من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

وهذه الآية ونصوص دينية أخرى تستهدف فصل الفسقة عن المجتمع الاسلامي نفسيا ، وتقليل دورهم في ادارة القضايا الاجتماعية ، فاذا امتنع المسلمون عن العمل باخبار الفاسقين ، فقد أبعدوهم عن القضاء والاعلام ، والشهادة في المحاكم وعن أعمال أخرى.

من هنا نجد المفسر المعروف القرطبي ينقل هنا نصا عن ابن العربي يحسن بنا الاستماع اليه يقول :

ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق ومن لا يؤتمن على حبه مال كيف يصبح أن يؤتمن على قنطار دين ، وهذا إنما كان أصله أنّ الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم (وأضاف) ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته. وبوجوب الاعادة أقول فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة ولكن يعيد سرا في نفسه ولا يؤثر ذلك عند غيره. (١)

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ)

الرسالة نعمة وفضل ، ووعي هذه الحقيقة يجعلنا نستفيد منها بصورة أفضل ، أو ليس الذي يجهل أن له رصيدا كبيرا في البنك لا ينتفع به؟

والايمان بالرسالة هو الآخر توفيق من عند الله ونعمة وفضل ، صحيح ان العبد يخطو الى ربه الخطوة الأولى ، ويسلم للحق ، ولكن لو لا أن الله يجبب الايمان في

__________________

(١) القرطبي / ج ١٦ ـ ص ٢١٣

٣٨١

قلوب من يصلح له ما زكى أحد من البشر أبدا. ولقد حبب الله الايمان مرتين ، مرة عند ما خلق البشر على فطرة الايمان بالله ، ومرة عند ما ألقى في أفئدة المسلمين لربهم الصالحين لتلقي نعمة الهدى حب الايمان. كما ان الفطرة البشرية بذاتها تكره الانحراف بكلّ درجاته ، كالكفر الذي يعني مخالفة الدين رأسا ، والفسوق الذي يعني تجاوز حدود الشريعة والعصيان الذي هو ارتكاب بعض الخطايا ، وهذه الثلاث تعاكس الايمان ومن دون تطهير القلب من أدرانها لا يستقبل القلب روح الايمان.

(أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)

قالوا : أصل الرشد الصخرة ، ويسمى صاحب الرأي السديد بالراشد لاستقامته عليه ، وشدة تصلبه فيه ، فهو على يقين من أمره. ورشد المؤمن ناشئ من يقينه ، وتصلبه في الحق إذ أنه عرف دربه الواضح فسوف لا يغيره.

وقد التفت السياق من الخطاب الى الغيبة ، ربما لأن مقام الراشدين رفيع لا بد أن يشار اليه بمثل كلمة (أولئك) وهو بالتالي لا يناله إلا من هو ذو حظ عظيم ، فليس كل تال للقرآن مخاطب بهذه الصفة العظيمة. والآية تدل على أن أساس الدين الحب ، ولذلك يسعى المؤمنون لترسيخ وتنمية هذا الحب في أفئدتهم ويقولون : «واجعل لساني بذكرك لهجا ، وقلبي بحبك متيما». (١)

وجاء في صفة حزب الله المفلحين : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (٢).

__________________

(١) من دعاء لأمير المؤمنين (ع) المعروف بدعاء كميل / مفاتيح الجنان / ص ٦٧

(٢) المائدة / ٥٤

٣٨٢

وحين سأل زياد الحذاء الامام الباقر (عليه السلام) عن علاقة الدين والحب ، أجابه الامام قائلا :

يا زياد ويحك! وهل الدين إلا الحب؟ ألا ترى الى قول الله : «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» أولا ترون قول الله لمحمد «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» قال : «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ».

وقال مضيفا : «الدين هو الحب والحب هو الدين» (١)

[٨] وإذا كان الايمان هدية الله الى القلوب الطاهرة ، فانه فضل من الله لطائفة خاصة من البشر ، وليس كسائر نعم الله شاملة للجميع.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

يعلم أين ينبغي أن يجعل فضله ونعمته بحكمته البالغة.

