من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً» (١) ، وقوله تعالى : «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ» (٢) ، وقوله : «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (٣) ، فهلاك يوسف اندثار رسالته ، وعدم التقيّد بها ، وهلاك المرء انتهاء دوره حتى أنّ الكلالة يتقاسمون إرثه ، وكذا في الآية الثالثة حيث يتمّ تلاشي كلّ شيء إلا وجه الله ، كما قال ربّنا سبحانه : «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ».

والله القادر على الأحياء والاماتة هو القادر على البعث والنشور.

(ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

إذا كان يوم القيامة لا ريب فيه ، فلما ذا نرى أكثرهم لا يعلمون بها؟

بلى. يوم القيامة لا ريب فيه واقعا ، أي لا محالة واقع ، وليس في ذلك تردّد ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون بهذا الواقع ، ولا يغيّر جهل البشر من الواقع شيئا ، فنحن نجهل ـ مثلا ـ وجود منظومة شمسية في آخر آماد هذا الفضاء ، فهل يجعل جهلنا بها وجودنا عدما؟ كلّا .. ولعلّ هذه الآيات في القرآن تعالج حالة نفسية عند البشر أنّه يزعم أنّ مجرد شكّه في شيء يجعله في حلّ من الالتزامات المرتّبة على وجوده ، وبالتالي يتجاهل أشياء واضحة بزعم أنّه يدرأ عن نفسه أخطارها ، كالنعامة التي تخفي رأسها زاعمة أنّها إذا لم تر الصيّاد فإنّه لا يراها! كلا .. الواقع واقع ، سواء آمنت به أو لم تؤمن ، فإذا كان ذلك الواقع كيوم القيامة الرهيب فإنّ تجاهله مأساة حقيقية للإنسان.

[٢٧] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ

__________________

(١) غافر (المؤمن) / (٣٤).

(٢) النساء / (١٧٦).

(٣) القصص / (٨٨).

١٠١

الْمُبْطِلُونَ)

أولئك الجاهلون يزعمون أنّ تكذيبهم بالساعة واستهزاءهم بها يكفيهم ، كلّا .. يقول ربّنا : إنّ ملك السموات والأرض لله ، والله لا يعطي شيئا منها لأحد باطلا ، وإنّما رزقهم منها ما يمتحنهم به ، فإذا عملوا باطلا فإنّهم يخسرون يوم القيامة. أو ليست الدنيا مزرعة الآخرة؟ أو ليس ما بأيدينا من قوة ومال وبنين هو رأسمالنا الوحيد ، فإذا لم نصلح أمره بل جعلناه في يد اللهو والباطل فإنّ ذلك الخسران؟

[٢٨] ويقصّ علينا حالة الأمم التي قالت وعملت باطلا في ذلك اليوم الرهيب ، ويقول :

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً)

الجثو : هو الجلوس على الركب بخشوع وذل.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا)

إنّ الكتاب هو كتاب أعمال الأمم.

وهناك سؤال : لماذا يقول ربّنا : «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» ، ولم يقل : (كلّ فرد يدعى ..)؟

ولعلّ الجواب أنّ القرآن الحكيم يشير إلى حسّ التوافق مع المجتمع في الإنسان ، التي تجعل المجموع مسئولا عن كلّ فرد ، كما أنّ الفرد له مسئولية تجاه المجموع ، ذلك لأنّ كثيرا من أعمال الفرد وعاداته إنّما المسؤول عنها المجموع ، ونستطيع أن نشبّه التجمّع بقافلة ركّاب ، فلو سقطت في الوادي لهلك أهلها جميعا.

والقرآن يسفّه حالة الانسياق وراء المجتمع ، قال رسول الله (ص) : «لا يكن

١٠٢

أحدكم إمّعة ، يقول : إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساؤوا أسأت ، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم».

