من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

إذا أظهروا توبتهم ، ووطنّوا أنفسهم على خوض الجهاد تحت رايتها ، لأنّ قبول هذه النوعية من دون امتحان عسير يثبت صدقها قد يكلّف الحركة الرسالية الكثير ، لو أنّهم عادوا لطبيعتهم الانهزامية وانشقّوا وشقّوا عصا الطاعة في موقف خطير أو مهمّة حاسمة يكلّف التمرّد فيهما أضعاف ما يكلّفه التمرّد في الظروف العادية.

بينات من الآيات :

[١٥] (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها)

وقد تمرّدوا من قبل على أمر القيادة ، وتخلّفوا عن المسير معكم ، لا لأنّهم اكتشفوا خطأ في خط الرسالة ، بل لأنّهم التحقوا به التحاقا مصلحيّا ، وحيث ظنّوا ـ مجرّد ظن ـ بأنّ المسير الى مكّة يعني الابادة ، فهو خال من المصالح ، نكصوا على أعقابهم ، أمّا الآن والمسلمون يسيرون الى فتح مؤكّد في نظرهم ـ وهو غزوة حنين حسب بعض التفاسير ـ فإنّهم يحاولون بكلّ طريق العودة الى صفوف الجيش الاسلامي ، ولكن ليس من باب التوبة وإنما المصلحة.

(ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ)

وقد حذّرهم الله من عواقب التخلّف عن نصرة رسوله (ص) ، وأنّه سوف يعذّبهم ، ويمحوا أسماءهم من قائمة المقاتلين المؤمنين ، لأنّ المقاتل المؤمن هو الذي يتبع أوامر قيادته في كلّ مكان وأي زمان ، وحيث نكصوا جزاهم الله بذلك ، وهم الآن يسعون لتبديل ما حكم الله به.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ)

ولكن هذا الحكم الشرعي تابت لا يتغيّر ، وهو أنّ من يتمرّد على القيادة الرسالية في الظروف الصعبة ينبغي أن يطرد من صفوف المقاتلين.

٣٢١

(قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا)

فنحن مأمورون من قبل الله أن لا نقبلكم من دون شرط وقيد.

(كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ)

وهذا جزاؤكم الطبيعي.

ولأنّ هؤلاء مجبولون على التبرير فإنّهم لن يعترفوا بواقعهم ، وإنّما سيحاولون التستّر بأعذار لا تنفع ، شبيهة بتلك التي برّروا بها تخلّفهم عن المسير والقتال من قبل.

(فَسَيَقُولُونَ)

وهم يتهمون المؤمنين والقيادة الرسالية التي تجسّدت يومئذ في الرسول (ص).

(بَلْ تَحْسُدُونَنا)

وبالتالي فإنّكم تريدون من رفض انتمائنا إليكم التفرّد بالمكاسب ، وفي مقابل هذه التهمة يأتي الردّ الالهي الحاسم بأنّهم غارقون في الجهل.

(بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

ويدلّ على ذلك أمران :

الأمر الأوّل : وقد عالجته الآية في مطلعها ، وهو جهل هؤلاء بأنّ الانتهازيّ الذي يترك جماعته في ساعة الحرج لا يمكن أن يحتسب منهم في الرخاء كأمر واقعي ، وبالذات في المجتمع العربي الذي يعدّ ذلك من صميم عاداته وتقاليده

٣٢٢

آنذاك.

فمن كان يتخلّى عن عشيرته عند الشدة كانوا ينبذونه نبذا تامّا ، ويحرّمون عليه حتى الزواج منهم! إذن فمن السذاجة القول بأنّ (الصلاة خلف عليّ أتم ، والأكل مع معاوية أدسم ، والوقوف على التلّ أسلم) ، ولا يمكن أن يسمّى من هذا شعاره موحّدا أو منتميا الى الإسلام انتماء صحيحا ، إنّما هو لقيط ، وينبغي للمؤمنين رفض انتمائه إليهم.

وقد يشير الى هذا الأمر خاتمة الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، حيث تؤكّد بأنّ المخلّفين ساذجون لا يستطيعون سبيلا الى فهم الحقائق.

