من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

(زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ)

تماما بعكس أولئك المنافقين الذين سبق الحديث عنهم ، فبينما طبع الله على قلوب أولئك ، زاد هدى هؤلاء. وبينما يتبع أولئك أهواءهم ، أتى هؤلاء التقوى بتنمية معارفهم ووعيهم ، وتنبيههم في أوقات الغفلة ، وتنمية إرادتهم وعزمهم ، وإغنائهم بنعمة الحلال عما حرم عليهم. وبكلمة : توفيقهم لتجنب ما يسخط ربهم.

[١٨] لما ذا ـ إذا ـ لا نخطو نحو ربنا الخطوة الاولى ليزيدنا هدى ويؤتينا التقوى؟ إنّه الانتظار الساذج ، والتسويف الخادع ، كأننا نتوقع أن تكون الخطوة الأولى من غيرنا ، وننتظر والى متى ننتظر؟ هل الى قيام الساعة ، حيث لا تنفع التوبة. فقد توافرت علائمها أفلا نبادر بالتوبة قبل فوات أوانها؟

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)

قد تتمثل الساعة في يوم القيامة ، أو عند ما ينزل الله عذاب الاستيصال ، أو عند ما يفاجئ الإنسان أجله الذي لا مفر منه. المهم انها تباغت البشر ، بيد انها ليست مفاجئة تماما إذ ان علاماتها قد ظهرت مما تكفينا دلالة عليها.

(فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها)

أشراط الساعة ، أي علائمها فما هي علائمها؟

لقد اختلف المفسرون في تأويلها قال بعضهم : إنها بعثة الرسول أو لم يقل صلى الله عليه وآله : بقيت أنا والساعة كهاتين وضم السبابة والوسطى. أو لم يخطب في أصحابه قبل الغروب وقال : والذي نفس محمد بيده ، مثل ما مضى من الدنيا فيما

٢٤١

بقي منها ، إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه ، وما بقي منه الا اليسير (١) مما يدل على اننا نعيش في نهايات الدنيا .. ومن علامات ذلك بعثة خاتم الرسل الذي لا نبي بعده الى يوم القيامة.

وقال بعضهم : إن أشراط الساعة هي ما ذكر في النصوص من انتشار الفساد ولا ريب ان ذلك أيضا من علامات قيام الساعة التي تقوم على شر خلق الله.

بيد ان أشراط الساعة ـ حسبما يبدو ـ تعم كل الشواهد التي تهدينا الى قيامها ، وتختلف الشواهد حسب الأشخاص والأمم والعصور. فلا ريب ان ما جرى على الأمم الماضية من عذاب التدمير من أشراط الساعة التي تهدينا الى وقوعها ، وحتى موت الأعزاء ورحيلهم الأبدي عن الدنيا يمكن أن يكون منذرا لنا حتى نبادر بالتوبة.

بلى. هناك علامات الساعة ذكرت في النصوص توحي بضرورة انتظار قيام الساعة عند ما ينتشر الفساد وينحسر الصلاح كما جاء في الحديث المأثور عن عبدالله بن عباس قال : حججنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله حجة الوداع ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه فقال : ألا أخبركم بأشراط الساعة؟ وكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمه الله فقال : بلى يا رسول الله. فقال : من أشراط القيامة إضاعة الصلوات واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء مما ترى من المنكر ، فلا يستطيع أن يغيره. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة. قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول

__________________

(١) تفسير نمونه / ج ٢١ ـ ص ٤٥١ نقلا عن روح المعاني.

