من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

فالحق ظاهر وبيّن لهم ، ويعلمون أنّهم على الباطل ، ولكن العزّة بالإثم (القيم الجاهلية التي درجوا عليها) لا تدعهم يقبلون الحق ، ويسلّمون لقيادة الرسول ، فالقائد في نظرهم يجب أن يكون أكبر القوم سنّا ، وأكثرهم مالا ونفرا ، فكيف يقودهم رجل يتيم لا مال له؟

لهذا فإنّهم وهم يحاربون أتباع الرسالة لم يكونوا يدافعون عن حقّ يؤمنون به ، وإنّما يحمون أنفسهم ويدافعون عن قيمهم الجاهلية ، بينما المؤمنون يقاتلون من أجل الله ، ويدافعون عن القيم والقائد الحق.

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)

بينما خذل من جهة أخرى فلول الكفّار ، لأنّ هؤلاء ينصرونه فهم أولى بنصره ، بينما ينصر أولئك أصنامهم وشهواتهم. ولعلّ هذه السكينة كانت أعظم وسيلة لنصرهم ، فمن اطمأنّ إلى سلامة خطّه حارب دونه بشجاعة فائقة ، بينما الذي يحارب للعصبيّات الزائفة ينهزم نفسيّا قبل أن ينهزم عسكريّا ، وقد قيل : الحرب صراع إرادات ، ولا ريب أنّ إرادة صاحب السكينة أمضى.

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها)

وكانت كلمة التقوى مقابل الحميّة التي تعشعش في قلوب الكافرين ، ومن شواهد التزام المؤمنين بها في سلوكيّاتهم موقف رسول الله (ص) حينما أراد التوقيع على الصلح ، فأنكروا عليه كلمة (الرّحمن الرّحيم) ، وأن يسمّى رسول الله ، فقد تنازل عن ذلك لمصلحة الرسالة مع أنّ الموقف كان محرجا ولكنه (ص) لم تأخذه الحميّة ، ولم يسمح للعواطف المستثارة أن تؤثّر في خططه الرشيدة.

إنّ التقوى ليست مجرّد كلمة يقولها الإنسان ، بل هي برنامج متكامل والتزامات

٣٤١

يفرضها الدّين على أتباعه ، ومن دونها لا يكون أحد متقيا ، لأنّ للمتقي صفات وعلامات من أبرزها التزامه بقيمة التقوى في كلّ ظرف أو وضع نفسي يمرّ به ، فإذا سخط لم يخرجه سخطه عن رضى ربّه ، وإذا رضي لم يدخله رضاه في سخطه ، إنّما هو ملتزم برضى الله ، يسخط لسخطه ويرضى لرضاه عزّ وجل.

وجاء في رواية عن أبي جعفر (ع): «إنّما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق ، والمؤمن الذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدّي وإلى ما ليس له بحق» (١).

وقال الصادق (ع): «من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب ، وإذا اشتهى ، وإذا غضب وإذا رضي ، حرّم الله جسده على النار» (٢).

وعن رسول الله (ص) قال : «ما أنفق مؤمن نفقة هي أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من قول الحقّ في الرضا والغضب» (٣).

ولعلّ الآية تشير فيما تشير إليه الى أنّ المتقي الحقيقي يزيده الله تقوى وإيمانا كلّما واجه ظرفا صعبا ، لأنّه إذا عمل آنئذ بموجب تقواه تكرّست في نفسه التقوى .. هكذا حين عمل المؤمنون حسب تقواهم ، ولم تأخذهم حمية الجاهلية ، ولم تؤثّر فيهم إثارات قريش ، وصدّهم إيّاهم عن إقامة شعائرهم ، بل قبلوا بقرارات القيادة ، حينئذ أثابهم الله على ذلك بتنمية روح التقوى في أنفسهم.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)

__________________

(١) بح / ج (٧١) / ص (٣٥٨).

(٢) المصدر.

(٣) المصدر.

٣٤٢

فهو محيط بمدى ما يستقلّه قلب الإنسان من التقوى ، ولا داعي لاثارة الجدل في كون فلان من المؤمنين أم لا ، وهل يدخل الجنة أم النار ، لأنّ ذلك عند الله ، ولا ينبغي التطفّل فيما يختصّ به الربّ سبحانه.

