من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال : «من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا ، ولا يسمع زفير جهنّم ولا شهيقها ، وهو مع محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ»

موسوعة بحار الأنوار / ج ٩٢ / ص ٣٠١

٦١
٦٢

الإطار العام

طف بفكرك آفاق السماوات ، وأقطار الأرض. ماذا ترى؟ ألا ترى آيات الله تتجلى في كل شيء؟ إذا لماذا يكفر هؤلاء الناس؟! تجيب سورة الجاثية التي نستلهم من إطارها أنها تعالج حالة الإفك عند البشر ـ تجيب عن ذلك ببساطة ـ : إن الآيات ليست لكلّ الناس ، انما هي للمؤمنين ، ولقوم يوقنون ، ولقوم يعقلون (٥).

وإذا كفروا بهذه الآيات فبماذا عساهم يؤمنون؟! انهم لا يؤمنون بشيء فويل لهم ، ولكل أفاك أثيم ، يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصرّ مستكبرا (٨).

وقد تنفذ آية في أفئدتهم ولكنهم لا يسعهم الاستكبار دونها ، هناك يتخذونها هزوا إيغالا في الجحود.

كيف نعالج هؤلاء؟ لا بشيء يمكن شفاؤهم ، بل بشّرهم بعذاب أليم ومهين (٩) في جهنم التي تأتيهم من ورائهم ، فلا يستطيعون لها ردّا (١٠).

٦٣

ثم يذكرنا السياق بتلك الآيات التي تهمنا مباشرة : فهذا البحر كيف سخّره الله مطية للسفن ، ومخزنا للطعام والزينة ، وآية تبعث نحو شكره .. كما سخر لنا ما في السماوات والأرض ، كلّ ذلك نعمة وفضل منه علينا ، لعلنا نبلغ هدفا ساميا هو التفكر.

ولكن كيف نفكّر تفكيرا سليما؟

الجواب : لا بد أن نتجنب التأثر بالبيئة الضالة ، ولا نأبه بهؤلاء الذين يكفرون ، لأنهم لا يرجون أيام الله ، فلهم أعمالهم التي سيجزون بها ، ولن تصلكم سيئاتهم ، كما لن تصلهم صالحاتكم.

والبعض ينتظر شيئا مجهولا حتى يهتدي ولكن عبثا. إذا لم تكن أنت الذي تبتغي الهدى فلن تنتفع بكل وسائل الهداية. وإليك مثلا من بني إسرائيل : لقد آتى ربنا بني إسرائيل الكتاب ، والحكم ، والنبوة ـ من وسائل الهداية ـ ورزقهم من الطيبات ـ من النعم المادية ـ وفضلهم على العالمين ، ولكنهم ـ إذ اتبعوا شهواتهم ـ غرقوا في الخلافات ، وضلوا عن الطريق بغيا بينهم.

وهذا الكتاب الكريم من عند الله ، الذي انزل ذلك الكتاب ، فلا فرق بينهما ، والذي لا يؤمن بعد نزول هذا الكتاب ، وينتظر مثل التوراة لن يبلغ الفلاح أبدا.

وفي هذا الكتاب بصائر وهدى ورحمة ، ولكن هل ينتفع به كل الناس؟! لا بل الذين يريدون ذلك. (أي لقوم يوقنون).

ومن التمنيات الباطلة : الوهم الذي يعيشه الكثير من الناس ، حيث يزعمون أنهم والمؤمنون سواء. كلا .. ليس الذين اجترحوا السيئات ، والذين آمنوا وعملوا

٦٤

الصالحات سواء. لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أو لا تعلمون ان الله خلق السماوات والأرض بالحق ، فكيف يجعلهما سواء. أليس ذلك باطلا؟! انه يجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

ويبقى سؤال : لماذا ينتهي البعض إلى هذا المصير الأسوأ؟ لأنهم يتخذون آلهتهم أهواءهم ، فتراهم لا يتبعون الهوى فقط بل ويطيعونها إلى حد التقديس.

وحين يضل الله الذين يؤلهون أهواءهم يسلبهم مصادر العلم من العقل والاحاسيس ، وآنئذ لا أحد قادر على هدايتهم.

