من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

كان الدمار شاملا فوقهم ، فلم يبق من أنبائهم وأموالهم وديارهم شيء ، وهذه ليست خاصة بعصر دون عصر ، إنّما هي شاملة لكلّ العصور.

(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها)

فكلّ كافر لا بد أن ينتظر شيئا مشابها لذلك العذاب ، لأنّ سنن الله لا تتغيّر.

[١١] ما الذي يضمن أعمال المؤمنين؟ إيمانهم بالله ، ودخولهم في حصن ولايته ، وهي الولاية الحق التي تشمل الخليفة. أمّا الكفّار فهم بقوا خارج هذا الحصن المنيع فضاعت جهودهم ، وتلاشت مساعيهم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا)

وقد زعم الكفّار بأنّ الآلهة المزيّفة تحفظهم وتحفظ أعمالهم فخاب سعيهم ، لأنّ الآلهة ليست أبدا موالي بحق. إنّهم ضعفاء مثلهم ، وهل يحمي ضعيف ضعيفا؟

(وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ)

٢٢١

إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ

___________________

(١٥) (غَيْرِ آسِنٍ) : غير متغير الطعم والريح.

٢٢٢

اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)

___________________

(١٨) (أَشْراطُها) : علاماتها.

(١٩) (مُتَقَلَّبَكُمْ) : أي تقلبكم في كافة أحوالكم.

(وَمَثْواكُمْ) : حين ترجعون إلى بيوتكم للمنام والاستراحة.

٢٢٣

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ

هدى من الآيات :

لكي لا تتميّع الحدود بين الحق والباطل ، بين الكفر والايمان ، وبالتالي بين الكافرين والمؤمنين ، تتوالى آيات الذكر ببيان الفروق الكبيرة بين الفريقين في الدنيا وفي الآخرة.

ولكي يستعدّ المؤمنون لمواجهة الكفّار عسكريا ، بالرغم من اعتمار قلوبهم بالرحمة الايمانية ، لا بد أن يعرفوا ماذا يعني الكفر ، وما مصير الكفّار؟

ألف / إنّ الله يدخل المؤمنين الجنة لماذا؟ لأنّهم عرفوا حكمة الخلق فحققوها بأفعالهم ، بينما استمتع الكفّار بالحياة الدنيا ، وأكلوا بلا هدف ، كما تأكل الانعام ، فكان مصيرهم النار.

باء / والله ولي المؤمنين ينصرهم ، بينما الكفّار لا ناصر لهم ، وشاهد ذلك أنهم أهلكوا فلم ينتصر لهم أحد.

٢٢٤

جيم / والمؤمنون على هدى وبيّنة من ربهم. أمّا الكفّار فقد زين لهم سوء أعمالهم ، واتبعوا أهواءهم.

دال / وفي الجنة أنهار مختلفة ، تروي عطش المؤمنين ، وتعطيهم القوة والنشاط واللذة ، بينما الكفّار يخلدون في النار ، ويسقون ماء حميما يقطّع أمعاءهم.

هاء / وبينما طبع الله على قلوب الكفّار حتى أنّهم لا يفقهون ما يقال لهم فاتبعوا أهواءهم ، نجد المؤمنين قد اهتدوا بضياء الوحي فزادهم الله هدى ، وزوّدهم بالتقوى حتى يتبعوا الحق من ربّهم.

وترى الكفّار ينتظرون ، بينما المؤمنون يهتدون ، ولكن ما ذا ينتظرون؟ الساعة. فهذه علاماتها وقد جاءتهم ، وإذا نزلت بهم فجأة ما ذا ينفعهم الهدى؟

وينتهي الدرس بالتذكرة بالله الذي لو علم الإنسان أنّه الله الواحد الأحد استغفر لذنبه (ولم يتشبّث بالأنداد من دونه ليخلّصوه من ذنوبه) كما استغفر للمؤمنين والمؤمنات الذين سوف يرتبط بهم إيمانيا ، ويتخذ منهم موقفا لا عداء فيه ولا تقديس ، والله يعلم أطوار حياة البشر وتقلّباتهم ، كما يعلم مثواهم.

