من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

سورة الأحقاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا

___________________

(٤) (أَثارَةٍ) : بقية.

١٢١

سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)

___________________

(٨) (تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي ما تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه أنه سحر.

١٢٢

وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ

بينات من الآيات :

[١] تبدأ هذه السورة المباركة بكلمة قصيرة ، مقطّعة تشبه سائر المقطّعات القرآنية التي مررنا بها في السور المتقدمة ، وسبق الحديث عن تفسيرها ، وهي :

(حم)

[٢] (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

سمّي الكتاب كتابا لأنّه مكتوب مثبّت ، وكذلك القرآن ، فهو مكتوب ودائم وثابت ، ولهذا سمّي باسم «الكتاب» ، وثبات القرآن يختلف كثيرا عن سائر الكتب لأنّه كما قال الرسول الأعظم (ص): «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» (١).

والسؤال : لماذا لا يقاس القرآن بالكتب البشرية؟ لماذا بينهما مسافة لا تحد؟

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٩٥ / ص ١٩

١٢٣

والجواب : لأنّه نزل من الله ، والله هو العزيز الحكيم ، فبعزّته يفرض الكتاب على الإنسان والطبيعة فرضا ، وبحكمته يجعله كتاب هداية وبصيرة ، ومصدر توجيه للإنسان إلى الحق وإلى ما فيه صلاحه.

[٣] وفيما يلي من الآيات يحدّثنا القرآن الحكيم عن تجلّيات اسمي العزّة والحكمة في الكون ، وعن الظواهر ذات الدلالة الواضحة على عزّة الربّ وحكمته ، ونحن لا بد أن نفقه تلكم التجلّيات وهذه الظواهر ، لأنّ فهمنا للخليفة من حولنا لا يكون فهما عميقا إلّا إذا كان فهما مترابطا متفاعلا ، فلا بد أن نربط ـ مثلا ـ بين ارتفاع القمر ونزوله وبين المدّ والجزر في البحر ، كما نربط بين طلوع الشمس وبين التفاعلات الكيماوية التي تحدثها في أوراق الأشجار ، فالكائنات حقائق مترابطة يتصل أدنى شيء منها بأقصاها ، والكبير والصغير والقريب والبعيد في ذلك سواء ، كلّهم متفاعلون مع بعضهم يجري ربّنا عليهم حكما واحدا ونظاما مطّردا ، ولا نستطيع أن نفهم القوانين الثابتة التي تجري في الخلق إلّا بفهم ذلك التفاعل ، فالقانون الذي تتحرّك على أساسه أكبر مجرّات الفضاء هو نفس القانون الذي تتحرّك وفقه الكريات المتناهية في الصغر داخل الدرّة المتواضعة ، ثم إنّ كلّ ذلك التواصل والتفاعل والخضوع للسنن الواحدة يهدينا إلى الحقيقة العظمى الا وهي التوحيد : ان ربّنا العزيز الحكيم هو الخالق لها جميعا ، وهو المدبر لها.

ويبدو انّ منهج القرآن لانماء هذا الوعي الشمولي للكائنات الذي يشكل مستوى رفيعا من تكامل عقل الإنسان يتمثل في انّ القرآن يذكّرنا باسم من أسماء الله الحسنى ، تم يتدرّج نازلا من ذلك الاسم إلى مختلف الظواهر التي يتجلّى فيها ذلك الاسم الكريم ، في عالم الطبيعة (الآفاق) وعالم الإنسان (الأنفس) ، في حاضر الإنسان أو ماضيه أو مستقبله ، لكي تتماوج بنور الله اشعة فكره صاعدة من بعض ظواهر الخلق إلى أسماء الخالق ، ونازلة من أسماء الربّ إلى سائر الظواهر ،

١٢٤

ومن ماضي البشرية إلى حاضرها وإلى مستقبلها ، فتتسع آفاق معرفته ، وتغور في أعماق الغيب بصائر وعيه ، ويسمو في درجات اليقين عقله ، وتزكو بنور الايمان نفسه ، ويهديه الله الى نوره الأبهى ، قويا عزيزا كما أنّ ربّه قوي عزيز ، ويصبح حكيما خبيرا كما أنّ ربّه حكيم خبير ، كلّ ذلك بمعرفة أسماء الله الحسنى.