٢٤٢

الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، ان عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق ، قال سلمان : وإن هذا الكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، فعندها ستكون إمارة النساء ومشاورة الإماء وقعود الصبيان على المنابر ، ويكون الكذب ظرفا ، والزكاة مغرما والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ، ويبر صديقه ، ويطلع الكوكب المذنب. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها تشارك المراة زوجها في التجارة ، ويكون المطر قيظا ، ويغيظ الكرام غيظا ، ويحتقر الرجل المعسر ، فعندها تقارب الأسواق إذ قال هذا لم أبع شيئا وقال هذا لم اربح شيئا ، فلا ارى إلا ذاما لله. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ليستأثرون بفيئهم وليطأن حرمتهم ، وليسفكن دماءهم ، ولتملئن قلوبهم غلا ورعبا فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرهوبين. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، إن عندها يؤتى بشيء من المشرق وشيء من المغرب يلون أمتى فالويل لضعفاء أمتي منهم والويل لهم من الله لا يرحمون صغيرا ولا يوقرون كبيرا ولا يخافون (١) عن مسيء ، جثتهم جثة الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : أي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها يكتفي الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وتركبن الفروج السروج ، فعليهن من أمتي لعنة الله. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ فقال : أي والذي نفسي بيده يا سلمان إن عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس ، وتحلى المصاحف ، وتطول المنارات ، وتكثر

__________________

(١) وفي نسخة البحار : «ولا يتجاوزون»

٢٤٣

الصفوفات بقلوب متباغضة ، والسن مختلفة. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب ويلبس الحرير والديباج ، ويتخذون جلود النمور صفاقا. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : أي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها يظهر الزنا ويتعاملون بالعيّنة والرشى ويوضع الدين وترفع الدنيا. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها يكثر الطلاق. فلا يقام لله حد. ولن يضروا الله شيئا. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها تظهر القينات (١) والمعازف ويليهم أشرار أمتي. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها تحج أغنياء أمتي للنزهة ، وتحج أوساطها للتجارة ، وتحج فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يكون أقواما يتعلمون القرآن لغير الله ، ويتخذونه مزامير ، ويكون أقواما يتفقهون لغير الله ، وتكثر أولاد الزنا ، ويتغنون بالقرآن ويتهافقتون بالدنيا. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان : ذاك إذا انتهكت المحارم واكتسبت المآثم وتسلط الأشرار على الأخيار ويفشو الكذب وتظهر اللجاجة وتغشو الفاقة ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ويستحسنون الكوبة (٢) والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الامة ، ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الارجاس الأنجاس. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله؟ قال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، فعندها لا يحض الغني على الفقير حتى أن السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفه شيئا. قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول

__________________

(١) القينات : المغنيات.

(٢) الكوبة : كالشطرنج والطبل الصغير.

٢٤٤

الله؟ فقال : إي والذي نفسي بيده يا سلمان ، فعندها يتكلم الرويبضة ، فقال سلمان : وما الرويبضة يا رسول الله فداك أمي وأبي؟ قال صلى الله عليه وآله : يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم ، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى تخور الأرض خورة فلا يظن كل قوم إلا انها خارت في ناحيتهم ، فيمكثون ما شاء الله ، ثم ينكتون في مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ كبدها ذهبا وفضة ـ ثم أومأ بيده الى الأساطين ـ فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة ، فهذا معنى قوله : «فقد جاء أشراطها». (١)

ولعل هذا النص والنصوص المشابهة تحثنا على مقاومة الفساد ومناهضة الانحراف حتى لا تبغتنا الساعة بدمارها سواء كانت الساعة النهائية للعالم (يوم القيامة). أم ساعة أمتنا أم ساعة الأفراد.

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ)

هل ينتفع التلميذ في المدرسة حين يجيب على الأسئلة خارج قاعة الامتحانات؟ كلا .. وهكذا لا تنفع التوبة بعد قيام الساعة ، كما قال تعالى : «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».

[١٩] إذا كان الانتظار والتسويف ، وتجاهل الحقائق واتباع الهوى ، والانغلاق دون هدى الله ، انها جميعا ينهار بأهله في نار جهنم!

فكيف النجاة؟

العلم والتوحيد والاستغفار .. ركيزة النجاة ، لأن العلم بالتوحيد يجعل العبد

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٢٤. نقلا عن تفسير القمي ج ٢ / ص ٣٠٣ وهي أصح. نقلها صاحب نور الثقلين بأغلاط كثيرة ، وصححت على أساس المصدر الأساسي.