بينات من الآيات :

[١٢] من يؤمن بالله ، ولا يكتفي بالايمان وحده ، بل يجعل من صبغة حياته تفيض على سلوكه ، فله أجره عند ربه ، وما أعظمه من أجر!

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

تعالوا إلى حيث رسول الله يرغّبنا بكلامه الصادق العذب في جنّات ربّنا ،

٢٢٥

حيث أعدّها الله دارا لضيافته ، ودعا إليها كرام خلقه ، وها هو الرسول يحدّثنا ألا تسمعون : فيدخل (المؤمن الجنة) فاذا هو بشجرة ذات ظل ممدود ، وماء مسكوب ، وثمار مهدلة ، يخرج من ساقها عينان تجريان ، فينطلق إلى إحداهما فيغتسل منها فيخرج عليه نضرة النعيم ، ثم يشرب من الأخرى فلا يكون في بطنه مغص ولا مرض ولا داء أبدا ، وذلك قوله : «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» ، ثم تستقبله الملائكة فتقول : طبت فادخلها مع الخالدين ، فيدخل فاذا هو بسماطين من شجر ، أغصانها اللؤلؤ ، وفروعها الحليّ والحلل ، ثمارها مثل ثدي الجواري الأبكار ، فتستقبله الملائكة معهم النوق والبراذين والحلي والحلل فيقولون : يا ولي الله اركب ما شئت ، والبس ما شئت ، وسل ما شئت ، قال : فيركب ما اشتهى ، ويلبس ما اشتهى ، وهو على ناقة أو برذون من نور ، وثيابه من نور ، وحليّه من نور ، يسير في دار النور ، معه الملائكة من نور ، وغلمان من نور ، ووصائف من نور ، حتى تهابه الملائكة ممّا يرون من النور ، فيقول بعضهم لبعض : تنحّوا فقد جاء وفد الحليم الغفور ، قال : فينظر إلى أوّل قصر له من فضة مشرفا بالدرّ والياقوت فتشرف عليه أزواجه فيقولون : مرحبا مرحبا انزل بنا ، فيهم أن ينزل بقصره ، قال : فيقول الملائكة : سر يا ولي الله فان هذا لك وغيره ، حتى ينتهي إلى قصر من ذهب مكلل بالدر والياقوت فتشرف عليه أزواجه فيقلن : مرحبا مرحبا يا ولي الله انزل بنا ، فيهمّ أن ينزل به فتقول له الملائكة : سر يا ولي الله فانّ هذا لك وغيره.

قال : ثم ينتهي إلى قصر مكلل بالدر والياقوت فيهمّ بالنزول بقصره فيقول له الملائكة : سر يا وليّ الله فانّ هذا لك وغيره ، قال : ثم يأتي قصرا من ياقوت أحمر مكللا بالدر والياقوت فيهمّ بالنزول بقصره فيقول له الملائكة : سر يا ولي الله فانّ هذا لك وغيره ، قال : فيسير حتى أتي تمام ألف قصر ، كلّ ذلك ينفذ فيه بصره ، ويسير في ملكه أسرع من طرف العين ، فاذا انتهى إلى أقصاها قصرا نكّس رأسه ، فتقول

٢٢٦

الملائكة : مالك يا وليّ الله؟ قال : فيقول : والله لقد كاد بصري أن يختطف ، فيقولون : يا وليّ الله أبشر فانّ الجنة ليس فيها عمى ولا صمم ، فأتى قصرا يرى باطنه من ظاهره ، وظاهره من باطنه ، لبنة من فضة ، ولبنة ذهب ، ولبنة ياقوت ، ولبنة در ملاطه المسك ، قد شرّف بشرف من نور يتلألأ ، ويرى الرجل وجهه في الحائط.

