من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

فيهم .. وقد تعم كلمة الغيبة لتشمل الافك والبهتان.

وفي الحديث عن الامام الصادق عليه السلام : من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وسأل مرة عن الغيبة فقال عليه السلام : «الغيبة هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبث عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد». (١)

وفي هذا النص نرى كيف تعم كلمة الغيبة لتشمل البهتان وكيف أنها تخص العيوب المستورة ، أما العيب المتجاهر به صاحبه فان ذكره لا يعد غيبة ، وهكذا جاء في رواية مرسلة عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال :

«من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه مما عرفه الناس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه الناس اغتابه ، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته» (٢)

وهكذا لم يجعل الإسلام للفاسق المتجاهر بفسقه حرمة.

وجاء في رواية نبوية : «إذ كروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس». (٣)

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)

هكذا الغيبة. أرأيت أن شخصية الإنسان أعظم عنده أم شخصه؟ أليس المرء يسعى جهده من أجل الكرامة والتقدير ، فاذا اغتابه أحد فقد اغتال شخصيته ، ونال

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٥ / ص ٢٤٠

(٢) المصدر ص ٢٤٥

(٣) القرطبي / ج ١٦ / ص ٣٣٩

٤٢١

من كرامته وهي أعز من جسده ، ولأنه ليس في محضره فكأنه أكل لحمه بعد موته.

بالله ما أروع هذا التشبيه؟ وما أنفذه من تحذير في وجدان الإنسان الحر. وكيف يقرب كتاب ربنا الحقائق العظيمة الى وعينا ، وبهذه البلاغة النافذة .. وكيف يبصرنا بأن البشر ليس كسائر الأحياء يعيش حياة مادية ضمن حدود بدنه فحسب ، بل إنه يمتد مع سمعته وشهرته أنى توسعت في أفق المكان والزمان .. وقد يضحي الإنسان بجسده في سبيل كرامته ، أو لا يدل ذلك على أن كرامة الإنسان أعظم عنده من شخصه؟ من هنا فان الاعتداء عليها ليس بأقل من الاعتداء على بدنه .. والغيبة اعتداء سافر على كرامة الشخص فما أشدها حرمة؟

من هنا جاءت النصوص تترى في التحذير من الغيبة باعتبارها أكلا للحم المغتاب بعد موته.

روي أن ماعزا جاء الى النبي صلّى الله عليه وآله فشهد على نفسه بالزنا فرجمه رسول الله صلّى الله عليه وآله فسمع نبي الله رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : أنظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال : أين فلان وفلان؟ فقالا : نحن ذا يا رسول الله. قال : انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ، فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا؟ قال : فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده انه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها (١).

وروي عنه صلّى الله عليه وآله أنه قال : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم». (٢)

__________________

(١) القرطبي / ج ١٦ / ص ٣٣٥

(٢) المصدر / ص ٣٣٦

٤٢٢

وعن الامام الصادق عليه السلام أنه قيل له : بلغنا أن رسول الله كان يقول : إن الله يبغض البيت اللحم؟ قال : «إنما ذاك البيت الذي يؤكل فيه لحوم الناس ...». (١)

وروي عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال : «قال رجل لعلي بن الحسين (الامام زين العابدين عليه السلام) أن فلانا ينسبك الى أنك ضال مبتدع ، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام :

ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه ، ولا أديت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه ، إن الموت يعمّنا ، والبعث محشرنا ، والقيامة موعدنا ، والله يحكم بيننا ، إياك والغيبة ، فانها إدام كلاب النار ، واعلم ان من أكثر من ذكر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه». (٢)

المغتاب في ولاية الشيطان

والغيبة تخرج صاحبها من ولاية الله الى ولاية الشيطان ، فما هي ولاية الشيطان؟ أظهر ما فيها الفرقة والتشتت والتشرذم التي هي سبب مصائب المسلمين اليوم. وإذا أمعنا النظر فيها لرأينا أكثرها نفسية ، فبسبب النظرة السلبية الى بعضنا تنامت خلافاتنا ، والغيبة هي المسؤولية عن انتشار النظرة السلبية. فلو كنا نتمسك بتعاليم الإسلام في التعامل مع بعضنا على أساس الثقة وكنا نستر العائبة ونشيع العارفة ، ونبث الروح الايجابية ، لكنا إخوانا متعاونين ، من هنا حذرت النصوص الدينية من الغيبة وجعلتها سببا للخروج من ولاية الله حيث الوحدة والصفاء ،

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٥ / ص ٢٥٦

(٢) فبسبب كثرة ذنوبه يذكر عيوب الناس كثيرا. المصدر / ص ٢٤٦.