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٨٤

٣٨٣

وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)

٣٨٤

فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ

هدى من الآيات :

إذا كانت الحرب الخارجية ذات فوائد للامة ، إذ تمحص إرادتها وتطهر صفوفها ، وتهديها الى مراكز ضعفها وتحسسها بمسؤولياتها ، وتكرس القيم الحضارية فيها ، فان الحرب الأهليّة لا تخلف وراءها إلّا الخيبة والدمار ، وقد تجرها الى نهايتها المريعة.

ولقد عالجت الآية الاولى في هذا الدرس قضية القتال بين المؤمنين بصورة واضحة ، مما حدى بالمفسرين أن يفصلوا الحديث حول الموضوع ويشبعه بحثا ، وأنى فصلنا فان القضية أبعد غورا وأوسع مدى من التحدث عنها ضمن التفسير فقط ، وإنما هي بحاجة الى دراسات مفصلة.

أما الآية الثانية فهي الأخرى تعالج موضوع الصلح ولكن بصورة أشمل وتؤكد على عمق العلاقة بين المؤمنين التي تصل الى الأخوة الكاملة.

٣٨٥

بينات من الآيات :

[٩] تعالج آيات القرآن عادة أسوء الحالات قبل الحديث عن الحالات العادية ، فمثلا حين تبين سورة النساء العلاقات الاجتماعية تستهلها بمعالجة حالة الطلاق التي هي عقدة العلاقة الاسرية ، وكذلك سورة النور التي ترسم حدود الاسرة الفاضلة تبتدئ ببيان حد الزنا ، وسورة المائدة التي تبني كيان الحضارة الاسلامية نراها تحدثنا في فاتحتها عن حرمة الاعتداء على أموال اليتامى الذين هم أضعف الحلقات الاجتماعية ، وهنا أيضا تعالج الآيات أعقد حالات الخلاف وهي حالة الاقتتال أولا ثم تتدرج في الحديث عن سائر الحالات الأقل تعقيدا. لماذا كل ذلك؟

يبدو أن وراء كل ذلك حكمتين :

الأولى : لبيان الغاية التي سوف تنتهي إليها تسلسل الحالات ، لكي لا يستهان بمبدئها فالخلافات الجزئية التي نستخف عادة بها والشائعات التي نبثها هنا وهناك ضد بعضنا بلا وازع قد تنمو حتى تصبح صراعا دمويا بين طائفتين من البشر. فلكي نرى الحقائق لا بد أن نضرب لها مثلا واضحا ثم نقيس عليه سائر الامثلة.

الثانية : إن عظمة الشريعة تتمثل في معالجة الحالات الشاذة البالغة حدها في التعقيد ، أما الأوضاع العادية فان التعامل معها سهل ميسور.

فمعالجة حالة الطلاق أو الخيانة الزوجية (الزنا) هي المقياس لقدرة الشريعة على وضع نظام صائب لشؤون الاسرة ، كما ان الحفاظ على أموال اليتيم دليل على مدى صلاحية النظام الاقتصادي في المحافظة على حقوق الناس.

٣٨٦

كذلك معالجة مشكلة الحرب الأهلية تشهد على مدى صلاحية النظام الاجتماعي في مواجهة التحديات.

من هنا بدأ السياق بهذه المعالجة وقال :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما)

المسؤولية الأولى إذا هي وقف الاقتتال وإقامة السلام بأية وسيلة ممكنة ، وهي مسئولية الجماهير ، لأنهم القوة الباقية بين الطائفتين. أما لو كلفنا طائفة ثالثة فقد تدخل طرفا في الاقتتال وقد لا تكون أقوى من إحداهما.

