٢) وتسمى التوبة أوبة لأنها عودة إلى الفطرة السليمة بعد الانحراف عنها قال تعالى : «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» (٣).

إن الناس كلهم خطاؤون ينحرفون عن الحق إلى الباطل في حياتهم عنادا ، أو

__________________

(١) النبأ / ٢١ ـ ٢٢

(٢) ص / ١٩

(٣) الإسراء / ٢٥

٤٩٠

بسبب الضغوط أو حتى من دون شعور ولكن المؤمن يتميز عن الآخرين بأنّه أولا لا يمارس الانحراف عن جحود وعناد ، وثانيا بأنه لا يستمر على الخطأ بل يسعى لتصحيحه وعلاجه في أقرب فرصة ممكنة ، فاذا به يستغفر بعد الذنب ، وينتبه بعد الغفلة ، ويستقيم بعد الانحراف ، ويتذكر بعد الجهل ، فكلما أبعدته ذنوبه عن الله تقرّب اليه بالتوبة ، وكلما استغفلته طبيعته المركوزة في الجهل تعينها ضغوط الحياة تذكر بآيات الله واستعان بإرادة الايمان على الإقلاع من الانحراف ، فهو يبالغ في التوبة إلى ربّه ويكررّها حتى بالنسبة إلى الذنب الواحد ، الذي يتوب عنه ثم يعود إليه ثانية وثالثة ، دون أن يدع اليأس يسيطر عليه ، لإيمانه برحمة الله الواسعة وغفرانه ولماذا يقنط ، اليأس من صفات الكافرين؟ ولماذا ييأس وهو يسمع نداء ربّه في كتابه : «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (١) أو قوله عزّ وجلّ : «وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» (٢) فالمؤمن يرى مجرد غفلته عن ربه ابتعادا عنه فيئوب اليه مآبا ، فهو دائم الأوب ودائم التسامي ودائم العروج إلى الله بتأنيب الذات.

ب ـ المحافظة على حدود الله ، (مناهجه وشرائعه) في الحياة الفردية والاجتماعية بجميع أبعادها ، فاذا بك ترى الحق يتجلى في كل حركاته وسكناته. فهو كما وصفه الامام علي (ع) إذ قال : «قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه ، وتصيير كل فرع إلى أصله ... قد أخلص لله فاستخلصه ، فهو من معادن دينه ، وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحق ويعمل به ، لا يدع للخير غاية إلّا أمها ، ولا مظنّة إلّا قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه ، فهو قائده وإمامه ، يحل

__________________

(١) الزمر / ٥٣

(٢) الحجر / ٥٦

٤٩١

حيث حلّ ثقله ، وينزل حيث كان منزله» (١) فلا يضيع لديه حكم سنّه الله ، ولا حق لأحد ، فعهد الله له بالاستقامة على الحق محفوظ ، يصدق مع الناس ولا يغش ، ويرعى الامانة و..... «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (٢).

إن المتقين يعتبرون أنفسهم شهداء في تطبيق النظام الاسلامي ، وحدود الشريعة المقدسة. لذلك فهم لا يعطون لأنفسهم الحق في تغيير الحدود الدينية بتبرير أنهم ثوار ومجاهدون ، بل إنك تراهم يلتزمون قبل غيرهم بتفاصيل المناهج التي بيّنها لهم ربهم سبحانه ، ولذلك فان الله يعدهم برحمة منه واسعة ، ويبدو ان القرآن يشير إلى هذين الأساسين للتقوى بقوله سبحانه :

(هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ)

[٣٣] وتسأل متى يئوب الإنسان الى الله ويحفظ حدوده؟ والجواب حينما يخشاه بالحق ، وذلك ان الإنسان قد يظهر أمارات الخوف لأهداف ومصالح دنيوية يرومها ، إلّا أنها لا واقع لها ، والخائف الصادق من الله هو الذي يخشاه حينما يكون بعيدا عن الأنظار ، فاذا به وقد تهيأت له أسباب المعصية يقاوم شهوته ويتركها إيمانا منه برقابة الله التي هي في نظره أهم من أية رقابة أخرى.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ)

والإسلام يسعى قبل كل شيء لزرع الوازع الديني ـ الخوف من الله ـ في نفوس أتباعه كضمانة للالتزام بأنظمته وأحكامه ، ذلك ان أثر هذا الدافع أبلغ من سائر الروادع.