ونستفيد من الحديث أنّه لا يوجد في الإسلام حتميّات اجتماعيّة ، ومن الممكن تغيير الثوابت والحتميّات الاجتماعية بإصرار أبناء المجتمع ، ولكن من عادة الناس اتباع الحالة الاجتماعية ، إلّا من عصمه الله ، ولذلك فهم مشتركون في الجزاء.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

لو قال ربّنا : «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ» لاحتمل أن يكون الجزاء من غير جنس العمل ، ولكن حذف الباء يؤكّد أنّ الجزاء هو ذات العمل الذي اجترحه الإنسان.

[٢٩] (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ)

نطق الكتب قد يكون بسبب وضوح الأعمال ، وقد يكون النطق بالمعنى الظاهر للكلمة ، أي أنّ الكتاب يفرز الصوت ، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذا المعنى في قوله : «(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ...» (١) ففي يوم القيامة تجسيد حي لعمل الإنسان ، فربما عرض عليه الصوت والصورة لعمله ، والفرق بين كتابة العمل في الدنيا عنه في الآخرة أنّه في الدنيا تكتب ظاهر الأعمال ، بينما في الآخرة تثبت بخلفيّاتها ، وبكلّ مقاديرها ونسبها ، إذ تكتب صلاة الاثنين ، ولكنّ لكلّ صلاة خصوصيّاتها ، فصلاة هذا أكثر إخلاصا وخشوعا وتأنّ من الآخر ، وكذا في سائر الأعمال.

__________________

(١) فصّلت / (٢٠ ـ ٢١).

١٠٣

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

والاستنساخ هو إعادة كتابة الأصل ، فالأصل عند الإنسان ، والكتبة من الملائكة يكتبون ما يعمل ، ويدلّ على ذلك قوله : «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» (١).

وهذا يقودنا إلى أنّ الأعمال تنعكس على ظاهر الإنسان في القيامة ، فقد جاء في القرآن عند بيان حالة المنافقين : «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» (٢) ويحفظ الله الأعمال أيضا على قلب الإنسان على شكل نكت سود لا نراها ، ولكنّ الله يعلمها ، وقد ينطقها يوم القيامة ، كما ينطق الله أعضاء الإنسان ، ولعلّ هذا أحد مصاديق الاستنساخ ، والعلم الحديث بدأ بمعرفة الحقائق عبر أعضاء الإنسان ، عبر بصماته ، وعبر ضغط الدم في جهاز كشف الكذب ، وعبر تقاسيم الوجه ، ومتى ما علم الإنسان أنّ أعماله تصوّر له في الآخرة وتجسّد فإنّه قد يئوب إلى الله إذا كان غافلا ، لأنّ الكثير إنّما يعملون السيئات وهم في غفلة عن الآخرة.

__________________

(١) الإسراء / (١٤).

(٢) محمّد / (٣٠).

١٠٤

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

١٠٥

فلله الحمد وله الكبرياء

هدى من الآيات :

كان الحديث في الدرس السابق عن جثو الأمم خضوعا وذلّة يوم القيامة ، منتظرة كتابها ، ويتصل الحديث هنا بذلك الدرس عبر بيان انقسام الأمم يومئذ فريقين : مؤمنين وكافرين ، ونتساءل : لماذا يؤكّد الله سبحانه على تمايز البشر عند الحساب؟ لبيان أنّ كلّ إنسان يصنّف حسب عمله وسلوكه ، لا حسب صفاته أو لونه أو انتمائه أو حسب وحدته الجغرافية أو حالته التاريخية أو حتى انتمائه الديني ، ولا بد أن نعكس التمايز في الآخرة في الدنيا ، بأن نصنّف الأمم والمجتمعات والأفراد على أساس أعمالهم فقط (مؤمن وكافر).

وتستعرض الآيات الأخيرة صفات الكفّار ، كيف استكبروا عن آيات الله وكانوا مجرمين ، وكذّبوا بالساعة ، واتخذوا آيات الله هزوا ، وغرّتهم الحياة الدنيا ، وبالتالي استحقّوا عذاب الآخرة.