ويتخبطون في ظنونهم خبط عشواء ، فاذا بهم يقولون : «ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» ويتحدون النذر إذا قالوا لهم : احذروا الآخرة ، ويحتجون ـ إذا تليت عليهم آيات الله ـ «فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وهكذا يحجبون أنفسهم عن الحقيقة ببعض الشروط التعجيزية ، وسواء آمنوا أم لم يؤمنوا فان الجزاء واقع. الله يحييهم ثم يميتهم ثم يجمعهم إلى يوم القيامة لا ريب فيه.

وهل يضرون ربهم لو كفروا ولله ملك السماوات والأرض ، والمبطلون يخسرون يوم تقوم الساعة.

هنالك يتزيل الكفار عن المؤمنين ، بل يتميز الكفار فيما بينهم ـ كما المؤمنون ـ ، إذ «تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

هنالك يتجلى الفرق بين الناس حسب أعمالهم : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) ، بينما يحاكم الكفار ، ويسألون : لما ذا استكبرتم عن

٦٥

التسليم لآيات الله ، وكنتم قوما مجرمين ، وزعمتم انكم لستم على يقين من الساعة ـ بينما الساعة لا تحتمل الريب انها حق ـ؟ في ذلك اليوم تبدو سيئات أعمالهم ، كما ان الحقائق التي استهزءوا بها تحيق بهم ، اما نسيانهم للحقائق ـ وهو واحد من الأفعال القلبية ـ فانه يقابل بنسيان مثله ، ويقال لهم : «الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا».

وفي خاتمة السورة يعود السياق ويبين : ان جزاء اتخاذ آيات الله هزوا النار ، وسببه الاغترار بالحياة الدنيا ، ولله الحمد (أولا وأخيرا على رحمته وعدله) (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

٦٦

سورة الجاثية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ

___________________

(٤) (يَبُثُ) : ينشر.

(٥) (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) : صرفها هنا وهناك ، شمالا وجنوبا ، شرقا وغربا.

(٧) (أَفَّاكٍ) : صيغة مبالغة بمعنى كثير الإفك ، أي الكذب.

٦٧

اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)

___________________

(١١) (رِجْزٍ) : الرجز هو أشدّ العذاب.

٦٨

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ

هدى من الآيات

نقرأ في بداية سورة الجاثية أنّ هناك آيات في الكون لقوم يؤمنون ، ومن ثّمّ يوقنون بها ، وأخيرا بها يعقلون ، وهذا التدرّج في هذه الآيات يزيدنا معرفة بمنهج التكامل ، ففي البداية يجب أن يؤمن الإنسان بالآيات ويسلّم لها ، ومن ثمّ يتحوّل إلى حالة اليقين بعد أن يرى آياته سبحانه في الكون ، ويرى الانسجام التام بين رسالة الله في الأرض وآياته في السماء والأرض ، ومن بعد اليقين يتحوّل إلى مرحلة العقل.

ومن معاجز القرآن الكريم تشابه الآيات ، وهذا يعني أنّ كلّ الآيات تسير في خطوط متقاربة ، تنتهي بالتالي إلى هدف واحد ، فالتالي لآي الذكر الحكيم يتراءى له أنّ كلّ الآيات ذات بعد واحد ، إذ أنّ الكلمات هي الكلمات ، والأهداف هي ذاتها الاهداف ، وحتى تركيب الكلمات والموضوعات العامة التي توحي إليها العبارات وتشير إليها واحدة ، ولكن عند التدبّر العميق يتبيّن لنا أنّ وراء هذه

٦٩

الوحدة وهذا التشابه حقائق متنوعة ، وليس معنى ذلك تناقضها ، أو أنّها ليست من سنن الله التي تنبع من قاعدة واحدة وتنتهي إلى هدف هو التوحيد.

وسمّيت هذه السورة بهذا الاسم لاية فيها تصوّر لنا منظر الأمم في يوم القيامة وهم يجثون على ركبهم خشّعا خضّعا لله ، كلّ أمّة تدعى إلى كتابها ، وآيات هذا الدرس وما بعدها تعمّق فينا الايمان بالله سبحانه وتعالى والايمان بالبعث ، وبالرغم من أنّ هذه الحقيقة واحدة في مختلف السور إلّا أنّ كلّ آية من آيات القرآن الكريم في هذا الموضوع تثير في البشر إحساسا خاصّا ، وتضرب على أوتار معيّنة في قلبه ، وبالتالي تعالج أمراضا محدّدة ، ولذا يجب قراءة القرآن كلّه ، وبالرغم من أنّ قراءة سورة واحدة أو مجموعة آيات تفيد الإنسان وتنفعه إلّا أنّ قراءة كلّ القرآن ضروري ، لأنّ نواقص البشر كثيرة ومتنوّعة ولا علاج لها إلّا في القرآن.