٤٢٣

والدخول في ولاية الشيطان.

سأل أحدهم الامام الصادق عليه السلام : قائلا : يا ابن رسول الله أخبرني عمن تقبل شهادته ومن لا تقبل؟ فقال :

«يا علقمة ، كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته» قال فقلت له : تقبل مقترف للذنوب؟ فقال :

يا علقمة ، لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادات الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ، لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق ، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة ، وإن كان في نفسه مذنبا ، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله عزّ وجلّ ، داخل في ولاية الشيطان. (١)

إن الإسلام يريد أن يقوم المجتمع على أساس الثقة ، فمن زعزع هذا الأساس وأشاع جوّ اللاثقة بين أعضائه فقد برئ من ولاية هذا المجتمع المسلم التي هي ولاية الله ، وانتمى الى الأعداء.

ومن هنا يؤكد الإسلام ان المغتاب ينفصل عمن يغتابه ، لأنه تنقطع العصمة بينهما.

فقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه قال :

«من مدح أخاه المؤمن في وجهه ، واغتابه من ورائه فقد انقطع ما بينهما من العصمة». (٢)

وفي حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال : «لا يطمعن المغتاب

__________________

(١) المصدر / ص ٢٤٨

(٢) المصدر ص ٢٤٩

٤٢٤

في السلامة». (١) ، ولعل السبب في ذلك ان من يتبع عيوب الناس يستثير عدوانهم ، أو لأنه يخلق المجتمع المفكك الذي لا يحلم في السلامة.

وقد جعلت بعض النصوص الدينية الغيبة أشد من الزنا ، ربما لأن اثار الغيبة الخطيرة في تفرقة الناس والنيل من كرامتهم ، وإشاعة الفاحشة أشد من اثار الزنا ، لأن الحكمة المأثورة في حرمة الزنا هي اختلاط المياه وهدم الأسرة مما يسبب في تفكك المجتمع ، وهذه حكمة حرمة الغيبة أيضا ، ولكن يبدو أن الغيبة أفتك بوحدة الامة من أختها الزنية.

وقد أمر الإسلام بأن يستحل المغتاب من صاحبه حتى يغفر الله له ، لان ذلك ـ فيما يبدو ـ يعيد العصمة المقطوعة بينهما ويسبب في إعادة اللحمة الى المجتمع ، بالاضافة الى أن ذلك يكون رادعا للمغتاب أن يعود الى مثل ذلك مرة أخرى.

قال النبي صلّى الله عليه وآله : «الغيبة أشد من الزنا» ، فقيل يا رسول الله ولم ذاك؟ قال «صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه ، وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب عليه حتى يكون صاحبه الذي يحله». (٢)

ولأن الغيبة تفتح ثغرة في الحصن الاجتماعي فان على الناس أن يأخذوا على يد المغتاب حتى لا يهدم حصنهم ، بأن يدافعوا عن أخيهم الغائب ، فقد جاء في الأثر عن ابن الدرداء عن أبيه أنه قال : نال رجل من عرض أخيه عند النبي ، فردّ رجل من القوم عليه فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) «من رد عن عرض أخيه كان له حجابا من النار». (٣)

__________________

(١) المصدر

(٢) المصدر / ص ٢٥٢

(٣) المصدر

٤٢٥

وفي حديث آخر ، عن النبي صلّى الله عليه وآله : «من رد عن عرض أخيه المسلم كتب له الجنة البتة». (١)

وروي عن الامام الباقر عليه السلام أنه قال : «من اغتيب عنده أخوة المؤمن فنصره وأعانه نصره الله في الدنيا والآخرة ، ومن اغتيب عنده أخوه المؤمن فلم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر على نصرته وعونه خفضه الله في الدنيا والآخرة» (٢)

ولكي نحافظ على حصن ولاية الله المحيطة بنا ، لا بد أن نذكر أخانا المؤمن بأحسن ما فيه حتى تزداد اللحمة الاجتماعية تماسكا ، والقلوب المؤمنة صفاء وتحاببا.

