من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

الدين الحق جهاد متواصل ضد سلبيات البشر. ضد حواجز الدم واللون والأرض. ضد قيم الأنساب والتقاليد والأعراف البائدة. ضد الهوى والشهوات والجهل والتحزب .. فمن استطاع أن يخلص طاعته لله وللرسول (دون تقاليده وتراث سلفه) ، وجاهد في سبيل إصلاح مجتمعة ، فهو الذي ارتقى الى مستوى الايمان.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا)

والفرق بينهما ان الإسلام هو التسليم للدين تسليما ظاهرا .. بقبول الشهادتين والخضوع للأحكام الشرعية ، بينما الايمان انقلاب حقيقي لنفس الإنسان.

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)

تدل كلمة «لمّا» على ان من أسلم يرجى له الايمان ، ولعلها تشير أيضا الى التأخير ، مثل ثم في الإيجاب ، مما يوحي بان المسافة بين الإسلام والايمان ليست بسيطة ، وأن على الإنسان المسلم أن يقطع هذه المسافة بجهده المتوصل. فاذا كان الإسلام بمثابة القبول في معهد علمي راق ، فان الايمان هو التخرج منه بنجاح. جاء في الحديث المأثور عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «الايمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان» (١).

وفي حديث آخر مروي عن الامام الصادق عليه السلام : «الايمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الايمان» (٢).

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

__________________

(١) بحار الأنوار / ج ٦٧ / ص ٦٦

(٢) المصدر / ج ٧٢ / ص ٢٣

٤٤١

وكيف ينقص الله الغفور الرحيم شيئا من أعمال عباده التي تحصن بالطاعة لله وللرسول؟ ونستلهم من هذه الآية ان مقايس الايمان الحق هو الطاعة ، ذلك أن الطاعة امتحان صعب ، إنها خروج عن زنزانة الذات الى رحاب الحق ، وتجاوز لحواجز المادة ، وانطلاق في ميادين الخيرات.

[١٥] وجاءت الآيات التالية تبين شروط الايمان أو ليس الايمان هو القوة التنفيذية لكل تعاليم الوحي ، وهو روح المجتمع الدافعة من دونها تصبح أنظمتها حروفا بلا معاني؟

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا)

متى يرتاب المؤمن؟ عند ما يكلف بمهمة صعبة توسوس له نفسه في صدق إيمانه ، أما من محض الايمان فانه كالذهب الخالص كلما تعرض لنيران الصعاب كلما ازداد جلاء ونورا.

(وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ)

إن الجهاد بذل ما يسعه من الجهد في سبيل الله ، ولا يكون ذلك إلا عند ما يخلص القلب من شوائب الكفر والشرك والنفاق.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)

إنها حقيقة الايمان التي تتجلى في الطاعة والجهاد ومن دون الوصول الى هذه الحقيقة لا يمكن تصديق إيمان الفرد ، أما إسلامه فهو صادق بمجرد قبوله دين الإسلام والتزامه به.

[١٦] والذي يكابر ويدعي أنه مؤمن برغم كل ذلك فانه قد سفه نفسه ، كيف

٤٤٢

يزعم بأنه يعلم الله دينه أو ليس الله محيطا علما بكل شيء؟

أولئك قوم من أعراب بني أسد ـ حسب المفسرين ـ قدموا على رسول الله في سنة جدبة ، وأظهروا الشهادتين (رغبة في عطاء الرسول ليس إلّا) ، لم يكونوا مؤمنين في السر وأفسدوا طرقات المدينة بالمخدرات ، وأغلوا أسعارها ، وكانوا يقولون لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (وهم يمنون عليه) أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فأعطنا من الصدقة وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله «قالت الاعراب» الآية. (١)

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ)

بأنكم مؤمنون حقا.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

[١٧] الايمان نعمة كبري لا تساويها نعمة ، وحين يزكي الإنسان نفسه ويروضها بالتقوى ، ويسعى لرؤية الحقائق ، حينئذ يتجلى الله لقلبه ، فيرى الله بنور الايمان ويرى بنور الله كل شيء.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ)

لأن الإسلام إذا كان لهدف مادي فهو إذا لمصلحتهم ولا يستدعي المنّة ، وإن كان إخلاصا لله ، فان الله يمن عليهم به وبما يليه من الايمان.