وربما تدرّج المنهج القرآني بصورة عكسية ، فيبين ظاهرة في آفاق العالم أو أغوار النفس أو أبعاد التاريخ ، ثم يذكر اسما من أسمائه الحسنى ، ونهايات الآيات القرآنية مثل : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ... مفيدة جدا لو تدبّرنا فيها ، لأنّ الرب يذكّرنا بظاهرة ثم يربط بينها وبين اسم من أسمائه الحسنى ، فاذا وعيناه حقّ الوعي عرفنا تجلّياته في سائر الظواهر أيضا.

وحيث ذكّر السياق في الآية الثانية أنّ هذا الكتاب منزل من الله ، والله هو العزيز الحكيم بيّن في الآية الثالثة بعض تجليات العزّة والحكمة ، فقال :

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)

لقد خلقها على عظمتها الهائلة فهو إذا قوي عزيز ، ولانّ بناءها كان قائما على أساس الحق فهو إذا حكيم.

ونستوحي من هذه الآية أنّ حكمة الله اقتضت محدودية الخليقة ، فلكلّ شيء يه أجل معدود ، وحد محدود ، هكذا يكون الزمان جزء من حقيقة الخليقة ، وربما انفتحت أمامنا آفاق واسعة لو تدبّرنا أكثر فأكثر في حرف الباء الذي يستخدم للاستعانة ، وتساءلنا : لماذا ذكره السياق فيما يتصل بالأجل كما ذكره عند الحديث عن الحق ، فهل يمكن أن نستنتج أنّ الحق والأجل هما ركيزتا الخلق ، على أن يكون الحق هو المعبّر عن النظام الحق الذي يسيّر الخليقة ، والأجل هو الجانب

١٢٥

المادي للخليقة ، ثمّ هل نستطيع أن نقول أنّ الحق تجلّ لاسم الحكمة ، والأجل لاسم العزّة؟ أنّى كان فانّ الله يشير في مواقع عديدة من القرآن إلى مثل ذلك ، فيقول ـ مثلا ـ في سورة الأعراف (آية ٥٤) : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) ، ويقول في سورة فصّلت (آية ٩ ـ ١٠) : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ).

ولا بد أن نعيش هذه الحقيقة فيما يتصل بموقفنا من الوقت الذي هو جزء من حقيقتنا ، وانّ وعي الزمن ركيزة أساسية في حكمة البشر ، وسلامة عقله ، وتنامي حضارته.

لا بدّ أن نعرف أنّنا ـ نحن البشر ـ كسائر الأشياء الأخرى ، يحدونا الليل والنهار ، ويتعقّبنا الموت ، وإذا ينبغي علينا أن نخاف ونخشى ، ليس لأنّ حياتنا الدنيا ستنتهي ويقفل الموت أبوابها ، بل لأنّ النهاية ستلقي بنا وإلى الأبد في واحدة من اثنتين إما روضات النعيم وإمّا حفر الجحيم.

ولأهمية العلم بهذه الحقيقة كان الامام علي ـ عليه السّلام ـ يذكّر بها أبناءه وأنصاره في مواعظه البليغة ، فترى يذكّر بها ـ مثلا ـ في وصيته لابنه الحسن ـ عليه السّلام ـ حيث يقول في أوّلها :

«من الوالد الفان ، المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، والظاعن عنها غدا ، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ،

١٢٦

ونصب الآفات ، وصريع الشهوات ، وخليفة الأموات». ثم يشرع فيها (ع) وكان ممّا قاله خلالها : «وذلّله ـ قلبك ـ بذكر الموت ، وقرّره بالفناء ، ... ، وحذّره صولة الدهر ، وفحش تقلّب الليالي والأيام» ، «واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة ، وأنّ الخالق هو المميت ، وأنّ المفني هو المعيد» ، «واعلم انّ أمامك عقبة كؤودا ، المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالا من المسرع ، وأنّ مهبطك بها لا محالة امّا على جنة أو على نار ، فارتد لنفسك قبل نزولك ، ووطّئ المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب ، ولا إلى الدنيا منصرف» ، «واعلم يا بنيّ أنّك انّما خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنّك في قلعة ، ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ، وأنّك طريد الموت ، الذي لا ينجو منه هاربه ، ولا يفوته طالبه ، ولا بدّ أنّه مدركه ، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة ، قد كنت تحدّث نفسك منها بالتوبة ، فيحول بينك وبين ذلك ، فاذا أنت قد أهلكت نفسك» ، «يا بنيّ أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجم عليه ، وتقضي بعد الموت إليه ، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك» ، «رويدا يسفر الظلام ، كأن قد وردت الأضغان ، يوشك من أسرع أن يلحق! واعلم يا بنيّ أنّ من كانت مطيّته الليل والنهار ، فانّه يسار به وإن كان واقفا ، ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا» ، «واعلم يقينا أنّك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك» (١)