جاء في الحديث المروي عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال : «اذكروا أخاكم إذا غاب عنكم بأحسن ما تحبون أن تذكروا به إذا غبتم عنه». (٣)

الغيبة : إشاعة الفاحشة

كيف تشيع الفاحشة في الأمة مع أن المغتاب حين يذكر صاحب الذنب يذمه بذنبه ويجعله أمثولة وعبرة لا مثلا صالحا وقدوة؟

السبب ان للذنوب هيبة في نفوس المؤمنين ، والجو العام في المجتمع المسلم يرفضها ، فلذلك يضطر الذي قدم عليها الى التكتم ، فاذا انتهكت عصمته أمام الملاء لم يعد يخفيها ، كما ان الآخرين إذا عرفوا وجود من يرتكب الذنب لا يجدون حرجا من الاقتداء بهم ، وهكذا تشيع الفاحشة في الأمة.

__________________

(١) المصدر

(٢) المصدر ص ٢٥٥

(٣) المصدر / ص ٢٥٣

٤٢٦

من هنا يعتبر المذنب الكاتم لذنبه أقل إجراما ممن يتجاهر به ، كما يعتبر الذي يذيع الفاحشة كمن يبتدأ بها. جاء في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : «من أذاع فاحشة كان كمبتديها ، ومن عيّر مؤمنا بشيء لا يموت حتى يركبه». (١)

وجاء في حديث مأثور عن الامام الكاظم عليه السلام. قال (الراوي) قلت له (الامام) : جعلت فداك ، من إخواني يبلغني الشيء الذي أكره له فأسأله عنه فينكر ذلك ، وقد أخبرني عنه قوم ثقاة؟ فقال لي : يا محمد! كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم ، ولا تذيعن عليه شيئا تشينه ، وتهدم به مروته ، فتكون من الذين قال الله عز وجل : «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ». (٢)

هؤلاء لا حرمة لهم

وقد أنهى الإسلام حرمة ثلاث طوائف :

الأولى : أئمة الجور الذين لا بد من توعية الناس بظلمهم وسوء إدارتهم حتى يتمكن المسلمون من إزاحتهم أو لا أقل من تجنب خطرهم ، الثانية : أصحاب الضلالة كالأحزاب الكافرة والمنافقة والمبتدعين في الدين ، الثالثة : الفسقة المتجاهرين.

فقد روي عن الامام الباقر عليه السلام أنه قال : «ثلاثة ليست لهم حرمة :

__________________

(١) المصدر / ص ٢٥٥

(٢) المصدر

٤٢٧

صاحب هوى مبتدع ، والامام الجائر ، والفاسق المعلن الفسق». (١)

ويبدو أن المظلوم أيضا يجوز له أن يغتاب من ظلمه لقوله سبحانه : «لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ».

ويقول رسول الله صلّى الله عليه وآله : «من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروته وظهرت عدالته ، ووجبت اخوته وحرمت غيبته». (٢)

هكذا اشترط الرسول صلّى الله عليه وآله توافر هذه الصفات في المؤمن حتى تحرم غيبته.

كلمة جامعة في الغيبة

وفي نهاية المطاف نقرء معا كلمة جامعة في الغيبة منسوبة الى الامام الصادق عليه السلام أنه قال : «الغيبة حرام على كل مسلم ، مأثوم صاحبها في كل حال ، وصفة الغيبة أن تذكر أحدا بما ليس هو عند الله عيب ، وتذم ما يحمده أهل العلم فيه ، وأما الخوض في ذكر غائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم ، فليس بغيبة وان كره صاحبه إذا سمع به ، وكنت أنت معافى عنه خاليا منه ، تكون في ذلك مبينا للحق من الباطل ببيان الله ورسوله صلّى الله عليه وآله ، ولكن على شرط أن لا يكون للقائل بذلك مرادا غير بيان الحق والباطل في دين الله ، وأما إذا أراد به نقص المذكور به بغير ذلك المعنى ، مأخوذ بفساد مراده وإن كان صوابا ، فان اغتبت فأبلغ المغتاب فلم يبق إلا أن تستحل منه ، وإن لم يبلغه ولم يلحقه علم

__________________

(١) المصدر / ص ٢٥٣

(٢) المصدر / ٢٥٢

٤٢٨

ذلك ، فاستغفر الله له.

والغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أوحى الله تعالى عزّ وجلّ الى موسى بن عمران عليه السلام المغتاب إن تاب فهو آخر من يدخل الجنة ، وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار ، قال الله عزّ وجلّ : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (الآية) ، ووجود الغيبة يقع بذكر عيب في الخلق والخلق ، والعقل والمعاملة والمذهب والجيل وأشباهه ، وأصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع : شفاء غيظ ومساعدة قوم ، وتهمة ، وتصديق خبر بلا كشفه ، وسوء ظن ، وحسد ، وسخرية وتعجب ، وتبرم ، وتزين ، فان أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق ، فيصير لك مكان الغيبة عبرة ومكان الإثم ثوابا» (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)

ولعل هذه الخاتمة التي تفيض مغفرة ورحمة تدل الى أن الغيبة بلاء يعم الكثير من الناس ولا بد ألّا تصبح مقبولة ، ويذهب قبحها ، بل نتقي الله فيها ، ومن جهة أخرى لا يجوز أن يستبد اليأس بنا إذا وقعنا فيها بل نتوب الى الله ان الله تواب رحيم.

__________________

(١) بحار الأنوار / ٧٢ / ص ٢٥٧ عن مصباح الشريعة ص ٣٢

٤٢٩

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

٤٣٠

بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ

هدى من الآيات :

بعد أن يعطينا القرآن بصيرة الوحي في العلاقات بين أبناء آدم الرافضة لكل أشكال التمايز إلا بالتقوى ، يذكرنا بأن الايمان درجة أعلى من الإسلام ، وأن ادعاء الأعراب بلوغها خاطئ ، بيد ان طاعة الله والرسول لا تذهب سدى ، (حتى وإن لم يبلغ المرء درجة الايمان).

ويبين الذكر مقياس الايمان الحق في الطهارة من الريب والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله. ويسفه أولئك الذين يدعون الايمان عن كذب أو لا يعلمون أن الله محيط علما بكل ما في السموات والأرض فكيف لا يعلم مدى إيمانهم؟

وتراهم يمنّون على الرسول إسلامهم (وقد يكون الإسلام من أجل متاع الدنيا). أما الايمان فهو منّة من الله عليهم وليس العكس .. وتذكرنا خاتمة السورة بعلم الله النافذ في كل شيء.

٤٣١

ولعل هذه الآيات تنتظم مع الآيات السابقة في أن هناك فريقا من الناس يحاولون أن يستأكلوا دينهم ويتعالوا على الناس باسم الإسلام والايمان ، فيجعلوا الدين وسيلة لبلوغ مآرب الدنيا ، وهذا بؤرة تمايز لا يعترف به الإسلام. ولا بد من فضح هؤلاء بتعريضهم لامتحان الطاعة والجهاد.

بينات من الآيات :

[١٣] التوحيد صبغة المجتمع الذي يبشر به الدين ، وتوحيد الله سبحانه يتنافى والقيم الشركية التي يهبط إليها البشر عند ما يبتعدون عن الوحي الالهي .. من تقديس الاباء والتراث والتقاليد والتمحور حول القبيلة والعشيرة .. وتقديس الأرض والقوم والحزب ، الى تأليه الثروة والقوة واللون والعنصر.

كلا .. الإنسان فوق ذلك جميعا إذا تمسك بحبل الله ، واهتدى بنور الوحي والعقل.

وتلك القيم الزائلة ليست فقط شركية تقلل من قيمة الإنسان ـ بعيدا عن تلك الاعتبارات ـ وتشوه رؤيته الى حقائق الخلق ، وتحجبه عن معرفة الخالق. بل هي أيضا جاهلية متخلفة ، وما تقدمت البشرية خطوة إلا بقدر ابتعادها عن تلك القيم بمثلها.

فمن عكف على عبادة صنم الأولين ، وقدس تراثه وتقاليده أنى له أن يساير تطورات الزمن ، ويستوعب تجارب الآخرين ، وينمو مع الأفكار التقدمية؟ ومن عبد صنم قبيلته أو عشيرته هل يمكنه أن ينفتح على إيجابيات غيره أو يمد يد التعاون مع من يعتبرهم الأرذلين ويسخر منهم ، مهما كان عندم من أفكار وطاقات؟

وهكذا .. كل من حدد نفسه في إطار ضيق لا يمكنه أن ينطلق مع قطار الحضارة

٤٣٢

أنى مشت مواكبها ، ومن أبرز سيئات مثل هذه التصورات هدم الجسور الطبيعية بين أبناء آدم ، وإشاعة روح التباغض والتناحر بينهم ، مما يجعلهم في مواجهة بعضهم ، وقد يدفعهم نحو الحروب الطاحنة التي لم يتخلص منها البشرية طوال تاريخها المعروف بسبب تمسكهم بهذه القيم الجاهلية.