١٠٦

بينات من الآيات :

[٣٠] يميّز الله الناس يوم القيامة فريقين :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ)

الرحمة في الدنيا بالنسبة للمؤمنين تختلف عنها في الآخرة ، ففي الدنيا قد يشوبها البلاء والامتحان ، وفي الآخرة تأتيهم صافية من كلّ كدر ، ولعلّ هذا هو إيحاء كلمة «فِي رَحْمَتِهِ» حيث تحيط بهم رحمة الله من كلّ صوب ، كما أنّ في قوله «رَبُّهُمْ» لمسة حنان وعطف ، وإشارة إلى رحمات الله في الدنيا.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)

الذي لا فوز فوقه ، فقد نجّوا من عذاب شديد ، وضمّهم الربّ في ضيافته ، وأدخلهم في بحار رحمته. أفيتصوّر القلب فوزا أعظم منه؟ تعالوا نسموا إلى حالة التطلّع إلى هذا الفوز العظيم ، لعلّنا ندركه بتوفيق الله.

[٣١] (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)

فإنّهم يدخلون النار ، ويطالبون بالاعتراف بجرمهم المتمثّل في استكبارهم ذلك الذي أرداهم في جهنّم.

(أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ)

في هذه الآية مصطلحات ثلاثة : الكفر والاستكبار والاجرام ، أمّا الاستكبار فهو منطلق الكفر ، بينما الجريمة عاقبته ، ذلك لأنّ الإنسان إذا استقبل آيات الله من دون حجب ، ومن دون مفاهيم وعقائد مسبقة ، فإنّ فطرته وعقله يقودانه إلى تقبّلها ، ولكن إذا ما استقبل الإنسان آيات ربه عبر نظّارة الاستكبار السوداء ، ورأى نفسه

١٠٧

أكبر من الحق ، أو أنّ ذاته هي المحور وليس الحق ، فإنّه لن يتقبّلها ، ومتى ما جعل الإنسان نفسه فوق الحق أو اعتبرها هي الحق ، فإنّه سوف يتجاوز الآخرين ويظلمهم ويجرم بحقّهم ، ونقرأ في الروايات ما يهدينا إلى ذلك :

١ ـ عن أبي عبدالله (ص) قال : «الكبر أن تغمص الناس ، وتسفّه الحق» (١).

٢ – وعنه (ع) : «قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّ أعظم الكبر غمص الخلق ، وسفّه الحق» ، قال (الراوي) : قلت : وما غمص الخلق ، وسفه الحق؟ قال : «يجهل الحق ، ويطعن على أهله ، فمن فعل ذلك فقد نازع الله رداءه» (٢)

[٣٢] ولكي نتخلّص من الكفر والاستكبار والاجرام يجب أن نجعل الحقّ هو المحور ، وأن نتذكّر بالآخرة ، ونخشى الجزاء فيها.

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها)

لم ينكرون الآخرة على شدّة وضوحها ، فالإنسان يرى بفطرته أنّ الجزاء واقع ، كما يرى تحقيق ذلك في الدنيا ، فمن يظلم يبتليه الله ، بينما يحصل المحسن على جزاء حسن ، ولكنّه يرى أنّ سنّة الجزاء ليست دائمة في الدنيا ولا وافية ممّا يهديه إلى يوم الجزاء الأوفى.

وحين يراجع قلبه يراه مقتنعا به ، إلّا أنّه يجحد به لاستكباره عنادا وعتوّا ، ويتساءل : ما الساعة؟ أيّان مرساها ، وما أشراطها ، وكيف يبعث الله الرميم ، وكيف تتمثّل الأعمال فيها تمثّلا؟

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٧٣) / ص (٢١٧).

(٢) المصدر / ص (٢١٨).