[٢٧] ثمّ يؤكّد ربّنا صدق وعده لرسوله (ص) بدخول مكّة ، الأمر الذي يؤكّد جدوى الصلح ، وكونه الفتح المبين حقّا ، وخطأ تصوّرات البعض حوله ، حيث تصوّروا أنّهم إذ أبرموا الصلح مع المشركين لم يحقّقوا شيئا ، وأنّ الرؤيا التي أخبرهم بها الرسول لم تكن صادقة.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ)

أي أنّ دخولكم هذه المرة سيكون دخول المنتصرين .. وحدث ذلك فعلا في السنة الثانية ، حيث فتحوا مكّة ، وكلّ هذه المزايا والنتائج كانت مجهولة لدى المسلمين.

(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)

وهو صلح الحديبية ، أمّا الفتح البعيد فهو فتح مكة الذي جاء في أثر الصلح ، وهذا التأكيد من القرآن على تسمية الصلح بالفتح إنّما كان لبيان حقيقة هامّة ، وهي وجوب اتباع القيادة وطاعتها عند ما تختار طريقا معيّنا ، بعيدا عن العواطف ، ذلك أنّ من مشاكل القيادات الثورية الضغوط التي تواجهها من قبل المتحمّسين والمهيّئين نفسيّا للمواجهة ، فهم يريدونها تستجيب لحماسهم ، وإلّا فهي في نظر البعض جبانة وضعيفة ، وعلى القائد أن لا يترك الحكمة للحماس والعواطف لتكون قراراته حكيمة وحازمة.

٣٤٣

إنّ الرسول (ص) واجه هذه المشكلة ، إذ كان البعض يستنكر عليه عدم محاربته المشركين ، وحينما صالح اعتبروا صلحه مذلة وإهانة ، بل ودليلا على ضعف سياسته ، ولو كان يستجيب لحماس هؤلاء ما كان المسلمون يبلغون ما بلغوا بعد الصلح ، كما واجه ـ أيضا ـ وصيّه الامام علي ـ عليه السّلام ـ في معركة صفّين معارضة من قبل المتشدّدين الذين سمّوا بعدئذ بالخوارج.

[٢٨] وربّنا يؤكّد حكمة نبيّه ، وصحة قراراته ، لأنّه يتبع هدى الله ودينه ، فلا يصح إذن أن نخالفه أو نشكّك في قيادته.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)

والظهور (الانتصار) مرّة يكون بالحرب ، ومرّة عن طريق الصلح ، والربّ هو الذي أمر الرسول بالصلح مع المشركين ، وهو تكفّل بإظهار دينه ورسوله والمؤمنين به على سائر الديانات والأمم.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)

لقد تنامت أمواج الرسالة في العالم منذ انبعاث الرسول العظيم محمد بن عبدالله (صلّى الله عليه وآله) وإلى اليوم. أو ليس ذلك دليلا على تحقّق وعد الله في ظهور الإسلام على الدّين كلّه؟ وقد جاء في التقارير أنّ نموّ عدد المسلمين أكبر من ازدياد المنتمين الى أيّ ديانة أخرى؟ وهكذا تنتظر البشرية اليوم الحقّ الذي وعدها الله إياه حيث يظهر دينه على الدّين كلّه.

[٢٩] ثم إنّ النبي الذي اتخذ قرار الصلح ليس قائدا عاديّا حتى يجوز معه النقاش. إنّه رسول الله الذي عصمه عن الخطأ ، ولم يكن الذين حوله من الرجال قد أصابهم الوهن حتى يجد نفسه مجبرا على الصلح ، فهم ليوث الأرض وفيهم أسد الله

٣٤٤

وأسد رسوله علي (ع) الذي وتربه النبيّ صناديد قريش.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)

فلا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يتأثّرون بالعواطف في جنبه ، قال الامام علي (ع): «فلقد كنّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإنّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والاخوان والقرابات ، فما نزداد على كلّ مصيبة وشدّة إلّا إيمانا» (١).