من أجل ذلك دعت رسالات الله الى رفض هذه القيم التي ما أورثت الانسانية إلا خبالا .. والاستعاضة عنها بقيمة التقوى .. وقالت الآية الكريمة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ)

والخطاب لم يخص المؤمنين بالرغم من ان سياق السورة يقتضي ذلك ، لأنه كان ينظم العلاقة بينهم. ربما لأن هذه تنفع البشرية كما تنفع المؤمنين ، وإذا كان الناس جميعا مدعوون إليها فالمؤمنون أولى بالتمسك بها. ثم إن علاقة المؤمنين بغيرهم ينبغي أن تقوم على أساس هذه البصيرة ، فلا يجوز أن يعتبر العرب منهم أنهم الأعلى بلغتهم أو عنصرهم ، فتشكل هذه العقيدة الجاهلية حاجزا دون دخول سائر الشعوب في دين الله.

(إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى)

فالأصل واحد ، وإذا كنا نكرم آباءنا ، فكلما تقدمنا في الزمن فلن نتجاوز أبانا الأكبر ، وجدتنا الكبرى ، آدم وحواء. فأولى بنا أن نجعلهما محورا ونكرم كل من ينتمي إليهما من سائر البشر.

قالوا : والآية تدل على أن خلقة الإنسان ليست بماء الذكر فقط ، وإنما يشترك فيها ماء الأنثى كما قال ربنا سبحانه : «خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ

٤٣٣

وَالتَّرائِبِ» (١) أي صلب الأب وترائب الأم.

وهذه البصيرة القرآنية تنفي الفكرة الجاهلية التي كانت تزعم ان رحم الأم مجرد وعاء لنمو نطفة الأب ، وصادروا بذلك حق المرأة في انتساب الطفل إليها وقال قائلهم :

بنونا بنو آباءنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

كلا .. الأم أحد الشريكين في الخلق ، واحترامها يساوي أو يفوق احترام الأب في الشريعة.

وهكذا تنفي الآية العنصرية الجنسية التي ابتلى بها الجاهلون العرب قبل الإسلام ، ونادى بالمساواة بين الذكر والأنثى فيما يرتبط بأصل الخلق.

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ)

قالوا : الشعب مجموعة القبائل كمضر وعدنان ، بينما القبيلة هي تفرعات الشعب ، وقال بعضهم : الشعب من ينسب الى الأرض ، بينما القبيلة تنسب الى أصلهم. وقال آخرون : الشعب هم قبائل غير العرب .. وأنى كان فان هذا التقسيم الذي يبتدأ بوحدة الأسرة ثم يتوسع الى العشيرة ثم الفخذ والبطن حتى يصل الى العمارة والقبيلة ثم الشعب ، لم يكن عبثا ، وإنما بهدف التعارف.

(لِتَعارَفُوا)

فمنطق الصراع الذي اختلقه داروين مرفوض في الحياة البشرية ، إنما الناس

__________________

(١) الطارق / ٦ ـ ٧

٤٣٤

اختلفوا ليمارس كل دوره بحرية ولتتنامى تجربة البشرية عبر تنوعها ، ولكي يغني كل فريق تجارب غيرهم بما اكتشفه من تجارب .. وبالتالي ليتعارفوا.

بلى إن ذات الحكمة التي شرعت الأسرة من أجلها قائمة في بناء الوحدات الاجتماعية الأخرى كالعشيرة والقبيلة والشعب.

وهذه البصيرة تهدينا :

أولا : الى مشروعية هذه التقسيمات الطبيعية وانها ـ في الأساس ـ نافعة ، وعلينا أن نعيدها الى طهرها ، بعيدا عن كل ألوان العصبية والتعالي لنجني ثمارها الطيبة.

وهذا ما يدعو اليه الإسلام كما جاء في النصوص الدينية من ضرورة صلة الرحم والتواصل مع العشيرة جاء في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه قال : «لا يدخل الجنة قاطع رحم» (١).

وقال : «لما أسري بي الى السماء رأيت رحما متعلقة بالعرش تشكو رحما الى ربها ، فقلت لها : كم بينك وبينها من أب ، فقال : نلتقي في أربعين أبا» (٢).

