من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

سورة محمّد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ

___________________

(٢) (بالَهُمْ) : حالهم شأنهم.

(٤) (أَثْخَنْتُمُوهُمْ) : أي أثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم ، وقيل أي بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل حتى ضعفوا.

٢٠١

أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١)

___________________

(أَوْزارَها) : الوزر الثقل ، أي أثقالها فإن للحرب أثقالا كالسلاح ونحوها ، وإضافتها إلى الحرب مجازية.

٢٠٢

إن تنصروا الله ينصركم

هدى من الآيات :

هل يكفي الإنسان مكسبا أن يمارس العمل أنّى كان؟ كلّا .. بل لا بد أن يكون العمل على أساس الإيمان بالله وبرسله ، والتسليم لما جاءت به الرسالة. أمّا الذين يكفرون بذلك فإنّ الله يضل أعمالهم.

هكذا تذكّر آيات الدرس الأوّل من سورة القتال بالأسس الثابتة للعمل المقبول ، وهي :

أوّلا : الإيمان بما نزل على محمّد (صلّى الله عليه وآله) دون تمييز أو انتقاء.

ثانيا : اتباع الحق ، ونبذ الباطل.

ثالثا : الجهاد في سبيل الله.

وعن الأساس الثالث الذي يمحّص الله به قلوب المؤمنين ، ويطهّر صفوفهم من

٢٠٣

المنافقين ، يفصّل السياق انسجاما مع الإطار العام للسورة المباركة ، ويبين هنا درجات الشهداء حيث يتقبّل الله أعمالهم ، ويهديهم ، ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة التي وعدهم إيّاها وعرّفهم بها.

ويحرّض ربنا على الجهاد الذي يعتبره نصرا لدين الله ، بأن يعد المؤمنين بالتأييد الظاهر المتمثّل في النصر ، والباطن المتمثّل في تثبيت الأقدام.

كما ينذر الكافرين (الذين رفضوا قبول الرسالة ككل ، فلم يتبعوا الحق ، ولم يجاهدوا في سبيل الله) بزلزلة المواقف ، وعدم ثبات القدم ، كما بضياع الجهود ، وضلال الأعمال ، كما ينذرهم بإحباط العمل جزاء كرههم لما أنزل الله ، ويأمرنا بالسير في الأرض لنرى بأنفسنا هذه الحقيقة ، وكيف أنّ مخالفة الحق سبّبت في هلاكهم وتدميرهم كليّا.

بينات من الآيات :

[١] لماذا يضل الله أعمال الكافرين؟ وكيف تتلاشى جهودهم ، وتنهار مقاومتهم للرسالة الإلهيّة؟ أرأيت الذي يجدّ السير في اتجاه الشرق وهو يبتغي مدينة في الغرب ، هل يبلغ هدفه يوما؟ كذلك الذي يعاكس حركة التاريخ ، ويخالف سنن الله في الحياة ، ألم يخلق الله السموات والأرض بالحق ، فكيف يحقّق من ينشد الباطل هدفه؟

لقد جاهد المترفون من النصارى أكثر من ألف عام ليثبتوا للناس أنّ الجنس لعنة ، فهل استطاعوا تمرير ذلك؟ وحاول المادّيون أن يلغوا الجانب الروحي في الإنسان ، فهل قدروا؟ لماذا فشل هؤلاء وأولئك؟ لأنّهم ساروا في الاتجاه المعاكس لسنن الله ، لأنّ الله أودع في البشر الجنس ، كما فطره على الإيمان ، فهو لا يستطيع أن يتجرّد عن المادة كلّيّا ولا عن المعنويات ، فذهبت جهود القوم سدى ، لأنّها

٢٠٤

رامت الباطل ، وهكذا قاوم الجاهليون على امتداد الزمن بعثة الرسل فأضلّ الله أعمالهم ، لأنّها لم تكن في الإطار الصحيح.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)

فلأنّهم كفروا فقد أضل الله أعمالهم التي كانت ظاهرة الصلاح ، فحتى لو سقوا الحاج ، وعمروا المسجد الحرام ، فإنّها لم تكن نافعة ، لأنّها كما البناء الذي زلزل أساسه أو الشجرة التي اجتثّت من فوق الأرض.

