من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

الصيغة الأكمل للتوراة؟!

(يَهْدِي إِلَى الْحَقِ)

والحق هو ذلك النور الذي يسطع على كلّ قلب سليم ، وكلّ عقل متحرّر ، وكلّ فطرة نقيّة ، وحين يذكّر القرآن به لا يجد الإنسان مبرّرا للكفر به ، إذ يتوافق الكتاب مع حقائق العقل.

وهكذا استدل الجن على صدق الرسالة بمحتواها الحق ، فعرفوا الرسول برسالته فصدّقوا به.

(وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)

ليس في الكتاب آية إلّا وتهدينا إلى ما يحكم به العقل ، إلّا أنّ العقل لا يقدر على معرفة الشرائع الواضحة لتحقيق الحق ، فمثلا عبادة الله والتحرّر من الطاغوت والعدالة والتقدّم والتعاون والسلام تلك هي الحقائق التي يذكّر بها الشرع ، ويشهد بها العقل ، ولكن كيف نحقّقها؟ إنّ الإجابة عن ذلك نجدها في الرسالة التي تهدينا إلى السبل الواضحة والقويمة لبلوغ الأهداف السامية ، تلك التي نسمّيها بالشريعة والأحكام.

[٣١] وما لبث المنذرون من الجن أن تحمّلوا مسئولية الدعوة بإصدار الأمر بطاعة الرسول بعد أن عرفوا صدقه قائلين :

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ)

وأشاروا بكلمة «قومنا» أنّهم يريدون لهم الخير باعتبارهم من قومهم ، ثم أمروا بطاعة الرسول لأنّه يدعو إلى الله ، وهكذا يؤدّبنا القرآن ألّا نكرم أحدا أو نطيعه إلّا

١٨١

باسم الله وباعتباره داعيا إليه.

(وَآمِنُوا بِهِ)

لعلّ الإجابة هي التسليم له بصورة مجملة ، بينما الإيمان هو العمل برسالته.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)

تلك الذنوب التي تراكمت علينا قد ذهبت لذّاتها وتلاشت دوافعها ، بينما بقيت تبعتها وآثارها على القلب ، وعواقبها على المستقبل ، لعلّنا نسيناها ، بيد أنّ كتاب ربّنا قد أحصاها ، لذلك كان الخلاص منها غاية منى الموقنين ، وأعظم باعث لهم نحو الطاعة للقيادة الشرعية ، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق ، وربما الشهادة في سبيل الله.

وتساءل المفسرون : لماذا قال «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» ، أو ليس الإسلام يجبّ ما قبله ، ممّا يعني أنّ الله يغفر كلّ الذنوب السابقة عليه؟ ومن هنا قال بعضهم : إنّ «من» زائدة.

ولكن قال الآخرون : إنّ «من» ليست زائدة ، وإنّ مجرّد الإسلام لا يطهّر صاحبه من تبعات كلّ الذنوب ، بل كلّما عمل الإنسان ببعض الواجبات كلّما سقطت عنه طائفة من الذنوب حتى لا يبقى منها إلّا النزر اليسير ، وانطلاقا من هذا التفسير الموافق لظاهر القرآن (حيث أنّ الظاهر ألّا تكون أيّة كلمة أو حرف زائدة) يجتهد المؤمنون في الأعمال الصالحة لتذهب بالسيئات.

(وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)

ومن ذا الذي يجير العبد من ربّه المحيط به علما وقدرة؟! وإذا كان الجن

١٨٢

بحاجة إلى من يجيرهم من عذاب الله ، فهل يقدرون على إجارة أحد من الأنس ممّن يستعيدون بهم؟!

حقّا : إنّنا جميعا نبحث عن الأمن فهل نجده إلّا عند ربّنا الكريم ، ولكن هل يجيرنا الربّ من دون طاعة رسوله الداعي إليه؟

[٣٢] وهل يستطيع أحد أن يهرب من حكومة الله ، ويخرج من حدود سلطانه؟ أنّى له ذلك وكلّ ذرّة في وجوده قائمة به سبحانه.

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ)

فلا يستطيع هربا من عاقبة كفره أنّى مضى من أطراف هذه الأرض التي هي في قبضة ربّها. إنّه لا يعجزه فرارا كما يعجز أحدنا الآخر بالانتقال من حدود سيطرته أو علمه.

(وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ)

ينصرونه ، بالرغم من أنّ الإنسان يزعم أنّ عشيرته أو أسرته أو حز به وناديه يهرعون إلى مساعدته عند ما يتعرّض للعذاب ، ولكنّ ذلك لا ينفعه أمام عذاب الله الذي قد يشملهم جميعا.

بلى. الخلاص من العذاب ممكن بالهرب إلى الله من عذابه ، والالتجاء إلى فناء عفوه ، فرارا من سطوة انتقامه ، ولكنّ ذلك مشروط بإجابة داعي الله.

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

قد يضلّ الإنسان وهو يزعم أنّه على هدى ، ولكنّ ضلال البشر عن ربّه لا يمكن

١٨٣

تبريره أو إخفاءه أنّه ضلال مبين ، لأنّ القياس باطل تماما بين الله وخلقه. أليس كذلك؟ فكيف يمكن للإنسان أن يزعم أنّ من خلقه الله بقادر على إنقاذه من غضبة ربّه الخالق الجبّار؟!

[٣٣] والعذاب الأدنى في هذه الحياة شاهد صدق على العذاب الأكبر في الآخرة ، أوّلا : لأنّه ينسف بنى التبرير ، والتشبّث بالأعذار ، والغرور بنعم الله ، والإعتقاد بأنّ الله لا يعذّب أحدا ، كلّا .. أو ليس قد عذّب عادا الأولى ، وثمود فما أبقى؟ ، وثانيا : لأنّه يرينا صورة واضحة عن شدّة عذاب الله ، فإذا كان العذاب الأدنى ريحا تدمّر كلّ شيء بإذن ربّها فكيف بالعذاب الأكبر؟! إذا فإنّ ما أنذر به المرسلون من عظيم العقاب في اليوم الآخر حق لا ريب فيه ، ثالثا : حينما نشهد عذاب الله للأمم الغابرة تلين القلوب ، وتستعد لتقبّل المواعظ الربّانية ، وكانت من قبل سادرة في غفلتها ، محجوبة بغرورها وبانشغالها بالشهوات العاجلة والأماني والأحلام ، لذلك كانت تلجأ إلى كهف التكذيب بالآخرة ، واختلاق الشبهات حولها ، فرارا من ثقل المسؤولية ، ومسارعة في اللّذات ، ومضيّا مع الشهوات حتى الثمالة.

وأكثر الشبهات شيوعا عندهم ما قالوا : كيف يعيد الله هذه الأعظم البالية وقد أضحت رميما تذروه الرياح؟! وكيف يحيي الله الموتى وقد فسد نظام أجسادهم ، وماتت خلايا المخّ عندهم ، ولم نر أحدا منهم عاد إلى الحياة أبدا؟!

وهذه الشبهة تافهة جدّا ، إلّا أنّها تستمد قوّتها من عزم البشر على التهرّب من الإيمان بالآخرة خشية تحمّل مسئولياته الثقيلة ، ولو لا ذلك فإنّها تتلاشى كما يتلاشى ظلام الليل حينما ينبلج فجر الحقيقة ، بشرط ألّا يحتجب الإنسان عنه بغشاوة الشهوات ، دعنا نستمع إلى القرآن وهو يبدّد هذه الشبهة بتساؤل يمسّ أوتار

١٨٤

الفطرة النقية مسّا رقيقا :

(أَوَلَمْ يَرَوْا)

إنّها حقيقة ترى ليس بالعين وحدها ، فإنّ البصر قد يزيغ ، ولكن بالقلب الذي تجتمع لديه أحاسيس كلّ الجوارح.

(أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)

بلى. لأنّنا نشهد في كلّ أفق من آفاق هذه الخليقة الواسعة تجدّد الحياة بعد الموت ، فهذا الربيع حيث تحيا الأرض بعد موتها ، وتستيقظ الأشجار بعد همودها ، تشهد بقدرة البارئ التي تحيط بكلّ شيء.

إنّ التنوّع الهائل الذي يعجز البشر عن إحصائه في الخلق : من أقسام الأحجار والمعادن والأتربة وصنوف الأحياء ، ومن الفيروس حتى الفيل ، ومن أصغر خلية حيّة في البحر حتى الحوت العظيم ، ومن أصغر حشرة طائرة حتى النسور والعقبان.

واختلاف البشر خلقا ، وتقلّبهم من حالة النطفة حتى بلوغ مرحلة الاكتمال.