والملاحظ أولا : ان التعبير جاء بصيغة التثنية ثم الجمع ثم التثنية ، ذلك ان سبب الاقتتال يكون عادة الاختلاف بين فريقين لكل منهما خصائصه وميزاته ، والصلح يكون بين قيادتي الفريقين ، بينما ذات الاقتتال يكون بين أتباعهما ، فقد يكون المقاتلون ضحية مؤامرة قيادتهم ، وزجهم في معركة لا مصلحة لهم فيها ، بينما القيادة عند الفريقين مسئولة عن الحرب كما هي مطالبة بالصلح.

ثانيا : القرآن لم يحدثنا عن قوانين الصلح أو عن الصلح الذي يقوم على العدالة ، لأن تحقيقه في حالة الاقتتال يكاد يكون مستحيلا ، إنما طلب من الجميع العمل من أجل الصلح.

ثالثا : سمى القرآن الفريقين المتقاتلين بالمؤمنين بالرغم من ان الاقتتال ضلالة بعيدة ، مما يدل على إمكانية تورط أبناء الامة الواحدة في الحرب الأهلية بسبب الفتن والأهواء ، فلا يجوز اتهام الناس بالكفر بمجرد دخولهم الصراع مع بعضهم حتى بلغ حد الحرب ، كما لا يجوز لأحد الطرفين اتهام الطرف الآخر بالخروج عن إطار الايمان بمجرد إعلانه الحرب عليه.

٣٨٧

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى)

فلم تقبل بالصلح أو قبلت وغدرت.

(فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)

هل يمكن أن نقيم السلام بالشعارات والمواعظ والمعاهدات ومجالس الأمن؟ قد يكون كل ذلك نافعا ، ولكنه ليس بمستوى وقف الحرب التي لا يخوضها الناس إلا بعد أن ييأسوا من تحقيق أهدافهم بأية وسيلة أخرى ، فيركبون مركبها الصعب ويتحملون مآسيها وويلاتها. فكيف يتوقفون عنها بنصيحة أو قرار؟

لا بد إذا أن يتحمل الناس كل الناس مسئولية الحفاظ على السلام ووقف نزيف الدم ، وذلك بخوض غمار الحرب بلا تردد ، وإلا فأن بغاة الفتنة سوف يحولون الأرض جحيما.

ولست أعرف مبدأ فرض على تابعيه هذا المستوى من المسؤولية الاجتماعية ، فالمبادئ الغربية ترى انتخاب النظام حقا ، بينما الإسلام يراه واجبا ، ويفرض على المؤمن الكفر بمن يطغى ويريد فرض نفسه على المجتمع حاكما من دون رضاهم ، كما يفرض القتال ضد الذين يبغون الفساد في الأرض.

ويحدد القرآن القتال بعودة الفئة الباغية الى أمر الله وقبولها بتطبيق حكم الإسلام في قضايا الخلاف بينها وبين الفئة الاخرى ، مما يدل على واجب التقيد التام بحدود العدالة في التعامل مع البغاة بالرغم من بغيهم واعتدائهم على السلام والأمن.

وإذا عرفنا ان هؤلاء يشبهون المعارضة المسلحة في عرف اليوم ، نعرف كيف ينبغي التعامل مع المعارضة في النظام الاسلامي بأن نعيدهم الى الحدود الشرعية

٣٨٨

والممارسة القانونية لحقهم ، دون مصادرة حقوقهم وانتهاك حرماتهم والاشهار بهم وإغراقهم بالتهم الرخيصة ، فكيف باعتقالهم وتهجيرهم وتعذيبهم وقتلهم؟ كلا. إنّ الله سبحانه يحدد قتال البغاة بعودتهم الى أمر الله فاذا عادوا كان حالهم حال سائر أبناء الامة سواء بسواء.

(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ)

ولا يجوز التمييز بينهما وبين الفئة الاخرى ، بمجرد أنها بغت عليها. إذ ان فرض عقوبات على هذه الفئة أو حرمانهم من حقوقهم يمهد لحرب جديدة ، إنما العدل وإقامة حدود الله على الجميع بلا تمييز يقضي على أسباب الصراعات الاجتماعية لأن وقود هذه الصراعات هم في الأغلب الفئات المحرومة التي يستغلها هذا أو ذاك.