فمن كفر بالله يكفر بقيم الرسالات ، بالحرية والاستقلال والعدالة والمساواة والمنهجية العلمية و.. و.. ، وهذه القيم أساس كل عمل صالح.

وهكذا لا ينبغي أن نغتر بظاهر التقدّم الذي يحرزه هذا الفريق من الناس ، لأنّه ينطوي على تخلّف خفي ، ولا يزال بنيانهم على شفا جرف هار.

أرأيت كيف وظّفوا تقدمهم في انتهاب ثروات الشعوب ، واستعباد المحرومين ، والعلوّ في الأرض بغير الحق؟

أرأيت كيف أشعلوا نار الحروب ، ودمّروا الديار لكي يحرّكوا عجلة اقتصادهم ببيع الأسلحة؟

ألم تر كيف تسابقوا في صناعة اللعنة ، وملأوا ترساناتهم بأدوات التدمير ذات الشرّ المستطير؟

أليس ذلك شاهدا كافيا على تلك الحقيقة ، أنّ أعمالهم قد ضلّت عن طريقها ، ولم تحقّق أهدافا في رفاه الإنسانية وخيرها؟

٢٠٥

كما أنّهم حين صدّوا عن سبيل الله ، وقاوموا الرسالات الإلهية وامتداداتها ، فشلوا وذهبت مساعيهم سدى ، وهل ينفع سعي من أراد حجب ضوء الشمس بيده؟!

[٢] أمّا الذين آمنوا بالله ، وآمنوا بكلّ تلك السنن الماضية في الكائنات والقيم المنبعثة منها ، فإنّهم اختاروا الإطار المناسب لعملهم ، وبالتالي وفّروا الضمانة المناسبة لبقاء أعمالهم ، كمن يبني في الصحراء سورا منيعا يحفظ أرضه من الرياح السافيات والعواصف الهوج ثمّ يزرع ما يشاء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

ضمن إطار الإيمان ، وعلى أساسه ، وانطلاقا من قيمه.

(وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ)

الرسول الذي أكمل الله به رسالاته ، فلم يفسدوا قلوبهم بالعصبية والحقد والعداء للرسول والتكبّر عليه.

وتشير الآية إلى ضرورة الإيمان بالنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) بصورة كاملة ، فمن يزعم بأنّه نبي العرب دون غيرهم ، أو أنّه قائد بشري لا يتميّز بالعصمة الإلهية ، أو أنّه قد ينطق عن الهوى ، أو يهجر حسب الظروف ، أو ما أشبه ، فإنّه لم يؤمن حقّا بمحمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وقد قال الله سبحانه : «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (١) ، وقال : «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ، وقال : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ».

__________________

(١) الحشر / (٧).

٢٠٦

الإيمان بمحمّد (ص) دليل لصدق الإيمان بالله ، فمن استكبر عن هذا الإيمان فإنّه قد كفر بالحق وهو أساس كلّ إيمان.

(وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)

فلأنّه حق من الله لا بد من التسليم له ، لا على أسس باطلة ، فلأنّ محمّدا (ص) خليفة الله في الأرض لا بد من طاعته والتسليم له ، لا لأنّه قائد عربي أو سيّد قرشي أو عظيم من بني هاشم.

ومن آمن بالرسول انطلاقا من هذه القيمة ـ قيمة الحق ـ آمن كذلك بخلفائه الأئمة الأبرار ، لأنّهم الامتداد الصادق له ، ومن آمن بالأئمة على هذا الأساس فإنّه يؤمن بالفقهاء الصالحين ، الذين هم ورثة الأنبياء وحجج الله بالنيابة .. وهكذا لا يجد المؤمن بالحق حرجا في نفسه من طاعة أولي الأمر الشرعيين ومن التسليم لكلّ ما هو حقّ ، لأنّ مقياسه في كلّ ذلك سواء.