١٠٨

(قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ)

كذلك يجعلون جهلهم بالساعة (كيف ومتى ...) عذرا لانكارها ، بينما العقل يدعوهم إلى الإيمان بالحقيقة إذا توافرت لديهم الشواهد ، ثم السعي لمعرفة المزيد من تفاصيلها. أرأيت لو تكاملت الحجة على وجود مدينة في أقصى الشرق ، ولكن لا تعرف عنها شيئا كثيرا ، فهل تنكر وجودها رأسا أم تعترف بها ثم تبحث عن التفاصيل؟

والواقع : إنّ كثيرا من الناس ينكرون حقائق الرسالة لأنّهم لا يعرفون التفاصيل عنها ، بل تراهم يعادونها بمجرّد جهلهم بأبعادها ، وقد قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «الناس أعداء ما جهلوا»

(إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)

هكذا شكّكوا أنفسهم حتى زعموا أنّهم لا يملكون إلّا الظنّ دون اليقين ، ولكن هب أنّهم يظنّون أفلا تدعوهم عقولهم إلى أخذ الحيطة والحذر؟! فالظن ليس مبرّرا للجحود بالساعة. أو ليس مجرّد الظن بوجود أسد في الغابة كاف لأخذ الحيطة؟ وكذا الظن بالساعة يجب أن يدفعنا إلى تجنّب خطرها.

[٣٣] (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا)

ونتساءل : لماذا قال ربّنا : «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا» ، ولم يقل : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا)؟

ربما لأنّهم في الآخرة لا تبدو لهم الأعمال السيئة ، ولكن نتيجة عمل السيئات ، كالحيّات والعقارب والحميم والعذاب.

١٠٩

«وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»

ففي الآخرة تنزل بهم نتيجة الاستهزاء ، وتحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم ، وقد قال البعض أنّ كلمة «حاقَ» مشتقّة من مادة الحق ، ويكون معناها آنئذ أنّ ذلك الذي سخروا منه ـ زعما بأنّ باستطاعتهم التهرّب منه ـ قد نزل بهم ، وأصبح حقّا واقعا لا مناص من الاعتراف به.

[٣٤] (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)

لقد تغافلوا عن الآخرة ونعيمها حتى كأنّهم نسوها ، وهناك يغفل عنهم حتى لكأنّهم منسيّون ، فلا يقدّر لهم خير ، ولا يدفع عنهم ضرّ ، جزاء وفاقا لتناسيهم الحق ، وإمعانا في إذلالهم عقابا على استكبارهم.

وبالطبع لا يعنى نسيان الله جهله بهم ، كما لا يدل نسيانهم جهلهم بالآخرة ، قد ذكر في الرواية أنّه جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ وقال : لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم ، فقال له علي ـ عليه السّلام ـ : وما هو؟ قال : قوله : «نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ» وقوله : «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» وقوله : «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» ... إلخ.

قال أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : فأمّا قوله تعالى : «نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ» يعني إنّما نسوا الله في دار الدنيا ، لم يعملوا بطاعته ، فنسيهم في الآخرة ، أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئا ، فصاروا منسيّين من الخير ، وكذلك تفسير قوله عزّ وجلّ : «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» يعني بالنسيان أنّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه ، الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين ، حين آمنوا به وبرسوله ، وخافوه بالغيب.

١١٠

وأمّا قوله : «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» فإنّ ربّنا تبارك وتعالى علوّا كبيرا ليس بالذي ينسى ولا يغفل ، بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب : قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي أنّه لا يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به (١).

(وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

وكثيرا ما يؤكّد الله عدم النصرة في الآخرة ، لأنّه لا ينجي من عذاب الله ناصر ـ إن وجد فعلا ـ فلا الطواغيت والأخلّاء ولا الثقافة الفاسدة والأهواء تنصرنا من الله ، وتنجينا من عذابه ، وهذا غاية الضعف والمسكنة في الآخرة ، فالإنسان يقف فريدا ، وأمامه النار ، ولا يجد من يذبّ عنه ، فتراه مستسلما.

[٣٥] لماذا يحيق بهم العذاب ، وينساهم الله ، ولا يجدون لهم نصيرا؟

أوّلا :

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً)

ثانيا :

(وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)

وتصوّرتم أنّكم فيها ماكثون ، وكفرتم بآخرتكم.

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)

إنّهم لا يخرجون من النار لأنّها حاقت بهم ، وصارت مأواهم ، ولا يعاتبهم الله لأنّه لا داعي للعتاب ، ما دام قد أدخلهم النار ، والعتاب نوع من الإكرام وهم

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٩٣) / ص (٩٨ ـ ٩٩).