قال : وإنّ في الجنّة لنهرا حافتاه الجواري ، قال : فيوحي إليهن الرب تبارك وتعالى : أسمعن عبادي تمجيدي وتسبيحي وتحميدي ، فيرفعن أصواتهنّ بألحان وترجيع لم يسمع الخلائق مثلها قط ، فتطرب أهل الجنة ، وإنّه لتشرف على وليّ الله المرأة ليست من نسائه من السجف فملأت قصوره ومنازله ضوءا ونورا ، فيظنّ وليّ الله أنّ ربّه أشرف عليه ، أو ملك من ملائكته ، فيرفع رأسه فاذا هو بزوجة قد كادت يذهب نورها نور عينيه ، قال : فتناديه : قد آن لنا أن تكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها : ومن أنت؟ قال : فتقول : أنا ممّن ذكر الله في القرآن : «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» ، فيجامعها في قوّة مائة شاب ، ويعانقها سبعين سنة من أعمار الأولين ، وما يدري أينظر إلى وجهها أم إلى خلقها أم إلى ساقها؟! فما من شيء ينظر إليه منها إلّا رأى وجهه من ذلك المكان من شدّة نورها وصفائها ، ثم تشرف عليه أخرى أحسن وجها وأطيب ريحا من الأولى ، فتناديه فتقول : قد آن لنا ان يكون لنا منك دولة ، قال : فيقول لها : ومن أنت؟ فتقول : أنا من ذكر الله في القرآن : «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».

قال : وما من أحد يدخل الجنّة إلّا كان له من الأزواج خمسمائة حوراء ، مع كلّ حوراء سبعون غلاما وسبعون جارية كأنهنّ اللؤلؤ المنثور ، كأنهن اللؤلؤ المكنون (وتفسير المكنون بمنزلة اللؤلؤ في الصدف لم تمسه الأيدي ، ولم تره الأعين ، وأمّا المنثور فيعني في الكثرة) وله سبع قصور في كلّ قصر سبعون بيتا ، في كلّ بيت سبعون

٢٢٧

سريرا ، على كلّ سرير سبعون فراشا ، عليها زوجة من الحور العين ، «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» «أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» صاف ليس بالكدر ، «وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» لم يخرج من ضرر المواشي ، «وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» لم يخرج من بطون النحل ، «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» لم يعصره الرجال بأقدامهم ، فاذا اشتهوا الطعام جاءهم طيور بيض يرفعن أجنحتهن فيأكلون من أيّ الألوان اشتهوا جلوسا إن شاؤوا أو متكئين ، وإن اشتهوا الفاكهة تسعّبت إليهم الأغصان فأكلوا من أيّها اشتهوا ، قال : «الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (١).

هذا وطبيعة المتقين في الجنة تختلف عنها في الدنيا اختلافا شاسعا ، فقد روي عن الامام أبي جعفر الباقر (ع):

«إنّ أهل الجنة جرد مرد مكحلين مكللين مطوقين مسورين مختمين ناعمين محبورين مكرمين ، يعطى أحدهم قوة مائة رجل في الطعام والشراب والشهوة والجماع ، قوّة غذائه قوّة مائة رجل في الطعام والشراب ، ويجد لذّة غذائه مقدار أربعين سنة ، ولذّة عشائه مقدار أربعين سنة ، قد ألبس الله وجوههم النور ، وأجسادهم الحرير ، بيض الألوان ، صفر الحلي ، خضر الثياب».

«إنّ هل الجنة يحيون فلا يموتون أبدا ، ويستيقظون فلا ينامون أبدا ، ويستغنون فلا يفتقرون أبدا ، ويفرحون فلا يحزنون أبدا ، ويضحكون فلا يبكون أبدا ، ويكرمون فلا يهانون أبدا ، ويفكهون ولا يقطبون أبدا ، ويحبرون ويسرّون أبدا ، ويأكلون فلا يجوعون أبدا ، ويروون فلا يظمؤون أبدا ، ويكسون فلا يعرون أبدا ، ويركبون ويتزاورون أبدا ، ويسلّم عليهم الولدان المخلّدون أبدا بأيديهم

__________________

(١) بحار / ج ٨ ـ ص ٢١٢

٢٢٨

أباريق الفضة وآنية الذهب أبدا ، متكئين على سرر أبدا ، على الأرائك ينظرون أبدا ، يأتيهم التحيّة والتسليم من الله أبدا ، نسأل الله الجنة برحمته. (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)» (١).