الأمر الثاني : الذي يدلّ على جهلهم أنّهم ينسبون الحسد الى شخص الرسول (ص) مع اعتقادهم بأنّه مرسل من الله عزّ وجل ، وهل الرسول يذنب أو يتمحور حول نفسه حتى يسعى وراء المغانم؟!

وإذا افترضنا أنّهم لا يؤمنون به رسولا من الله ، ولا قائدا حقيقيّا ، فلما ذا يتبعونه ، ويريدون القتال تحت لوائه؟!

ولعلّ تفسير خاتمة الآية أنّ هؤلاء لا حظّ لهم من الوعي إلّا القليل ، لأنّهم أضلّوا الطريق العام فلا تنفعهم معرفتهم ببعض الطرق الفرعية ، ذلك لأنّ محور حقائق العلم هو معرفة الله ، وسننه الحق ، وبصائر رسالاته ، فإذا أخطئوا المحور فلا جرم أنّهم يتيهون في الضلالات.

وماذا ينفع العلم بكافة الحقول العلمية إذا كان الخط العام لحياة الإنسان خاطئا؟ أرأيت كيف يوجّه المستكبرون كلّ علمائهم فيما يبعدهم عن الله ، ويسبّب هلاكهم وهلاك العالم؟

٣٢٣

فمجمل أفكارهم خاطئة ، وبتعبير آخر أنّ القلة هنا نوعية لا كميّة.

[١٦] ومع أنّ الله يفشل كلّ محاولاتهم لتبرير تخلّفهم أوّلا ثم عودتهم الى صفوف المسلمين فإنّه يفتح أمامهم طريقا للتوبة ، والطريق الواسع الى رحاب التوبة بالانتماء الحقيقي ، إذ ليس صعبا أن ينتمي الشخص الى صفّ الرساليين ظاهرا ، وإنّما الصعب أن يكون انتماؤه انتماء حقيقيّا تكشف عنه استقامته في الظروف الصعبة.

وحيث مرّ هؤلاء بتجربة عملية كشفت للقيادة الرسالية والمؤمنين ضعف انتمائهم ، فهم بحاجة إذن الى تجربة أخرى تثبت صدق توبتهم ، ولا شك أنّ الذي يتوب عن صدق سوف يقبل بما يشترط عليه ليكون دليلا لتوبته ، يحدوه الى ذلك خوفه من الله ، وإحساسه بضرورة التكفير عن ذنبه ، ولذلك أمر الله رسوله أن يلزم التائبين من المخلّفين بشرط الثبات في المواقف المستقبلية ، ولعلّه عبّر في مطلع الآية بكلمة «قل» لبيان أنّ الشرط إنّما هو من عند الله عزّ وجل ، وليس من لدن الرسول (ص) حتى يمنع بذلك أيّ محاولة أخرى للاعتراض أو التبرير.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)

والاحتمال الأقوى أنّهم يختارون الحرب ولو في بادئ الأمر ، على الأفل تقة بالنصر على المسلمين واعتمادا على قوّتهم الظاهرية ، إذن فالابتلاء عظيم ، والامتحان عسير ، يحتاج فيه هؤلاء عزم راسخ وإرادة قوية لكي يثبتوا صدق توبتهم ، وبالتالي تقبلهم القيادة الرسالية في تجمّعها ، ولا يخوض غمار هذا الابتلاء إلّا الصادقون ، أمّا الانتهازيون والمصلحيون فإنّهم لن يجازفوا بأنفسهم.

٣٢٤

وبالرغم من أنّ القرآن يشجّع المؤمنين في الأغلب على الحرب يبعث الأمل بالنصر في أنفسهم ، إلّا أنّه هذه المرة يصف العدو بالشدة لأنّه يتناسب مع هدف هذه الآية والقضية التي جاءت بصددها وهو امتحان المخلّفين ليثبتوا جدارتهم للانتماء الى صفّ المؤمنين ، بعد أن فقدوها بالانهزام السابق.