وفي التاريخ أنّه (ع) جلس على صدر أخيه عقيل قبل إسلامه وقد جرّد سيفه ليقتله ، فنظر إليه أخوه وقال : أتقتلني يا علي ، قال : «إي والله ، إلّا أن تسلم». وأراد الرسول (ص) قتل رجل من المشركين فحاول الآخر استعطافه قائلا : ومن للأولاد وأمّهم بعدي ، ولكنّه لم يعبأ بكلامه بل قتله ، وقال : «لهم الله.» وفي الوقت الذي تتميّز الشخصية الايمانية بالحدّة والشدّة ضدّ الأعداء ، فإنّها في وجهها الآخر كلّها رحمة ولطف بإخوة المسيرة الواحدة.

(رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)

هذا عن علاقتهم بالناس ، أمّا عن علاقتهم بالله ، فهي علاقة العبودية والخضوع المطلق .. يمارسون العبادة في كلّ حركة من حركاتهم ، وفي كلّ كلمة ينطقون بها ، لأنّ كلّ ما يصدر منهم هو تجلّ للصلاة والعبادات بأهدافها وقيمها.

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)

إنّك تقرأ الصلاة في سلوكهم ، فهم متصلون بالله ، منتهون عن الفحشاء

__________________

(١) نهج / خ (١٢٢).

٣٤٥

والمنكر ، صادقون مع الآخرين ، ملتزمون بواجباتهم .. إلخ ، لأنّ العبادة في نظرهم ليست مجرّد الركوع والسجود ، وبالتالي الوقوف عند الصلاة بذاتها ، وإنّما التحرّك في الحياة بمقتضياتها وأهدافها ، وأبرز تلك الأهداف اثنان : ابتغاء فضل الله في الدنيا ، ورضوانه في الآخرة.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً)

ولكثرة صلاتهم وسجودهم بالذات والذي يمثّل قمّة الخضوع لله ، فإنّك تلحظ في جباههم أثر السجود ، ولا ريب أنّ الآثار ـ الثفنات ـ لا تظهر إلّا بالمبالغة في العبادة.

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)

والامام علي ـ عليه السّلام ـ يصف أصحاب رسول الله (ص) فيقول : «لقد رأيت أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله) فما أرى أحدا يشبههم منكم! لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا ، وقد باتوا سجّدا وقياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم! إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبلّ جيوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف ، خوفا من العقاب ، ورجاء للثواب» (١).

وبيان الله لصفات أصحاب الرسول (ص) إنّما يأتي ليؤكّد الحقيقة التالية ، وهي أنّ صاحب الرسول حقّا من صحبه بقلبه وأخلاقه وقيمه ، فاقتداؤهم بالرسول جعلهم في تلك الدرجة لا مجرّد معيتهم له ، وأنت أيضا تستطيع أن تكون من أصحاب الرسول (ص) إذا تخلّقت بالأخلاق التي يذكرها القرآن ، وتشير إليها خطبة

__________________

(١) نهج / خ (٩٧).

٣٤٦

الامام علي (ع).

ثم إنّ الرسالات الالهية بشّرت بهذا النبي وبمن حوله من أعلام الرسالة رهبان الليل وفرسان النهار.

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ)

وهم في حالة تكامل ورقي نحو الأكمل بصورة منتظمة ، يشبهون في ذلك الشجرة التي تبدأ بذرة ، ولكنّها تتكامل شيئا فشيئا وتنمو إلى أن تصير قويّة قائمة على سوقها.

(كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)

إنّ القائد الذي يربّي هؤلاء الرجال في ظلّ أفكاره وقيادته كان يسرّ إذ يراهم ، أمّا الأعداء فإنّهم يتميّزون غيظا وحنقا كلّما رأوا واحدا يترعرع في ظلّ قيمه ومبادئه ، مقاتلا وقائدا رساليّا يجاهد في سبيل الله تعالى.