٢٤٥

يتحسس بضآلته أمام جبار السموات والأرض فيستغفر لذنبه ، ولشفقته على أحبائه من المؤمنين يستغفر لهم أيضا.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ)

وربنا يقول : «فَاعْلَمْ» لأن العقبة التي تعترض الإنسان أمام التوحيد هي الجهل ، أو لم يقل عزّ وجلّ : «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً» (١) ولهذا كرر القرآن الحكيم كثيرا ذكر هذا العامل الذي يصرف الناس عن الايمان والهدى. قال عزّ من قائل : «قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» (٢) ، «قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» (٣) ، «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» (٤) «وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» (٥) ، «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (٦) ، «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» (٧).

وكلما ازداد البشر علما ازداد تواضعا ، لأنه يعرف حجمه بإزاء سائر ما يعلم من مخلوقات ، بينما الجهل سبب التكبر ، ولذلك يقول ربنا سبحانه وهو يعالج صفة التكبر في النفس : «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً» (٨).

وكلما ازداد البشر علما ازداد خشوعا لربه أليست الكائنات مرآة أسماء الله ،

__________________

(١) الأحزاب / ٧٢

(٢) الأعراف / ١٣٨

(٣) الزمر / ٦٤

(٤) الانعام / ١١١

(٥) الأحقاف / ٢٣

(٦) الأعراف / ١٩٩

(٧) النمل / ٥٥

(٨) الإسراء / ٣٧

٢٤٦

وتجليات خلقه وقدرته وحكمته؟

وهكذا تتصل كلمات هذه الآية ببعضها ، فالعلم يهدينا الى التوحيد ، والتوحيد يهدينا الى الاستغفار ، لأن الاستغفار هي حالة النفس عند معرفة الرب ، ووعي قدرته وهيمنته وعظمته ، إنّه الاحساس بالتقصير في مقام الألوهية ، إنه الاحساس بالذنب المقرون بالتطلع نحو الإصلاح ، وأي سلم أفضل لبلوغ درجة القبول عند ربّ العزة من معراج التوبة ، أم أي تحية أكرم عند لقاء العبد بربه من التسليم ، وأي حالة تسليم أفضل من الاستغفار. ثم إنّ الكبر هو الحجاب الأكبر الذي يمنع إشراقة نور الحق على جنبات الفؤاد ، وأي علاج أنجح من الاستغفار لاقتلاع جذوره.

ليس من اليسير القضاء على كبر النفس ، لأن منشأ الكبر هو الجهل ، والجهل هو من ذات النفس ، ومرتكز في صميم خلقته ، وإنما بدوام الاستغفار من الذنب نستطيع القضاء على الجهل ومظهره المتمثل في الكبر.

والذي يستغفر لذنبه يزداد تقوى وورعا من العودة اليه ، كما يزداد عزما لتنفيذ واجبات الدين واجتناب محرماته.

ويتساءل البعض : كيف أمر الرسول صلّى الله عليه وآله بالاستغفار؟ أو ليس هو المعصوم من كل ذنب؟ بلى. ولكن :

أولا : ليكون قدوة لأمته في الاستغفار.

ثانيا : لأن الحضور في مقام الربّ يستدعي الاستغفار ، لأنه المعراج الى المزيد من الكمال ، ولأنه بالتالي الحبل الممتد بين الربّ والعبد. وحتى لو كان الفرد غير مذنب بالذنوب المعروفة ، ولعل التعبير بالذنب دون الذنوب يشير الى إن المراد منه هو مجمل القصور والتقصير الذي لا يخلو منه العبد.

٢٤٧

ثالثا : إن القرآن نزل على لغة إياك أعني واسمعي يا جارة ، فالرسول هو المخاطب والأمة مقصودة بذلك.