وقد اختلف المفسرون في تحديد المعركة التي تشير إليها هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : إنّها حرب المسلمين مع الروم ، وقال جماعة : إنّها حرب المسلمين مع المرتدين بعد الرسول (ص) ، وقال آخرون : إنّها الحرب التي دارت رحاها على الفرس ، وقيل أنّها الحرب مع هوازن وثقيف بعد فتح مكة ، ولعلّ هذا المحمل هو الأقرب الى جوّ الآيات وإيحاءاتها التي تفيد الحديث عن عصر الرسول لا بعده ، حيث أنّ غزوة حنين كانت أعظم الغزوات بعد صلح الحديبية ثم فتح مكة.

ورغّبهم في قبول هذا الشرط بالترغيب في ثواب الله وعطائه ، وما يترتب على ذلك من قبول لتوبتهم ، ثم حذّرهم من عواقب الرفض لأمر الله الذي يستتبع العذاب والخسارة.

(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ)

لمّا دعاكم الرسول الى المسير الى مكة قبل صلح الحديبية ، فجبنتم بسبب سوء الظن بالله ، وقدّمتم المعاذير الواهية.

(يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً)

[١٧] وبمناسبة الحديث عن الأعذار التي كان يسوقها المتخلّفون يبيّن السياق الأعذار المشروعة التي تسقط القتال عن المؤمن ، لكي تتوضّح ولا يتشبّث المتقاعسون بكلّ عذر تافه للتنصّل عن مسئولية القتال.

٣٢٥

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)

وهذه من سماحة الإسلام ونظرته المتوازنة للأمور أنّه في الوقت الذي يشدّد على موضوع القتال لا يغفل عن بيان الأعذار الحقيقية التي يعذر في إطارها المتخلّفون ، ثم يجعل الحدّ الفاصل في إفرار هذه الأعذار أو رفضها رأي القائد ، لأنّه هو الذي يحدّد متى تكون هذه الأعذار الآنفة الذكر مقبولة كمانع عن القتال ، فمن يحدّد ـ مثلا ـ أنّ الأعمش يلحق بالأعمى ، وما درجة ضعف العين الذي يسقط بموجبه الجهاد عن صاحبه ، وما درجة العرجة ، وهل أنّ المرض الذي لا يمنع عن القتال ـ كمرض السكّري ـ يعتبر عذرا؟ ثم أنّ هناك أعذارا حقيقية لم يتعرّض لها النصّ ، مثل شلل اليدين ، والبدنة المفرطة ، والسفه .. ، ولعلّه لذلك أكّد ربّنا بعد ذكر الأعذار الشرعية على طاعة القيادة ، فقال :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

وإذ يعد الله الطائعين له ولرسوله بهذا الجزاء ، ويشير في علاجه لمثل هذه القضية الى موضوع الآخرة ، فلأنّ العامل الأساسي الذي يدفع الإنسان للفرار من ساحة المعركة ، أو للتمرد على أوامر القيادة الرسالية بشكل عام ، هو التشبّث بحطام الدنيا الزائل ، وهكذا يخلق التذكّر بالآخرة معادلة في ضمير الإنسان وعقله بين نتائج الهزيمة السلبية ، ومعطيات الثبات والطاعة الايجابية العظيمة ، وتأتي في البين خاتمة الآية لترجع فرار الطاعة والثبات على فرار الهزيمة بإتارة عامل الخوف والرهبة من عذاب الله عند الإنسان.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)

٣٢٦

والتولّي هو الفرار من الزحف والجهاد في سبيل الله ، الأمر الذي يستوجب العذاب الأليم.

[١٨ ـ ١٩] (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)

أمّا هدف العهد مع الله فإنّه يستمطر رضاه وثوابه ، فقد وسعت مرضات الله المؤمنين حين بايعوا رسول الله على القتال حتى الموت بين يديه ، وذلك قبل أن يبرم الصلح ، فلمّا رأى المشركون عزم المؤمنين على الحرب والاستقامة قبلوا بالصلح.

إنّ الله سبحانه قد يقبل بيعة المؤمنين ، ويغفر ذنوبهم كلّها. أليست الحسنات يذهبن السيئات؟ بلى. إنّ الموقف البطولي يسوى عند الله الشيء الكثير ، ويرجح في ميزانه على كلّ عمل ، ولعلّه لذلك يغفر الله للشهيد كلّ ذنوبه.