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)

لعل القسط هو التطبيق الدقيق والحازم لموجبات العدالة ، فهو الدرجة الأسمى للعدل. فكيف نحقق القسط في الفئتين المحاربتين؟

قد تكون الفئة الباغية (المعارضة المسلحة) فئة محرومة تاريخيا ، كالسود في أمريكا ، فتساويهما في الحقوق مع مواطنيهم البيض لا يكفيهم ، ولا يقضي على عوامل البغي المجرد ، إنما ينبغي توفير قدر أكبر من الفرص لهؤلاء لرفع حرمانهم مثل تخصيص ميزانيات أكبر لمناطق تواجدهم ، وقبولهم في الجامعات بشروط أخف وإعطائهم ديونا بلا فوائد و. و. والله العالم.

وقد جاء في سبب نزول الآية أقوال شتى مما يدل على ان ذلك كان مجرد تطبيق الآية على بعض الحوادث التي وقعت بين المسلمين وأكثرها كانت بين

٣٨٩

الأنصار وبالذات بين الأوس والخزرج الذين بقيت على عهد النبي آثار حربهما الضروس التي طالت عقودا متطاولة حتى أخمدها الله بالإسلام.

وأكثر تلك المشاحنات التي يذكرها المفسرون في سبب نزول الآية كانت بالأيدي والنعال وجريد النخل ولا أظن أنها تسمى قتالا.

وليس غريبا أن يبين القرآن حكم موضوعة تتحقق عادة في الأمم حتى ولو لم تحدث عند نزول الكتاب ، وقد شهد المسلمون صراعا دمويا بينهم في القرن الأول من الهجرة ، مما يصلح تأويلا للآية من هنا تحدث بعض المفسرين بتفصيل عن تلك الحرب ، ونحن بدورنا نجد فائدة كبيرة بذكر جانب مما تحدثوا عنه مبتدئين ذلك بنقل ما نقله القرطبي عن القاضي أبي بكر بن العربي حيث قال :

هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عوّل الصحابة وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عنى النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بقوله : «تقتل عمارا الفئة الباغية» وقوله عليه السلام في شأن الخوارج : «يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة» والرواية الأولى أصح ، لقوله عليه السلام : «تقتلهم أولى الطائفتين الى الحق» وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه ، فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين ان عليا رضى الله عنه كان إماما ، وإنّ كل من خرج عليه باغ ، وان قتاله واجب حتى يفيء الى الحق وينقاد الى الصلح ، لأن عثمان رضى الله عنه قتل والصحابة براء من دمه ، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال : لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء ، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الامة ، ثم لم يمكن ترك الناس سدى ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم (عمر) في الشورى ، وتدافعوها ، وكان علي كرّم الله وجهه أحق بها وأهلها ، فقبلها حوطة

٣٩٠

على الامة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ، أو يتخرق أمرها الى ما لا يتحصل ، فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام. فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم. فقال لهم علي رضي الله عنه : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا اليه ، فقالوا : لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحا ومساء. فكان علي في ذلك أسدّ رأيا وأصوب قيلا ، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة ، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق.

ولا خلاف بين الامة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك الى اثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة ، وكذلك جرى لطلحة والزبير ، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى. (١)

ثم يسترسل القرطبي في تفسير حرب الجمل فيقول : وقال جلة من أهل العلم ان الوقعة بالبصرة بينهم (بين المسلمين) كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة ، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به. (٢)

ولم أهتد الى الفارق بين واقعتي البصرة وصفين أو بينها وبين النهروان. أو لم يخرج الجميع على إمام قائم بالأمر بايعته أكثرية المسلمين فكيف نبرّر خروج أهل البصرة ، وندين أهل الشام أو الخوارج؟

هب أن القتال كان فجأة ، ولكن ماذا يبرر إخراج حرم رسول الله من المدينة الى البصرة وتجنيد الجيوش وإظهار المخالفة بهذه الطريقة؟

