من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

يكون بمثابة الكلب ، كما قال تعالى : «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ». (١)

أما الزبير بن العوام الذي كان له تاريخ نضالي حافل ، وملاحم بطولية رائعة ، ولقد كان يكشف الكرب بسيفه عن وجه رسول الله (ص) ، إنه الآخر انحرف ، إذ أسرته الدنيا بمناصبها الحقيرة وزينتها الفانية .. فدفعه حب الرئاسة الى محاربة إمام عصره أمير المؤمنين علي عليه السّلام.

(نَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ)

وتراجعوا عن العهود والمواثيق التي الزموا أنفسهم بها تجاه الرسول ألّا يخونوه ، وألّا يخذلوه عند لقاء العدو.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى)

وعلموا أن الرسول على حق ، ولكنهم جبنوا عن مواجهة الأعداء ، وبحثوا عن السلطة والثروة.

(الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ)

رغبهم في ذلك عند ما زين لهم الدنيا وغرهم بما فيها من فتنة ظاهرة ، وكلمة سوّل من السؤل أي الحاجة ، وكأن الشيطان جعلهم حريصين على هذه الحاجة ، وأثار فيهم الرغبة فيها.

(وَأَمْلى لَهُمْ)

__________________

(١) الأعراف / (١٧٥ ـ ١٧٦).

٢٦١

قالوا : الكلمة من الأمل بمعنى منّاهم بطول الأمل ، فأنساهم الحساب.

[٢٦] لقد رغبوا في البقاء لينعموا بالرئاسة ، كما إنهم انضموا الى ركب الرسالة من أجلها. لقد كانت حساباتهم تدعوهم الى مواكبه هذا التيار الاجتماعي الصاعد ليرثوا مغانمه ، فما دام الخيرة يتنافسون على نيل الشهادة فسوف يصفو لهم الجو ، وتتاح لهم الفرصة للسيطرة على الناس ، وحكمهم باسم الرسالة .. لذلك ما كانوا ينفكون عن المؤامرة ضد السلطة الشرعية ، وقد بلغ بهم الأمر الى التخابر مع الأعداء (اليهود والمشركين) لجلب تأييدهم!! وأعطوهم وعدا بطاعتهم في بعض القضايا التي تهمهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ)

ولعل الآية تشير الى مؤامرة كان بعض المرتدين يحيكونها في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله لينفذوها من بعده. والفئة الكارهة كانت القوة العربية المعارضة للإسلام وهي قوة بني أمية التي عارضت الرسول منذ البداية وحتى استسلامها في فتح مكة ، حيث غيرت استراتيجيتها فقط فعملت سرا بعد ما كانت تعمل جهرا. ويشير الى ذلك حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام قال : «دعوا بني أمية الى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا (أهل بيت الرسالة) بعد النبي ولا يعطونا من الخمس شيئا». (١)

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ)

ويمكر بهم وهو خير الماكرين ، وهكذا ذهبت جهود بني أمية هباء ، وبقي الدين خالصا لله عبر القرون بالرغم من ان هدف بني أمية وحلفاءهم كان طمس

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (٤٢).

٢٦٢

معالمه.

[٢٧] إن نجحت مؤامرتهم ضد الولاية الالهية ، وأفلتوا من عقاب الدنيا ، فهل يهربون من عذاب الله الذي يفاجئهم منذ خروج أرواحهم من الدنيا؟

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ)

تلك الوجوه التي كلحت في وجه الحق ، وتلك الأدبار التي تولت عنه ، ولكن أين أعمالهم الصالحة؟ أين صلاتهم وزكاتهم وحسناتهم التي اقترفوها؟ إنها تحبط لأنهم خالفوا الله في أعظم أوامره واتبعوا أهواءهم.

[٢٨] (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ)

من أهواء. وإذا صلى العبد وصام وقام ، ولكنه اتبع هواه فما ذا ينفعه عمله؟ أو ليست حكمة هذه الفرائض ترويض النفس حتى لا تتبع هواها وتزكيتها من كبرها وحسدها وغلها الدفين فيها ، بينما مثل هؤلاء يكرسون بصلاتهم وأعمالهم كبرهم وعنادهم بل يجعلون صلاتهم وسيلة لنيل شهواتهم من الرئاسة في الدنيا.

(وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ)

المتمثل في ولايته التي أمر بها ، فلم يطيعوا قيادتهم الشرعية.

(فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)

[٢٩] هكذا ابتلى الله عباده حتى ظهروا على حقيقتهم وأخرج الله ما ستروه من أمراض.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ)

٢٦٣

إن هذا الظن هو الذي غرّهم بربهم وجعلهم يزعمون قدرتهم على الاختباء وراء مظهر النفاق الى الأبد ، ولكن الله أخرج ما ستروه من أحقاد وحسد وبغضاء. قالوا الاضغان : ما يضمر من المكروه.

[٣٠] وكما الله قادر على أن يظهر حقيقتهم بامتحانهم في القتال ، فهو قادر على أن يعرف رسوله واقعهم بطريق أخرى كأن يجعل على سيماهم وملامحهم علامات النفاق.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ)

وفعلا هناك على مظهر كل واحد منهم علامات النفاق ، ولكن لا تظهر إلا لأهل الخبرة والمؤمنين المتوسمين الذين ينظرون بنور الله. فمثلا : باستطاعتك أن تعرف المنافق بالنظر الى قسمات وجهه ، حينما ينادي المنادي بالصلاة أو بالزكاة أو بالجهاد أو بطاعة ولي الأمر ، فان قسماته تنكمش كالشن البالي ، بينما تنبسط قسمات وجه المؤمنين كما البدر.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)

بلى. في تضاعيف الكلام تظهر حقيقة المتحدثين ، أو ليس المرء مخبوء تحت لسانه حتى أن التحليل الحديث لعلم النفس يستفيد من أغلاط المتحدث لمعرفة خلفياته النفسية ، وحتى أعظم رجال السياسة وأشدهم مكرا لا يمكنه أن يخفى مواقفه الحقيقية عند الحديث عن شيء ، لأن الكلمة التي يتلفظ بها إذا كانت صادقة تخرج بعفوية ويسر ، بينما إذا كانت كاذبة لا تخرج إلا بصعوبة وبتكلف. ومن هنا يقول الامام أمير المؤمنين عليه السّلام : «ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه». (١)

__________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة رقم (٢٦).

٢٦٤

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ)

كما يعلم أقوالكم ، يعلمها بنياتها وخلفياتها.

[٣١] وهذه سنة الله في خلقه أن يختبرهم اختبارا لا لكي يفضح المنافقين فقط ، بل وأيضا لتتجلى حقيقة المجاهدين والصابرين لأنفسهم وللناس فيتخذوا قدوة ونبراسا.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ)

بأنواع البلاء ومنها القتال.

(حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ)

الذين لا يدعون جهدا لديهم إلا بذلوه في سبيل الله.

(وَالصَّابِرِينَ)

ولعلهم أعظم درجة من المجاهدين وأشد تعرضا للبلاء.

(وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)

تلك التي يحاول البشر أن يسترها بأي داع من الدواعي فمن الناس من يخشى أن يظهر خبره خشية الفضيحة ، ومنهم من يخشى ذلك خوف الرياء والسمعة ، ولكن الله يبلوها بحكمته عبر أنواع البلاء ، ومن أبرزها القتال.

٢٦٥

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ

___________________

(٣٢) (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) : هم في شق أي طرف والرسول في شق.

(٣٧) (فَيُحْفِكُمْ) : فيبالغ في الطلب ، فإنّ الإحفاء بمعنى المبالغة.

٢٦٦

تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

٢٦٧

فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ

وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ

هدى من الآيات :

إن التسليم للرسول (والوليّ المنصوب من عند الله) شاهد على صدق التسليم لله ، بينما الشقاق عنه كفر وصدّ عن سبيل الله ، ويسبب حبط العمل وإبطاله. فلا بد إذا من الطاعة للرسول التي هي امتداد لطاعة الله ، لكي لا تبطل أعمالنا. وإذا مات العبد كافرا فلن يغفر الله له.

هكذا أرسى القرآن قواعد الانضباط (التي نحتاجها في السلم وبصورة أكبر في الحرب) واتباع القيادة الشرعية ، ثم أمر المسلمين بالاستقامة وعدم الوهن بطلب السلام الذليل ما دمنا الأعلى والأقوى وإن الله مع المؤمنين ولا يضيع أجر العالمين.