أما الكافرون فليس لهم سوى النار مثوى وحصيرا.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)

والسبب في دخولهم النار بدل الجنة هو أنّهم استنفذوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ، وغاروا في أوحال الشهوات ، ولم يستهدفوا من وراء النعم الوصول الى الغاية الأسمى (الدار الآخرة) ، وهذا ما بيّنته الآية العشرين من سورة الأحقاف : «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها».

ونتساءل : ما معنى «يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ»؟

الجواب : المؤمن يأكل ليعمل ، ويعمل للهدف ، ويبتغي الهدف لله ، «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» ، بينما القضية معكوسة عند الكافر الذي يعمل ليحصل على متعة الأكل (وسائر الشهوات) ، فالهدف عنده الذي تتمحور حوله سائر نشاطاته هو الأكل. أليس ذلك حالة الأنعام؟

[١٣] تلك كانت النار وهي موعدهم (في الآخرة) ، أمّا في الدنيا فقد يصيبهم الله بعذاب من عنده اليم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ

__________________

(١) بحار / ج ٨ ـ ص ٢٢٠

٢٢٩

أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ)

كانوا يبنون بكلّ ريع آية يعبثون ، ويتخذون مصانع لعلّهم يخلدون ، وإذا بطشوا بطشوا جبّارين ، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا فارهين ، وكانت الأنهار تجري من تحتهم ، وكانوا يستخفّون بالمؤمنين ، ويقولون : إنّهم لشرذمة قليلون .. ولكن ألم تر كيف فعل ربك بهم ، ألم يصبّ عليهم سوط عذاب؟! بلى. فهل وجدوا لهم نصيرا؟!

ومن هذا السياق (علاقة الآية ١٢ بالآية ١٣) نستوحي الحقيقة التالية : انّ المؤمنين يتعاملون مع الأشياء ـ كلّ الأشياء ـ باعتبارها وسائل للوصول إلى الأهداف ، فهم لا يعتمدون عليها ، ولا يتخذونها أندادا لله ، ولا يحجبهم حبّهم لها أو تعاملهم معها عن الله ورسالاته وأحكامه ، وبكلمة واحدة : إنّهم يجعلونها وسيلة يسخّرونها لتحقيق الحكمة من خلقهم ، ولا يجعلون أنفسهم سخرة لها ، بينما الكفّار ينظرون إلى الأشياء نظرة ذاتية ، فيغترّون بها ، ويعتمدون عليها ، ولكنّها لن تغني عنهم شيئا.

[١٤] حين يفصل الكتاب بين المؤمنين والكافرين لا يفصل بينهما كعنوانين ظاهرين ، بل كقيمتين واقعيتين ، ينفصل على أساسهما من يتظاهر بالايمان عن الفاسق والمنافق.

ذلك أنّ القرآن يتحدّث غالبا عن الحق ، وليس عن مظاهره ، ولذلك فالكافر في آياته ليس دائما الذي يتظاهر به ، بل قد يكون الذي يكفر ـ مثلا ـ بآية في القرآن أو يكفر عمليّا بفريضة إلهية ، لأنّ الحديث القرآني هو عن واقع الكفر لا ظاهره ، ممّا يشمل كلّ من يوجد لديه هذا الواقع.

٢٣٠

وهذه السورة تتميّز بالصراحة في هذا الفصل ، ولذلك جاء في الحديث المروي عن أبي عبد الله الصادق (ع): «من أراد أن يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، فانّه يراها آية فينا وآية فيهم» (١) أي أنّها تتحدّث بوضوح تام عن منهاج محمّد وآله الحق ، والمنهاج الباطل المخالف لهم.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)

فدار مع الحق أينما دار ، ولم يجعل ذاته أو هواه محورا لقراراته.

(كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)

كلّا .. لا يستويان. إنّه لفرق كبير بينهما ، فأولئك محورهم الحق ، وهؤلاء محورهم الهوى.