__________________

(١) القرطبي / ج ١٦ / ص ٣١٨

(٢) المصدر

٣٩١

وأظن أن تاريخنا قد حفل بالتبرير ، وربما التناقض لسبب نفسي مغلف بشبهة دينية! أما السبب النفسي فهو الخلط بين قيم الدين وحوادث التراث ، ومحاولة اضفاء حالة من القداسة على التراث ، دون عرضه على قيم الوحي أو نقده حسب موازين الشرع ، فكل ما يسمى بالإسلام أو بالمسلمين أو بالتاريخ الاسلامي ذات حرمة بل قداسة عند البعض ، بينما نجد في تاريخنا ما يندي له جبين الانسانية ، مثل واقعة عاشوراء حيث ذبح سيد الشهداء سبط رسول الله عطشانا على جنب الفرات وأسرت بنات رسول الله وطوف بهن البلاد .. كلا لا ينبغي أن نكون مثل الذين اتبعوا آباءهم وقدسوا تراثهم حتى قال لهم الله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (١) وقال سبحانه : «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ». (٢)

المقياس الوحيد للحق هو وحي الله المتمثل في كتاب الله ، وتفسيره الصحيح الذي بينه رسول الله وأهل بيته المعصومون عليهم السلام ، أو ما يكشفه العقل والعلم بوضوح كاف .. أما سيرة السلاطين ، أو سلوك الأولين فانه يخضع بدوره للوحي ، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله أكرمناه ، وما خالفهما تركناه .. ولا يجوز تعطيل العقل في فهم الوحي لمصلحة التراث ، فإنّه من الغلو في الدين الذي نهينا عنه ، كما قال الله سبحانه لبني إسرائيل : «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ». (٣)

__________________

(١) لقمان / ٢١

(٢) المائدة / ١٠٤

(٣) المائدة / ٧٧

٣٩٢

من هنا لا يجوز أن ننسب العصمة الى أصحاب رسول الله جميعا ، بل لا بد أن نخضع تصرفاتهم لقيم الوحي ونأخذ بما ثبث عن طريقهم من أقوال رسول الله ولا يلزمنا اجتهادهم في الدين أو تفسيرهم للقرآن ، ولا سلوكهم خصوصا المخالف للنص.

ولا يجوز أن يوقعنا احترام الصحبة الى مخالفة نصوص الدين ، بخلاف ما قال المفسر المعروف القرطبي حيث ذكر انه : لا يجوز أن ينسب الى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به إذا كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل وهم كلهم لنا أئمة. (١)

حقا ينبغي احترام الصحبة ، ولكن ليس الى درجة الوقوع في التناقض أو التبرير الذي لا يقبله العقل ، فلا ريب ان قتال الصحابة مع بعضهم كان خطأ فادحا ، لا بد أن ندينه وندين الباغي ، وكيف يجوز لنا أن نقيم حوادث اليوم حسب الدين؟ ولا يجوز أن نفعل مثل ذلك في الماضين ، أو لم يكونوا بشرا مثلنا ، أو لم تكن لهم شهوة السلطة والثروة .. دعنا نكون أكثر واقعية ، ونضع كل شيء في موضعه المناسب ولا نكون كالحسن البصري الذي سئل عن قتال الصحابة فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فأتبعنا ، واختلفوا فوقفنا .. (٢)

فهل يجوز أن نطلق مثل هذا الكلام بالنسبة الى كل حادثة تاريخية؟! إذا نعطل العقل ، بل نعطل موازين الشريعة ، كلا .. لا بد أن ندرس التاريخ ونعتبر بما فيه ونميز الحق والباطل فنتبع الحق وندع الباطل والله المستعان على ذلك.