ثمّ ما أوتينا من عظيم خلق السموات التي لو قيست أرضنا بها لكانت كحبّة رمل في صحراء واسعة.

كلّ ذلك يرينا جانبا من قدرة الله ، وأنّه سبحانه لا يعجزه شيء أبدا .. فهل يستحيل عليه أن يحيي الموتى؟!

(بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

١٨٥

وقدرة الله تنبسط على الخليقة ، حتى لا تدع شيئا يتصوّره البشر إلّا وقد خلقه ربّنا ، وأكمل خلقه ، وخلق له صنوفا وأنواعا. سبحان ربّنا وتعالى!

[٣٤] وما عسى أن ينفع التكذيب؟ هل يذهب نور الشمس لو احتجبت عنه؟! هل يدرأ خطر الموت عن نفسه من يكذّب به ، أم أنّه بتكذيبه يقرّبه إلى نفسه أكثر فأكثر؟! هكذا من يكذّب بالآخرة لا يدرأ عن نفسه عذابها ، بل يزداد إثما بتكذيبه واستحقاقا للعذاب أكثر فأكثر.

وحين يحس جحدة البعث بحرارة النار ، ويرون بأمّ أعينهم جبالا من اللهب الذي يتميّز من الغيظ في جهنّم حتى لكاد قلوبهم تنخلع من شهيقها وزفيرها ، يومئذ يؤمنون بالعذاب ، ولكن بعد فوات الأوان.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)

إنّها عاقبة من كفر بالعذاب ، وجحد بالبعث ، وتساءل مستنكرا : كيف يحيي الله الموتى؟!

حقّا : مجرّد تصوّر تلك اللحظة التي يأتي الله بالكفّار ليشهدوا جهنّم ونيرانها الملتهبة يكفي للتصديق بها. أو تدري لماذا؟ لأنّ أساس الكفر بالآخرة قائم على الغفلة ، والاسترسال مع الهوى ، والاستهزاء بالحق ، فيكون تصوّر هذا العذاب المهيب كافيا لزعزعة أساس الكفر ، وتنبيه الإنسان إلى ضرورة التفكّر الجدّي ، وإيقاف استرساله الخطير مع الشهوات ، وبالتالي إسقاط حجب الغرور عن عينه ليرى بها الحقائق مباشرة.

١٨٦

[٣٥] لكي تمضي سنّة الامتحان في الكافرين كما أرادها الله بحكمته البالغة ، لا بدّ أن يكتفي المنذرون بالبلاغ ، ويصبروا على أذى قومهم دون أن يستعجلوا لهم العذاب.

ولكي لا يتحوّل الصراع مع الكفّار إلى صراع ذاتي بين طائفة وأخرى ، بل يبقى نقيّا عن أيّة مصلحة مادية لأهل الحق حتى تتم الحجة على أعدائهم ، لا بد من الصبر.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)

أو ليس الرسول (ص) منهم وهو أفضلهم ، فليصبر كما صبر نوح (ع) عند ما دعا قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما فلم يؤمن به إلّا نفر قليل ، وكما صبر إبراهيم (ع) عند ما ألقي في النار ، وعند ما هاجر إلى ربّه ، وعند ما أسكن من ذرّيّته بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرّم ، وعند ما حاول ذبح ابنه استجابة لأمر ربّه ، وكما صبر موسى (ع) في مواجهة أعتى طاغوت مع شعب خائر العزيمة كبني إسرائيل ، وكما صبر عيسى (ع) مكاره الدنيا بزهده ومقاومته لعتاة بني إسرائيل.

هؤلاء هم أولوا العزم من الرسل الذين أخذ الله منهم ميثاقا غليظا ، لأنّهم كانوا أصحاب شريعة جديدة ، لكلّ أهل الأرض ، وكانوا بحاجة إلى صبر عظيم لتبليغها إلى الناس.

فقال ربّنا سبحانه عنهم : «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً». (١)

__________________

(١) الأحزاب / (٧).

١٨٧

وهذه الآية تشهد على مدى الأذى الذي كان ينتظر هذه الصفوة الخالصة من الأنبياء فأخذ منهم ميثاقا غليظا على ضرورة الصبر عليه.

وقال ربّنا وهو يبيّن أنّ هؤلاء الخمسة المطهّرين هم أصحاب شريعة : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» (١)

وهكذا جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام):

«سادة النبيين والمرسلين خمسة ، وهم أولوا العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد» (٢).