إنّ المؤمن يفكّر ثم يتحدّث ، ويخطط ثم يعمل ، بينما الكافر والمنافق يتحدّث بلا روية ، ويعمل بلا هدف سليم ، لأنّه لا يعتمد الحق مقياسا لشؤون حياته. أو لم يقل الامام علي (ع): «لسان العاقل وراء قلبه ، وقلب الأحمق وراء لسانه»؟ (٢).

إنّ المؤمن يعلم أنّه قد يخطئ صراط الحق ، ومن هنا فهو لا يتحرّك إلّا عن بيّنة ، فلا يخطو خطوة إلّا وهو يعلم أنّه سيضعها في الموقع السليم ، كمن يحمل مصباحا ويقدّمه أمامه ثم يبدأ المشي ، وبالعكس الكافر والمنافق. إنّه يتخبّط في ظلمات الباطل ، لأنّ الدافع الأساسي له الهوى «وكم من عقل أسير ، تحت هوى

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٢٤

(٢) نهج / حكمة ٤٠ / ص ٤٧٦

٢٣١

أمير؟!» (١).

وإنّ المؤمن يعيش حياة الصدق ، لأنّه يعيش في إطار الحق فلا يحتاج إلى التبرير والتلبيس والدجل ، بينما يعيش أصحاب الهوى الالتواء والأعذار والزيف. إنّ ضمائرهم ترفض باطلهم لو لا أنّه يزيّن لهم ، ويلبس بالحق ، ويبرر بصنوف المعاذير. أرأيت الذي يطعم العسل لا يحتاج إلى خلطه بمادة أخرى ، بينما الذي يجترع العلقم لا يستسيغه إلّا إذا وضع فيه قطعة حلوى. كذلك الحق والباطل. فهل الحاكم المنتخب بنزاهة ، العامل بالعدل ، الحكيم ، الصادق ، الصالح ، بحاجة إلى الاعلام كالطاغية الظالم الطائش الفاسد؟

وهكذا نجد الدول كلّما توغّلت في الظلم كلّما أنفقت على الدعاية.

كما نجد أكثر الفلسفات البشرية جاءت لتبرير واقع فاسد للناس فرادى أو جماعات ، ففي العهد الماضي ابتدعت نظريات كثيرة كالمرجئة والقدرية لتبرير الواقع الفاسد للافراد وحالات الترهل والكسل ، كما انتشر في العصر الحديث الفساد الجنسي ، وغطت أوروبا الميوعة والمجون ، فجاء فرويد بنظريته الجنسية المعروفة.

[١٥] لكي يتعمق الفصل بين فريقي المؤمنين والكافرين في أعيننا حتى لا نزعم انهما سواء ، ونستدرج ـ بسبب هذا الزعم ـ نحو الكفر ، ولكي نرغب في الايمان بما يلقيه على عواتقنا من مسئوليات ، ونحذر من الكفر بالرغم مما حفت به من شهوات ، لكل ذلك يذكرنا السياق بمصير الفريقين ، ويبين صفات الجنة والنار :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ)

__________________

(١) نهج / حكمة ٢١١ ـ ص ٥٠٦

٢٣٢

هذه هي صفة الجنة.

(الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)

الذين يتبعون الحق ، ويتجنبون ما يسخط ربهم ، ويحفظون أنفسهم من النار ، وما يوجبها من سيئات.

(فِيها أَنْهارٌ)

متنوعة أولا.

(مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ)

غير متغير لطول المقام كما تتغير مياه الدنيا ، ذلك ان الجنة طاهرة من النجاسات والجراثيم والأدران. وقال بعضهم : إن هذا النهر وضع لرفع عطشهم. وأقول : بلى. وأيضا لتطهير أجسادهم وأرواحهم من شوائب الحياة الدنيا فاذا شربوا منها نظفت أبدانهم من كل جرثومة أو مرض كما طهرت قلوبهم من كل غلّ .. ونستوحي ذلك من عدم قابلية الماء للأسن والتغيير. وإذا عرفنا ان الماء بذاته مطهر ، فان مقاومته للتأثر تعني انه ماء مطهر لكل نجاسة ، لأنه لو لم يكن كذلك إذا كان يتأثر بها ، ويدل على ذلك أيضا الحديث الذي مضى آنفا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.

(وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ)

فلا يعتريه شيء من العوارض التي تصيب الألبان في الدنيا ، ونحن نعرف ان اللبن شراب يقوم بدور الطعام ، أو طعام متكامل في صورة شراب سائغ إلا انّه قد يتغير بسبب سرعة اجتذابه للجراثيم. بيد ان لبن الآخرة يقاوم الجراثيم ، فهو إذا غذاء سائغ هدفه بعث القوة في أبدانهم.

٢٣٣

(وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)

يتلذذون بشربها ، ولا يتأذون بها ولا بعاقبتها ، بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المرارة والسكر والصداع ، فاذا شربوها ازدادوا نشاطا وحيوية.

(وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى)

خالص من الشمع والرغوة والقذى ومن كل ما يقلل من قيمته ، ومن جميع العيوب التي تكون لعسل الدنيا ، فهو حلوى يتذوقونها. أو ليس تشتهي النفس بعد الطعام الى الحلواء؟

هكذا تجري في الجنة هذه الأنهار تبعث البهجة والطمأنينة في نفوس أهل الجنة حيث لا يبقى في نفوسهم خوف من الجوع مستقبلا ، أو حرص على الطعام في الحاضر. أرأيت من يعيش على شاطئ الفرات الفائض هل يخشى العطش أو يحرص على تخزين الماء لمستقبله؟ كلا. هكذا أهل الجنة يبعث الله في نفوسهم الغنى بما تراه أعينهم من وفور النعمة.

(وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)

لا يتناولونها بعد جهد وعناء كما في الدنيا ، لأنها متهدلة عليهم. يقول الرسول الأكرم (ص) بعد تلاوته للآية الكريمة : «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً» : «من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه ، وهو متكئ ، وإن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا ولي الله! كلني قبل أن تأكل هذا قبلي» (١) وحيث كان يتحدث عن شجرة طوبى قال (ص) : «أسفلها ثمار أهل الجنة ، وطعامهم متذلل في بيوتهم ، يكون في القضيب منها مأة

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ص ٢١٦

٢٣٤

لون من الفاكهة ، مما رأيتم في دار الدنيا ومما لم تروه ، وما سمعتم به وما لم تسمعوا مثلها ، وكلما يجتني منها شيء نبتت مكانها أخرى ، لا مقطوعة ولا ممنوعة» (١).

وبالرغم من وجود لحم الطير مما يشتهيه الإنسان فانه لم يذكر في هذا السياق ، ولعل منشأ ذلك شمول كلمة الثمرات لمثله إذ ان الثمرة هي التي تفرزها الأرض أو النبات ثم ينتفع بها الإنسان بلا صعوبة .. ولحوم الطير من هذا النوع والله العالم.

(وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ)

حيث لا يبقى بينهم وبين معرفة الله والانس بحضرته حجاب من ذنوب ، وهذا أعظم نعمة إذ ان لذة الروح أعمق من لذة الجسد ، وان من عرف الله وناجاه وازداد معرفة به بلغت به الراحة ، والطمأنينة والانس ، والحب ، وانشراح القلب ، ولذة الروح أبعد مداه.

روي عن علي بن الحسين (عليهما السلام): إذا صار أهل الجنة في الجنة ، ودخل ولي الله الى جنانه ومساكنه ، واتكأ كل مؤمن منهم على أريكته ، حفته خدامه ، وتهدلت عليه الثمار ، وتفجرت حوله العيون ، وجرت من تحته الأنهار ، وبسطت له الزرابي ، وصففت له النمارق ، وأتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك ، قال : ويخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكنون بذلك ما شاء الله.