وجاء في رواية مأثورة عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أنه خطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته ، وعن مداراتهم وكرامتهم ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، هم أعظم الناس حياطة له من ورائه ، والمهم لشعثه ، وأعظمهم عليه حنوا ، إن أصابته مصيبة ، أو نزل به يوما بعض مكاره الأمور ، ومن يقبض يده عن عشيرته ، فانما

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٤ / ص ٩١

(٢) المصدر /

٤٣٥

يقبض عنهم يدا واحدة ، وتقبض عنه منهم أيد كثيرة ، ومن محض عشيرته صدق المودة ، وبسط عليهم يده بالمعروف إذا وجده ابتغاء وجه الله ، أخلف الله له ما أنفق في دنياه ، وضاعف له الأجر في آخرته» (١).

ثانيا : أن التعارف بين الناس واحد من أهم مقاصد الشريعة الغراء ، لماذا؟ لولا معرفة الناس لما اكتملت حكمة الابتلاء في الخلق أو تدري لماذا؟ لأن الابتلاء لا يتم إلا بالحرية والمسؤولية فلو اختلط الناس ببعضهم كيف يميز الصالح فيثاب عن المجرم فيعاقب؟ أم كيف تتراكم مكاسب المحسنين وتحصن من أن يسرفها الكسالى والمجرمون؟ كلا. لا بد أن يميز الناس عن بعضهم تمييزا كافيا ليأخذ كل ذي حق حقه ، فيشجعه ذلك على المزيد من العطاء ، ويأخذ التنافس دوره في دفع عجلة الحياة قدما الى الامام.

ثالثا : إن حكمة الاختلاف هو التكامل ـ بعد التنافس على الخيرات ـ وليس الصراع والتطاحن ، وقد قال ربنا سبحانه : «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» ومن دون التعارف كيف يتم التعاون ، إن على الناس أن يكتشفوا إمكانات بعضهم ليتبادلوا الخيرات ، أما إذا تقوقعت كل طائفة في حدودها الجغرافية أو الاجتماعية ولم يتعارفوا فكيف يمكن التعاون بينهم؟.

ولعل هذه البصيرة تهدينا الى أهمية التعارف بين الشعوب في عصرنا الراهن ، لأن إمكانات التعاون بينهم لا تزال غير مستغلة حتى بنسبة (١٠ خ) ولو ضاعفنا المؤسسات العالمية في كافة المجالات عشرات الأضعاف لكانت فرص التعاون لا تزال أوسع.

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)

__________________

(١) المصدر / ص ١٠١

٤٣٦

حينما تسقط القيم الزائفة ، والعصبيات الجاهلية المتخلفة ينفتح أفق التنافس الشريف على الخيرات التي يلخصها القرآن هنا بكلمة «التقوى» ويفصلها في آية مشابهة قائلا :

«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (١).

ونستلهم من لحن القول في هذه الآية : إن التنافس على العمل الصالح والتسابق في الخيرات هو هدف اختلاف الشعوب ، وإن لكل منهم شرعة ومنهاجا ، بل إن هذا الاختلاف والتنوع مطلوب إذا كان وسيلة للتنافس البناء ، والتعارف والتعاون ، كما ان الاختلاف بين الناس في مجتمع واحد هدفه التسارع الى الخيرات ، والتعاون فيها كذلك التفرع بين الشعوب والمجتمعات المتنوعة أليس يقول ربنا سبحانه :

«أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (٢).

وإذا كان الهدف من هذا التنوع التسارع في الخيرات ، فان أكرم الخلق عند الله من استبق إليها ، فالأقرب الى الصراط المستقيم ، والأسبق في الصالحات هو الأكرم ، لأنه الذي يحقق الهدف دون غيره ، والى هذه تشير كلمة التقوى .. أليست

__________________

(١) المائدة / ٤٨

(٢) الزخرف / ٣٢

٤٣٧

التقوى هي المعرفة بالله والعلم بشريعته ، والاجتهاد في تنفيذها؟

وأصل الكلمة من الوقاية ، أي التحصن ضد أسباب الهلاك ولا تحصل هذه الوقاية من دون معرفة الطريق والاستقامة عليه ، بعيدا عن أمواج الفتن ، وضغوط الهوى ورياح الشهوات ، لذلك كانت التقوى أرفع درجة من الايمان ، كما إن الايمان أرفع درجة من الإسلام ، وقد قال الامام الرضا ـ عليه السلام ـ : «الايمان فوق الإسلام بدرجة ، والتقوى فوق الايمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، وما قسم في الناس شيء أقل من اليقين» (١).