ونتساءل ـ مرة أخرى ـ عن معنى الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في هذا السياق؟

والجواب :

أولا : إنه فيما يتصل بالرسول يعني الشفاعة ، لأن حقيقة الشفاعة هي طلب المغفرة من الله للمذنبين.

ثانيا : إن الاستغفار يعبر عن العلاقة الحميدة مع سائر المؤمنين ، فهي ليست عدائية بدليل طلب الرحمة لهم ، وليست تابعية بحيث يسترسل المؤمن مع إخوته باعتقاد انهم كلهم معصومون من الخطأ ، لأنهم بالتالي بشر ، والبشر يخطأ ويصيب ، وإذا بالغ المؤمن في حبه لإخوانه وإكرامه لهم الى درجة الاعتقاد بقداستهم ، فانه سوف يعطل عقله في تقييمهم وإصلاحهم.

بلى إن لهم ذنوبا ولكنها لا تدعونا الى قطيعتهم بل الى إصلاحهم ولو بالاستغفار.

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)

إنه سبحانه يعلم حركات الإنسان وسكناته في نهاره وليله ، كما يعلم تقلباته الروحية من الكفر والنفاق والكبر الى الإسلام والايمان والتقوى ..

فلا بد من الحذر الشديد لكي لا نفكر في الخداع ، فان الإنسان إذا لا يخدع إلا نفسه.

٢٤٨

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى

___________________

(٢٠) (فَأَوْلى لَهُمْ) : أي أنّ الموت أولى لهم من الحياة وهذا دعاء عليهم بالهلاك.

(٢٥) (سَوَّلَ لَهُمْ) : سهّل لهم ركوب الآثام ، من السول بمعنى الاسترخاء.

٢٤٩

لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)

___________________

(وَأُمْلِي لَهُمْ) : أي قرّر عليهم كالذي يملي على الآخر الشيء ليكتبه ، فالشيطان أولا جعلهم رخوا ثم قرّر لهم أن يخرجوا عن الطاعة.

(٢٩) (أَضْغانَهُمْ) : أحقادهم.

(٣٠) (بِسِيماهُمْ) : سيما الإنسان ملامح وجهه.

(لَحْنِ الْقَوْلِ) : اللحن هو الإمالة فإن المنافق يميل بكلامه حيث أنّ قلبه لا يرضى أن يتكلم حسب موازين الإيمان.

٢٥٠

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ

أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها

هدى من الآيات :

كيف يتميز المؤمنون عن المنافقين ومن في قلوبهم مرض؟ وكيف يخرج الله أضغان القلوب؟ وكيف يبلو المجاهدين والصابرين؟

يضرب لنا القرآن الأمثال لنعرف هذه المقاييس الحق في ذلك.

أولا : المؤمنون يتطلعون الى آيات الجهاد ، ويستجيبون لها ، أما الذين في قلوبهم مرض فتراهم في حالة المحتضر إذا سمعوا آيات القتال.

ثانيا : المؤمنون يطيعون الله ويقولون قولا معروفا ويصدقون الله في المواقف الصعبة. بينما المنافقون يولون الأدبار ويفسدون في الأرض ويقطعون أرحامهم تماما في الجهة المعاكسة للمؤمنين.

ثالثا : يتدبر المؤمنون في القرآن ليجدوا فيه شفاء دائهم ، بينما على قلوب أولئك

٢٥١

أقفالها ، ويرتدون على أدبارهم والشيطان يقول لهم ويملي لهم ، بينما القرآن يشفي قلوب هؤلاء ويهديهم.

رابعا : ترى المنافقين يبحثون عن أمثالهم ويتآمرون معهم لضرب القيادة الرشيدة. والله لهم بالمرصاد حين يتوفاهم ملائكة العذاب يضربون وجوههم وأدبارهم ، ويحبط الله أعمالهم لأنهم اتبعوا الشيطان ، ورفضوا ولاية الرحمن.

وهكذا يخرج الله أضغان أولئك المنافقين (بآيات القتال) ويفضحهم ، وكما يبلي حقيقة المجاهدين والصابرين ويرفع مقامهم.