وفي الختام رغب السياق المؤمنين عن الدنيا التي هي عبث ولهو (إلا إذا طلب الإنسان بها الآخرة فصارت ذات هدف سام) ووعد المؤمنين المتقين بأنه يؤتيهم أجرهم ولا يسألهم أموالهم. فلو سألها كلها بإصرار أخرج ما يخفوه من البخل ألا ترى

٢٦٨

كيف ان البعض يبخل عن الإنفاق (ببعض أمواله) في سبيل الله ، بينما الإنفاق هو ذخيرة لنفسه. فاذا بخل فانما يبخل عن نفسه ، لأن الله هو الغني وهم الفقراء.

وأنذر ربنا المسلمين بأن توليهم عن واجبات الرسالة (وفي طليعتها القتال والإنفاق) يفقدهم صلاحية حمل الرسالة ، فيستبدل الله غيرهم فلا يكونوا أمثالهم.

بينات من الآيات :

[٣٢] ليس من السهل التسليم لقيادة الحق للأسباب التالية :

أولا : لأن القائد بشر كسائر الناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولا يني الشيطان يوسوس للإنسان ، كيف تطيع بشرا مثلك؟ ومن الذي فضله عليك؟ وكانت هذه أخطر العقبات التي منعت الناس من اتباع الرسل بادئ ذي بدء.

وثانيا : لأن كثيرا من قرارات القيادة تمس الحياة اليومية ، وقد لا تكون مفهومة عند الفرد كما قد تخالف مصالحه العاجلة أو آراءه أو أهواءه .. مما يستدعي المزيد من العزم حتى يتغلب الفرد على الحالة النفسية التي تمنعه من تنفيذ القرار.

وثالثا : لأن صاحب الولاية الالهية يسوق الناس نحو الكمال أبدا ، مما يجعل قراره صعبا مستصعبا .. لا يحتمله إلا كل مؤمن امتحن الله قلبه للايمان .. لأن قراره نابع من الوحي والقيم الحق التي أنزل بها ، ومنها التطلع نحو الكمال.

من هنا فان طاعة الرسول تأتي في مقدمة فرائض الرسالة ، كما ان مخالفته تعتبر ارتدادا عن الدين وكفرا وسببا لابطال الأعمال.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)

٢٦٩

ويبدو من قوله سبحانه «وَشَاقُّوا الرَّسُولَ» وقوله سبحانه «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى» ان هذا الفريق هم من المنافقين الذين فضحتهم الأوامر بالقتال ، وزعموا أن شقهم عصى الطاعة يفت في عضد الرسول بينما الواقع هو انهم هم الذين خسروا أعمالهم الصالحة التي قاموا بها ، فاحبطها الله حيث لم يستقيموا على الصراط ، ولا يجوز أن يمنوا بها على الرسول ، لأنهم أبطلوها بخيانتهم للقيادة في الوقت الحرج.

وقال أكثر المفسرين إن المعني بهذه الآية هم كفار مكة أو يهود المدينة ، لأنهم صدّوا عن سبيل الله بمحاربة الإسلام. وفسروا قوله تعالى «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى» بوضوح الحجج الالهية عموما للناس الشاهدة على صدق الرسول. ولكني أرجح التفسير الأول لموافقته للظاهر من الآية حيث يظهر من هذه الكلمة انه قد تبين لهم الهدى فاهتدوا بالرسالة ردحا من الزمان ، كما إن هذا التفسير متوافق مع السياق القرآني الذي يحدثنا عن الموقف من القيادة الشرعية.

[٣٣] ويعود القرآن يؤكد ضرورة الطاعة للرسول وينذر المؤمنين بأن شقاقهم عنه يبطل أعمالهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)

فالآية هذه هي العبرة الواعظة التي لا بد أن يعيها المؤمنون من عاقبة من سقط في الامتحان فارتد عن دينه وشاق الرسول. وهذا الأمر ينسحب على كل ولاية الهية في كل عصر. فقد جاء في الحديث عن الامام جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «حدثني جبرئيل عن ربّ العزّة جلّ جلاله انه قال : من علم انه لا إله إلا أنا وحدي ، وأن محمّدا عبدي ورسولي ، وأن علي بن أبي طالب خليفتي ، وأن الأئمة من ولده حججي أدخلته الجنة برحمتي ، ونجيته من النار بعفوي ، وأبحت له جواري ، وأوجبت له

٢٧٠

كرامتي ، وأتممت عليه نعمتي ، وجعلته من خاصتّي وخالصتي ، إن ناداني لبيته ، وإن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وإن سكت ابتدأته ، وإن أساء رحمته ، وإن فرّ مني دعوته ، وإن رجع الي قبلته ، وإن قرع بابي فتحته.