__________________

(١) القرطبي / ج ١٦ / ص ٣٤٨

٤٤٣

(بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

في ادعائكم الايمان ويبدو أن السياق يتناول قصة أعراب بني أسد الآنفة الذكر بالرغم من انها تعم كل أولئك الذين يدعون الايمان ويجعلونه وسيلة للتعالي على الناس ، واكتساب الشهرة والثروة والسلطة.

[١٨] ولكي يوجد القرآن وازعا نفسيا للإنسان ألا يزكي نفسه ويدعي الايمان كاذبا ، أو يحاول ابتزاز الآخرين باسمه ، فان الله يحذرنا نفسه ، ويذكرنا بأنه محيط بكل شيء علما.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

فالأعمال يزنها بقدر الإخلاص فيها .. وبهذه الآية تختتم سورة الحجرات التي يحتاج المسلمون اليوم أكثر من أي يوم مضى الى أن يعوها وعيا ، وبالذات الطليعة الرسالية التي قد تتسرب إليه أيضا الحمية الجاهلية ولو بألوان جديدة كالتحزب والتفاخر ، نسأل الله أن يقينا شرور أنفسنا ، ويصون ديننا من كل شائبة شرك أو ظلم أو نفاق.

٤٤٤

سورة ق

٤٤٥
٤٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن أبي جعفر (الباقر) (ع): «من أدمن في فرائضه ونوافله قراءة سورة «ق» وسّع الله عليه في رزقه ، وأعطاه كتابه بيمينه ، وحاسبه حسابا يسيرا»

نور الثقلين / ج ٥ / ص ١٠٤

٤٤٧
٤٤٨

الإطار العام

حجب كثيرة تمنعنا من ملامسة الحقائق الكبرى ، والتي منها المسؤولية والجزاء ، وحين يسقط الإنسان عن نفسه هذه الحجب يشاهد الحقائق بوضوح يدعه متسائلا كيف ولماذا أنكرتها من قبل؟!

وفي سورة «ق» يعالج القرآن الحجب النفسية التي تمنع البشر عن الايمان بالآخرة ، ثم يسرد شواهدها ومشاهدها وما يجري لأهلها من صعقات هائلة ، بيد أن السياق ـ كما يبدو ـ يركز على حجاب التعجب الذي هو تيار عند الكفار ، عند ما يذكرون بالبعث ويقولون : هذا شيء عجيب؟! كيف يمكن أن نعود أحياء بعد أن نمسي ترابا؟ إنها عودة مستبعدة ، وتتلاحق بصائر الذكر في تقريب هذه الحقيقة : أولا : يعلم الله ما تأكل الأرض من أجسامهم ذرة ذرة ، خلية خلية ، وعنده كتاب حفيظ ، لا يدع شيئا إلّا ويحفظه.

ثانيا : إن وراء تكذيبهم بالحق حالة نفسية (خشية تحمل المسؤولية ، والخلود إلى

٤٤٩

أرض الشهوات) وهذا يجعلهم في أمر مختلط.

ثالثا : هذه السماء بما فيها من متانة البناء أليست دليلا على قدرة الرب ، أو لا تكفي وسيلة لتوسيع أفقنا العلمي حتى نعترف بقدرة الرب على رجعنا من جديد.

رابعا : الأرض ، ألا ترى كيف مدها الله وأركزها بالراسيات وأنبت فيها من كل زوج بهيج.