__________________

(١) القرطبي / ج ١٦ / ص ٣٢١

(٢) المصدر / ص ٣٢٢

٣٩٣

أما الشبهة الدينية فهي اننا لو شككنا في أمر الصحابة ضاعت علينا معالم ديننا ، أو ليسوا هم الوسيط بيننا وبين معرفة الدين؟ وأضافوا أن هناك أحاديث مأثورة عن الرسول باحترام الأصحاب وأنهم كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا .. ونقول : إن معالم الدين واضحة بالقرآن ، وعلينا أن نعرض عليه حتى أحاديث الرسول وأهل بيته فكيف بأفعال بشر مثلنا؟ ثم ان كل جيل يأخذ معالم دينه من الجيل السابق عليه فهل من المعقول إضفاء هالة العصمة على كل الأجيال؟ وما الفرق مثلا بين الصحابة وجيل التابعين في أن من لحقهما أخذ منهما معالم الدين؟ فكما ميز علماء المسلمين بين التابعين حسب قوانين علم الرجال ، فقالوا هذا ثقة أخذوا منه الدين وهذا وضاع وذاك ضعيف والثالث مجهول الحال فلم يأخذوا منه الحديث كذلك ينبغي أن نفعل بالجيل السابق لهم ، فنفرق مثلا بين أبي ذر الغفاري ، الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منه ، وبين سمرة بن جندب الذي كان يكاسر معاوية في ثمن الأحاديث الموضوعة.

وإذا جاءت روايات في فضل الأصحاب فيجب تقييدها بالصادقين منهم الذين لم يحدثوا بعد الرسول ، وذلك لسببين :

أولا : لمعارضتها مع روايات أخرى مأثورة عن النبي ، تؤكد ان بعض الصحابة يحدثون من بعده ، وإنهم يذادون يوم القيامة عن الحوض كما يذاد البعير ، وأنه ستكثر من بعده القالة فمن كذب عليه فليتبوّأ مقعده من النار.

ثانيا : لأننا يجب أن نجعل كتاب الله مقياسا لمعرفة حدود أحاديث الرسول ، والله سبحانه وتعالى يقول : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ». (١)

__________________

(١) الزمر / ٩

٣٩٤

«أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ». (١)

«وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ». (٢)

«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». (٣)

وعند ما بين ربنا فضائل الجيل الأول من المسلمين اشترط الايمان والإحسان فيهم ، ولم يطلق الكلام عند ما وعدهم الأجر العظيم ، بل قيده بذلك وأكد عليه بحرف «من» التبعيضية وقال :

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً». (٤)

أحكام الباغين

أ/ هل الآية تشمل حالة القيام ضد الحكم الاسلامي أم تخص الاختلاف بين طائفتين من المسلمين ليس بينهما إمام؟ المعروف بين المفسرين انها تشمل الحالة الأولى ولذلك فقد تحدثوا في تفسيرها عن حكم البغاة ، وعما حدث في الصدر

__________________

(١) السجدة / ١٨

(٢) غافر / ٥٨

(٣) الحديد / ١٠

(٤) الفتح / ٢٩

٣٩٥

الأول من اقتتال الأصحاب مما كان مظهرا واضحا للبغي ضد الامام الحاكم.

ويبدو أن هذا الفهم يستند الى ان الاقتتال بين المسلمين يكون عادة على السلطة ، حيث لا ترى طائفة منهم السلطة شرعية فتقوم ضدها ، وسواء كانت تملك حجة في ذلك ، وكما قامت طوائف من المسلمين ضد الحكام في العهدين الأموي والعباسي ، أولا كالذي حدث في عهد الامام علي عليه السلام ، فان الآية تشمل ذلك كله ، ويشهد على ذلك الحديث المفصل المروي عن الامام الصادق عليه السلام والذي جاء فيه : «بعث الله محمّدا بخمسة أسياف ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها ، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها .. الى أن قال : وأما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي والتأويل (ثم قرأ الآية الكريمة : وإن طائفتان ..) فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله : إنّ منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، فسئل النبي : من هو؟ فقال : خاصف النعل ، يعني أمير المؤمنين ، فقال عمار بن ياسر : قاتلت بهذه الراية مع رسول الله ثلاثا وهذه الرابعة ، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا المسعفات من هجر لعلمنا انا على الحق وأنهم على الباطل». (١)