بينات من الآيات :

(٢٠) يستقبل المؤمنون الحقائق بأذن واعية ، وبصائر نافذة من دون حجاب ، وبقلوب طاهرة من الجهالة والعناد والتكبر ، بلى. إن مثل حقائق الرسالة ومثلهم كما الأرض الموات تستقبل زخات الغيث المباركة ، فاذا نزلت عليهم سورة وعوها واستعدوا لتنفيذ أحكامها ، وإذا لم تزل تراهم يتساءلون أفلا حبينا بها ، أفلا قرّت أعيننا بالنظر الى آيات جديدة؟!

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)

لما يغمر قلوبهم من اللهفة إليها ، ولما تنطوي جوانحهم من العزم الشديد للعمل بكل ما فيها من أوامر. أما الذين في قلوبهم مرض ، فإنهم على العكس تماما ، إذ يتخوّفون أن تنزل عليهم أوامر جديدة ، تأمرهم بالقتال مع العدو ، لأنهم لا يملكون الاستعداد الكافي لتطبيق الأحكام.

(فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ)

لا يمكن الجدال لأنها واضحة لا تحتمل التأويل.

٢٥٢

(وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ)

آنئذ تبلى حقائق الرجال.

(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)

من نفاق ، أو شك ، أو جبن.

(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)

وهكذا يمتاز المؤمنون عن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض ، لأن المؤمنين يثبتون في مختلف الظروف ، بينما هؤلاء في حالة من الرعب تشبه حالة المحتضر الذي يشخص ببصره فزعا ، وهو فاقد لقدرة التركيز وربما قال ربنا : «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ولم يقل : (الذين نافقوا) لأن الخط المنحرف لا يقتصر على المنافقين ، بل يضمّ الكثير ممّن يزعمون أنّهم مؤمنون ولكنّ وجود المرض فيهم يجرّهم الى خط النفاق ، ويتوضح لنا من بعض الآيات ان الذين في قلوبهم مرض هم طائفة أخرى غير المنافقين ، يقول عزّ وجلّ : «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ».

يهدد القرآن هؤلاء ، ويوعدهم العاقبة السوءى قائلا :

(فَأَوْلى لَهُمْ)

تستخدم هذه الكلمة في اللعن ، واختلفوا في معناها الدقيق ، هل هو بمعنى : يليه مكروه ، أو لهم الويل أو الموت أولى لهم ، ويبدو ان هذه الكلمة تأتي بعد بيان سيئة من سيئاتهم فعلا أو قولا فيكون معناها إنهم يستحقون تلك السيئة وهم أحق بها ، وأولى من غيرهم ، وفي المقام يكون المعنى ان هذه العاقبة السيئة التي انتهوا إليها من

٢٥٣

رفضهم لسورة القتال يستحقونها لما كان في قلوبهم من مرض ، ذلك لأن النفاق والخوف الذي يحول الإنسان عن قتال الأعداء ، جرم كبير وضلالة بعيدة ، لأنه يجر صاحبه الى الاستسلام للطاغوت وفقدان استقلاله أمام الغزاة ، والتنازل عن قيمه وشخصيته خشية بطش الجبارين. وكل من ارتد عن الدين أو اتبع الظالمين انساق الى مصيره الأسود بسبب تلك الأمراض الخطيرة التي تمكنت من قلبه.

[٢١] بينما لو أطاعوا أوامر الرسالة ، واستقبلوها برضى ، وطهروا قلوبهم من الأمراض الفتاكة ، وصدقوا في الظروف الصعبة ، لكانوا يعيشون العزّة والكرامة والاستقلال.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)

عزم الأمر ، يعني بلغ الموقف حدا يستدعي الهزيمة والارادة النافذة ، وقال البعض معناه : جد القتال.