بلى. إنها أدلة كافية ولكن لمن؟ لكل عبد منيب ، مهيأ نفسيا لمثل هذه البصائر والآيات ، ومثل ذلك الغيث الذي ينبت به الله جنات من الأشجار ومروج حب من ـ حب الحصيد ـ. أرأيت النخل باسقات لها طلع نضيد؟ إن كلّ ذلك أنشأه الله ليكون رزقا للعباد ، وبكلمة صادعة يفجر السياق ينبوع المعرفة في القلوب الصافية ويقول : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) .. إنها تحرق حجب التعجب والاستبعاد ، أرأيت النواة كيف تختزل حياة شجرة باسقة حتى إذا أنزل الله عليها الماء وأمدها بوسائل النمو أصبحت شجرة باسقة كيف لا يمكن أن يفعل مثل ذلك بالإنسان بعد موته؟

ثم يصب حمم الغضب على الكاذبين لكي يزيل عامل اللامبالاة عند الكفار بالبعث ، والذي قادهم إلى التعجب ويذكرهم بمصير قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الايكة وقوم تبع كيف نزل بهم وعيد الله حين كذبوا الرسل.

ويستشهد بالخلق أول مرة الذي يهدينا متانة نظمه وتنوعه إلى اقتدار خالقه وأنه كان عليه يسيرا .. أفلا يدل على أنه قادر على الخلق الجديد.

وفي آيات متواصلات يزرع القرآن خشية الرب في نفس الإنسان ، لكي

٤٥٠

يتحسس بمسؤولية تجاه ما يتحدث به ، فيذكره بأنه خلقه ويعلم حتى ما توسوس به نفسه ، (بالرغم من ادعاءاته الكاذبة) لأنه أقرب اليه مما به حياته ظاهرا وهو حبل الوريد.

فحين يتلقى المتلقيان ـ ولعلهما الملكان أو المتحدثان أنى كانا ـ (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، وهو الى كل ذلك لا يملك دفاعا عن نفسه حين تهجم عليه سكرة الموت بالحق فلا يدفعه بالرغم من أنه كان يحاول أبدا الحيد عنها ، أما حين ينفخ في الصور فهو يوم الجزاء الذي وعد الله يومئذ يؤتى بكل نفس يسوقها السائق ويرافقه الشاهد .. ـ هذا ما كان يتعجب منه ظاهرا ، وانما كان غافلا عنه ـ بينما اليوم يراه مائلا أمام عينيه (فبصره حديد) أما قرينه (وهو الملك حسب بعض المفسرين) فيقول هذا (كتابه) لدي عتيد (قد حفظته منذ أيام حياته الأولى هنالك يأمر هما الله بالقائه في جهنم مع كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب ، وهكذا تحمل جزاء ريبه النابع من تهربه عن المسؤولية ، الذي جعل مع الله إلها آخر. أما قرينه ـ وهو هنا الشيطان الذي أغواه ـ فانه يتبرأ منه ويقول ربنا ليس أنا الذي جعلته يطغى ، محاولة منه للهروب من مسئولية إغوائه ، إلّا أن الرب يأمر بالقائه أيضا في جهنم ، ومسئولية أحدهما لا تنفي مسئولية صاحبه ، وما الله بظلام للعبيد ، وإن جهنم تسع المزيد من المجرمين ، فلا تظنن أن إلقاءك مسئولية غفلتك على الآخرين يبرئ ساحتك أو أن جهنم لا تسع إلّا هو أو أنت.

وفي جانب آخر نجد مشهد المتقين الذين تزدلف إليهم الجنة ويبشرون بها ، أو ليسوا قد وعدوا بها لما تميزوا به من التوبة والتقوى وخشية الرحمن بالغيب وإنابة القلب ، فاليوم يقال لهم أدخلوا الجنة بسلام خالدين فيها أبدا ، ولهم كل ما يشاءون من النعم فيها ، ويعطيهم الله من فضله المزيد.

٤٥١

ويبقى الغرور حاجزا آخر أمام الايمان ، ولكن ألّا يقرءون التاريخ ليروا كم أهلك الله من قبلهم من قرن كانوا أشد منهم بطشا وحاولوا الهرب من مصيرهم فلم يفلحوا؟ ولكن القلوب المريضة والأسماع الصم لا تستوعب هذه الحقائق. ولا يزال يقول الكافر : كيف يحيي الله الناس بعد موتهم؟ أفلا ينظرون كيف خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام بلا أي تعب.