وأصحاب النبي محمّد (ص) الحقيقيين هم المعنيّون بالزرع في هذه الآية ، ولكن لا تعني صحبة الرسول صك البراءة من التكاليف الشرعية ، والتحلّل من القيم الالهية ، فليس كلّ الذين عاصروا الرسول أو صحبوه (حتى من دون التمسّك بأهداف الرسالة) تشملهم هذه الآية ، والدليل على ذلك أنّ الله لم يترك الكلام مطلقا ، وإنّما خصّ بالغفران والثواب الذين أحسنوا الصحبة ، وأبلوا بلاء حسنا في الطاعة له ونصر رسالته منهم.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)

٣٤٧

لذنوبهم وأخطائهم ، لأنّ مسيرتهم العامة في الحياة مسيرة سليمة ، والحسنات يذهبنّ السيئات كما ذكر القرآن.

(وَأَجْراً عَظِيماً)

جزاء لأعمالهم الصالحة.

والآية في هذا المقطع تدحض الفكرة القائلة بأنّ مجرد انتماء الإنسان إلى شخص أو تجمّع صالح يكفيه ، ويرفع عنه المسؤولية ، كلّا .. فهو مطالب بتحمّلها والعمل وفقها حتى النفس الأخير ، كما قال الله : «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» (١) يعني بذلك الموت ، أمّا أن نتصوّر المسؤولية تنتهي بكون الفرد عالما ، أو خطيبا ، أو منتميا إلى حركة إسلامية فلا ، والتأكيد على هذه الفكرة مهم لأنّ الكثير من الناس يعتقدون بأنّ وصولهم إلى مقام ما يرفع عنهم المسؤولية ، ويحوّلها إلى غيرهم.

وأخيرا : إذا كان للرسول (ص) أصحاب فإنّ له إخوانا يأتون فيما بعده ، وإذا لم نحظ بصحبته فلنسعى للتآخي معه ، وذلك بالالتزام بمبادئه ، والسعي الى تحقيق أهدافه في الحياة.

فقد جاء في الخبر عن أبي ذر (رض):

قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أتدرون ما غمّي؟ وفي أيّ شيء تفكيري؟ وفي أيّ شيء اشتياقي؟

فقلنا : يا رسول الله ، أخبرنا عن ذلك ، فقال : أخبركم إن شاء الله. ثم تنفّس الصعداء ، وقال : هاه شوقا إلى إخواني من بعدي! فقلت : يا رسول الله أو لسنا

__________________

(١) الحجر / (٩٩).

٣٤٨

إخوانك؟ قال : لا ، أنتم أصحابي ، وإخواني يجيئون من بعدي ، شأنهم شأن الأنبياء ، قوم يفرّون من الآباء والأمّهات ، ومن الإخوة والأخوات ، ومن القرابات كلّهم ، ابتغاء مرضاة الله ، يتركون المال لله ، ويذلّون أنفسهم بالتواضع لله ، لا يرغبون في الشهوات وفضول الدنيا ، يجتمعون في بيت من بيوت الله كأنّهم غرباء ، تراهم محزونين لخوف النار وحبّ الجنة ، فمن يعلم قدرهم عند الله؟ ليس بينهم قرابة ولا مال يعطون بها ، بعضهم لبعض أشفق من الابن على الوالد ، والوالد على الابن ، ومن الأخ على الأخ ، هاه شوقا إليهم! ويفرغون أنفسهم من كدّ الدنيا ونعيمها ، بنجاة أنفسهم من عذاب الأبد ، ودخول الجنة لمرضاة الله. اعلم يا أبا ذر أنّ للواحد منهم أجر سبعين بدريّا.

يا أبا ذر! إنّ الواحد منهم أكرم على الله من كلّ شيء خلق الله على وجه الأرض ، قلوبهم إلى الله ، وعملهم لله. لو مرض أحدهم له فضل عبادة ألف سنة وصيام نهارها وقيام ليلها ، وإن شئت حتى أزيدك يا أبا ذر؟ فقلت : نعم يا رسول الله زدنا ، فقال : لو أنّ أحدا منهم إذا مات فكأنّما مات ما في السماء الدنيا ، من فضله على الله ، وإن شئت أزيدك؟ فقلت : نعم يا رسول الله زدني ، قال : يا أبا ذر لو أنّ أحدهم يؤذيه قملة في ثيابه ، فله عند الله أجر أربعين حجّة ، وأربعين عمرة ، وأربعين غزوة ، وعتق أربعين نسمة من ولد إسماعيل ، ويدخل واحد منهم اثني عشر ألفا في شفاعته.