أمّا من آمن بالرسول بحوافز مادية فإنّه ينفصل عن خط الرسول ، ويمضي أنّى اتجهت حوافزه ، فإذا وجد قائدا عربيّا مخالفا للرسول أو سيّدا قرشيّا عاصيا لله أو عظيما هاشميّا فاسقا فإنّه لا يجد حرجا في اتباعه ، بينما الله يأمره بالكفر بالطاغوت والثورة عليه.

(كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ)

يبدو أنّ هذا جزاء إيمانهم. أتدري لماذا؟ لأنّ الهدف الأسمى من تشريع الأحكام ابتلاء الإنسان في مدى طاعته للحق وتسليمه لمن أرسل به ، فإذا أطاع الإنسان ربّه ، وسلّم للقيادة الشرعية ، فقد ابتلي بأصعب الأمور ، ذلك لأنّ الطاعة في المسائل السياسية والاجتماعية ، وحيث تعصف رياح الفتن ، وتغتلم

٢٠٧

العصبيات ، ويعلو غبار الشبهات. إنّ هذه الطاعة هي صعب مستصعب لا يحتمله إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان.

وإنّ كثيرا من الناس ممّن سكن شيطان الكبر والعصبية في قلوبهم يفضّلون أداء أحمز الأعمال الصالحة على لحظة واحدة من التسليم للقيادة الشرعية فيما يخالف أهواءهم أو يعارض آراءهم.

من هنا يكفّر الله سيئات من أطاع الله ورسوله وأولي الأمر الشرعيين تسليما لله ورضا بما فرضه عليه.

(وَأَصْلَحَ بالَهُمْ)

قالوا : البال هو الحال أو الشأن ، وأمور الإنسان ، وأهمّ أحواله ، وقال بعضهم : هو القلب ، من قولهم : ما يخطر ببالي. (١)

وإصلاح البال : رخاء الحال بما يرضي القلب.

ويبدو أنّ ذلك يتعلّق بالأعمال الصالحة التي أدّوها ضمن إطار الإيمان فأثمرت صلاحا في أنفسهم وما يتعلّق بها من شؤون ، لأنّها كانت في الطريق السليم ، ولو كانت في سبيل الكفر فإنّها لن تثمر بل كان الله يضلّها.

[٣] كيف نقيّم النّاس ، وعلى أيّ مقياس ، هل بلغتهم أو وطنهم أو أنسابهم أو بقدر ما يملكون من مال وجاه وسلطة؟ كلّا .. لأنّ كلّ ذلك جاهلية وتخلّف ، فهل تصادق كلّ من يتحدّث العربية ولو كان خائنا شقيّا؟ وايّهما أفضل لك من يسكن بلادا بعيدة ويسدي إليك خدمة أو جارك السيء الذي دائما يؤذيك؟ وهل

__________________

(١) القرطبي / ج (١٦) ـ ص (٢٢٤).

٢٠٨

هما سواء عندك ابن عمك الذي يأكل أموالك بالباطل والقاضي الذي يردّ حقّك إليك؟ وماذا ينفعك غنى الثري الذي يمتص دماء المحرومين؟ وما ذا يضرّك فقر البائس الذي يعيش إلى جنبك بوداعة وطيبة؟

العقل يحكم بفساد تلك المقاييس جميعا ، وإنّما المقياس هو الحق ، فمن اتبعه صاحبناه ، ومن خالفه عاديناه ، أنّى كانت سائر الوشائج بيننا وبينه.

وبما أنّ الكفّار اتبعوا الباطل بما يحمل من أخطار عليهم وعلى الإنسانية فإنّنا نعاديهم ، حتى ولو كانوا ينطقون بلغتنا ، ويسكنون وطننا ، أو كانوا من ذوي أقاربنا.