وفي خاتمة السورة يأمر الله رسوله ـ ومن ثم المؤمنين ـ بالصبر على ما يقولون ، لكي لا يحرجوا به ، أو يتخذوا كلامهم مأخذ الجد ، وتسبيح الله صباح مساء ، وفي الليل وعند الأسحار وانتظار ذلك اليوم الذي ينادي المنادي من مكان قريب ، وينفخ في الصور ، وينادون للخروج. إنهم حين يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج .. هنالك حين يحيي الله الموتى ليرجعوا اليه ـ في ذلك اليوم ـ تتفتق عنهم الأرض سراعا ، ذلك حشر يسير على الله ، ودع كلامهم فالله أعلم بما يقولون ، ولست مسئولا عنهم ، تجبرهم. كلا .. ما أنت بجبار عليهم ، إنما أنت نذير تذكرهم بالوحي فذكر بالقرآن وسوف يستجيب من يخاف الوعيد.

٤٥٢

سورة ق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها

___________________

(٤) (ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) : ما تأكل من أجسادهم إذا ماتوا.

(٥) (مَرِيجٍ) : مضطرب ، ومختلط ، فتارة يقول أن الرسول (ص) شاعر ، ومرة ساحر ، ومرّة يعلمه بشر ، وذلك يدل على أنّهم لا يستندون إلى حجة.

(٦) (فُرُوجٍ) : فرجة خالية عن النظام.

٤٥٣

وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ

___________________

(٧) (بَهِيجٍ) : يبتهج به الإنسان ويفرح عند النظر إليه ، لحسنة وجماله.

(٩) (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) : هو حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير وغيرهما.

(١٠) (باسِقاتٍ) : طوالا.

(طَلْعٌ نَضِيدٌ) : منضود بعضه فوق بعض ، والطلع وعاء الثمر.

(١٢) (أَصْحابُ الرَّسِ) : الذين رسّوا نبيّهم في الأرض وأقبروه حيا.

٤٥٤

لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ

___________________

(١٤) (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : وهم قوم شعيب ، وقد كانت إلى جنبهم أيكة وهي الشجر المزدحم والملتف على بعضه.

(قَوْمُ تُبَّعٍ) : كان تبّع ملكا مؤمنا ، وقومه كافرين كانوا كثيري الأموال والقوى.

(١٥) (أَفَعَيِينا) : هل عجزنا.

(١٧) (حَبْلِ الْوَرِيدِ) : الوريدان هما العرقان المكتنفان بصفحتي العنق في مقدم العنق ، وإضافة الحبل إليه للبيان ، أي الحبل الذي هو وريد ، ولعل ذكر حبل الوريد لأنّه مربوط بالقلب والمخ فهو وسط بينهما ولا أقرب منه إلى الإنسان.

(١٨) (عَتِيدٌ) : مهيّأ حاضر لا يشتبه.

(١٩) (تَحِيدُ) : تهرب وتميل.

٤٥٥

يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)

٤٥٦

وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

هدى من الآيات :

في البداية يحدثنا الدرس الأول من السورة عن جانب من علاقة الناس بالقرآن المجيد الذي يضم في سوره آيات الوحي ، بينما يذكرنا شطره الآخر بآيات الله في الآفاق التي تهدينا هي الأخرى كما الوحي إلى المزيد من المعرفة بالحق ، وترفعنا إلى درجات الايمان. وفي الخاتمة نجد حديثا عن مستقبل الإنسان في الدنيا حيث تنتهي حياته بالرغم منه. وكيف انها سلسلة من المسؤوليات التي يحاسب عليها ، ويتكون جزاءه بحسب التزامه بها.

بينات من الآيات :

[١] (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)

(ق) من الكلمات الرمزية وقال البعض إن معناها : المجد أي الشأن العظيم ، وكتاب الله بما يشتمل عليه من الآيات والمناهج ، كفيل بأن يعطي لمن يتبعه العزة

٤٥٧

والكرامة ، ويرفعهم إلى قمم التقدم والكرامة ، لأنه منطلق ذلك كله. ولكن الكفار والمشركين أغفلوا هذه الحقيقة وتركوا ذلك المجد بسبب نفسياتهم وثقافتهم السلبية ، وساروا في نفق من التساؤلات والمواقف القشرية السخيفة التي أفقدتهم ذلك المجد.