ونستوحي من هذه الآية بصيرتين :

ـ الأولى : إن قول المعروف عند صدور أوامر الرسالة وبرامجها بعد التسليم والطاعة مؤشر واضح على تفاعل الإنسان مع الرسالة ، وصدق انتمائه لها ، وخلوّ قلبه من حسكة النفاق وأي مرض آخر ، كالجهل والجبن والتكبر ، لأن هذه الأمراض تجعل الإنسان يعيش حالة التقزز والاشمئزاز والضجر مما يظهر على فلتات لسانه ، فلا يقول قولا معروفا عند المواقف الصعبة.

وبالرغم من انّ المنافقين قد يعيشون هذه الحالة ، ولكن الظرف قد يستدعي منهم أن يكتموها ، بيد انه عند ما يعزم الأمر لا يمكنهم كتمام واقعهم.

إن مرضى القلوب هم الذين يؤدون الطاعات ويعملون الصالحات على كره ،

٢٥٤

فلذلك تراهم يرفقونها بالحديث السلبي معها ، ولذلك تراهم لا يقضون صلاتهم إلا ويتبعونها بالقول تضجّرا ، كم هي ثقيلة هذه الصلاة؟! ولا ينهون صوم يوم من أيام رمضان إلا ويقولون كم هو مرهق هذا الصيام؟! ولا يزكون ويخمسون إلا ويضجون : لقد أفقرنا هذا الدين .. في حين كان عليهم أن يتحسّسوا هذه النعم الجسام ، ويحمدوا الله عزّ وجلّ على أن وفقهم لها ، ولكنه الجهل والتكبر والنفاق وحب الدنيا كل أولئك لا يدع الإنسان يعرف قيمة الرسالة ، ونفعها العميم للإنسان.

الثانية : نستشف من هذه المقطوعة الرائعة : «طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» ان علينا أن ننفذ الأوامر الرسالية ونسعى جاهدين من أجل تحقيقها دون نقاش أو تبرير أو جدال أو معارضة ، لأنها صادرة من الله تبارك وتعالى. والواجب علينا أن نروض أنفسنا لتستجيب ونتفاعل مع الأحكام الالهية. ولكن كيف؟

من شاء أن يكون صادقا في المواقف الصعبة ، مستعدا لتحمل المسؤوليات الجسام ، فعليه أن يتدرّج في تربية نفسه شيئا فشيئا ، فأولا يعوّدها على تأدية الأعمال الصغيرة بصدق وجدّيّة ، ثمّ الأكبر منها فالأكبر ، حتى يرتقي الى مستوى عال فيؤدي الأعمال الكبيرة بكل صدق ورضى.

[٢٢] إنهم يهربون من القتال ، وإنما فرض الله القتال من أجل إصلاح الأرض ، وتكريس قيم المحبة ، فمن يتولّ عنه فسوف يقاتل ، ولكن في صفوف المنافقين ومن أجل نشر الفساد في الأرض وقطع الأرحام (ومخالفة قيم الخير والفضيلة). أو ليست الحياة صراعا ، ولا مفر منه ، ومن لم يقدم على اختيار جبهة الخير انساق الى جبهة الشر ، ولا مسافة بين الحق والباطل ، فمن لم ينفعه الحق أضره الباطل.

٢٥٥

أولئك الذين يزعمون ان القتال شر مستطير ، وانهم دعاة السلام ، تراهم وقود معارك الباطل ضد الحق. ألم تقرأ في التاريخ : كيف ان أهل الكوفة رفضوا القتال مع الامام الحسين عليه السلام ضد الأمويين باسم الخروج من الفتنة ، ثم استخدمهم يزيد في قتال السبط الشهيد كرها.

إن لحكم القرآن ثمنا من لم يدفعه راضيا ابتلي بحكم الطاغوت ودفع أضعاف ذلك الثمن مكرها.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ)

كلمة عسى تدل على التوقع .. فهذه هي العاقبة المتوقعة لمن يتولى عن الحق!