بينات من الآيات :

[١] (حم)

سبق وأن قلنا أنّ الحروف المقطّعة ربما تكون إشارة للقرآن ذاته أو أسرارا بين الله وأحبّائه ، وقال البعض : انّ «حم» اسم للسورة ، وإشارة إليها.

[٢] (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

العزيز الذي لا يغالب ولا يقهر ، والحكيم الذي لا يخطأ.

وبما أنّ الكتاب تنزيل من الله فلتخشع له الأفئدة ، ولتطأطأ أمامه الأفكار. أو ليس ربّنا عزيزا فكتابه تجلّ لتلك العزّة؟ وهل ينبغي للعاقل أن يغالب كتاب ربّه ، ولا يخشى غضبته التي لا تحتملها السماوات والأرض؟!

٧٠

وربّنا حكيم ، وكتابه آية حكمته ، أفلا ينبغي أن نستوحي الحكمة منه؟

[٣] (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ)

إنّ الآيات الكثيرة المبثوثة في الكون تجعل الايمان عميقا في نفس البشر ، والمهم أن تزيدنا الآيات إيمانا به سبحانه ، إذ أنّ الله ضمّن كلّ شيء حقيقة العبودية ، فإذا ما نظرنا فيه وصلنا إلى تلك الحقيقة ، فنؤمن بالله ، وتخشع له قلوبنا.

ولكن يختصّ بمعرفة هذه الحقيقة المؤمنون الذين لا تمنع حجب الكبر والعناد قلوبهم عن معرفة ما تهدي إليه الكائنات من حقائق.

[٤] (وَفِي خَلْقِكُمْ)

ألا ترى كيف يذرأ الله الخلق من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات ، وكيف يطوّره خلقا من بعد خلق ، نطفة فعلقة ثم مضغة ثمّ عظاما فكسى العظام لحما ثمّ أنشأه خلقا آخر؟ ألا ترى كيف يخلقنا العليم القدير في بطون أمّهاتنا خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ، وأجرى علينا الغذاء ، وبعد أن ولدنا حنّن علينا قلوب الآباء والأمّهات؟ ألا ترى كيف خلقنا تامّين الخلقة ، في أحسن تقويم؟

وليس خلقنا كذلك بل كلّ الأحياء ، إذ أنّ الله كما البشر خلقهم عبر الانسلال كذلك الشجر ، فالبذرة تنبت الشجرة ، وهذه الشجرة تحمل بذرا ، لو زرعت هذه البذرة لأنبتت شجرا .. وهكذا.

وحين خلق الله الإنسان زوّده بمختلف الحاجات ، وأودعه العقل ليسخر به الحياة ، ويتغلّب على بعض قوانينها.

(وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

٧١

فتجد في الأرض أحياء حسب طبيعة الأرض وحاجات تكامل الأحياء فيها.

إنّ طريقة بثّ الله للدواب وانتشارها وتكاثرها ، كلّ ذلك آيات لقوم يوقنون ، واليقين درجة أعلى من الايمان ، ويبدو من الآية السابقة أنّها تدعو إلى النظر في عموم الآيات وذلك يؤدّي إلى الإيمان ، بينما الآية هذه التي تدعو إلى اليقين تثير فينا التطلّع إلى تفصيلات الحياة.

[٥] (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)

كذلك في اختلاف الليل والنهار آيات لمن يتبصّر عبر الأحداث والظواهر ، ويعقل ما وراء هذا التدبير الحكيم لتتابع الليل والنهار ، وكيف سخّر الله الشمس وأقمارها لتخدم حياة البشر فوق هذا الكوكب ، دون أن يستطيع أيّ واحد منها تغيير مساره قدر بوصة أو يتقدم ساعة عن مواقيته أو يتأخّر ساعة.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)

تفيض أشعة الشمس بما تحمل من بواعث الحياة على الأرض الهامدة ، وينهمر الغيث حاملا مواد أساسية من الفضاء المحيط ، ويرسل الربّ الرياح لواقح ، فيرزق عباده بكلّ ذلك بقدر مّا يشاء.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ)

إنّ الله يصرّف الرياح حيثما يريد ، بعضها مبشّرات بالرحمة ، وبعضها بالعذاب ، وينشر اللقاح أو يسقط الورق ، أو يحمل الغيث أو البرد ... وهكذا الرياح كما الغيث مسخّرات بإذن الله ، تجري بأمره حيث أصاب ، كلّ ذلك :

(آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

٧٢

فالذين يستوعبون دروس الخليقة ، ويحفظون المعلومات ليضيفوها إلى بعضها ، ويتفكّرون فيها جميعا ليعرفوا السنن التي تجريها والأنظمة التي تسيّرها ، هم أولئك الذين يصلون عبر الآيات الالهية إلى الحقائق الكبرى.