فقلت : سبحان الله! فقال النبي : أتعجبون من قولي ، وإن شئتم حتى أزيدكم؟ قال أبو ذر : نعم زدنا ، فقال النبي :

يا أبا ذر! لو أنّ أحدا منهم اشتهى شهوة من شهوات الدنيا فيصبر ولا يطلبها ، كان له من الأجر بذكر أهله ، ثم يغتم ويتنفس ، كتب الله له بكلّ نفس ألفي

٣٤٩

ألف حسنة ، ومحا عنه ألفي ألف سيئة ، ورفع له ألفي ألف درجة ، وإن شئت حتى أزيدك يا أبا ذر؟ قلت : حبيبي يا رسول الله زدني : قال : لو أنّ أحدا منهم يصبر مع أصحابه لا يقطعهم ، ويصبر في مثل جوعهم وفي شدّة غمّهم ، كان له من الأجر كأجر سبعين ممن غزا تبوك.

وإن شئت حتى أزيدك؟ قلت : نعم زدنا ، قال : لو أنّ أحدا منهم يضع جبينه على الأرض ، ثمّ يقول : آه ، فتبكي ملائكة السموات السبع لرحمتهم عليه ، فيقول الله : يا ملائكتي مالكم تبكون؟ فتقول : يا إلهنا لا نبكي ووليّك على الأرض يقول في وجعه «آه» ، فيقول الله : يا ملائكتي اشهدوا أنتم أنّي راض عن عبدي بالذي يصبر في شدة ولا يطلب الراحة ، فيقول الملائكة : يا إلهنا وسيّدنا لا تضر الشدة بعبدك ووليّك ، بعد أن يقول هذا القول! فيقول : يا ملائكتي إنّ وليي عندي كمثل نبيّ من أنبيائي ، ولو دعاني وليي وشفّع بخلقي شفّعته في أكثر من سبعين ألفا ، ولعبدي ووليي في جنتي ما يتمنّى ، يا ملائكتي وعزّتي وجلالي لأنا أرحم بوليي ، وأنا خير له من المال للتاجر ، والكسب للكاسب ، وفي الآخرة لا يعذّب وليي ، ولا خوف عليه.

ثم قال رسول الله : طوبى لهم يا أبا ذر ، لو أنّ أحدا منهم يصلّي ركعتين في أصحابه أفضل عند الله من رجل يعبد الله في جبل لبنان حتى عمر نوح ، وإن شئت حتى أزيدك يا أبا ذر؟ لو أنّ أحدا منهم يسبّح تسبيحة ، خير له من أن يصير معه جبال الدنيا ذهبا ، ونظرة إلى واحد منهم أحبّ من نظرة إلى بيت الله الحرام ، ولو أنّ أحدا منهم يموت في شدّة بين أصحابه له أجر مقتول بين الركن والمقام ، وله أجر من يموت في حرم الله ويدخله الجنة ، وإن شئت أزيدك يا أبا ذر؟ قلت : نعم ، قال : يجلس إليهم قوم مقصّرون مثقلون من الذنوب فلا يقومون من عندهم حتى ينظر الله إليهم ، فيرحمهم ويغفر لهم ذنوبهم لكرامتهم على الله.

٣٥٠

قال النبي : المقصّر فيهم أفضل عند الله من ألف مجتهد من غيرهم.

يا أبا ذر! إنّي إليهم لمشتاق ، ثم غمّض عينيه فبكى شوقا ، قال : اللهمّ احفظهم وانصرهم على من خالف عليهم ، ولا تخذلهم ، وأقرّ عيني بهم يوم القيامة «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (١).

__________________

(١) كلمة الرسول الأعظم / للشهيد الشيرازي ص (٣٦٩).

٣٥١
٣٥٢

سورة الحجرات

٣٥٣
٣٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال قال : «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم كان من زوّار محمّد (صلّى الله عليه وآله)».