ولان الحديث في هذه السورة عن الحكم الالهي والولاية الشرعية وتحمل مسئولياتها في طليعتها الدفاع عن الدين ، فان معنى التولي هنا الانسحاب من ساحة المواجة وترك القيادة الرشيدة وحدها في الميدان ، ولذلك فسر البعض هذه الكلمة ، بأنه بمعنى الولاية أي إذا أصبحتم حكاما ، وأوله البعض في بني أمية استنادا الى ما رواه عبد الله بن مغفل قال سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول : فهل عسيتم إن توليتهم أن تفسدوا في الأرض .. ثم قال : هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم. (١)

والفساد في الأرض ، هو النتيجة الطبيعية للنظام الذي لا يستلهم من الدين أحكامه .. فيفسد الإقتصاد والاجتماع كما يفسد الأخلاق والآداب ومن أبرز مظاهر إفساده تفريق الكلمة ، واشاعة الفساد في الخلق ، الذي يؤدي الى تفكك الأسرة وقطع الأرحام. ويبدو ان قطع الرحم هو آخر عروة ينقض من عرى

__________________

(١) تفسير القرطبي / ج (١٦) ـ ص (٢٤٥).

٢٥٦

المجتمع ، لأن الفساد إذا بلغ الأسرة فقد أتى على آخر قلعة من قلاع الاستقلال عند البشر.

[٢٣] وإذا بلغ الإنسان هذا الدرك فقد كل فرصة له للهداية ، لأن الله يلعنه ويسد عليه أبواب الهدى.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ)

وطردهم من رحاب رحمته.

(فَأَصَمَّهُمْ)

فلم ينتفعوا بتجارب غيرهم.

(وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)

فلم يعودوا ينتفعون حتى بتجاربهم ، وهكذا يستمرون في الهبوط حتى الدرك الأسفل. وهذه عاقبة الدول والتجمعات التي لم تقم على أساس الوحي. وهكذا نعرف ان بداية السقوط الكبير قد يكون زللا بسيطا يستهين به صاحبه ، كما قد تكون بداية رحلة الموت ميكروبا يستخف به المريض .. واستخفاف الإنسان بالدفاع ، وبخله بنفسه وماله عن الإنفاق في سبيل الله ، هو بداية رحلة السقوط الكبير .. وهو بدوره ناشئ من الأمراض القلبية التي لا بد من المبادرة بعلاجها.

[٢٤] والسؤال العريض كيف إذا نعالج أمراض القلب الكبر ، المرض المستفحل الذي جعل إبليس يرفض السجود لادم ، وجعل أبناء آدم يرفضون التسليم للقيادة الشرعية عبر التاريخ؟

الحسد ذلك الذي أوقد نار الحرب بين هابيل وقابيل ، ولا يزال يجعلنا في صراع

٢٥٧

دائم.

الجبن الذي هدم حضارات عظيمة لم يدافع أهلها عنها أمام الغزاة البرابرة. وغيرها من أمراض القلب؟

ويجيب القرآن .. بالتدبر في القرآن.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)

والتدبر أن نسير بأفكارنا الى عاقبة الأمور أو دبرها. وحين نتدبر في القرآن فاننا نتفكر في تطبيقات الآيات الكريمة ، وتجسدها في الواقع العملي ، وحسب التعبير القرآني في تأويلها.

الذين يتدبرون في القرآن يطبقون آيات القرآن على واقعهم ، فاذا قرءوا فيها آية تذكرهم بسنن الأولين ، بقوم عاد وثمود. يتساءلوا ماذا لو فعلوا مثل فعلتهم. أفلا يكون جزاؤهم الدمار أيضا؟ وإذا سمعوا موعظة زجروا أنفسهم بها أو سمعوا مرضا قالوا لعله موجود فينا دعنا نفتش في أوضاعنا عن آثاره ، فان وجدناه سارعنا لمحاربته وهكذا ..