ولقد كانت بيعة المؤمنين للرسول تحت الشجرة دليلا أكيدا على عمق إيمانهم بالرسالة ، ولو لم يكونوا مؤمنين بمعنى الكلمة لما بايعوا الرسول (ص) وهم يعلمون أنّ المواجهة بينهم وبين المشركين لو حصلت تعني حسب المقاييس الظاهرة إبادتهم من الوجود ، ومن هذا المنطلق كانت البيعة فارقا بين المنافقين وضعاف الايمان وبين المؤمنين الصادقين ، وهي كما كشفت فريق المخلّفين ميّزت المؤمنين وأفرزتهم ، وهكذا تنفع المواقف الحرجة الحركة الرسالية في الكشف عن هوية أفرادها ونقاط القوة والضعف فيهم.

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ)

من الثبات وصدق الايمان وعموم مؤهلات النصر الالهي.

(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها

٣٢٧

وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)

وقد تجسّد ذلك الفتح في الانتصارات والمغانم التي صار إليها المؤمنون بعد ذلك في معركة خيبر وفتح مكة وغيرهما ، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا يخسرون الكثير ، وتفوتهم هذه الانتصارات لو كان قرارهم الانهزام ، وهذه الحقيقة واضحة في تاريخ الأمم والحركات ، فهي عند ما تتمسّك بمبادئها وأهدافها ، وتستقيم من أجل ذلك رغم المصاعب والتضحيات ، تصل الى ما تريد بتضحيات أقل ، بينما تقصر على غاياتها ، وتعيش الذلّ والهوان ، حينما تنقلب على أعقابها ، وتدفع إضافة الى ذلك أضعافا مضاعفة من الخسائر ضريبة للهزيمة.

ومن خلال الآيات المتقدمة يتضح أنّ المؤمنين وصلوا للمكاسب التالية نتيجة لثباتهم على العهد :

١ ـ تثبيت الايمان في قلوبهم وزيادته.

٢ ـ الفتح العسكري القريب إضافة الى الفتح السياسي المتمثّل في صلح الحديبية.

٣ ـ المغانم الكثيرة معنوية وسياسية واقتصادية.

[٢٠] (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها)

في المستقبل ، ولكنّه عجّل لهم أمرين :

الأوّل : المغانم الأوليّة التي حصل عليها المؤمنون إثر الصلح ، كدخول أفواج من الناس في الدين ، وتخالف بعض القبائل مع الرسول ، وحصول حالة من الأمن تمكّنه من بناء حركته وإعداد المؤمنين للمواجهة الحاسمة ، أمّا ما حصلوا عليه بعد

٣٢٨

فتح مكة عسكريّا فهو كثير أيضا ، والذي من أعظمه وأبرزه القضاء على السلطة المنحرفة فيها ، ودخول الناس أفواجا في دين الله ، ممّا جاء تفصيله وبيانه في سورة النصر.

الثاني : دفع أذي المشركين والكفّار عن المؤمنين بصلح الحديبية ، إذ لو كانت المواجهة تحدث يوم ذاك بين المؤمنين بأعدادهم وعدّتهم القليلة من جهة ، والمشركين بأعدادهم وعددهم الكثيرة من جهة أخرى ، لكانوا يبادون وتنطفئ شعلة الإسلام.

(فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)

على رضى الله عنهم ، ونصره لعباده الذين ينصرونه ويطيعون أولياءه ، فينبغي للمؤمنين أن يدرسوا هذه الآيات ، ويتدبّروا في هذه الحادثة التاريخية ، ليستفيدوا عبرة هامة وهي ضرورة الطاعة للقيادة في السلم وفي الحرب ، وعدم اتباع الآراء الشخصية والعواطف المثارة ، لأنّ الطاعة للقيادة الرسالية هي الطريق الى الهداية الحقيقة.

(وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)

[٢١] قبل النصر تجتاح الأمة فتنة الشك في وعد الله ، أمّا بعده فإنّهم يتعرّضون للغرور والاعتقاد بأنّ قوتهم الذاتية كانت سبب الفتح ، مما يدفعهم للاستهانة بالقيم الحق التي هيّأت ظروف النصر عند التمسّك بها ، ولعلّه لذلك أكّد ربّنا هنا ـ وبعد بيان مكاسب صلح الحديبية ـ على المكاسب التي لم يقدر على تحقيقها المؤمنون إلّا بتوفيق ، ومن توفيقه الوحي الالهي والقيادة الربّانية ، وإذا اتبع المجاهدون السبل الأخرى الملتوية فسوف تؤكّد الهزيمة في واقعهم ، مهما كان ظاهر

٣٢٩

الأمر يوحي بخلاف ذلك ، ومن يرد نصر الله ورحمته يجب أن يعطيه ويلتزم بأمره.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)

فهو محيط علما وقدرة بالمكاسب الأخرى التي تأتي في المستقبل ، والتي تغيب عن وعي المؤمنين ، أو ربما كانوا لا يصدّقون بأنّهم سوف يبلغونها لو قيل لهم ذلك ، نظرا لكونها مكاسب كبيرة بالنسبة الى قدراتهم وإمكاناتهم ، فهل كانوا يعلمون أو يصدّقون بالمكاسب التي حصلوا عليها فيما بعد من بلاط كسرى وقيصر؟ كلّا .. وهي كلّها من معطيات صلح الحديبية لو درسنا التاريخ دراسة واقعية معمّقة ، فانتصار الرسول على يهود خيبر وفتحه لمكة المكرمة عسكريّا ، الأمر الذي كان يعني سيطرته التامة على شبه الجزيرة العربيّة بكاملها ، كلّ ذلك كان من مكاسب الصلح ، وهذه الانتصارات بدورها وحّدت القوى آنذاك كلّها تحت راية الإسلام ، فإذا بالمسلمين قوة ضاربة تنطلق شرقا لتفتح بلاد فارس ، وغربا وشمالا لتنتهي الى سلطان الروم ، وتبنى على انقاضها حضارة الإسلام.

ولم يكن أحد من المؤمنين ـ إلّا من شاء الله ـ يتوقّع النجاة من يد مشركي مكة حينما دعاهم الرسول للبيعة ، بل كان كثير منهم فريسة للشك في الدين ، والتخلّف عن أوامر القيادة الرسالية ، فكيف بهم يدركون تلك المكاسب العظيمة أو يؤمنون بها؟

إنّ المؤمنين كانوا يخسرون هذه المكاسب لو اتبعوا أهواءهم وآرائهم الشخصية القاصرة فتخاذلوا عن نصرة الرسول والبيعة له يومئذ ، لذلك ينبغي لنا في كلّ مكان وزمان أن نتبع الوحي الالهي ، ونسعى في تطبيقه ، لا أن نتبع أهواءنا وتصوّراتنا البشرية المحدودة.

٣٣٠

وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ

___________________

(٢٥) (الْهَدْيَ) : الإبل التي ساقها المسلمون لعمرتهم.

(مَعْكُوفاً) : من عكف إذا حبس لأنّ الإبل كانت محبوسا على الهدي لينحر بعد قضاء العمرة ، فقد منع المشركون أن يبلغ الهدي محله ، أي المكان الذي ينحر فيه بمكة.

(مَعَرَّةٌ) : أي مكروه.

٣٣١

لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ

___________________

(لَوْ تَزَيَّلُوا) : تفرّقوا وتميّز المسلم عن الكافر في مكة.

٣٣٢

فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

___________________

(٢٩) (شَطْأَهُ) : فراخه.

(فَآزَرَهُ) : فقوّاه وشدّه وأعانه.

(وقِهِ) : جمع ساق وهو القصب والأصل.

٣٣٣

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا

هدى من الآيات :

لأنّه قد جرى في البدء جدل بين المسلمين حول صلح الحديبية ، نجد السياق القرآني هنا يؤكّد على المكاسب الكبيرة التي جناها المسلمون من وراء هذا الصلح المبارك ، ليؤكّد على سلامة النهج الرسالي ، وضرورة الطاعة أبدا للقيادة الربانية ، كما تذكّر الآيات بهذه المناسبة بطائفة من الحقائق التي غابت عن الأذهان ، والتي تتصل بهذا الأمر اتصالا مباشرا.