نور الثقلين / ج ٥ / ص ٧٩

٣٥٥
٣٥٦

الإطار العام

تفتتح السورة بوصايا قيمة في أدب التعامل مع الرسول والقيادة الالهية ، وتختتم ببيان حقيقة الايمان ، وتتواصل بينهما الآيات تنظّم علاقة المسلمين ببعضهم على أساس الاخوة ، وعلاقة البشرية ببعضهم على قاعدة المساواة.

تعالوا الآن نتدبر في هذا السياق المعجز :

ألف) لأن علاقة الأخوة تتعرض لهزات قد تبلغ درجة الاقتتال بين المؤمنين ، فلا بد من قوة داخلية تمسك الامة من أن تتشرذم فتتلاشى ، وما تلك القوة إلا القيادة الرسالية التي لا بد أن يسمو احترام الأمة لها الى مستوى رفيع ، بألّا يتقدموا بين يدي الله ورسوله في الرأي أو القول أو المشي أو أية ممارسة عملية ، ولا يرفعوا صوتهم فوق صوته ، ولا يجهروا له في الكلام كما يتحادثون بينهم. وقد بشر الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله بأنهم قد طهر الله قلوبهم للتقوى ، وأن لهم مغفرة وأجرا عظيما. أما الذين لا يحترمون الرسول ، ولا يراعون حرمة الحجرات التي بنيت من أجل توفير الراحة ، فينادون الرسول من ورائها ، فان أكثرهم لا يعقلون. فلا يعرفون

٣٥٧

حرمة القيادة الالهية ، ولا حرمة الآداب المرعية ، وكان أولى بهم أن يصبروا حتى يخرج إليهم الرسول فيحدثوه عن شؤونهم (الآية ٥).

باء) وبعد أن يرسي السياق احترام القيادة وآداب التعامل معها ، وطبيعة العلاقة معها بعدئذ يأمر المؤمنين بالتثبت في أمورهم ، وعدم الاسترسال مع أنباء الفاسقين ، لأنهم قد يصيبون بذلك قوما بجهالة ثم يندمون على ذلك. وبهذا يقطع الطريق على مثيري الفتن بين المسلمين وسائر التجمعات البشرية ، ويضع قانونا لمثل هذه الأمور ويأمر بمراجعة القيادة والتسليم لها وعدم ممارسة الضغط عليها ، أو ليس الرسول قد جاءهم من عند الله بنور الايمان؟ أو ليس ـ إذا ـ أهدى منهم سبيلا؟ أو ليس من واجب الشكر ألا يخالفوه في قضية هامة كاتخاذ موقف من طائفة معينة؟ وماذا لو أطاعهم الرسول في جهلهم أو لا يسبب ذلك في العنت عليهم؟ وربما أشارت الآية (٧) الى أن مخالفة الرسول نوع من الكفر والفسوق أو العصيان حسب درجات المخالفة ومواردها ، وإن من فضل الله عليهم أن زين في قلوبهم الايمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. فلا يعودوا إليه ليفقدوا أعظم نعمة أسبغها عليهم ربهم.

جيم) وفي سياق حديثه عن علاقة المسلمين ببعضهم يفك القرآن أولا أصعب عقدة فيها متمثلة في حالة نشوب قتال أهلي بينهم ويقول : لو اقتتل طائفتان من المسلمين فلا بد من الإصلاح بينهم ، وبأية وسيلة ممكنة ثم إقامة العدل بينهم ، ولكن إذا بغت إحداهما على الاخرى ، ولم تسلم للإصلاح فلا بد من تحمل جماهير الامة لمسؤولياتها الخطيرة المتمثلة في محاربة الفئة الباغية ، حتى تفيء الى أمر الله وتقبل الصلح والتحاكم الى الشريعة المقدسة ، فان فاءت تقوم الامة بنشر العدالة في أوساطها والقسط (٩).

٣٥٨

ويرسي القرآن قاعدة الاخوة بين المؤمنين لتكون محورا أساسيا للعلاقة بينهم ، ولطائفة من التعاليم والانظمة والآداب أبرزها ضرورة الإصلاح بين الاخوة لعل الله يرحمهم بذلك (١٠).