__________________

(١) نهج / خ ٨٧ ص ١١٨

(٢) التوبة / ١١٢

٤٩٢

(وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)

وتشير كلمة جاء الى شرط الجنّة الاستقامة على الحق حتى لقاء الله (المجيء له بقلب طاهر سليم).

[٣٤] وإذا أحرز الإنسان هذه الصفات صار في زمرة المتقين الذين يدخلون الجنة بسلام.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ)

الإنسان في الدنيا لا يصل إلى ما يريد إلّا بالجهد والتضحية ، ثم إن أجله محدود فيها مما يجعل لذته بنعمها قصيرة على خلاف الجنة ، فان ما يحصل منها لا تعب فيه ولا لغوب ولا صراع ولا منافسة ولا يورث مرضا أو غصة ، بينما الدنيا بعكس ذلك تماما (لا سلام فيها) بل هي قائمة على أساس الفساد فلا ينال المرء فيها نعمة إلّا يترك أخرى ، ولا يتمتع بلذة إلّا وتسبب له منغصة ، ولا يستقبل يوما من عمره إلّا بوداع يوم من أجله حتى قال الشاعر :

زيادة المرء في دنياه نقصان

وربحه غير محض الخير خسران

[٣٥] ومن الفوارق بين الدنيا والجنة ، ان الإنسان مهما بلغ من التمكن والقدرة في الدنيا لا يصل إلى كل أهدافه وأمانيه ، بل يقصر عن تحقيق الكثير منها ، على عكس ما في الجنة التي يتحقق له فيها ما يريد بمجرد أن ينوي ذلك ، بل ويزيده الله من فضله ساعة بعد ساعة.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ)

٤٩٣

قال الامام الصادق (ع): إن لله كرامة في عباده المؤمنين في كل يوم جمعة ، فاذا كان يوم الجمعة بعث الله إلى المؤمن ملكا معه حلتان فينتهي إلى باب الجنة فيقول : استأذنوا إليّ على فلان ، فيقال له : هذا رسول ربّك على الباب فيقول لأزواجه : أي شيء ترين عليّ أحسن؟ (١) فيقلن : يا سيدنا والذي أباحك الجنة ما رأينا عليك أحسن من هذا ، قد بعث إليك ربك فيتزر بواحد ويتعطف بالأخرى ، فلا يمر بشيء إلّا أضاء له حتى ينتهي إلى الموعد ، فاذا اجتمعوا تجلى لهم الرب تبارك وتعالى ، فاذا نظروا إليه أي إلى رحمته خروا سجدا ، فيقول : عبادي! ارفعوا رؤوسكم ليس هذا يوم سجود ولا عبادة ، قد رفعت عنكم المؤونة ، فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل مما أعطيتنا؟ أعطيتنا الجنّة ، فيقول : لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا ، فيرجع المؤمن في كل جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه ، وهو قوله : «ولدينا مزيد» (٢).

[٣٦] ثم إن القرآن وضمن علاجه للكفر بقدرة الله على البعث ـ يدعو الكفار إلى التفكر في آثار قدرته وهيمنته على الحياة من خلال قراءة التاريخ البشري المليء بالشواهد على ذلك ، ليعلموا أن الحياة ليست عبثا ، بل تسير وفق حكمة مقدرة ، فالأقوام السابقة إنما أهلكوا لتكذيبهم بالحق.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً)

وهذه سنّة جارية في الحياة لا يعطلها شيء ، ولا يمنعها البشر مهما أتوا من قدرة ، ولفظة أهلكنا مضافة إلى كلمة «كم» التي تفيد الاستفهام عن العدد ، تنطويان على تأكيد بأنّ ما حدث في التاريخ ليس مفردة جرت من باب الصدفة ، وإنما هي ظاهرة مستمرة تدل على سنّة حاكمة تلتقي فيها تلك الشواهد ، ويتضح

__________________

(١) يستشيرهن في أفضل ثيابه ليتزين بها عند لقاء رسول ربه.

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ١١٥

٤٩٤

فيها الفعل الالهي المقصود. ثم إن بعض الأقوام وصلوا من القوة أكثر مما صار اليه المجتمع العربي يوم نزول القرآن ، ولكن الله أهلكهم فهل يتصورون على أنهم قادرون على دفع الهلاك إذا حلّ بساحتهم. وامتزاج الضمائر والإشارات في هذه الآية بين أولئك وهؤلاء يحمل طياته إنذارا للمشركين باهلاكهم بطريقة أو بأخرى إذا ما حذوا حذو السابقين ، ولن يجدوا حينئذ مخرجا ولا سبيلا إلى النجاة.

(فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)

والمحيص من حاص يحيص ، وهو المكان الذي تحفره البطة لتضع فيه بيضها ، وقد سعت تلك الأقوام ليجدوا لأنفسهم مخرجا ولو بمقدار المحيص فلم يقدروا ، ووقع بهم العذاب.

[٣٧] وما في التاريخ من دروس وعبر آيات تستثير عقل الإنسان وتهديه إلى الحق ، ولكن بشرط أن يتجاوز الأغلال والأثقال التي تمنع النفس من التحليق في سماء الهداية والمعرفة ، وتعيق العقل من العبور عبر الشواهد والآيات إلى الحقائق.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى)

تستنقذ البشر من الغفلة والضلال ، وتعود به إلى الحق الذي فطر عليه أن آيات الله سواء التي تتضمنها رسالته ، أو تلك التي تتجلى في نفس الإنسان وفي الآفاق ، أو التي تجلت ولا زالت تتجلى في تاريخ البشرية ، إنها كلها تشع بأمواج الهداية والتذكرة ، ولكن من الذي تنفعه هذه الآيات فتكون له ذكرى في الحياة؟ انما صاحب القلب.

(لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)

٤٩٥

يعني العقل (الذي هو جوهر النفس) وإنما سميت النفس قلبا تقلبها من حال إلى حال أو بسبب تقليب المعلومات سعيا وراء المعارف الجديدة.

وصاحب القلب هو الذي يقلب الأمور بتفكيره على وجوهها المتعددة ليتبع أحسنها بعد نظرة عميقة شاملة. يقول تعالى : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» (١) ولعل المقصود لأولي القلوب هم العلماء الذين يفقهون معاني الآيات باستشارة عقولهم مما نجد له إشارة في قوله تعالى : «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (٢) قال الامام الكاظم (ع): يا هشام إن الله يقول في كتابه : «(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) يعني عقل» (٣) ولا ريب ان أهل بيت العصمة وأئمة الهدى عليهم السلام أئمة العقلاء والراسخين في العلم فهم أجلى مصاديق هذه الآية الكريمة ولا غرابة أن يقول أمير المؤمنين (ع): ألّا واني مخصوص في القرآن بأسماء احذروا أن تغلبوا عليها فتضلوا في دينكم ، أنا ذو القلب ، يقول الله عزّ وجلّ : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» (٤).

وإذا لم يكن الإنسان عالما يستطيع التذكر والاهتداء الى الحق بنفسه ، فانّه يجد سبيلا إلى ذلك بالاستماع إلى آيات الله واتباع أئمة الحق والهدى والعلماء الصالحين.

(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)

__________________

(١) الزمر / ١٨

(٢) آل عمران / ٧

(٣) نور الثقلين / ج ٥ ص ١١٦

(٤) المصدر

٤٩٦

إن المشكلة الحقيقية للإنسان الذي لا يهتدي ليست عدم وجود القلب أو السمع ، وإنما هي توظيفه لهما ، كما جوارحه وإمكاناته الأخرى في الأمور السافلة أو التافهة. يقول تعالى : «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» (١).

ولوجود هذه المشكلة يشرط القرآن على الإنسان شرطين حتى ينتفع بسمعه من كلام الآخرين وتجاربهم من آيات الذكر ، فأولا أن يوظف سمعه «يلقي السمع» ثانيا أن لا يكون السمع بذاته هدفا فيقف الواحد عند الحروف أو عند حدود العلم ، بل يعتبر السمع وسيلة إلى هدف هو العمل بالحق ، والحروف والعلم طريقا إلى الموعظة. وبكلمة لا بد أن يكون مسئولا (شاهدا) على ما يصله من العلم ، قال تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» (٢).

وقال مبينا هدف السمع وبعض الجوارح «وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (٣).

ويضرب القرآن مثلا للمستمع الشهيد من واقع المؤمنين الذين يذكرون الله على كل حال وفي كل حين فيقول حاكيا عنهم : «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا» (٤) إن السمع الذي لا يملك صاحبه الاستعداد لتحمل

__________________

(١) الأعراف / ١٧٩

(٢) الأنفال / ٢٠ ـ ٢٢

(٣) النمل / ٧٨

(٤) آل عمران / ١٩٣

٤٩٧

مسئوليته لا ينفع شيئا ، وما ذا يستفيد من سماع الحق ذلك الإنسان الذي يتهرب من مسئوليته بالتكبر أو التبرير أو الاستهزاء : «وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (١) وتجارب التاريخ البشري تحمّلنا مسئولية الايمان بالله فاذا لم يتجاوز سماع هذه التجارب الى الايمان فما قيمة سماعنا لها؟