هكذا أشبع (ع) وصيته بتلك الحقيقة ، ولو نظرنا في خطبه ورسائله وحكمه في نهج البلاغة لرأينا أنّ أغلبها يركّز على تلك الحقيقة وتحوم حولها.

وهكذا القرآن الحكيم يذّكر البشر بالموت والنشور والحساب والجزاء ، وأنّ الإنسان محدود ، وأنّه إذا جاءه أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم ، ولكنّ أكثر

__________________

(١) نهج البلاغة / رسالة ٣١

١٢٧

الناس لا يعقلون هذه الحقيقة ، سادرين في الغفلة حتى ينتهي أجلهم ، ويفاجئهم الموت.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)

والعلاقة متينة بين خاتمة الآية وفاتحتها ، حيث أنّ الذين كفروا يعلمون أنّ الله لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما إلّا بالحق وأجل مسمّى ، ثم تترى عليهم نذر ربّهم فيعرضون عنها.

[٤] وقد يتهرّب الإنسان من هذه الحقيقة بالشرك الذي هو حجاب بين الإنسان وبين فهم الحقائق ، فيزعم بأنّ شيئا ما يستطيع إنقاذه من قبضة الموت أو الحساب من بعده.

قال الامام علي (ع): «ما رأيت إيمانا مع يقين أشبه منه بشك على هذا الإنسان ، إنّه كلّ يوم يودّع إلى القبور ويشيّع ، وإلى غرور الدنيا يرجع ، وعن الشهوة والذنوب لا يقلع» (١).

وقال الامام الصادق (ع): «لم يخلق الله عزّ وجلّ يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت» (٢).

إنّ الناس كلّهم يموتون ، وهذه حقيقة لا شك فيها ، ولكنّ أغلبهم يتصوّرون في خبيئة أنفسهم أنّهم يبقون ويخلدون في الدنيا ، ولعلّ سبب ذلك هو فظاعة تصوّر الموت وما وراءه من حساب دقيق وجزاء أوفى ، ولذلك تراهم يتشبّثون بأيّ تبرير ليقنعوا أنفسهم بأنّهم لا يموتون أو لا يحاسبون ، وهنا تنعقد نطفة الشرك والتوسّل بغير

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٦ / ص ١٣٧

(٢) المصدر / ص ١٢٧

١٢٨

الله ابتغاء إنقاذهم من مصيرهم المحتوم ، فقد يتصوّرون المال منقذا لهم من الموت ، فتراهم يجمعون البلايين من الدولارات ، ويحرصون في الحصول على الأكثر ، بالرغم من أنّ تلك الأموال الهائلة تكفيهم وتكفي ذريّاتهم إلى عشرات الأجيال ، ولكنّهم لا يريدون المال للعيش به ، وإنّما لسد النقص الذي يشعرون به في أنفسهم ، إنّهم فعلا يفتّشون عن الخلود ، ويخافون العاقبة المرّة ، يقول تعالى موضحا هذه الحقيقة : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (١) ، «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» (٢) ، وقد يتصوّرون السلطة سببا للفرار من الموت ، ووسيلة للهروب من الفناء ، قال تعالى عن فرعون : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) (٣) ، وقد يتصوّرون أنّ القوة المحدودة التي يملكونها تحجز عنهم أمر الله فيهم بالموت أو الحساب أو العذاب ، قال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ)» (٤).

ولكن كلّ تلك التصوّرات زائفة ، ولهذا يقول الرب : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٥) ، ويقول عزّ وجل : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (٦) ، فأنت كنت تخاف من سكرة الموت ، وحتى تخلّص نفسك منها ولو عبر عملية الخداع الذاتي أشركت بالله ما ليس لك به علم ، والآن هل يمكن أن يغني عنك ذلك الشريك شيئا؟ كلّا .. فهي قد جاءتك ، وستذوق مرارة الموت ، وتتحسس عنفه وفظاعة نزعاته.