الأولى : إنّ الحرب ليست هدفا بذاتها ، وإنّما هي وسيلة الى هدف لو حقّقناه من دونها يكون الأمر أفضل ، بل لا يصح آنئذ إثارتها أبدا.

الثانية : إنّ وصول المسلمين الى أهدافهم من دون الحرب ليس إلّا دليلا على تأييد الله لهم ، لأنّه يصعب الوصول الى مثل هذه الأهداف من دون التضحيات الباهظة.

٣٣٤

الثالثة : لو أنّ المشركين أشعلوا فتيل الحرب مع المسلمين ببطن مكة لانتصر المسلمون عليهم بإذن الله ، وهذه سنّة إلهية سابقة ودائمة لا يمكن أن تتبدّل ، ولكنّ عدم حدوث الحرب ليس في صالح المشركين وحسب ، باعتبارهم كانوا يهزمون لو بدأوها ، وإنّما هي في صالح المسلمين أيضا.

الرابعة : لو أنّ الحرب وقعت بين المشركين والمسلمين يومذاك ربما لم يكونوا يستطيعون النفاذ الى قلوب المشركين وبذلك القدر من الأثر العميق ، بل ربما ازداد المشركون تعنّتا ورفضا ، وبالذات كانت لدى قريش ومن لفّ لفها مشكلة نفسية ، تتمثّل في الحميّة الجاهلية التي أوغرت قلوبهم ضد المسلمين ، فلو كان المسلمون يدخلون في نفق العصبية ، فبدل أن يقيّموا الأحداث والواقع تقييما موضوعيّا يأخذ بعين الاعتبار المصلحة الرسالية ، يتّبعون ردّات الفعل والعواطف المستثارة ، ويصرّون على عدم الرجوع بدون الطواف حول الكعبة والنحر وتقديم الهدي و.. و.. ، كما أراد ذلك قسم من المسلمين ، لتساووا في العصبية مع كفّار قريش ومشركيها.

ومن هذه الفكرة نستفيد عبرة هامة ، وهي ضرورة أن يدرس المؤمنون القضايا والمواقف المختلفة دراسة رسالية ، نابعة من نهج موضوعي ، هدفه مصالح الإسلام ، وليس إرضاء نزواتهم وعواطفهم.

ثم إنّ القرآن يسوق الحديث عن الرسول (ص) والذين حوله من المؤمنين ، وكيف أنّ شخصيتهم الايمانيّة ذات بعدين ، فظاهرها العذاب والحدّة على أعداء الله ، وباطنها الرحمة واللّطف برفاق المسيرة الواحدة ، وفي الضمن ينبّهنا إلى فكرة هامة ، وهي أنّ أصحاب الرسول ليسوا مبرّأون من الأخطاء ، وليسوا حجج الله على الناس ، وإنّما الرسول وحده الحجة أو من نصّبه الله لذلك. وكيف يكون حجة

٣٣٥

مطلقة من أمكن خطأه؟ نعم. المؤمن ـ كلّ مؤمن ـ حجة على الآخرين فيما يصح من أعماله وصفاته ، ولذلك فإنّ مغفرة الله وأجره لا يشملان كلّ الذين صحبوا النبي (ص) ، وإنّما يختصّ بهما المؤمنون الصادقون الذين أخلصوا الصحبة ، واستقاموا على الحق إلى الأخير.

بينات من الآيات :

[٢٢] بالرغم من قوّة قريش وحلفائها التي تفوق في ظاهرها قوة المسلمين ، وبالرغم من اعتقادهم ـ وربما اعتقاد كثير من المسلمين ـ بأنّ الحرب بين الطرفين تعني غلبتهم على حزب الله ، يؤكّد ربّنا لرسوله وللمؤمنين أنّ الحرب لو دارت رحاها لانتصروا عليهم ، ولهزموهم شرّ هزيمة.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ)

فرارا من المواجهة ، دون أن تجرأ قوى الحلفاء كثقيف وهوازن على إسناد قريش ، لأنّها هي الأخرى سوف يدخلها الرعب ممّا يسلبها شجاعة اتخاذ قرار الدعم والنصرة.

(ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)

إنّ أولئك الذين كانوا يعتقدون بقيادة قريش ، ويسلّمون لولايتها عليهم ، سوف تتبدّل قناعاتهم فيها ، لأنّهم إنّما صاروا الى ذلك ثقة في قوّتها وقدرتها ، وقد هزمت فهي إذن لا تستحق أن تتولّاهم .. ثم لنفترض أنّهم تدخّلوا لصالحها في الحرب ، فهل ذلك يبدّل هزيمتهم إلى نصر؟ كلّا .. وما هي قوّتهم أمام إرادة الله؟

[٢٣] ثم ليعلم هؤلاء وأشباههم عبر الزمن أنّ انتصار الحق على الباطل سنّة إلهية ثابتة تحكم الحياة بإذن الله ، وقد عجز أسلافهم الذين هم أشدّ قوّة منهم عن

٣٣٦

تغيير هذه السنة ، فكيف بهم؟ وهب أنّهم أقوى من الغابرين ، أو جاء في التاريخ من هو أقوى من أولئك ، فهل يغلب الله على أمره؟

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)

أو لم ينتصر نوح على كلّ الكافرين في الأرض؟

أو لم ينتصر طالوت بفئته القليلة من المؤمنين على الكافرين في عصره؟

أو لم يقل الله : «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (١)؟

[٢٤] إنّ الانتصار القياسي الذي بلغه المسلمون في صلح الحديبية لم يكن بدهاء منهم ، أو بأنّ قريشا رحمتهم فكفّت أذاها عنهم ، وإنما الله هو الذي صيّر الأمور إلى هذه النتيجة ، «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» (٢) ، بلى. لقد بلغ المسلمون هذه المكاسب السياسية والمعنوية من دون أدنى خسارة عسكرية ، والحال أنّ الوصول إلى ذلك محال بالطرق الطبيعيّة ، ولو تحقّق لاقتضى الأمر تضحيات عظيمة.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ)

فمن ناحية منّ الله على المؤمنين بالخلاص من أيدي المشركين قبل صلح الحديبية ، ومن ناحية أخرى منّ على المشركين حين عفى عنهم الرسول (ص) بعد الفتح.

(بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)

__________________

(١) البقرة / (٢٤٩).

(٢) الفتح / (٢٠).

٣٣٧

ومع ورود هذه الآية في سياق الحديث عن صلح الحديبية إلّا أنّها تشير كما يبدو إلى فتح المسلمين عسكريّا لمكّة المكرمة.

[٢٥] ولكن لماذا كف الله أيدي المؤمنين عن المشركين ، ولم يأمرهم بقتالهم؟ هل لأنّهم طيّبون؟ أو لأنّ لهم فضلا وسابقة حسنة معهم؟ بالطبع كلّا .. وتشهد على ذلك عقائدهم المنحرفة وأعمالهم السيئة تجاه أتباع الرسالة.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)

لقد منعوا المؤمنين من حجّ بيت الله بالرغم من تهيئهم التام لذلك ، وكان ذلك من أبشع الجرائم في عرف العرب يومئذ ، لقد فضح ذلك قريشا التي كانت تفتخر على سائر العرب بأنّها حامية البيت الحرام ، وحافظة حرمة الوافدين إليه.

ماذا بقيت لقريش من شرعية السيادة على العرب بعد أن منعت الحجّاج وصدّتهم عن إقامة الشعائر التي كانت العرب تقدّسها؟

هكذا كشف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن زيف ادّعاءات قريش ، وأسقطها سياسيّا عن كرسي سيادة العرب تمهيدا لا سقاطها عسكريّا فيما بعد.

ثم إنّ جريمة قريش كانت كبيرة ، إذ كيف يمنع المشرفون على البيت ، والمدّعون خدمة الوافدين عليه الناس من ممارسة شعائرهم؟! أوّلا يستحق هؤلاء القتل والعذاب بعد ظفر المسلمين بهم؟ نعم. ولكنّ الله حجز المؤمنين عن أذاهم لوجود المؤمنين بينهم ، سواء المؤمنين بالفعل ممّن أخفى إيمانه تقية ، أو الذين هم على أعتاب الدخول في الدّين ، ويحدّثون أنفسهم بالانتماء الى الرسالة.