ولعلّ هذا التدرّج من الايمان إلى اليقين إلى العقل يوحي بأنّ الايمان هو تسليم النفس البشرية للحق ، واليقين درء للشكوك والظنون ، وترسيخ للسكينة في النفس ، أمّا العقل فهو لوعي تفاصيل الحقيقة للمحافظة على اليقين والزيادة فيه.

وبتعبير آخر : يكون الإنسان ضالا ، فإذا أطاع القلب الشيطان يصبح كافرا ، وإذا خرج الملك حتى أتمّ الشيطان هيمنته على القلب فقد أمسى صاحبه جاحدا مطبوعا على قلبه بالكفر ، أمّا إذا هزم القلب شيطانه ، وأسلم لربّه ، فقد آمن ، وإذا ازدادت هيمنة الملك على القلب حتى ثبّته الله على الايمان ، وألزمه كلمة التقوى ، وطرد الشيطان بما له من وساوس وشكوك ، فقد أصبح موقنا ، واليقين درجات فكلّما ازداد المؤمن عقلا عن ربّه وعلما بآياته سبحانه يزداد يقينا.

[٦] (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ)

الكون يدور كلّه حول الحق ، والقرآن يؤكّد هذه الحقيقة فكلّ آيات الله في الطبيعة تقودنا إليه ولكن إذا لم يؤمن الناس بالحق ..

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ)

إنكار الله بعد عرض هذه الآيات ليس إنكارا لله فقط ، بل هو أيضا إنكار للآيات نفسها ، وهل في الكائنات شيء أشدّ ظهورا من تلك الحقيقة التي تشترك في الشهادة عليها والدلالة إليها كلّ الكائنات؟! وإذا أنكرناها فقد أنكرنا كلّ شيء. أو ليس في كلّ شيء آية لله؟

٧٣

هكذا جاء في دعاء الامام الحسين عليه السّلام : «عميت عين لا تراك عليها رقيبا» (١)

[٧] وفي الآية التالية ينذر الله من لا يتبع هداه بالويل :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)

ويطرح السؤال التالي : ما هي علاقة هذه الآية بما تليها؟ يبدو أنّ هنالك علاقة واقعية ونفسية :

ألف : فالعلاقة الواقعية أنّ الذين لا يؤمنون بالله ولا يغمر قلوبهم نور المعرفة الالهية سيأفكون عن الحق ، ويقولون الكذب ، بل إنّ كلّ عمل يعملونه وكلّ خطوة يخطونها وكل هاجس من هواجسهم يحملهم إلى الافك والإثم ، ومثلهم مثل الآلة الحاسبة التي تركّب على أساس خاطئ فإنّ كلّ عمليّاتها خطأ ، وكذا الآلة الطابعة التي تركّب الحروف فيها على أساس خاطئ فكلّ كلمة تكتبها تخرج خاطئة ، ذلك أنّ الايمان بالله لا غيره هو الذي يحلّ طلاسم الحياة وأسرارها ، كيف وجد هذا الكون الهائل ، وإلى أين يصل ، وإلى أين ينتهي ، وما حكمة خلقه ، وما هي غاية وجودنا فيه؟

بلى. إنّ الإنسان الذي يسلب منه الايمان لا يستطيع أن يعرف طبيعة الحياة ، ولا يصمد أمام مشاكلها ، ويمضي حياته في الكدح العابث.

باء : العلاقة النفسية فهي أنّ قلب الإنسان وعقله وفطرته قد خلق كلّ ذلك على أساس معرفة الله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (٢) ، ولكن بسبب العمل

__________________

(١) دعاء عرفة / الامام الحسين (ع) / مفاتيح الجنان

(٢) الروم / ٣٠

٧٤

الفاسد الذي يرين على القلب ينتكس الإنسان ، وتتراكم عليه حجب الضلالة والعصبيات والعقد فلا يرى الحقائق.