وإنما رفع الإسلام قواعد المجتمع الفاضل على أساس التقوى ، لأنه من دونها تمزق العصبيات الجاهلية التجمع البشري ، ولا تدعه يتكامل ، بل في كثير من الأوقات يتقابل مع بعضه ، ويسير في طريق الهدم.

قال الله سبحانه : «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (٢).

إن كلمة التقوى هي صبغة التجمع الايماني ومحوره ، وعماد تماسكه ، ومبعث قوته ، بينما العصبيات الجاهلية هي صبغة سائر المجتمعات غير الايمانية .. وحين حارب الإسلام هذه العصبيات استطاع أن يصهر المجتمع الجاهلي المتشرذم في بوتقة التوحيد ، ويبني منه تلك الحضارة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا.

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية : ان النبي صلّى الله عليه وآله أمر بني

__________________

(١) تفسير نمونه عن بحار الأنوار / ج ٧٠ / ص ١٣٦

(٢) الفتح / ٢٦

٤٣٨

بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل الآية. (١)

ويظهر من هذا الحديث والذي يليه مدى الصعوبة التي عاناها رسول الله في انتزاع روح العصبية من ذلك المجتمع الجاهلي المتخلف ، وقد روي عن ابن عباس أنه لما كان يوم فتح مكة أمر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسير بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم ، وقال الحارث بن هشام : ما وجد محمد (ص) غير هذا الغراب الأسود حتى يؤذن له ، وقال سهيل بن عمر : إن يرد الله شيئا يغيره ، وقال أبو سفيان : اني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبرئيل النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأخبره بما قالوا : فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية. (٢).

وحتى آخر أيامه كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ يكافح ضد الحمية الجاهلية ، فقد ذكر الرواة أنه خطب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بمنى في وسط أيام التشريق (حيث تجمع الحجاج من كل البلاد) وهو على بعير فقال :

«يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وان أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت؟ قالوا نعم قال ليبلغ الشاهد الغائب» (٣).

وهكذا تجاوز المسلمون السابقون عقبات التخلف الجاهلي حين تجاوزوا حواجز

__________________

(١) القرطبي / ج ١٦ / ص ٣٤١

(٢) المصدر

(٣) المصدر / ص ٣٤٢

٤٣٩

الدم واللون والإقليم ووحدوا طاقاتهم المتشتتة تحت راية التوحيد ، وجعلوا التقوى محور تنافسهم البناء.

وقد اشتهرت عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في ذلك مقطوعة رائعة :

الناس من جهة التمثال أكفاء

أبوهم آدم والأم حواء

نفس كنفس وأرواح مشاكلة

وأعظم خلفت فيهم وأعضاء

فان يكن لهم من أصلهم حسب

يفاخرون به فالطين والماء

ما الفضل إلا لأهل العلم انهم

على الهدى لم استهدى أدلاء

وقدر كل امرء ما كان يحسنه

وللرجال على الأفعال سيماء

وضد كل امرء ما كان يجهله

والجاهلون لأهل العلم أعداء (١)

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

وتأتي هذه الخاتمة لبث السكينة في قلوب المؤمنين ألّا يقلقوا إن رأوا تكالب الناس على الدنيا وتدابرهم عن أهل التقوى ، فان الله عليم بهم وخبير وبيده أزمة الأمور وهو يكرم المتقين ، وكفى به شاهدا وكفى به مثيبا عادلا.

[١٤] لأن تجاوز الحمية الجاهلية صعب مستصعب خصوصا على الأعراب الذين عاشوا دهرا يسبّحون بأمجادهم ومفاخرهم ، فان القرآن الكريم يذكرنا بأن الايمان ليس مجرد التسليم الظاهر للدين الجديد ، بل هو تغيير عميق للشخصية يتجلى في الممارسات العملية ، ومن زعم أن بامكانه الجمع بين قيم الجاهلية والدين فانه لم يفهم معنى الدين. أو ليس الدين شفاء من أمراض الجاهلية .. وبديلا صالحا للقيم الفاسدة فكيف يجتمعان؟

__________________

(١) المصدر

٤٤٠