وعلق الفقيه الكبير الشيخ محمد حسن النجفي على ذلك بقوله : خبر الأسياف المروي في التهذيب والكافي وعمل به الأصحاب وتسمعه إنشاء الله صريح فيما ذكره بعض من أنه نزل فيهم قوله تعالى : وإن طائفتان الآية. (٢)

ب / لا ينبغي معاملة أهل البغي معاملة الأعداء ، بل ينبغي أن نقاتلهم لكف بأسهم ودرء للفتنة فاذا فاءوا الى أمر الله عاملناهم كاخوة .. وقد جاء في تتمة

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ١١ / ص ١٨

(٢) جواهر الكلام / ج ٢١ ص ٣٢٣ (الطبعة الثانية)

٣٩٦

الحديث الآنف ذكره : «وكانت السيرة فيهم (أهل البغي) من أمير المؤمنين (ع) ما كان من رسول الله (ص) في أهل مكة يوم فتح مكة فانه لم يسب لهم ذرية ، وقال : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه (أو دخل دار أبي سفيان) فهو آمن ، وكذلك قال أمير المؤمنين (ع) يوم البصرة نادى : لا تسبوا لهم ذرية ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تتبعوا مدبرا ، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن». (١)

وجاء في حديث آخر عن الامام الصادق عليه السلام : عن عبدالله بن سليمان : قال قلت لأبي عبدالله الصادق عليه السلام : إن الناس يروون أن عليا قتل أهل البصرة وترك أموالهم (مما يثير تساؤلا عندهم كيف يبيح دماءهم ولا يبيح أموالهم؟) فقال :  «إن دار الشرك يحل ما فيها وإن دار الإسلام لا يحل ما فيها». (٢)

بل نجد في حديث آخر أعظم من ذلك فقد روى مسعدة بن زياد عن جعفر عن أبيه : «إن عليا لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه الى الشرك ولا الى النفاق ولكنه كان يقول : هم إخواننا بغوا علينا». (٣)

روى عن الامام علي عليه السلام انه سئل عن الذين قاتلهم من أهل القبلة أكافرون هم؟ قال : «كفروا بالاحكام وكفروا بالنعم ليس كفر المشركين الذين دفعوا النبوة ولم يقروا بالإسلام ولو كانوا كذلك ما حلت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم». (٤)

__________________

(١) وسائل الشيعة / ج ١١ / ص ١٨

(٢) المصدر / ص ٥٨

(٣) المصدر / ص ٦٢

(٤) جواهر الكلام / ج ٢١ ص ٣٣٨ نقلا عن كتاب الدعائم

٣٩٧

ج / يبدو ان البغاة لا يضمنون ما أتلفوه من مال أو أراقوه من دم ، كما لا يضمن لهم ما تلف منهم من مال أو دم ، لأن الصلح يعني تنازل كل طرف عما يعتقد أنه حقه في مقابل تنازل الطرف الآخر. هذا إذا تم الصلح ، وفي حالة استمرار القتال حتى تفيء الفئة الباغية فان مقتضى جعل العودة الى أمر الله نهاية للقتال أنه ليس هناك حكم آخر كالقصاص والضمان ، وإلّا جعلا حدّا للقتال ، وهذا هو الظاهر من الروايات التي تبيّن أحكام البغاة إذ لم أجد فيها حديثا يتعرض لأحكام القود والضمان والغرامة مع أنها في مقام البيان.

كما ان هذا هو المعروف من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ، فلو أراد الاقتصاص منهم لقتل بعض أسراهم ممن كان يقود الجيش المعادي كمروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير الذين لا ريب في تعلق القصاص بهم.