ولذلك جاء في الدعاء المأثور عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ :

إلهي قلبي محجوب ، ونفسي معيوب ، وعقلي مغلوب ، وهوائي غالب ، وطاعتي قليل ، ومعصيتي كثير ، ولساني مقرّ بالذنوب ، فكيف حيلتي يا علّام الغيوب ، ويا ستّار العيوب ، ويا كاشف الكروب ، اغفر ذنوبي كلّها بحرمة محمّد وآل محمّد ، يا غفّار يا غفّار يا غفّار (١)

فقلب الإنسان يحجب بالغفلة ، وسبب كلّ ذلك تراكم الذنوب ، لهذا يجأر المؤمن منها ، ويدعو الله بغفران ذنوبه ، متوسّلا بحرمة محمّد وآله ، حتى يعود القلب إلى فطرته النقيّة. ويزيل الله سبحانه الحجب عن القلب بطرق شتى ، منها إثارة حبّ الذات عبر التخويف والترهيب ، وبيان انّ الابتعاد عن الحق لا ينفع الإنسان شيئا ، بل هو الويل وعذاب الخزي لكلّ أفّاك أثيم ، والويل هو الهلاك ، وهو واد في جهنّم ، ممتلئ قيحا ، والويل في الآخرة تجسيد للويل في الدنيا ، وقد أعدّه الله المنتقم الجبّار لكلّ أولئك الذين يأفكون الكذب باستمرار على الله عزّ وجل ، ويجترحون السيئات.

[٨] (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً)

يصرّ على كفره استكبارا على الحق الذي يسمعه. إنّه يسمع آيات الحق ولكنّه يمرّ ..

(كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها)

__________________

(١) دعاء الصباح / مفاتيح الجنان

٧٥

ونستلهم من قوله سبحانه : «ثُمَّ يُصِرُّ» أنّ شدة وضوح آيات الله هي إلى درجة تكاد تكره الإنسان على الايمان ، ولكنّ المستكبر الذي عقد عزمات قلبه على الافك العقيدي والإثم العملي يستعمل شتى السبل ليستكبر على الحق ، وليقاوم آثار الهداية ، كالذي يحجب عن نفسه عبق الأزهار في فصل الربيع ، أو أشعّة الشمس في ظهيرة يوم قائض إنّه بحاجة الى مزيد من الجهد حتى يمكنه البقاء بعيدا عن تأثير أشعّة الهدى في قلبه.

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)

يتناسب والإصرار على الكفر واجتراح الإثم.

[٩] وبالرغم من أنّ الكافر يحجب نفسه عن آثار الهدى تدخل حريم قلبه ، الذي يغلفه بسور من استكباره وإفكه وإثمه ، فإنّ موجات من الهدى تخترق الحجب ، وتستقرّ في فؤاده ، ولكنّه سرعان ما يتخذ منها موقف الاستهزاء والسخرية النابعة من احتقار الحقّ وأهله .. هنالك تتمّ حجة الله عليه إذ أنّه استصغر الحق بعد علمه به.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)

وهذا الجزاء ينسجم والاستكبار أو الاستهزاء.

[١٠] (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ)

أي أنّ جهنّم تنتظرهم ، وإذا زعموا أنّ بمقدورهم النجاة من جهنّم بأموالهم أو أولادهم فقد زعموا باطلا.

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً)

٧٦

ولن تغني عنهم آلهتهم شيئا.

(وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ)

فليس في يوم القيامة لهذه الأصنام الحجرية أو البشرية قيمة حتى ينقذونكم من النار.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

والعذاب العظيم يتناسب وما عبدوا من دون الله ، إذ أنّهم اقترفوا جريمة عظيمة بالشرك فعاقبهم ربّهم بعذاب عظيم.

[١١] (هذا هُدىً)

الهدى هو الطريق المستقيم الذي ينجيك من عذاب جهنّم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)

لماذا يكرّر ربّنا عزّ وجل موضوع العذاب خمس مرّات : «وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» ، «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ، «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» ، «مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ... وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ، «لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ»؟ لعلّ السبب هو تراكم العقد النفسية على القلب ، التي يعتبر كلّ واحدة منها حجابا سميكا دون نفاذ نور الهدى ، ولا بد من خرقها جميعا بالإنذار الشديد بألوان العذاب ومراحله.