__________________

(١) الهمزة / ٢ ـ ٣

(٢) الشعراء / ١٢٩

(٣) القصص / ٣٩

(٤) الحشر / ٢

(٥) النساء / ٧٨

(٦) ق / ١٩

١٢٩

وفي الحقيقة : لو يتفكّر الإنسان ويتعمق في واقع أمر الشركاء يعلم بفطرته أنّهم لا يغنون عنه شيئا ، ولكنّه يشبه ذلك الغريق الذي يتشبث بكلّ حشيش ، مع علمه بعدم جدوائيتها ، وإنّما يريد أن يقنع نفسه بأنّه يعمل على إنقاذها.

كلّا .. إنّ فطرة الإنسان تهديه إلى أنّ الشريك الذي يتخذه من أجل إنقاذ نفسه لا بد أن يكون ذا قوة كافية ، لا بد أن يخلق شيئا في الأرض (حتى يتساوى مع خالق الكائنات ولو بقدر محدود) أو يمتلك سلطة ما في إدارة السماوات.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ)

وهم يعرفون ـ حقا ـ أنّ شركاءهم ليسوا كذلك ، ولا لهم علاقة بالله يوظّفونها لمصلحة المشركين إذا فأين حجتهم في ذلك؟

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا)

فأي كتاب من الكتب السماوية دلّ على أنّ لله شريكا؟

(أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)

وأي بقيّة من بقايا العلم ، دلّت على أنّ له شريكا؟

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

إذا كان بامكانكم أن تأتوا ببرهان فأتوا به ، من كتاب يتلى أو حديث يروى؟

ولكن من لا برهان له يتشبّث بأفكار باطلة ، مع علمه بكذبها ، وإنّما لكي يخلّص نفسه من مواجهة الحقيقة المرّة ، وهذه ضلالة خطيرة ، فهو كمن يفقد عزيزا

١٣٠

ويصعب عليه امتصاص صدمة فقده فيبادر قائلا : كلّا .. إن غير ميت.

[٥] (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ)

هكذا هم الشركاء. إنّهم لو دعاهم الإنسان إلى يوم القيامة لما استجابوا له ، بل هم غافلون عن دعائه يشغلهم شأنهم الخاص عن شؤون الداعين ، وسواء كان الشركاء الحجرية ، أو الأموات ممن يزعم الشركاء المشركون انهم شفعائهم يوم القيامة ، أو الأصنام البشرية التي تعبد من دون الله ، فان لكلّ واحد منهم سببا لغفلته عمّن يدعونهم ، أمّا الأحجار فانّها لا تعي شيئا ، وأمّا الأموات فهم عند ربّهم مجزيّون بأعمالهم ، وأمّا سلاطين الجور والمترفون وأشياعهم فهم لا هون بمصالحهم عن مصالح من يشرك بهم.

[٦] (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)

ويوم القيامة يكفر المشركون بشركائهم ويعادونهم ، ويقولون لهم : أنتم الذين ضيّعتمونا ، وأدخلتمونا النار ، وقد قال ربّنا سبحانه في آية كريمة يصوّر لنا العلاقة بين الطرفين يوم القيامة : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) (١).

[٧] وأمّا الرسالة ، فكيف كانوا يتعاملون معها؟

__________________

(١) البقرة / ١٦٦ ـ ١٦٧

١٣١

والجواب : إنّهم من أجل رفض الأفكار القرآنية السليمة كانوا يلفّقون تهما ويلصقونها بها.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ)

إنّها واضحة بيّنة ، حتى لتكاد تكرههم بقبولها ، ولكنّهم يصدّون عنها بقوّة ، ويمنعون عن أنفسهم نورها بإصرار ، كالذي يهرب من الغيث أن يصيبه رذاذه أو الشمس أن تحوطه أشعّته.

(قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)

حينما يأتيهم الحق يقولون بكلّ وقاحة : إنّه سحر مبين. لما ذا؟ لأنّه يهيمن عليهم ، ولا يدعهم يواجهونه بدليل وبرهان.