ومن لم يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي أو شهد ولم يشهد أن محمدا عبدي ورسولي أو شهد بذلك ولم يشهد أن علي بن أبي طالب خليفتي أو شهد بذلك ولم يشهد أن الأئمة من ولده حججي فقد جحد نعمتي ، وصغر عظمتي ، وكفر بآياتي وكتبي. إن قصدني حجبته ، وإن سألني حرمته ، وإن ناداني لم أسمع نداءه ، وإن دعاني لم أسمع دعاءه ، وإن رجاني خيبته ، وذلك جزاؤه مني ، وما أنا بظلام للعبيد». (١)

وعن مهزم الأسدي قال : سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : قال الله تبارك وتعالى : «لأعذبن كل رعية دانت بإمام ليس من الله ، وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية ، ولأعفون عن كل رعية دانت بكل إمام من الله وإن كان الرعية في أعمالها مسيئة». (٢)

وعن عبدالله بن سنان عن الامام أبي عبد الله (عليه السّلام) انه قال : «إن الله لا يستحي أن يعذب أمة دانت بإمام ليس من الله ، وإن كانت في أعمالها برة تقية ، وإن الله يستحي أن يعذب أمة دانت بإمام من الله ، وإن كانت في أعمالها ظالمة مسيئة». (٣)

وعن ابن أبي يعفور قال الامام الصادق (عليه السّلام): لا دين لمن

__________________

(١) المصدر / ص (١١٨).

(٢) المصدر / ص (١٠٥).

(٣) المصدر / ص (١١٣).

٢٧١

دان بولاية إمام جائر ليس من الله ، ولا عتب على من دان بولاية إمام عدل من الله ، قال : قلت : لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء؟ فقال : نعم ، لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء ، ثم قال : أما تسمع لقول الله : «اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» يخرجهم من ظلمات الذنوب الى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من الله وقال : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» قال : قلت : أليس الله عنى بها الكفار حين قال : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا»؟ قال : فقال : وأي نور للكافر وهو كافر فأخرج منه الى الظلمات؟ انما عني الله بهذا انهم كانوا على نور الإسلام فلما أن تولوا كل امام جائر ليس من الله ، خرجوا بولايتهم إياهم من نور الإسلام الى ظلمات الكفر فأوجب لهم النار مع الكفار ، فقال : «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ». (١)

[٣٤] هل لهؤلاء الذين كفروا بالرسالة ومضوا على كفرهم من توبة؟ كلا ..

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

ويبدو ان أعظم الصدّ هو منع الناس عن الجهاد ، ولو بإصدار الفتاوى السلطانية التي تزور الحقائق ، وتحرف الآيات وتبرر الواقع الفاسد.

(ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)

بلى. إن هؤلاء الذين يصدّون عن سبيل الله يزعمون انهم سوف يتوبون الى الله ، كما انهم يستخفون بذنوبهم ، أو انهم يحسبون أنهم مهتدون.

__________________

(١) المصدر / ص (١٠٤).

٢٧٢

[٣٥] إن صلابة الجبهة الداخلية شرط أساسي للانتصار ، وينعطف السياق نحو المؤمنين فيأمرهم ـ بعد الطاعة ـ بمقاومة إغراءات السلام ، بعد تراكم الصعوبات ، ذلك السلام الذي يعني الاستسلام والصغار.

(فَلا تَهِنُوا)

لا تخشو الهزيمة ، ولا تهابوا العدو وإن كان أكثر منكم عدة وعددا.

(وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)

فلا تكونوا أول من يدعوا الى الصلح من الفريقين المتحاربين ، خشية الموت والهزيمة.

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)

فما دمتم مؤمنين ، فأنتم الأعلون بقيامكم وقدراتكم ، لأن الايمان بصيرة وقوة ، بصيرة لما يوفره فينا من منهجية عقلية ، ورؤية حياتية ، وقوة بما يلهمه من عزم في الارادة ، وتلاحم في الصفوف ، ووله في الشهادة ، واستقامة وصبر في المكاره.