[١٢] وبعد أن يمطر الله الذين يكذّبون بآياته بالإنذار تلو الإنذار ، لعلّ قلوبهم تخشع للحق ، يذكّرهم بآياته في الآفاق ، وبنعمه التي أسبغها عليهم ، وانّ التفكّر في ذلك يهدينا إلى حسن التدبير ، وبديع الصنع ، وبالتالي : إلى أنّ خالق هذا الخلق ومنظّم أمره عليم حكيم ، وأنّه لم يبدأه عبثا ، ولا يتركه سدى ، وهنالك نبلغ

٧٧

حقيقة الجزاء التي تحاول النفس البشرية الهرب منها خشية منها ، وإشفاقا من ثقلها.

وهكذا ينتقل المؤمنون من التفكّر في خلق الله إلى خشية عقابه ، كما قال ربّنا سبحانه وتعالى في سورة آل عمران :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ* رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)» (١)

هكذا نرى كيف أنّ التفكّر في الخلق أوصلهم إلى خشية النار ، وهنا بعد أن ينذر الله الكفّار المستكبرين بالنار يعرج بنا إلى آياته فيقول :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ)

البحر على عظمته مسخّر للإنسان ، أفلا يدلّنا على النظم والتدبير؟

ولقد ذكّرنا السياق بفوائد ثلاث لتسخير البحر :

أوّلا : الملاحة التي تنقل الناس والبضائع إلى الآفاق.

(لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ)

ثانيا : صيد الأسماك واستخراج الثروات الأخرى.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)

__________________

(١) آل عمران / ١٩٠ / ١٩٢

٧٨

ثالثا : الاهتداء من واقع تسخير البحر إلى رحمة الله بالإنسان وكرامته له فينبعث لربّه شكرا وخضوعا.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

فالهدف من النعم تكامل روح الإنسان ، وتسامي نفسه.

[١٣] ثم انظر إلى ما في السموات من آيات القدرة ، ومعالم الحكمة ، وكيف أنّ قانون الجاذبية ونظام الأفلاك ومجاري الشمس وأقمارها والنجوم وما حولنا يخدم حياة الإنسان فوق الأرض. أفلا يهدينا ذلك إلى أنّ لوجود البشر هدفا لا بد أن نتعرّف عليه ثم نسعى لتحقيقه؟

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)

وكذلك ما في الأرض من أو كسجين الهواء ، إلى أملاح الأرض ، ذلك ما فيها من معادن مختلفة تنفع الناس ، وإلى ما فيها من أحياء ، كلّها تخدم حياة الإنسان وسعادته. من الذي سخّر كلّ ذلك للبشر ، أو ليس الله؟ أفلا نعبده؟!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

والتفكّر هو إثارة العقل ، لكي يربط المعلومات ببعضها ، ويرتقي من خلالها إلى الحقائق الكبرى ، وبالرغم من أنّ ما في الحياة كلّها آيات تشير إلى تلك الحقائق إلّا أنّ من لا يستثير عقله لا يستفيد منها شيئا.

[١٤] (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

٧٩

على المؤمن أن يعتبر نفسه أعلى من الذين لا يؤمنون ، لأنّهم كالأعمى والأصم ، فإذا قاموا بعمل سيء فعليه أن يغفر لهم ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يعني ترك المسؤولية تجاههم ، بل ينبغي ألّا يسارعوا في محاربتهم ، بل يدعوا ذلك الامام لكي يرى الظرف المناسب للمواجهة ، ويومئذ يجزي الله الذين كفروا بما كانوا يكسبون ، وما دام المجرم لا يفوت ربّه فلما ذا البدار إلى أخذه ، إذ قد تكون المبادرة سببا لفشل خطط كثيرة.

وهذا التفسير يتناسب وما ذكره المفسرون من سبب نزول الآية ، من محاولة البعض من أصحاب الرسول أخذ المخالفين بالشدة ، ممّا كان يسبّب حرجا للرسول ، وعلى ذلك يمكن تفسير قوله سبحانه «أَيَّامَ اللهِ» بأنّها أيّام نصره للمؤمنين ، حسبما احتمله البعض.

[١٥] (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ)

يجده في الجنة.

(وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها)

مغرما عليه يوم القيامة.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)

ففريق في الجنة ، وفريق في السعير.

وهذه الآية تبيّن لنا أهمية المسؤولية ، وأنّ كلّا مسئول عن عمله ، فلا ينبغي البدار إلى العقاب ، ولا انتظار الثواب العاجل ، بل لا بد أن يتمتع المؤمن برؤية مستقبلية تضفي عليه الطمأنينة والسكينة والحكمة في التحرّك.

٨٠