بينما المؤمنون الذين يتبعون الحق نستريح إليهم ، لأنّ الحق ينفعنا جميعا ، حتى ولو كانوا من الأبعدين لغة ، ووطنا ، وقرابة.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)

والعقل يعرف الحق ، ولكن ليس بذلك الوضوح الذي يجعله مطمئنا بكلّ تفاصيله ، بينما الوحي الذي يهدينا إليه العقل يفصّل مجملات العقل تفصيلا مبينا. العقل يحكم ـ مثلا ـ بحسن العدل ، ولكنّه قد يتشابه عليه العدل في قضية فيقف حائرا ، وهنا يفصّل الوحي حكم العدل فيها بما يستثيره من دفائن العقل ، ويكشفه من خبايا العلم ، وما يبيّنه من أحكام الشرع.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ)

المثال : مجموعة الصفات التي يجسّدها الشخص ، فإذا قلنا : مثال فلان ، أي

٢٠٩

جملة نعوته الحسنة أو السيئة ، ممّا تستصحب على من يشابهه فيها ، وهي في مقابل الذات ، والذّات لا تهمّنا (لأنّ الناس في الذات لا يختلفون) ، إنّما يهمّنا الصفات التي تحيط بهذه الذات ، وهي مثالهم.

وحين يعطينا القرآن مقياس الحق والباطل فإنّه يبيّن لنا أمثال الناس ، وجملة صفاتهم ، والتي بها نستطيع أن نعرف كيف نتصرّف مع هذا وذاك ، فمن اتبع الحق واليناه ، لأنّه (مثل حسن) ، ومن اتبع الباطل عاديناه ، لأنّه (مثل سيء).

[٤] ولأنّ هنالك مثالين : مثال الحق المتجسّد في المؤمنين ، ومثال الباطل المتجسّد في الكفّار ، فإنّ الصراع قائم بينهما ، ويتحوّل إلى قتال ، وعلى المؤمنين أن يستعدّوا نفسيّا للمواجهة.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ)

اللقاء هنا هو لقاء المواجهة الدامية ، ولا يعني ـ فيما يبدو من سياق الكلمة في سائر الآيات ـ أيّ لقاء بين مؤمن وكافر.

وضرب الرقاب : تعبير عن أشدّ أنواع القتل وأوضح صوره ، وبه يتجلّى الغضب المقدّس الذي تمتلأ به روح المؤمن المخلص للحق.

وقالوا : معناه : اضربوا ضرب الرقاب.

ولعلّ الكلمة توحي بضرورة حسم المعركة بأقوى الأسلحة ، ممّا تسمّى بالحرب الصاعقة التي عادة تقلّل من الخسائر في الطرفين ، بعكس حرب الاستنزاف التي قد تكون وبالا على الطرفين.

ولعلّ الحرب الصاعقة هي المرادة أيضا من آيات أخرى في الكتاب ، كقوله

٢١٠

سبحانه : «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ»

(حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ)

قالوا : الثخن بمعنى الغلظة ، ويطلق على الغلبة ، ونقل عن لسان العرب اثخن إذا غلب وقهر ، وقال البعض : أنّه بمعنى تراكم القتلى والجرحى فوق الأرض.

(فَشُدُّوا الْوَثاقَ)

أي قيّدوهم بحبل أو ما أشبه بشدّة كناية عن أسرهم.

ويستوحى من الآية أنّ مرحلة أخذ الأسرى متأخّرة عن مرحلة القتال ، فلا ينبغي أن ينشغل الجيش قبل قهر عدوّه بالأسرى.

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)

هنالك يختار القائد بين أن يمنّ على الأسير بإطلاق سراحه ، حين لا يرى في إبقائه مصلحة أو يرى في إطلاق سراحه مصلحة هامّة للمسلمين ، وبين أن يقبل الفدية التي قد تكون قدرا من المال يفرض على العدو بإزاء كلّ أسير ، وقد تكون بعض التنازلات والضمانات أو ما أشبه ، ولعلّ من معانيه القيام بتبادل الأسرى مع العدو.

وقال الفقهاء تبعا للنصوص الشرعية : إنّ هنالك خيارا ثالثا هو استرقاق الأسرى.