١١١

لا يستحقّونه ما داموا قد استهزءوا بالحق.

[٣٦] (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

ربما لأنّ الله أراد أن ينهي سورة الجاثية التي كانت شديدة الوقع على النفوس بما فيها من آيات الإنذار والعذاب بإعطاء الأمل ، فلله الحمد لأنّه تعالى يفعل ما يستحقّ الحمد ، وله الحمد لأنّه ربّ السموات والأرض ، إذ بثّ فيهما آياته ، وجعلها هدى للمؤمنين ، ولأنّه يمسك السموات والأرض أن تزولا ، وله الحمد ربّ العالمين لأنّه خلقهم ورزقهم ، وفطرهم على الايمان ، وهو بهم رحيم.

(٣٧) وكما أنّ له الحمد في السموات والأرض فله السلطان والملك.

(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

فلما ذا تتكبّرون عن آياته ، ما دام هو واسع الكبرياء ، وإنّ آيات كبريائه سبحانه تتجلّى في كلّ شيء في السموات والأرض.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ)

فهو المقتدر القاهر على عباده ، يجري فيهم سننه ، ويمضي فيهم قدره ، شاؤوا أم أبوا ، ولكنّه لا يفعل إلّا ما تقتضيه حكمته البالغة.

(الْحَكِيمُ)

فلا يظلم ولا يجور ، ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، سبحانه.

١١٢

سورة الأحقاف

١١٣
١١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

قال الامام ابو عبدالله الصادق (ع): «من قرأ كل ليلة أو كل جمعة سورة الأحقاف لم يصبه الله عز وجل بروعة في الحياة الدنيا ، وآمنه من فزع يوم القيامة إن شاء الله».

تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٧

١١٥
١١٦

الإطار العام

لكي نبصر حقيقة الأشياء لا بد أن نعرف الحقائق الكبرى التي هي غيب كلّ حقيقة وهي :

أوّلا : حقيقة الخلق ، وأنّ كلّ شيء قد أنشأ وقدّر ودبّر أمره من لدن عزيز حكيم.

ثانيا : حقيقة الواقعية ، وأنّ الأشياء حق لا وهم ولا خيال.

ثالثا : حقيقة الزمن وأنّ لكلّ شيء أجلا.

ولكن لماذا لا يفقه أكثر الناس هذه الحقائق الواضحة ، وحتى حين ينذرهم الله عبر الرسل تراهم يعرضون عنها؟

لعلّ أهم قضية تعالج في القرآن هي هذه القضية ، لأنّه من دون معالجتها لا يبلغ الإنسان علما ولا حكمة.

والسؤال : ما هي الحجب التي تغشى أبصار الخلق عن رؤية هذه الحقائق؟

١١٧

إنّها عديدة ، ولعلّ السياق في سورة الأحقاف يعالجها مع التركيز على بعضها ، شأنها شأن سائر السور.

أوّلا : الشرك بدعوة غير الله ، ويتساءل السياق : ترى هل خلقوا ما يدعونهم شيئا من الأرض أم لهم مساهمة في إدارة السموات؟

كلا .. ثمّ أنهم لا يستجيبون لهم بشيء إلى يوم القيامة ، ويعادونهم يوم الحشر.

ثانيا : كيل التهم (والأحكام المسبقة والباطلة) على الرسالة والرسل ، ممّا يحجبهم عن معرفة حقيقتهما ، فقالوا أنّها سحر وأنّه مفتر.

وكيف يكون مفتر والله يحيط قدره بمن يفتري ، ويحيط بكلّ شيء علما ، وهو شهيد على صدق الرسالة؟! وهذا الرسول ليس بدعا فلقد بعث الله أنبياء سابقين.

ثم أنّ الرسول متمحّض في رسالته فما عليه إلّا البلاغ ، ثمّ أنّ بعض علماء بني إسرائيل قد شهد بصدقه ، بينما استكبر الجاهلون.