أمّا عن سبب تسمية هؤلاء الخمسة بأولي العزم فقد جاء في حديث مروي عن الإمام الصادق (ع) قال :

«لأنّ نوحا بعث بكتاب وشريعة ، وكلّ من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء إبراهيم بالصحف وبعزيمة ترك شريعة نوح لا كفرا به ، فكلّ نبي جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعته ومنهاجه وبالصحف ، حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف ، فكلّ نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء المسيح بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، فكلّ نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه ، حتى جاء محمّد فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أولوا العزم من الرسل» (٣)

__________________

(١) الشورى / (١٣).

(٢) تفسير (نمونه) ج (٢١) ـ ص (٣٨٠) نقلا عن الكافي / ج (١) باب طبقات الأنبياء والرسل.

(٣) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (٢٢).

١٨٨

(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)

لأنّ العذاب الذي يرونه يكفيهم ، والأجل الذي يتمتعون فيه لا يسوى شيئا إذا قيس بذلك العذاب الرهيب الخالد.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ)

فإذا كان اليوم الواحد في الآخرة ألف عام ، فما قيمة سبعين عاما إذا قيست بسنيّ تلك الأيّام؟! إنّها في أفضل حال لحظات من نهار في عمر طويل ، وهل يسعد من خسر كلّ عمره لقاء لحظات تمتع فيها؟!

وهكذا ينبغي أن يتسلّح المؤمن بحسابات أخروية ، فلا يجزع من تأخير النصر ، ويقول : كم سنة مرّت ولمّا ينصرنا الله! بل يحسب سنواته قياسا على أيّام الآخرة وسنينها ، هنالك يستطيع أن يتّبع خطى أولي العزم من الرسل في الصبر والاستقامة. أليس يتبعهم في مسئولية أداء الرسالة وبلاغها؟

كذلك نجد في النصوص الإسلامية التوصية بالصبر اتباعا لنهج الأنبياء ، ففي رسالة مفصّلة إلى أصحابه يقول الإمام الصادق (عليه السلام):

إنّه لا يتمّ الأمر حتى دخل (يدخل) عليكم مثلما دخل على الصالحين قبلكم ، وحتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم ، وحتى تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا وتصبروا وتعركوا (١) بجنوبكم ، وحتى يستذلوكم ويبغضوكم ، وحتى تحملوا الضيم ، فتحتملوه منهم ، تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة ، وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله جلّ وعزّ ، يجترمونه إليكم ، وحتى يكذّبوكم بالحق ، ويعادوكم فيه ، ويبغضوكم عليه ، فتصبروا على ذلك منهم.

__________________

(١) عرك الأذى بجنبه أي احتمله.

١٨٩

ومصداق ذلك كلّه في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل على نبيّكم. سمعتم قول الله عزّ وجلّ لنبيّكم : «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» (١)

(بَلاغٌ)

ألا يكفينا هذا البلاغ؟ بلى. لمن يأخذه مأخذ الجدّ.

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)

الذين يتجاوزون الحدود بأعمالهم.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (٢٣).

١٩٠

سورة محمّد

١٩١
١٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة

قال الامام أبو عبد الله الصادق (ع): «من قرأ سورة الذين كفروا لم يرتب أبدا ، ولم يدخله شك في دينه أبدا ، ولم يبتله الله بفقر أبدا ، ولا خوف سلطان أبدا ، ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر أبدا حتى يموت ، فاذا مات وكلّ الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره ، ويكون في أمان الله وأمان محمد (ص)».

تفسير نور الثقلين ج ٥ / ص ٢٥

وعنه (ع) انه قال : «من أراد أن يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنه يراها آية فينا وآية فيهم».

المصدر

١٩٣
١٩٤

الإطار العام

الاسم الآخر لهذه السورة هو : القتال ، وبين الطاعة لمحمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ الذي ذكر اسمه المبارك في فاتحة السورة وللقيادة الشرعية عموما وبين القتال ضد الكفار الذي يحتاج إلى الطاعة التامة للرسول تدور محاور هذه السورة التي تميز بالتركيز على بيان الأمثال للناس .. حيث تتوالى آياتها ، تضرب مثالب الكفار والمنافقين ، وتقارنها بصفات المؤمنين ولعل ١٧ مفارقة بين الفريقين تنطوي عليها السورة مما يثير التساؤل لماذا هذا التركيز في سورة القتال على الفرق بين الفريقين؟ الجواب لسببين :

ألف / ربّما لأن قلوب المؤمنين تعتمر بالرحمة الإيمانية ، ومن الصعب تعبئة هذه القلوب بروحية الحرب إلّا ببيان صفات الكفار السلبية ، ليكون عداءهم للكفر ومثالبه قبل أن يكون لأشخاص الكفار.