إنّهم يقولون : هو سحر ، فيقال لهم : ما هو دليلكم على بطلانه؟ فيقولون : ليس عندنا دليل ، ولكنّه سحر!

هكذا يعادي الإنسان الحق ، حتى أنّه يتهم نفسه بفقدان الارادة والوعي ويقول : أنا أصبحت مسحورا ، كلّ ذلك ليخلّص نفسه من مسئولية الايمان بالرسالة.

[٨] والبعض الآخر يقول : إنّه افتراء على الله ، وإذا كان قولهم أنّه سحر دلّ بوضوح على مدى تأثير الرسالة عليهم وأخذها بمجامع قلوبهم ، وسدّ الطريق أمام تخرّصاتهم ، حتى أنّهم اعترفوا بقدرتها وبعجزهم عن مقاومتها ، فانّ كلمتهم التي زعموا بها أنّ الرسالة افتراء دلّت على أنّ الرسول لم يكن يدعو الناس إلى نفسه بل إلى ربّه ، ممّا دعاهم إلى اتهامه بأنّه مفتر.

١٣٢

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ)

ولكن الرسول (ص) هو أوّل من كان يعلم بوخامة الافتراء ، وأنّه لو افترى حديثا على الله فسوف يعذّبه عذابا شديدا ، وكان يعترف بذلك عبر ذكر آيات القرآن .. فكيف يدين نفسه بنفسه؟! كيف يفتري على الله الكذب ، ثم يقول : إنّ جزاء الذين يفترون على الله الكذب أنّهم لا يفلحون ، ولهم عذاب شديد؟!

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً)

فالرسول (ص) يعلم يقينا بأنّ الله محيط به علما ، وإنّما يفتري على الله الكذب من لا يؤمن به ، ومن لا يعلم بأنّه يحيط به علما ، ويعلم ما يدور بينه وبين الآخرين من حديث ، علنا أو سرّا.

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ)

من تخرّصات أو تهم حول الرسالة ، وهو يحاسبكم عليها جميعا.

(كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)

ويبدو أنّ هاتين البصيرتين (علم الله بما يسترسلون فيه من كلام ، وشهادته عليه) هما العلاج النفسي والحجة البالغة عليهم. أو ليس كلّ واحد منهم يؤمن في قرارة نفسه بكذبه ، ولكنّه غافل عن أبعاد جريمة نكرانه للحق ، فيذكّرهم القرآن بالله الذي يحيط علما بما يقولون ، ويشهد عليهم شهادة تتمثّل بنصره للحق وخذلانه للباطل وأهله.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

ما هي العلاقة بين المقطعين : (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) و(وَهُوَ الْغَفُورُ

١٣٣

الرَّحِيمُ)؟

ربما العلاقة هي أنّ الله شهيد على الإنسان ، يعلم انحرافه وضلاله ، ولا يرضى عنه ويبغضه ، ولكنّ لانّه غفور رحيم فهو يمهله لفترة معيّنة

إذا لا تقل أيّها الإنسان : أنا سأكفر بالله وليأخذني إن كان يحب رسالته ، لأنّه غفور رحيم ، يتركك تعصي لمدّة معينة رحمة بك ، وإذا لم ترعو ولم تراجع نفسك ولم تعد إلى الحقيقة فانّه يأخذك أخذ عزيز مقتدر.

١٣٤

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)

___________________

(٩) (بِدْعاً) : جديدا بديعا.

١٣٥

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ

هدى من الآيات :

الحقّ هدفنا ، والحق القديم الذي يصدّقه الرسول الجديد يتّبع ، بينما الباطل المبتدع لا بد من نبذه ، حتى ولو احتفظ بطراوة الحداثة.

يبدو أنّ هذه الحقية هي محور الدرس الذي يفتتح بأنّ نبيّنا الأكرم جاء خاتما لسلسلة الأنبياء الكرام فهو ليس بدعا ، وهو لا يدّعي الالوهية إنّما إبلاغ رسالات ربّه ، ويصدّقه شاهد من بني إسرائيل (فكتابه امتداد لتلك الرسالة التي أوحيت الى موسى عليه السلام) ، وإنّما استكبر عنه البعض لظلمهم والله لا يهدي القوم الظالمين.