والسؤال : أي صلح هذا الذي نهى عنه القرآن ، بينما يقول ربنا سبحانه : «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ»؟ فهل هذه ناسخة أم تلك؟

يبدو ان هذه الآية نهت عن الدعوة الى الصلح القائم على أساس الوهن ، لأنها تستتبع الذل والهزيمة ، وهي بالتالي استسلام للعدو .. بينما أمرت الآية الأخرى بقبول الصلح الذي يدعو اليه العدو لوهن أصابه وضعف ، وكلا الأمرين يخدمان بالتالي القيم الرسالية .. ففي الوقت الذي يكون الصلح لمصلحة الإسلام وقوته وغلبته وتأتي الدعوة اليه من العدو لا بد من قبوله ، بينما لا ينبغي المبادرة من قبل

٢٧٣

المسلمين الى الدعوة اليه انطلاقا من الاحساس بالوهن والضعف. ولذلك جاء في الحديث المأثور عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر انه قال : «ولا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوك ولله فيه رضا». (١)

(وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)

قالوا : معناه لن يؤدكم من دون أعمالكم ، لأن الوتر بمعنى الإفراد ، وإنما سمي الذي قتل منه أحد موتور ، لأنه بقي مفردا من دونه. وهكذا ضمن الله حفظ أعمال المؤمنين ، كما أوعد الكفار بحبط أعمالهم ، فكلّما بذله المسلمون في طريق تقدم الرسالة يحفظه الله ويجعله مفيدا.

ينبغي إذا ألّا نستعجل النتائج ، وأن نصبر في المواجهة ، حتى يأتي النصر. ولنعلم ان النصر آت ، وكل آت قريب ، وقد لا نراه نحن وإنما يقطف ثماره أبناؤنا. وزينب بنت علي (عليهما السلام) ضربت أروع الأمثلة في التحلي بهذه البصيرة ، فلقد كانت تتذكر حين شدة البلاء ، وتراكم المصائب والآلام ، هذه الحقيقة إن الله لا يضيع جهود المجاهدين. فلقد ألقت نظرة على مصارع إخوتها وأبنائها وأصحاب الرسالة ، وقالت مخاطبة الامام علي بن الحسين (عليهما السلام) ابن أخيها : «مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وإخوتي ، فو الله إن هذا لعهد من الله الى جدك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السموات ، انهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة ، والجسوم المضرجة ، فيوارونها ، وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه ، فلا يزداد أثره الا علوا» (٢) وكذلك حين خاطبت يزيد الحاكم

__________________

(١) تفسير نمونه نقلا عن نهج البلاغة الرسالة رقم (٥٣).

(٢) كامل الزيارات : ص (٢٦١).

٢٧٤

الأموي الذي قتل ذرية رسول الله فقالت له : «ولئن اتخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك .. فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يرخص عنك عارها». (١)

هكذا كانت (ع) تنظر الى آفاق المستقبل البعيدة ، دون أن تأسرها مصاعب اللحظات الراهنة الآنية ، وهكذا كان جميع حملة الرسالة عبر التاريخ ، ينظرون الى الآفاق البعيدة ، فكانوا يتحملون تلك المصائب الرهيبة التي لو أنزلت على جبل لهدّته هدّا! بلى. بالايمان بأن الله معهم ، وانه لا يضيع أعمالهم الصالحة ، ويحفظ جميع جهودهم ، ويباركها وينميها وانه يكيد الكافرين ، ويحبط أعمالهم ويبطلها ، وان العاقبة للمتقين ، بكل ذلك كان المجاهدون على امتداد التاريخ يتحدون الصعاب.

[٣٦] ونتساءل : لماذا تخور عزائم البعض في مواجهة أعداء الدين؟ لماذا يستحوذ عليهم الوهن ويدعون الى السلم؟

إن السبب هو حب الدنيا ، ولذلك يحذرنا الرب منها ، ويبين لنا القيمة الحقيقية لها فيقول :

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)

وإذا انتزعنا حب الدنيا من قلوبنا ، فسوف نتسلح بالشجاعة الكافية لمواجهة الأعداء ، كما نستعد لاقتلاع جذور سائر الأمراض القلبية التي تحدثت عنها هذه السورة المباركة كالنفاق والحسد والكبر ، لأن «حب الدنيا رأس كل خطيئة» ـ كما في حديث مأثور ـ.

__________________

(١) مقتل الخوارزمي / ج (٢) ـ ص (٦٤).