باء / لأن القتال أفضل ميزان يعرف به الرجال ، ويتميز به المؤمنون عمن في

١٩٥

قلوبهم مرض.

١ ـ في مستهل السورة يصرّح السياق ببيان أن الله يضلّ أعمال الكفار ، بينما يصلح بال المؤمنين ، ويغفر ذنوبهم. لماذا؟

٢ ـ لأن أولئك اتبعوا الباطل ، بينما سلّم هؤلاء للحق ، وهنا يؤكد ربنا ما يبدو انه المحور الأساسي للسورة حيث يقول : «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ».

وبعد أن يأمر بقتال الكفار بلا هوادة ، واستمرار ذلك حتى تضع الحرب أوزارها ـ بظهور الحق كله على الباطل كله ـ ويختصر تبيان حكمة القتال في كلمة (الابتلاء) بعدئذ يبين فضائل الشهداء في سبيل الله حيث يحفظ الله دماءهم ، وسيهديهم ، ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة.

٣ ـ وينصر الله الذين آمنوا إن هم نصروا دينه ورسوله ، بينما يفشل الكفار ، ويضيّع جهودهم. أو ليس قد كرهوا ما أنزل الله؟! (فلهم التعس والفشل) وأحبط الله أعمالهم (حتى تلك التي تبدو صالحة) وحوادث التاريخ تشهد بهذه السنة. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكفار كانت عاقبتهم؟ أن دمر الله عليهم ، حتى ما بقي منهم شيء ، وهذه سنة الله تجري فيمن يأتي بمثل ما جرى فيمن مضى ، ولذلك كان للكافرين أمثالها.

٤ ـ والله مولى الذين آمنوا (يؤيدهم بنصره ويرعى شؤونهم) وان الكافرين لا مولى لهم (بالرغم من ولايتهم للأصنام والأنداد إلّا انها ليست بشيء).

٥ ـ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يسيرون عبر منهج سليم نحو اهداف سامية ، ولذلك يدخلهم الله الجنة ، بينما الكفار يتمتعون بالدنيا بلا أهداف ،

١٩٦

(وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ، لأنهم لم يسعوا في الدنيا لاتقائها.

وينسف القرآن أساس الأفكار على القوة الظاهرية التي يملكها الكفار ببيان : ان هناك قرى كانت أشد من قرية مكة أهلكها الله فلم يكن لها ناصر.

٦ ـ المؤمنون على هدى من ربهم لا يمارسون عملا إلّا بحجّة واضحة من الله ، بينما الكفار يتبعون أهواءهم التي زيّنت لهم وليسوا سواء أبدا. هؤلاء يمضون على شريعة من الأمر واضحة ، بينما أمر أولئك فرط ، لأنهم يميلون مع رياح الهوى انى اتجهت.

٧ ـ قرار المؤمنين وعاقبة أمرهم الجنة بانهارها المتنوعة التي تعطيهم الرواء ، والقوة ، والنشاط ، واللذة ، وبثمراتها المتنوعة ، وبما فيها من نعمة روحية متمثلة في مغفرة الله ، بينما ليس للكفار إلّا النار بما فيها من ماء يغلي يقطع أمعاءهم.

٨ ـ كل ذلك لأن الكفار أصمّوا آذانهم عن الحق ، بينما اهتدى المؤمنون فزادهم الله هدى ، وعلمهم كيف يتقون النار.

أولئك لا يؤمنون حتى تأتيهم الساعة التي ظهرت علاماتها ، بينما هؤلاء يستغفرون لبعضهم لأنهم يعلمون ألّا إله إلّا الله ، ويستغفرون لذنوبهم ، كما للمؤمنين والمؤمنات.

بعد بيان هذه الصفات التي تبصرنا الفروق بين المؤمنين والكفار ترى السياق ينعطف لبيان المنافقين ، حيث بيّن أمثالهم أيضا ويجعل القتال في سبيل الله محكّ التجربة لهم ، فحين ينتظر المؤمنون حقّا. وبفارغ الصبر الأوامر الالهية بالقتال ترى أولئك إذا نزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ينظرون نظر المغشي عليه من الموت (خوفا وحزنا) وهكذا يخرج الجهاد أضغانهم ، ويظهر مرض قلوبهم.