وحين يبادر الصالحون للإسلام يرفضه المستكبرون ، ويقولون : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)! ثمّ يتهمون الرسالة بأنّها إفك قديم ، لأنّهم لم يهتدوا بها.

وفعلا الرسالة ذات امتداد في عمق التاريخ لأنّها تصدّق ما نزل على موسى إماما

١٣٦

ورحمة.

ثمّ يأمر القرآن بالاستقامة على التوحيد (ومواجهة البدع) وهي ثمن الجنة.

بينات من الآيات :

[٩] للناس في الرسالات والرسل مذاهب ثلاث :

الأوّل : النفي المطلق ، وإذ لم يعرف هؤلاء كيف يبعث الله الرسل اتبعوا جهلهم وأهواءهم وأنكروا الرسالة رأسا.

الثاني : إنّ صلة الرسل بربهم صلة تكوينية ، بمعنى أنّ الرسل ـ عليهم السلام ـ هم قطعة منفصلة عن الإله ونازلة الى الدنيا.

وبهذا يزعمون أنّهم يحلّون المشكلة ويعرفون كيف يتم الاتصال بين الخالق والمخلوق ، إذ أنّ هذه الصلة كانت قديمة ، وهي أساسا صلة تكوينية ، فكيف يكون واحد منهم يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، ويشبههم في كلّ شيء من حياته ، كيف يكون أعلى وأفضل منهم؟! لا بد أن يكون جنسه مختلفا عن جنسهم ، وذاته غير ذواتهم ، ولا بد أن يكون من أنصاف الآلهة ومن طبيعتها.

الثالث : انّ الأنبياء والرسل هم مثل سائر البشر ، ولكنّ الله تعالى ميّزهم بالرسالة ، حيث جعلها فيهم جعلا ، ولو شاء لسلبها منهم ، فهي تشبه المصابيح في الغرفة فإن لم يكن وهّاجا لن يحوّل الغرفة إلى واقع نوراني ، إنّما سينعكس النور عليها ما دام الضوء متّقدا.

هكذا الرسالة ، فما دام روح القدس مؤيّدا للنبي فهو نبي ، فاذا افترضنا ـ جدلا ـ أنّ ربّنا أراد ـ بمشيئته المطلقة ـ أن يسلب روح القدس منهم فانّهم يصبحون

١٣٧

كسائر الناس.

وعلم الرسل هكذا ، ليس علما ذاتيّا ، وإنّما هو مضاف إليهم من عند الله الذي يهب لهم موجات من المعرفة تلو موجات من العلم بقدر ما شاء ، وإذا أراد أن يسلبها منهم فانّه على ذلك قدير .. ولهذا ينبغي أن لا نذهب بعيدا فيما يتصل بالأنبياء عليهم السلام ، بل نعرف أنّهم يعلمون ما يشاء الله ويجهلون ما سوى ذلك ، فكيف لم يكن يعقوب (ع) وهو من أنبياء الله العظام يعلم بمكان يوسف (ع)؟! وكيف لم يكن إبراهيم (ع) يعلم بأن السكّين الذي وضعه على أوداج إسماعيل لا يفريها؟! الجواب ببساطة : لان الأنبياء بشر ، والله يغيّب عنهم ما يشاء من العلم.

وهذا يفسّر قوله تعالى : «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» (١) فغيب الله له وليس لأحد ، وهو علّام الغيوب ، وعنده مفاتح الغيب ، ولا يعلم الغيب إلّا هو ، ولكنّه يعطي قدرا منه لأنبيائه لحكم معينة.

وهكذا تحلّ عقدة الغرابة من ابتعاث الرسل ، وتعالج المعضلة التي يتشبّث بها الكافرون ، والتي كانوا يعودون إليها كلّما بعث إليهم نبي جديد مع أنّه سبقه إخوانه في الرسالة.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)

إنّ بعض الظواهر الكونية تتكرّر كلّ يوم ، وبعضها كلّ أسبوع ، وبعضها تتكرّر كلّ سنة ، وبعضها كلّ قرّن ، ومن الظواهر التي تتكرّر بين فترة وأخرى الحروب ، فهي إحدى الظواهر الاجتماعية التي تقع عادة بين الحين والآخر ، ونحن نعترف بوجودها بالرغم من غرابتها الشديدة ، لأنّها واقعة وتقع في المستقبل

__________________

(١) الجن / ٢٦ ـ ٢٧

١٣٨

وهكذا بالنسبة للرسل ، فهم حتما وجزما يرسلون من قبل الرب ، ما دامت العوامل المؤيدة لإرسالهم متوفّرة.