ثم إن الجبّار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري الأهل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون : ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه؟ نحن فيما اشتهت أنفسنا ، ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم. قال :

__________________

(١) المصدر

٢٣٥

فيعود عليهم بالقول فيقولون : ربنا نعم فاتنا بخير مما نحن فيه فيقول لهم تبارك وتعالى : رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه. قال : فيقولون : نعم يا ربنا رضاك عنا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآية : «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». (١)

إن الله خلق الإنسان وهو يحمل في جوانحه طموحا لا حدود له ، فكلما حصل على نعمة هفت نفسه نحو نعمة أخرى ، والربّ يذكر النعيم الاخروي الذي وعده المتقين ، ويعلم ان الإنسان لا يكتفي به ، لهذا يعقب : «وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ» أو ليس الله ورضاه غاية آمال العارفين ، ومنتهى طموح الراغبين؟

ونتساءل : أيهما أفضل أن ننتقل من الدنيا الى الآخرة فنحصل على ذلك النعيم العظيم المعنوي والمادي ، أو أن نلقى في النار على وجوهنا أذلاء خاسئين ، مهانين مخزيين؟!

(كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ)

روي عن أمير المؤمنين علي (ع) حديث طويل ، قاله للأحنف بن قيس ، يصف فيه أهل النار :

«فكم يومئذ في النار من صلب محطوم ، ووجه مهشوم ، ومشوّه مضروب على الخرطوم ، قد أكلت الجامعة كفه ، والتحم الطوق بعنقه.

فلو رأيتهم يا أحنف ينحدرون في أوديتها ، ويصعدون جبالها ، وقد ألبسوا

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٨ / ص ١٤٠

٢٣٦

المقطعات من القطران ، وأقرنوا مع فجارها وشياطينها ، فاذا استغاثوا بأسوء أخذ من حريق شدت عليهم عقاربها وحياتها ، ولو رأيت مناديا ينادي وهو يقول : يا أهل الجنة ونعيمها ويا أهل حليّها وحللها ، خلّدوا فلا موت ، فعندها ينقطع رجاؤهم وتنغلق الأبواب ، وتنقطع بهم الأسباب ، فكم يومئذ من شيخ ينادي ، وا شيبتاه! وكم من شاب ينادي وا شباباه! وكم من امرأة تنادي وا فضيحتاه! هتك عنهم الستور. فكم يومئذ من مغموس ، بين أطباقها محبوس ، يا لك غمسة ألبستك بعد لباس الكتّان ، والماء المبرد على الجدران ، وأكل الطعام ألوانا بعد ألوان. لباسا لم يدع لك شعرا ناعما كنت مطعمه إلا بيّضه ، ولا عينا كنت تبصر بها الى حبيب إلا فقأها» (١)

(وَسُقُوا ماءً حَمِيماً)

إنهم لا يستسيغونه بل يضطرهم عطشهم الشديد الى شرب الماء الذي يغلي حرارة.

(فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)

وهنا ننقل حديثا رهيبا مأثورا عن الامام الباقر (عليه السلام) يصف فيه بعضا من عذاب الكافرين :

ثم يضرب رأسه ضربة فيهوي سبعين ألف عام حتى ينتهي الى عين يقال لها آنية ، يقول الله تعالى : «تسقى من عين آنية» وهو عين ينتهي حرها وطبخها ، وأوقد عليها من خلق الله جهنم ، كل أودية النار تنام وتلك العين لا تنام من حرها ، ويقول الملائكة : يا معشر الأشقياء ادنوا فاشربوا منها ، فاذا أعرضوا عنها ضربتهم الملائكة بالمقامع ، وقيل لهم : «ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٦٨ ـ ص ١٧٢

٢٣٧

أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ». قال : ثم يؤتون بكأس من حديد فيه شربة من عين آنية ، فاذا أدني منهم تقلصت شفاههم ، وانتشر لحوم وجوههم ، فاذا شربوا منها وصار في أجوافهم يصهر به ما في بطونهم والجلود (١)

والمتقون لهم من كل الثمرات ، اما هؤلاء المجرمون فليس لهم سوى الزقوم مطعما .. يقول الامام الباقر (ع):