٣٣٨

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

يعني لو كنتم تقاتلون الكفار ـ دون أن يكفّ الله أيديكم عنهم ـ لكنتم تقتلون فيمن تقتلون المسلمين من دون علم ، لأنّهم كانوا يكتمون إيمانهم على خوف من قريش ، ولأنّ شروط الصلح كانت لا تسمح لهم باللجوء إليكم ، ولو فعل المؤمنون ذلك لربما أضرّهم ، ولكنّ الله لم يأمرهم بالقتال.

ونعرف من هذه الآية أوّلا : أنّ المؤمنين استفادوا من فترة السلام التي وفّرها الصلح في تقوية أنفسهم وبناء حركتهم وتوسيعها ، إلى الحدّ الذي اخترقوا فيه كيان قريش نفسها ، وحيث سارت جيوش الإسلام لفتح مكّة كانت قريش منخورة الكيان من الداخل ، وكان الجند ـ وربما كثير من الزعماء الذين ينتظر منهم محاربة أتباع الرسالة ـ ينتظرون الفرصة المناسبة للتلاحم مع صفّ المؤمنين ضدّ أعدائهم ، وهذا بالفعل ما تؤكّده سورة النصر : «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً» ، وربما لذلك أيضا لم تجد قريش نفسها قادرة على اتخاذ قرار المواجهة العسكرية ضد الجيوش القادمة من المدينة بقيادة الرسول الأعظم (ص) ، الأمر الذي جعل المسلمين يدخلون مكة فاتحين دون تضحيات.

وثانيا : انّ المؤمنين كانوا يجهلون هذه المكاسب العظيمة للصلح ، وذلك هو الذي جعل بعضهم يعترض على الرسول ، وربما طفق يشك في قيادته ، فهم لم يكونوا يعلمون بالجبهة الايمانية الموجودة في صفوف أهل مكّة ، وقول بعضهم وقد حمل الراية (اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبى الحرمة) دليل واضح على هذه الحقيقة.

ومن هذا المنطلق يجب أن نستفيد درسا في علاقتنا بالقيادة الرسالية ، وهو أنّ جهلنا بخلفيات قراراتها لا يعني أنّها خاطئة ، ويجب أن لا يدفعنا ذلك إلى التشكيك

٣٣٩

فيها ، فليس بالضرورة أن يتضح لنا كلّ شيء ، لأنّ كثيرا من الأمور يكشف عنها المستقبل ، ورؤيتها تحتاج إلى بصيرة ثابتة ومعلومات متكاملة ، ممّا لا تتوافر إلّا عند القيادة الشرعية الرشيدة.

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)

أي في الايمان ، وهل خلق الله الناس إلّا ليرحمهم؟ «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (١) ، ولو أنّ المؤمنين قاتلوا المشركين يومذاك لقتلوا الكثير ممّن دخلوا الدّين فيما بعد ، ومنعوا عنهم رحمات الله وبركاته ، وهكذا ينبغي أن تكون استراتيجية الدولة الاسلامية قائمة على أساس اجتذاب الناس الى الدّين ، ولو بتقديم بعض التنازلات ، وليس تحطيم الخصم وقهر إرادته ، ولو سبّب ذلك إثارة البغضاء في أنفسهم ممّا يشكّل حاجزا نفسيّا يمنعهم مستقبلا من الدخول في الدّين.

بلى. لو امتاز الفريقان لعذّب الله المشركين والكافرين بسيوف عباده المؤمنين.

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

وفي الروايات المأثورة : إنّ الله ليدفع البلاء عن القرية بالمؤمن ، وجاء في الحديث القدسي : «لولا شيوح ركّع ، وشباب خشّع ، وصبيان رضّع ، وبهائم رتّع ، لصببت عليكم العذاب صبّا» (٢).

[٢٦] ولكن لماذا ينذر الله الذين كفروا بالعذاب في الآية السابقة؟ هل لأنّهم من قريش أم لقيمة مادية أخرى؟ كلّا .. إنّما للحميّة المرتكزة في قلوبهم.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ)

__________________

(١) هود / (١١٩).

(٢) كلمة الله / للشهيد الشيرازي ص (٧٦).

٣٤٠