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)

والوزر هو الثقل ، والحرب ثقيلة على الأمة بما فيها من مشاكل ، كما أنّ

٢١١

ساحات القتال تشهد الأسلحة والأدوات والأجهزة القتالية وإذا توقف القتال أعيدت كلّيّا إلى المخازن ، وهذه كناية عن توقّف الحرب ، ولكن متى تتوقف حرب المسلمين مع أعدائهم بصورة كلّيّة؟

إنّ من السذاجة الركون إلى السلم في عالم تحكمه شريعة الغاب ، يأكل القوي الضعيف ، وينفق الأعداء قسما كبيرا من مواردهم في الاستعداد للحرب ، بالرغم من أنّ النفوس تكره الحرب بطبعها ، وتميل إلى الخفض والدّعة ، وقد ينخدع الإنسان بمظاهر الودّ والموادعة الحاكمة على الأجواء ، فلا يعدّ نفسه للقتال ، فيؤخذ على غرّة.

لذلك أمرنا القرآن بالاستعداد أبدا للدفاع عن أنفسنا وعن الرسالة التي نحملها إلى الإنسانية المعذّبة ، فقال : «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ». فما دام المسلمون يرفضون التخلّي عن قيمهم واستقلالهم وحقوقهم فلا بد أن يستعدوا للدفاع المقدّس ، وقد يكون الاستعداد التام للدفاع أفضل وسيلة لتجنّب ويلات الحرب ، لأنّه يردع الأشرار من الاعتداء.

لذلك جاء في الحديث المأثور عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدّجّال». (١)

(ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)

فالله سبحانه الذي دمّر عادا الأولى بالريح الصرصر ، وأهلك ثمود فما أبقى ، ولم يذر أحدا من القرى المؤتفكة من قوم لوط ، أو ليس بقادر على أن يبعث على كلّ طاغية ومستكبر صاعقة من السماء فيهلكهم؟ بلى. وقد يفعل بهم عند ما يبلغون

__________________

(١) مجمع البيان / ج (٦) ـ ص (٩٨).

٢١٢

آجالهم ، لأنّه ينصر دينه بما يشاء ، كيف يشاء.

بيد أنّ حكمة الحرب التي يخوضها المسلمون تتلخّص في إظهار خبايا المسلمين ، وإبلاء سرائرهم.

أوّلا : بفصل الصادقين منهم عن الكاذبين.

ثانيا : بتطهير قلوب الصادقين منهم من شوائب النفاق والمصلحيّة.

وقد قال ربّنا سبحانه (وهو يبيّن الهدف الأوّل) : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (١) ، وقال تعالى (وهو يشير إلى الهدف الآخر) : «وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ». (٢)

وإذا كانت الحرب بوتقة تطهّر المجتمع الإسلامي من العناصر الضعيفة والمنافقة ، كما تطهّر قلب كلّ من يخوضها من أدرانه ، فإنّ علينا أن نتخذ منها مدرسة للبطولة والإيثار ، لا ننشد منها فخرا ولا نصرا ، وإنّما نسعى لتزكية أنفسنا فيها ، وتربيتها على الشجاعة والفداء ، ونتبع في ذلك الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول : «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها» (٣) ، ويقول وهو يوصي نجله محمّد بن الحنفية حين يدفع به في أتون المعركة : «تزول الجبال ولا تزل عضّ على ناجذك. أعر الله جمجمتك. تد في الأرض قدمك. إرم ببصرك أقصى القوم ، وغضّ بصرك ، واعلم أنّ النصر من عند الله سبحانه» (٤).

__________________

(١) آل عمران / (١٤٢).

(٢) آل عمران / (١٤١).

(٣) نهج البلاغة / كتاب (٤٥).

(٤) المصدر / ص (٥٥).

٢١٣

وإذا كان الهدف من الحرب الأساسي ابتلاء المؤمنين فإنّ النصر من عند الله ، ينزله عليهم متى تمّت حكمة الابتلاء ، وعلم منهم الصبر والاستقامة ، سواء توافرت عوامل النصر الماديّة ، أم لا ، ومعرفة هذه الحقيقة تزيد الجيش الإسلامي بطولة واستبسالا وصبرا واستقامة.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ)

لأنّهم مضوا على النهج الإلهي ، واستشهدوا في سبيل الله ، فإنّ الله الذي لا تضيع عنده الودائع ، الله الذي له ملك السموات والأرض. إنّه سبحانه يحفظ أعمالهم ، ويؤيّد بقدرته القضية التي ضحّوا من أجلها ، وهذا هو أهمّ ما ينشده العاملون في سبيل الله.