وهنا يأمر الله عزّ وجلّ رسوله الأكرم (ص) بأن يوضّح للناس هذه الحقيقة ، فكونه رسولا مبعوثا من قبل الله ظاهرة متكررة وسنّة جارية ، ولا داعي للغرابة.

ولكن ـ من جهة أخرى ـ ليس علم الرسول من ذاته.

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)

فهو لا يعلم ما يفعل به ولا بهم إلّا بقدر ما يشاء الله ، بمعنى أنّه لا يدري كلّ ما يفعل به وبهم إلّا في حدود رسالته ، لأنّ الرسول (ص) بشر كسائر الناس لا يعلم ماذا سيحدث مستقبلا بذاته بلى. إنّ الرسول ـ مثلا ـ يعلم أنّ الناس جميعا سيموتون ونحن كذلك نعلم ذلك ، أمّا معرفة التفاصيل والاطلاع على دقائق الأمور فانّ الله سبحانه يزيده منها بقدر مشيئته الحكيمة.

والرسول ـ كما يبدو من هذا المقطع من الآية ـ لا يعلم كلّ التفاصيل المستقبلية ، وإنّما عليه أن يتبع الوحي الذي ينزل عليه حسب الحكمة الالهية.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)

وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى في تفسير هذه الآية ، ويبدو لي أنّها ظاهرة بل صريحة فيما قلناه آنفا ، فانّ عدم معرفة الرسول بما يفعل به أو بهم لا يشمل ما يوحى إليه ، ولا ريب أنّه سبحانه أوحى إليه أنّ له عند ربّه مقاما محمودا ، وأنّ المجرمين من أعدائه في سقر.

(وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

١٣٩

فأنا لست كفيلكم ، ولا وكيلا عنكم.

وهذه الفكرة تتكرّر كثيرا في القرآن الحكيم ، وذلك لما لها من أهمية في دفع الإنسان للايمان بالرسالة وتحمّل المسؤولية ، لأنّ الإنسان الذي تدعوه إلى الله لو علم بحقيقة أنّك لست مسئولا عنه ، وأنّه هو المسؤول عن نفسه ، فانّه ربما يكون ذلك مشجّعا له على التحرّك الذاتي ، وبالتالي يهتدي إلى الحق.

[١٠] عند ما يكون الخطر كبيرا يكفينا أذنى احتمال في وقوعه لكي نتخذ التدابير اللّازمة لدرئه. أرأيت لو خشيت من انفجار يقع في بيتك أفلا تتركه فورا ، حتى ولو كان افتراض وقوعه بنسبة ٥ خ فقط؟

إنّ أكثر إجراءات السلامة في أوقات الحرب بل حتى ايّام السلم تهدف درء احتمالات ضئيلة ، إلّا أنّ أهميتها تنبع في أنّ الأخطار التي تهدف درءها عظيمة.

إنّنا لا نتخذ إجراءات وقائية كبيرة إذا خشينا الاصابة بنزلة برد طارئة ، حتى ولو كان الخوف بنسبة ٥٠ خ ، ولكنّنا نتقي خطر الموت حتى ولو كان بنسبة ١٠ خ أو حتى ١ خ. أليس كذلك؟

وكما في الجانب السلبي كذلك في الجانب الايجابي ، فلا ريب أنّنا لا نعير اهتماما لاحتمال حصولنا على ربح ضئيل ، وإن كانت إمكانية ذلك كبيرة مثلا بنسبة ٩٠ خ ، ولكن كلّما ازداد الربح فانّ اهتمامنا باحتمالاته يزداد حتى يصل إلى الاهتمام به إذا كان بنسبة ٠١ ، ٠ خ الا ترى كم هي نسبة حصولك على الجائزة في عملية اليانصيب ، لا ريب أنها أقل من واحد بالألف ، ولكن لما ذا تهتم بها؟ أليس لان الجائزة كبيرة يسيل لها اللعاب؟

والآن دعنا نتساءل : اولا تستحق الحياة الأخرى ، بما تحمل من إنذار بعذاب

١٤٠