ولأن مثل القرآن مثل الشمس فان يطبق كل يوم على أهل ذلك اليوم ، فلا بد أن نفتش في الواقع الخارجي ، وفي أنفسنا عمن يجري فيهم القرآن بأعينهم وصفاتهم. فمن هم المنافقون اليوم ومن هم المؤمنون؟ ومن هو الطاغوت الذي أمرنا لنكفر به؟ ومن هو الامام الذي تجب طاعته؟ ومن هي الدول التي تنتظر عاقبة قوم عاد؟ وما هي الحضارات التي تمثل حضارة ذي القرنين أو داود وسليمان؟ وهكذا .. وحينما تعصف بالأمة الفتن حتى تدع الحليم حيرانا ، هنالك لا بد من التدبر في القرآن لمعرفة السبيل الى الخروج منها. هكذا أمرنا الرسول الأكرم

٢٥٨

صلّى الله عليه وآله حين قال : «فاذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن» (١) وقال الامام أمير المؤمنين عليه السّلام : «عليكم بكتاب الله فانه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والريّ الناقع ، والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق». (٢)

والمتدبر في القرآن يطبق آياته على نفسه ، ويتساءل عن آية عائبة فيها ليصلحها ، أو عارفة ناقصة عنده ليكملها ، أو طريقة رشد فيتبعها ، أو منهج ضلال فيتركه.

قال الامام أمير المؤمنين عليه السّلام وهو يصف المؤمنين :

«أما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا ، يخوفون به أنفسهم ، ويستثيرون به دواء دائهم. فاذا مروا بآية فيها تشويق ، ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم». (٣)

وبكلمة : إن ما أفهمه من التدبر هو البحث عن تطبيقات الآيات سواء على أنفسهم أو على الخليقة .. ولكن للتدبر أيضا شرطه المتمثل في الانفتاح على القرآن بعيدا عن حجب القلب وأقفاله ، عن تلك الأحكام المسبقة ، والقوالب الفكرية الجاهزة ، والتأويلات القائمة على أساس الهوى والشهوات.

(أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٩٢) ـ ص (١٧).

(٢) المصدر / ص (٢٣).

(٣) نهج البلاغة / الخطبة رقم (١٩٣).

٢٥٩

قالوا : القفل من القفيل الذي هو ما يبس من الشجر ، فكان القلب يعشو فلا يستقبل نور القرآن ويكون كالشجرة اليابسة التي لا تستفيد من الماء والأشعة. وقال البعض : إنه من القفول بمعنى الرجوع ، فكان القلب المنصوب عليه القفل لا ينفذ فيه الهوى ، بل يرجع عنه كما يرجع من واجه بابا مقفلا .. ويبدو إن أقفال القلب هي الأهواء المطاعة ، والرذائل الراسخة فيها ، وما يسبب قسوتها أو الختم عليها. ومن أراد فهم القرآن زكى نفسه ، وطهرها من الشكوك والريب وحب الشهوات ومن الكبر والحقد والحسد والجبن وما أشبه ، فآنئذ ينساب نور الهدى فيه بلا حجب ولا موانع.

جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السّلام : إن لك قلبا ومسامع وإن الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه ، فلا يصلح أبدا وهو قول الله عزّ وجلّ «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها». (١)

[٢٥] ولأن هذه الفئة تركت أمراضها القلبية تتراكم ، فقضت على بقايا نور الايمان في أنفسهم ، كانت عاقبة أمرهم الردة عن القيادة الشرعية ، وبالتالي عن الدين.

وكثير أولئك الذين ارتدوا عن الدين بسبب بعض هذه الأمراض ، ونحن نشير الى بعضهم لنعتبر بهم. فأولهم قابيل الذي طوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ، وكان مرضه الحسد إذ تقبل قربان أخيه ولم يتقبل منه ، وكذلك كان مرض عابد بني إسرائيل المعروف ب (بلعم باعورا) الذي بلغ درجة عالية من الأيمان والتقوى حتى استحق أن يعطى الاسم الأعظم ، وكان يدعو به فيستجيب الله له ، ولكنه حين اختار الله موسى عليه السّلام مال الى فرعون وارتضى لنفسه أن

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (٤١).

٢٦٠