ونستوحي من هذه الآية أنّ الدم المقدّس الذي يرخصه صاحبه في سبيل الله هو السياج المنيع لقيم الرسالة.

وربما أشار إلى ذلك الحديث المأثور عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل الجهاد في سبيل الله :

«للجنّة باب يقال له باب المجاهدين ، يمضون إليه فاذا هو مفتوح ، وهم متقلّدون سيوفهم ، والجمع في الموقف ، والملائكة ترحّب بهم ، فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلّا في نفسه ، وفقرا في معيشته ، ومحقا في دينه. إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ، ومراكز رمحها» (١)

[٥] الأمّة التي تجاهد في سبيل الله لا تضيع جهودها ، ولا تضلّ أعمالها. إنّها سوف تحقّق أهدافها ، ولا يستطيع أحد أن يصادر حقوقها ، وينهب ثرواتها.

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٩٧) ـ ص (٩).

٢١٤

أليست تقاوم المعتدي ، وتصنع حول حقوقها وجهودها سورا منيعا من بطولا أبنائها ودماء شهدائها؟

وهذه الأمّة لا تضلّ طريقها ، لأنّ الله يهديها بفضل جهادها في سبيله.

(سَيَهْدِيهِمْ)

إنّ الجبن أكبر حاجز دون فهم الحقائق ، وكثير من الناس يبرّرون الفساد والتبعية جبنا وفرارا من مواجهة السلطات الطاغية ، وهكذا يخدعون أنفسهم ، ويسلب الله عنهم نور الهداية ، ويذرهم في ظلمات الجهل ، أو لم يقل ربّنا سبحانه : «وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»؟

بينما المجاهدون الذين يتقدّمون بخطي شجاعة حتى الشهادة في سبيل الله ، يتبصّرون الحقائق بوضوح كاف ، لأنّهم مستعدّون لمواجهتها أنّى كانت عواقب المواجهة.

وهذه الهداية التي يورّثها الشهداء لأمّتهم تتصل بالهداية في الآخرة حيث تبلغ بهم منازلهم في الجنة.

(وَيُصْلِحُ بالَهُمْ)

إنّ الشهادة عنوان الاستقلال ، وسور التقدم ، وطريق الغنى ، وسبيل العزّة ، وأمّة تملك الشهداء لا تعدم هذه المكاسب.

إنّ الحياة السعيدة المطمئنة الصالحة رهينة الدماء التي تراق في سبيل الله.

وصلاح البال ورفاه الحال في الدنيا يتصل بصلاح بال الشهداء في الآخرة (بل

٢١٥

وصلاح بال من هم في خطّهم وعلى خطاهم من أنصارهم ومن تجري فيهم شفاعتهم) حيث هم أحياء عند ربّهم يرزقون.

وهكذا نستوحي من الآية أنّ المعني بها ليس فقط الشهداء أنفسهم ، بل أمّتهم أيضا وليس في الآخرة فحسب ، بل في الدنيا أيضا ، أو ليست الآخرة امتدادا للدنيا ، وهما بالتالي حياة واحدة أوّلها هنا وآخرها هناك؟

وإنّنا نجد في النصوص الإسلامية التي وردت في فضل الجهاد توضيحا لهذه الشمولية (للدنيا والآخرة) ، لأنّ المجاهدين كلمة تعمّ الشهداء منهم والأحياء المنتظرين للشهادة ، كما قال ربّنا سبحانه : «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً». (١)

[٦] (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ)

تلك الجنة التي طالما اشتاقوا إليها بما عرّفها ربّهم لهم ، وربما شاهد كلّ واحد منهم منزله في الجنة قبل خروج روحه لينتقلوا إلى الدار الآخرة بكلّ رضا وطمأنينة ، فقد جاء في حديث مفصّل مأثور عن أمير المؤمنين عن النبي (صلّى الله عليه وآله):

وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله عزّ وجلّ زوجته من الحور العين فتبشّره بما أعدّ الله له من الكرامة ، فإذا وصل إلى الأرض تقول له : مرحبا بالروح الطيّبة التي أخرجت من البدن الطيب. أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

ويقول الله عزّ وجل : أنا خليفته في أهله ، ومن أرضاهم فقد أرضاني ، ومن أسخطهم فقد أسخطني ، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة

__________________

(١) الأحزاب / (٢٣).

٢١٦

حيث تشاء ، تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة بالعرش ، ويعطي الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس ما بين صنعاء والشام ، يملأ نورها ما بين الخافقين ، في كلّ غرفة سبعون بابا ، على كلّ باب سبعون مصراعا من ذهب» (١).

[٧] ويحرّض القرآن الذين آمنوا ، واستعدّوا لتنفيذ أوامر الرسالة ، وعرفوا قيم الحق الذي أنزل من ربّهم ، يحرّضهم على الجهاد في سبيل الله بنصر دينه ، ويبشّرهم لقاء ذلك بالفتح والثبات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)

ذلك أنّ الإيمان ليس مجرّد العمل بالإسلام في حدود القضايا الشخصية ، وإنّما أيضا تحمّل مسئولية الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض.

وربما جاء التعبير بنصر «الله» مع أنّ الله غني عن العالمين ، ليكون شاملا لنصر كلّ ما يتصل بالإيمان بالله ، في كلّ حقل ، وفي كلّ عصر ومصر ، حتى يكون المؤمن قوّاما لله ، مستعدا للدفاع عن الحق أبدا في مواجهة أيّ شخص أو قوّة.

وإنّما جزاء النصر نصر مثله ، فمتى نصرت الله بتطبيق دينه على نفسك وأهلك والأقربين منك ومجتمعك ، ودافعت عنه ضدّ أعداء الله ، فإنّ الله ينصرك بذات النسبة. أمّا إذا اقتصر نصرك على بعض المجالات فلا تنتظر نصرا شاملا.

وهكذا تتسع آفاق هذه الآية لكلّ جنبات الحياة ، ولا تختصر في الجهاد المقدّس ، بالرغم من أنّه المثل الأعلى لها.

__________________

(١) راجع موسوعة بحار الأنوار / ج (١٠٠) ـ ص (١٣).

٢١٧

وثبات القدم هو التأييد الربّانيّ الأسمى ، لأنّ هزيمة النفس أنكر هزيمة ، والحرب صراع إرادات قبل أن تون مقارعة الأسلحة ، ومن كان أكثر صبرا ، وأمضى إرادة ، وأعظم ثباتا ، فإنّه يكون أقرب إلى النصر.

وصراع الإنسان مع هوى نفسه أعظم من صراعه مع أعدائه. ألم تكن مخالفة الهوى هي الجهاد الأكبر؟ والله سبحانه قد وعد المؤمنين بأن يعينهم في جهادهم مع أنفسهم إن هم نصروا دينه وجاهدوا أعداءه ، وهذه أعظم نعمة من نصرهم على عدوّهم الظاهر.

والواقع : إنّ سنّة الله قد قضت بأنّ القيم والشرائع التي أريقت الدماء من أجل تكريسها أشدّ ثباتا في النفوس وفي المجتمع من غيرها ، وهكذا في كلّ أمر ، فكل مكسب حصلت عليه بصعوبة لا بد أن تتشبّث به بشدة ، أمّا الذي ملك البلاد بغير حرب فإنّه يهون عليه تسليم البلاد.

[٨] أمّا الكفر الذي يتشعّب إلى شعب ، فمنه الكفر بالله ، ومنه الكفر بالرسول ، ومنه الكفر ببعض ما أرسل به كالجهاد في سبيل الله ، فإنّه يؤدّي إلى زلزلة الموقف ، وضياع الجهد.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ)

قالوا : التعس هو الوقوع على الوجه ، وكأنّه تعبير عمّا يقابل ثبات القدم.

(وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)

حتى الذي يبدو صالحا من أعمالهم ، لأنّه لم يكن على الطريق السوي.

[٩] ما هو سبب كفرهم وهلاكهم؟ إنّ جذر ذلك كرههم لرسالة الله المنبعث

٢١٨

من كبرهم وتعصبهم وتقليدهم لآبائهم ، فاتخذوا موقفا سلبيّا من الرسالة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ)

وبالذات فيما يخالف هواهم ، أو يعارض مصالحهم كالسياسة والإقتصاد.

(فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)

فإذا لم يسلّموا لولاية الله في السياسة والإقتصاد وسائر الأمور الأساسية لم تنفعهم صلاتهم وصدقاتهم ، لأنّها لم تكن ضمن الإطار الصحيح ، وكان مثلهم كالذي زرع في غير أرضه أو سعى بغير هدى أو سار على غير طريقه.

إنّ عشرات السنين من الجهد قد تذهب بها ساعة من التهوّر أو الجبن أو اتباع الشهوة ، كالذي يبني أعظم عمارة فوق أرض رملية! أرأيت كيف يقود طاغية مهووس بالسلطة باحث عن الكبرياء في الأرض شعبه الذي سلّم له خوفا وطمعا في حرب طاحنة ، تهدم البلاد ، وتقتل الملايين ، وتضيع مساعي عشرات السنين في بضعة أيّام؟ أو ما سمعت ما حدث في ألمانيا على عهد الطاغية هتلر ، وكيف أنّهم بخضوعهم لذلك الديكتاتور أحبطت أعمالهم ، وتلاشت جهودهم؟

وكم من مثل يتجلّى لنا في صفحات التاريخ لهذه المعادلة.

وليس الإقتصاد الفاسد بأقل خطرا من السياسة الفاسدة ، فإنّ الاستغلال قد بذهب بمكاسب الملايين من البشر ، ولا يدعهم يستفيدون من مكاسبهم. أليس من الحكمة أن يصلحوا اقتصادهم حتى لا تحبط أعمالهم ، ولا تذهب جهودهم سدى؟

قالوا : إنّ الجسم الذي يبتلى بالطفيليّات لا تنفعه المقوّيات ، إذ أنّها بدل أن تقوّي الجسد تقوّي عدوّه المتمثّل في الطفيليّات ، وكذلك الإقتصاد المبتلى بالمستغلّين

٢١٩

لا ينشط إلّا لمصلحتهم ، وباعتبارهم أعداء الإقتصاد فإنّ دورة نشاطه لا تزيده إلّا تخلّفا ، وهذا أحد معاني الإحباط.

وفي الأخلاق ـ كما في السياسة والإقتصاد ـ تصدق هذه المقولة ، فإنك تجد البعض من الناس يفقدون في لحظة تهوّر أو نزق ما اكتسبوه من سمعة حسنة خلال عشرات السنين. أليس ذلك يعني الإحباط؟

وبكلمة : إنّما ينفع العمل إذا كان أساسه سليما ، أمّا العمل القائم على أساس منهار فإنّه ليس لا ينفع فقط ، بل وقد يصبح خطرا على صاحبه.

وأساس العمل الصالح : السياسة الصالحة ، الإقتصاد الصالح ، القيم الراشدة في السلوك.

[١٠] والتاريخ أفضل مدرسة ، والسير في الأرض لدراسة تجارب الأوّلين على الطبيعة أفضل منهج في هذه المدرسة ، إذ يجعلنا نلمس الحقائق بصورة مباشرة بعيدا عن تفسيرات المتخلّفين ، وخرافات الأوّلين.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)

دعنا نسير في مناكب الأرض لنبحث عن آثار الأوّلين فيها ، بشرط ألّا تستوقفنا الآثار بل العبر التي وراءها.

(فَيَنْظُرُوا)

بأمّ أعينهم على الطبيعة ، دون وسائط نقل ، وتفسيرات خاطئة.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ)

٢٢٠