جاء في التاريخ ان الامام أمير المؤمنين عليه السلام لما هزم أهل البصرة ذهب الى دار عظيمة كان فيها أسرى الحرب فاذا نساء يبكين بفناء الدار فصحن به وقلن : هذا قاتل الأحبة ، فبعث إليهن واحدة وقال : «لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه» وأومأ الى ثلاث حجر فذهبت إليهن وقالت لهن فسكتن جميعا ، وكان في واحدة منها عائشة وخاصتها ، وفي الثانية مروان بن الحكم وشباب من قريش ، وفي الأخرى عبدالله بن الزبير وأهله. (١)

وقال القرطبي في تفسيره : وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤخذوا به ، وقال أبو حنيفة : يضمنون ، وللشافعي قولان ، وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان ، والمقول في ذلك عندنا ان الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذفّفوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا

__________________

(١) جواهر الكلام / ج ٢١ / ص ٣٣١

٣٩٨

نفسا ولا مالا وهم القدوة. (١)

د / قال الفقهاء إن الباغي ذا الفئة يقتل أسيرا ويجهز عليه جريحا ويستحل ماله ، لأنه يعود الى من يجمع له السلاح ويغدق عليه الأموال ويعاود القتال .. وجاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام انه سئل عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية والاخرى عادلة فهزمت العادلة الباغية قال : «ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يقتلوا أسيرا وهذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد ولم يكن فئة يرجعون إليها ، فاذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فان أسيرهم يقتل ، ومدبرهم يتبع وجريحهم يجهز عليه». (٢)

وقال المحقق في الشرائع : من كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الاجهاز على جريحهم واتباع مدبرهم وقتل أسيرهم. فعلق عليه صاحب الجواهر بقوله بلا خلاف أجده في شيء من ذلك. (٣)

وهذا الحكم يستفاد أيضا من الآية الكريمة ، لأن ذا الفئة من البغاة لا يزال في حالة الحرب إذا لم ينفصل عنهم أو ليست فئته تحارب المسلمين وهو لم يتبرّأ منهم .. فلم يتحقق بالنسبة إليهم قوله سبحانه : «حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ».

وجاء في حديث مأثور أنه أتى علي عليه السلام بأسير يوم صفين فبايعه فقال علي (ع) «لا أقتلك إني أخاف الله رب العالمين ، فخلى سبيله وأعطاه سلبه الذي جاء به». (٤)

__________________

(١) القرطبي / ج ١٦ / ص ٣٢٠

(٢) المصدر ٣٢٩

(٣) المصدر / ص ٣٢٨

(٤) وسائل الشيعة / ج ١١ / ص ٥٤

٣٩٩

ومن هنا يظهر ان الأسير يستتاب فان تبرّأ من قومه أطلق سراحه والله العالم.

[١٠] كما النهر يطهر بعضه بعضا ، كذلك المؤمنون لا يفتأون يصلحون ما فسد من علاقاتهم ببعضهم حتى يصبحوا إخوانا.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)

وجاءت الكلمة بصيغة الحصر لتذكّرنا بأن الايمان الذي لا يرفع المنتمين اليه الى حالة الاخوة إيمان ضعيف ناقص ، فهاهنا تقاس التقوى ، وتمحص النفوس للايمان ، ويستبين الصادقون عن المنافقين.

عشرات الأنظمة الاجتماعية ، ومئات الوصايا الأخلاقية توالت في الدين ليبلغ المسلمون حالة الاخوة الايمانية ، ومتى ما خالفنا بعضها انماث الايمان في القلوب كما تنماث حبة الملح في كف المحيط .. وجاءت الروايات تترى وهي توصينا بحقوق إخوتنا في الايمان ، تعالوا نستمع الى بعضها لعلنا نخلق ذلك المجتمع الأمثل الذي يتحدى أعاصير الفتنة والصراع.

روي عن الامام علي عليه السلام أنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : «للمسلم على أخيه ثلاثون حقا لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو يغفر زلته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلته ، ويرعى ذمته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافئ صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويشفع مسألته ، ويسمت عطسته ، ويرشد ضالته ، ويرد سلامه ، ويطيب كلامه ، ويبرّ انعامه ، ويصدّق أقسامه ، ويوالي وليه ، ولا يعاديه ، وينصره ظالما ومظلوما : فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه ، وأما نصرته

٤٠٠