دال) ولكي نقتلع جذور الصراع ، ثم لكي نعيش في ودّ ووئام لا بد أن نطهر قلوبنا من عقد التعالي فوق بعضنا ، كلا .. فنحن جميعا بشر متساوون لا يجوز أن يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم عند الله وفي عالم الواقع ، فيكون استهزاؤهم بهم محض سفه ، ومجرد خسارة لهم للمكاسب التي يمكنهم الحصول عليها. كما لا يجوز أن تسخر نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن.

وحتى إذا ألقى الشيطان في أنفسنا هذه النظرة الشاذة ، فلا يجوز أن نفصح عنها ، وأن نعيب بعضنا أو أن نتبادل الألقاب البذيئة. أو لسنا مسلمين قد طهر الله حياتنا من كل قذارة. فلما ذا نسمي بعضنا بأسماء الفسق وقد أكرمنا الرب بأسماء إسلامية رفيعة المستوى؟ (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) (١١).

ونهدم علاقاتنا ببعضنا إذا استرسلنا مع الأوهام والشكوك والظنون التي تثيرها الأحقاد أو الحالات النفسية أو الاشاعات المغرضة وهكذا يأمر الإسلام باجتناب كثير من الظن ويؤكد أن بعض الظن إثم ، ولعله الذي نتحقق منه بالتجسس ، أو نجعله موقفا لحياتنا ولو ظننا سوء فلا يحبذ التحقق منه ، وهكذا ينهانا الدين ويقول «ولا تجسسوا» وإذا عرفنا من أخينا عيبا مستورا فلا يجوز أن نشيعه عليه من وراء ظهره بالغيبة ، لأنه بمثابة أكل لحم أخينا ميتا. أو ليس ذلك نيلا من كرامته؟ وكرامته أعظم أم بدنه (١٢)؟

هاء) ثم يرسي السياق قاعدة التوحيد التي ترفض أي نوع من التمييز المادي بين الإنسان والإنسان ، ويؤكد ربنا أن أصل البشرية واحد ، آدم وحواء ، فلا

٣٥٩

تفاخر في الأنساب ، وان الحكمة من جعلهم شعوبا وقبائل هو التعارف وليس التدابر والتسامي ، فاذا عرف بعضهم بعضا ضبطت المسؤوليات والحقوق وتهيأت فرصة العدالة. بلى. إن هناك تمايزا واحدا هو التقوى. فان أكرم الخلق عند الله أتقاهم. ومن معاني التقوى سلامة الفكر واستقامة السلوك ، وبذلك يكون التنافس على ما يقدم البشرية نحو أهدافها النبيلة (١٣).

واو) وفي الدرس الأخير يفسر السياق التقوى ببيان أصلها المتمثل في الايمان ربما لكي لا يدّعيها الطامعون والانتهازيون فيقول : «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا».

وكانوا طائفة التجأوا الى المدينة طمعا في خيراتها بعد أن أجدبت أراضيهم ، ونفى عنهم القرآن إيمانهم ، ولكن لم ينف أنهم مسلمون كما لم ينف أجرهم عند الله ، إن هم أطاعوه وأطاعوا الرسول. أو ليس الله غفورا رحيما؟

وهناك مقياسان نستوحيهما من القرآن للايمان : عدم الشك خصوصا عند ما تخالف تعاليم الدين أهواءهم ومصالحهم ، والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله ، فمن فعل ذلك فقد كان صادقا في إيمانه.

ويزعم البعض ان ادعاءه الايمان يكفيه ، وكأنه يعلم الله بدينه ، (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وترى بعضهم يمنون على الرسول إسلامهم ـ كأعراب البادية الآنف ذكرهم ـ والله يمنّ عليهم بالايمان ، لأنه نعمة كبري إن كانوا صادقين في ادعائه (١٤ ـ ١٧).

ويختم القرآن السورة بأن الله يعلم غيب السماوات والأرض وأنه بصير بما يعمل الخلق ، ولعله تحذير من ادعاء الايمان لمصالح مادية (١٨).

٣٦٠