١٩٧

وقد كان خيرا لهم لو أنّهم صدقوا الله في ساعة الجد ، وإذا ملكوا السلطة ـ وهي مختبر آخر بعد الجهاد لحقيقة أنفسهم ـ تراهم يفسدون في الأرض ، بمنع أعمارها ، ونشر الرذيلة ، والفسق ، والظلم بين أرجائها ، ويقطعون أرحامهم ، كما فعلت بنو أمية وبنو العباس بآل الرسول (صلى الله عليه وآله).

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ) (عن سماع الحق) وأعمى أبصارهم (عن رؤية شواهده).

(والقرآن ميزان لمعرفة حقائق الناس ولكن لمن تدبر فيه) «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» (فلا تنفذ بصائر القرآن إلى أفئدتهم).

ويهدينا السياق إلى سبب الضلالة بعد الهدى عند هذا الفريق من مرضى القلوب ، الذين سقطوا في وهدة النفاق ويقول : ان هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد أن عرفوا السبيل فانما الشيطان سوّل لهم (بأن زين لهم الضلال) وأملى لهم.

وإن من مثالب المنافقين ومؤامراتهم القذرة انك تراهم يقولون للذين كرهوا ما نزّل الله من الهدى نحن معكم ، وسوف نطيعكم في بعض الأمر ، ونتعاون على ضرب الإسلام (والله يعلم اسرارهم ـ كما يعلم اعلانهم).

وانهم يزعمون ان اتصالهم بالعدو يوفر لهم الحماية ، ولكنهم ماذا يصنعون غدا حين تضرب ملائكة الموت وجوههم وادبارهم (ولا ينفعهم يومئذ أعوانهم من المشركين بل لا ينتفعون حتى من أعمالهم الصالحة) ذلك لأنهم اتبعوا ما أسخط الله ، وكرهوا رضوانه (المتمثل في طاعة الرسول ، والنصح للقيادة الشرعية ، والتسليم لأوامر القتال الصادرة منها) فأحبط الله أعمالهم.

١٩٨

كلا .. ويعتمد المنافقون على مبدأ السرية ، ولكن أيحسبون ان الله لن يخرج أضغانهم ، ويظهر مرض القلب الذي تنطوي عليه أنفسهم بالأمر بالقتال؟!

بلى. ربنا قادر على كشفهم الآن ، بتغيير صورهم ، بل انك قادر على معرفتهم من خلال تضاعيف كلماتهم ، أو من ملامح صورهم.

ويعود القرآن إلى الحديث عن القتال ببيان حكمته المتمثلة في الابتلاء ، ويؤكد : أن الكفار لن يضروا الله شيئا ، وسيحبط أعمالهم. ويأمر المؤمنين بطاعة الله والرسول والتسليم لأمره بالقتال ، ولا يبطلوا أعمالهم.

أما الكفار الذين يموتون وهم كفار فلن يغفر الله لهم.

ويشحذ الله عزيمة الاستقامة عند المقاتلين ، ويدعوهم إلى الصمود ، وألّا يهنوا ، ويدعوا إلى السلم (الذليل) وهم الأعلون (بايمانهم) وأن الله لن يترهم أعمالهم.

ويهون شأن الدنيا في أعينهم ، ويبين (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (إلّا ما طلب بها الآخرة) ففيه الجزاء بشرطين (الايمان والتقوى) وإذا آمنوا واتقوا يؤتهم الله أجورهم ، ولا يطلب منهم أموالهم.

وفي خاتمة السورة يذكرنا السياق بضرورة الإنفاق في سبيل الله ـ خصوصا وان القتال بحاجة إليه ـ وإذا طلب الله كل أموالكم ـ وهذا امتحان صعب ـ لأنكم تبخلون ، ويخرج الله أضغانكم (ومدى تشبثكم بالدنيا).

كيف وأنتم حين تدعون لإنفاق بعض أموالكم فان منكم (مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ).

وفي نهاية السورة نجد إنذارا للمؤمنين بأنهم إن لم يتحملوا مسئولية الرسالة ، ويتولوا ، يستبدل الله بهم قوما غيرهم.

١٩٩
٢٠٠