وقد يكون الحسد والضغينة والعصبية تجاه صاحب الدعوة سببا للكفر بها ، ولكن لما ذا يحرم الإنسان نفسه من الحق لموقفه الشخصي ممّن يدعوه إليه؟ وأساسا : لماذا هذا الموقف الظالم الذي يصدّ الإنسان عن الهدى ، ذلك أنّ الله لا يهدي القوم الظالمين؟

وكتاب موسى (الذي يتعصّب البعض له ، ويصدّون عن النسخة الأكمل منه) ما نزل لتأييد الظلم ، بل رحمة ، وهكذا القرآن ، فهو نذير للظالمين ، وبشرى للمحسنين.

وأصحاب الرسالة بحاجة إلى الاستقامة لمواجهة تلك العقبات ، وآنئذ لا خوف

١١٨

عليهم ولا هم يحزنون.

والموقف السليم من الجيل الماضي يساهم في توفير فرض الإيمان ، ويبيّن السياق وصية ربّنا بالوالدين ، كما يبيّن التطلّع المشروع عند الإنسان في إنشاء ذرّيّة صالحة.

ويعد التائبين في سنّ الأربعين المسلّمين لربهم غفران الذنوب ، ودخول الجنّات.

أمّا المتمرّد على والديه وهما يدعوانه للايمان ، لأنّ وعد الله حق ، فيقول ما هذا إلّا أساطير الأوّلين فانّه مثل لمن أعاقته نزوة الشباب عن اتباع الحق الذي يدعوا إليه آباؤه (وهو بالتالي مثل للظالم الذي منعه تمرّده على أبيه عن اتباع الحق لمجرّد أنّه دعوة أبيه).

وبعد أن يبيّن القرآن أنّ درجات الناس على قدر أعمالهم ، يعرض لنا صورة أهل النار تستقبلهم جهنّم بلظاها ، وهم يحاكمون هنالك لأنّهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ، (ويبدو أنّ الإسراف في اللذات عقبة أخرى في طريق الإيمان) ، ولعلّ الإسراف في الاستمتاع بالطيبات سببه الاستكبار في الأرض ، وعاقبته الفسق عن حدود الشريعة.

وأيّة عقبة كأداء كالاسترسال مع العادات البالية والتقاليد الباطلة ، كما فعلت عاد حيث أعرضوا عن أخيهم هود وهو ينذرهم بالأحقاف ويستعجلونه العذاب ، ولكن حين استقبلهم عارض في الأفق زعموا من فرط غفلتهم أنّه عارض ممطرهم ، بينما كان ريحا تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها.

لما ذا كفرت عاد ، هل لفقر وحاجة ، أم لنقص في وسائل المعرفة من السمع

١١٩

والأبصار؟ كلّا .. إنّما لجحود آيات الله والاستهزاء بها ، فكانت عاقبتهم الدمار.

أفلا نعتبر بمصيرهم قبل أن نصبح عبرة لمن يتعظ من بعدنا؟ أفلا نزور الأطلال التي بقيت من القرى الهالكة ، وننتفع بالآيات التي صرّفها الله لإيقاظنا من الغفلة؟

إنّ هذه الآية التي يعتمد عليها الإنسان في كفره بربّه ، ويزعم أنّها مانعته من عذاب الله ، هلّا منعت عن تلك القرى العذاب.

وترى بعضهم يستعيذون بالجن ، ويزعمون أنّهم يكفونهم العذاب ، بينما الجن كما الانس أنذروا بالرسالة ، ولقد صرف الله نفرا منهم فاستمعوا للقرآن فأصبحوا منذرين ، ودعوا قومهم للاستجابة للرسالة ، وبيّنوا لهم أنّ من لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض.

وتبيّن الآيات الأخيرة من السورة قدرة الله على إحياء الموتى ، وأنّ الكفّار يؤمنون بذلك حين يرون العذاب ، وأنّ على الرسول الصبر في دعوته دون أن يستعجل لهم ، لأنّه مهما طال بهم العمر فانّ مكثهم في الدنيا يشبه ساعة إذا قيس بالخلود في النار.

١٢٠