٢٧٥

وإذا جردت حياتنا في الدنيا من هدفها المتعالي المتمثل في بلوغ الجنة والرضوان ، فهل يبقى فيها هدف معقول؟ كلا .. وماذا نتصوره من هدف حكيم للطعام والشراب لو تفكرنا فيه ليس سوى لذة عابرة ، وقوة تتبدد ، ودورات قصيرة لا ننتهي من واحدة حتى نقع في الثانية ، واللعب هو السعي الذي يهدف غاية غير حكيمة (خيالية) ، واللهو هو السعي الذي لا هدف له أبدا .. وما الدنيا إلا لعب ولهو لأن ما فيها يزول ، لو لا ما نبقي منها لحياتنا الحقيقية في الآخرة ، وهو الذي يشير اليه السياق :

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ)

في الدنيا كرامة وسعادة وعزا ، وفي الآخرة جنات النعيم.

(وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ)

قالوا : معنى ذلك انه سبحانه لا يطلب منكم أجرا بإزاء هدايتكم ، ولعل معناه انه سبحانه يعترف لكم بالملكية ، ولا يسلبكم الأموال بصورة كاملة دون إكراه ، بل بالترغيب وهذا لا ينافي الأمر بالإنفاق لما فيه من فوائد عظيمة لكم ، لأنه دليل واقعي على انتماء الفرد لمجتمع الايمان والفضيلة ، كما انه سيجعل النفوس نقية صافية طاهرة ، وسيجعل المجتمع متماسكا ملتحما ويسير بسرعة أكبر نحو التقدم.

[٣٧] ومن حكمة ربّنا ورحمته بنا انه لم يأمرنا بإنفاق جميع أموالنا ، وإلا لم يكن يتمسك بعروة الإسلام إلا القليل من الناس.

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ)

يجهدكم في المسألة من الإحفاء بمعنى الإصرار في المسألة.

٢٧٦

(تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ)

ولكنه جعل دينه سهلا لينتمى اليه أكبر عدد من الناس ، وإذا كان صعبا ويأمر بإنفاق كل المال كان يظهر البخل الذي تنطوي عليه أغلب النفوس.

[٣٨] وبالرغم من ان الله لم يأمرنا بإنفاق جميع الأموال ، ترى البعض يبخلون ، كما بخلوا بأنفسهم حين أمروا بالقتال.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ)

لأنهم لم يعلموا أنفسهم على البذل والعطاء والتضحية ، وجذبهم حب الدنيا وأوثقهم بوثائقه ، وبالتالي تصوروا ان الإنفاق مغرم ، بينما هو مغنم كبير.

(وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)

لأنه لو أنفق شيئا لردّ اليه أضعافا مضاعفة ، وحاز على رضوان الله الأكبر. وأي خسارة كهذه الخسارة ، أن يحرم الإنسان ثواب ربه ورضاه؟! ولا يدل أمر الله بالإنفاق على حاجته الى ما نملك ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ)

ولأننا فقراء يجب علينا أن ننفق حتى يغنينا من فضله.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)

فإذا بخلت أمة عن العطاء ، فان الربّ يستبدلها بأمة خيرا منها ، تنفق من أموالها ، وتجاهد في سبيل الله ، وتقدم التضحيات تلو التضحيات ، وتصبر وتستقيم.

٢٧٧

إن توفيق حمل الرسالات الالهية شرف عظيم لا يعطيه الله إلا لمن استعد لدفع ثمنه ، وثمنه خوض القتال والإنفاق ، فاذا ضعفت أمة عنها قيّض الله لها أمّة أخرى! وحول هذا المقطع من الآية جاءت رواية ذكرها أغلب المفسرين وبطرق عديدة : عن أبي هريرة إن أناسا من أصحاب رسول الله (ص) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه؟ وكان سلمان الى جنب رسول الله (ص) فضرب (ص) يده على فخذ سلمان فقال : «هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس» (١) وجاء في رواية أخرى عن الامام الصادق (عليه السلام) قال : «والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي» (٢) والواقع : إن التاريخ يشهد ان رسالة الإسلام حملها بعد العرب شعوب أخرى كالبرابرة والفرس والأتراك ، وإذا خذلها المسلمون اليوم فقد يقيض الله لها من أقصى الأرض من يحملها ويؤدي حقها ثم لا يكونوا أمثال المسلمين.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (٤٦).

(٢) تفسير نمونه نقلا عن مجمع البيان / ج (٩) ـ ص (١٠٨)

٢٧٨

سورة الفتح

٢٧٩
٢٨٠