«ثم يضرب على رأسه ضربة فيهوي سبعين ألف عام حتى ينتهي الى شجرة الزقوم ، شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، عليها سبعون ألف غصن من نار ، في كل غصن سبعون ألف ثمرة من نار ، كل ثمرة كأنها رأس الشيطان قبحا ونتنا ، تنشب على صخرة مملسة سوخاء كأنها مرآة ذلقة ، ما بين أصل الصخرة (الشجرة خ ل) سبعون الف عام ، أغصانها يشرب من نار وثمارها نار ، وفرعها نار ، فيقال له : يا شقي اصعد ، فكلما صعد زلق ، وكلما زلق صعد ، فلا يزال كذلك سبعين الف عام في العذاب ، وإذا أكل منها ثمرة يجدها أمرّ من الصبر ، وأنتن من الجيف ، وأشد من الحديد ، فاذا واقعت بطنه غلت في بطنه كغلي الحميم ، فيذكرون ما كانوا يأكلون في دار الدنيا من طيب الطعام». (٢)

هل نختار هذا المصير السيء على عاقبة المتقين؟ وهكذا يبين القرآن مدى الفرق بين المؤمن والكافر ، لكي لا ننظر الى ظاهر الأمر ونزعم انه يستوي هذا وذاك ، أو تستوي حالة الايمان وحالة الكفر ، فننجر الى الكفر باهمالنا وغفلتنا ، نعوذ بالله منه ومن مصير الكافرين.

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٨ ـ ص ٣٢١

(٢) المصدر

٢٣٨

[١٦] ولا تعي القلوب المحاطة بالهوى بصائر القرآن ، أما من اتقى حجب الشهوات تلقى أنوار الهدى. أو لم يقل : «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ».

وهذه البداية ، وعلينا أبدا العودة الى المبادئ لحل الغاز الحياة. فاذا كنت تبحث عن الجنة أصلح اولا منهج التفكير في نفسك ، فلا تتبع الهوى واستمع الى الحق وتفكّر في آيات الله.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)

لا لكي يفقه ، وانما ليجادل في آيات الله بغير هدى.

(حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً)

عن ما ذا تحدث؟ والى أي شيء أشار؟ وما هي الأفكار التي ذكرها؟ وما هي الأوامر التي كلفنا بها؟ يقول ذلك فور خروجه من بيت الرسالة ، لماذا؟ لأنه لم يقتنع بما قيل له فحاول أن يجد له تفسيرا وتأويلا. إنه لفرط عقده النفسية لا يرى الأمور إلا بصورة معكوسة ، ولا يعتقد صدق متحدثيه ، بل يبحث في أحاديثهم عن زوايا مبهمة يجعلها مادة تساؤله ، ومناقشاته ، وجدلياته ، ويزعم ان ذلك من العلم ولا يعرف انه دليل جهله وانغلاق قلبه.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)

فأصبحت لا تعي ولا تعقل. مضوا قدما في طريق الهوى.

(وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)

٢٣٩

لأنّ الإنسان لا يمكن أن يخضع لشهواته ، ويركب مطيّة أهوائه ، وهو واع بصير. إذ انه آنئذ سيهتم بتزكية نفسه وترويضها ، كما الامام أمير المؤمنين علي (ع) الذي قال وهو يحكم إمبراطورية عريضة : «وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق ، ولو شئت لاهتديت الطريق ، الى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القرّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي الى تخيّر الأطعمة ..

إليك عني يا دنيا ، فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلت من حبائلك ، واجتنبت الذهاب في مداحضك .. اعزبي عني! فو الله لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، وأيم الله يمينا أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضن نفسي رياضة تهش معها الى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها ، مستفرغة دموعها». (١)

[١٧] ومن أراد ان يعي الحقائق ، ويزداد بصيرة وهدى ، ويستقيم على المنهج السليم ، فعليه أن يسعى بنفسه نحو الهداية ، لأن على الإنسان الخطوة الاولى وعلى الله التوفيق.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا)

بحثوا عن الحق بأنفسهم ، وسعت قلوبهم نحو البصيرة ، أولئك الذين يأخذ ربهم بأيديهم في طريق الهداية ، فيزيدهم هدى كما يثبت أقدامهم أن تزل بفعل عواصف الشهوة ورياح الفتن.

__________________

(١) نهج / رسالة ٤٥ ـ ص ٤١٧

٢٤٠