[٣٨] وكما تتجلى آيات قدرة الله في التاريخ البشري بصورة إهلاك الأقوام المكذبة ، فانها تتجلى في الطبيعة بصورة أخرى تتجسد في الخلق والإبداع والتفكر في تلك الآيات هذه تفكيرا عميقا (بالقلب السليم والسمع الشهيد) كفيل بأن يجعل فكرة البعث فكرة واقعية ، ويدفع الإنسان للتصديق بالرجوع بعد الموت فلا تصبح الفكرة عندها أمرا شاذا (عجيبا) ، ولا البعث مستحيلا (بعيدا) كما يعتقد الكافرون.

دعنا ننظر نظرة عميقة إلى الطبيعة من حولنا ، ولنركز الفكر في خلق الأرض التي تقلّنا ، والسماء الواسعة التي تظلنا ، ولنتساءل أيها أعظم ، هل خلقهما أم خلق الإنسان هذا الذي لا يكاد يبين بالقياس إليها؟ لا ريب أنهما أعظم خلقا وأعقد «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (٢) ومع ذلك فان خلقهما وما بينهما تم في ستة أيام ولم يكن مضنيا.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

ولعلنا نتساءل لماذا لم يتم الله ذلك الخلق في مدة أقل؟ وربما يذهب بعضنا إلى

__________________

(١) الجاثية / ٧ ـ ٩

(٢) المؤمن / ٥٧

٤٩٨

القول بأنه كان يتعب فيستريح كلا.

(وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ)

إن الله قادر على خلق كل شيء في مدة يتلاشى فيها الحساب الزمني ، وإنما جعل الخلق في ستة أيام لحكمة يعلمها ، أنه أراد بيان حقيقة مهمة لنا ، وهي ان كل شيء في الحياة لم يخلق كاملا منذ أول لحظة ، وإنما هو يسير نحو التكامل ، وحتى أنت أيها الإنسان في مسيرة البناء الذاتي أو الحضاري ينبغي لك التحرك نحو الأسمى.

وما دام الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في هذه المدة ومن دون أن يمسه شيء من التعب أو التكلف ، فهل يصعب عليه بعثنا يوم القيامة؟ وما نحن بالنسبة لذلك الخلق حتى يصعب على مبتدعه خلقنا مرّة أخرى؟! «(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها* أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها* وَالْجِبالَ أَرْساها* مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) ـ ثم مباشرة يحدثنا عن يوم القيامة فيقول : ـ (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى)» (١) والصلة المختصة بين الحديث عن آيات الطبيعة وعظمتها ، والحديث عن يوم القيامة لاثبات فكرة البعث من خلال تلك الآيات والعظمة صلة صميمة تتجلى في كل آيات القرآن.

[٣٩ ـ ٤٠] ويكاد قلب المؤمن يتفطر من تكذيب الكفار بحقيقة البعث والجزاء التي يتلمسهما المؤمن وراء كل ظاهرة وفي كل أفق وفي كل لحظة من حياته ، الأمر الذي قد يستدعي منحة زخة من الصبر.

__________________

(١) النازعات / ٢٧ ـ ٣٤

٤٩٩

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)

ونجد في موضع من القرآن توجيها مشابها من قبل الله للرسول (ص) وللمؤمنين ، يقول تعالى : «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً» (١).

ولا بد للإنسان حتى يقاوم مختلف الضغوط المضادة للحق من الاتصال بالله بالصلاة والعبادة ، ليتعرف على ربه أكثر فينزهه عن الأباطيل ، وليستمد منه العون والتوكل لذلك يقول تعالى هنا :

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)

وهكذا يقول في سورة الإسراء وصلا بالشاهد المتقدم : «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً* وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً* وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» (٢).

إن هذا التأكيد على الاتصال بالله بالصلاة وبالقرآن وبالدعاء في حال تعرض الإنسان المؤمن للضغوط المضادة هو تعبير بصورة أخرى عما تنطوي عليه هذه الآية من سورة «ق».

ولأن القرآن يفسر بعضه بعضا فاننا نجد تفسيرا للعلاقة بين الصبر والصلاة ودورهما في مقاومة الضغوط في قوله تعالى : «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» (٣).

__________________

(١) المزمل / ١٠

(٢) الإسراء / ٧٨ ـ ٨٠

(٣) البقرة / ٤٥

٥٠٠