والأمة الاسلامية إنما قصرت عن بلوغ الحضارة ، وتوقفت عن التقدم الذي بدأته في نهضتها الاولى ، بل وتراجعت أمام الأمم الاخرى بالرغم من امتلاكها لهذا الكتاب العظيم بسبب تعاملها الخاطئ معه ، فاذا به عند بعض المسلمين كتاب تفؤّل وتبرّك ، بينما انصرف البعض الآخر عن قيمه ومناهجه الحضارية إلى حروفه وما تشابه منه ، وهكذا هجروا كتاب الله ، فلم يبلغوا شيئا من المجد ، ليس لأن القرآن استنفذ أغراضه فلم يعد كتاب المجد ، وإنما لأنه لا يعطي ذلك إلّا لمن اتبعه بحق.

[٢] إن الكفار رفضوا مجد القرآن ، وأصروا على مسيرتهم المنحرفة ، لأن القرآن شيء جديد ، ولأن القائد الذي أمروا باتباعه بشر مثلهم ومن وسطهم. وهذا يدل على انهم لا يتبعون الحق وهدى العقل في حياتهم ، وإنما يتبعون الأهواء والمصالح. وحيث إن قيم القرآن وقيادة الرسول يتعارضان مع تلك الأهواء فهي عجيبة ومرفوضة عندهم.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ)

أي لم تكن له نظائر سابقة ليكون مألوفا عندهم ، فهو شيء عجيب ، والحال إن بلوغ المجد لا يمر عبر الشهوات ، بل يتطلب مخالفتها والتنازل عنها.

٤٥٨

[٣] لقد أثار تعجب الكفار إنذار القرآن بيوم القيامة .. قالوا كيف يجمع الله أعضاء الإنسان بعد الموت وتحولها إلى ذرأت في التراب؟ وأغرب من ذلك كيف تصير إنسانا سويا؟

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)

إنهم لا يؤمنون بإله قادر يدبر شؤون الخلق ، فعارضهم القرآن ، ولا يؤمنون بالمسؤولية في الحياة ، فجاءهم بخلاف هذه العقيدة ، فرفضوه لعدم ألفتهم به ، وما ذلك سوى منهج الجاهلين الذين يعادون ما لا يعلمون ولا يصدقون إلّا بما يألفون من حقائق ، بينما العلماء وأولو العقل يبحثون عن الحقائق ويقولون : نحن لا نحيط علما بكل شيء ، إذا دعنا نبحث بايجابية. فربما كان هذا واقعا ونحن لم نعرفه ، أو لم تكن هذه إلّا حقائق كنا نجهلها ثم عرفناها ولم نكن نألفها ثم ألفناها ، فلما ذا ننكر رأسا كل ما يقال لنا أليس ذلك من الغباء؟

وعموما التعجب من الجهل وقلة الوعي ، ومتابعته من الجهالة والحمق.

[٤] ولكن القرآن يعالج هذا التعجب ، ويبين قدرة الله على جمع أجزاء الإنسان وبعثه مرة اخرى بلى. قد يتحلل كيمياويا في التراب ، وتتبعثر عناصره ال (١٣٠) هنا وهناك في صورة ذرأت تنقلها الأيدي ، أو تذروها الرياح ، ولكنها تبقى معلومة عند الله عزّ وجلّ ، ومحفوظة في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ)

إذ تتحلل أوصالهم في ترابها.

(وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ)

٤٥٩

يسجل فيه كل شيء بدقة متناهية ، أو ليس الله هو الذي خلق الإنسان من بعد العدم؟ فكيف يعجز عن جمع أوصاله وبعثه بعد الموت؟ إنه يعلم كم أكل التراب من جسم هذا الإنسان؟ وما هي الذرة من التراب التي كانت سابقا جزءا من بدنه؟ وكيف تحللت منه؟ وحين مات كم كان يحتوي عليه جسمه من الحديد ، والأملاح ، والماء وسائر العناصر بنسبها ووزنها ومساحتها التي تشغلها ، وكم في كل عضو منها و.. و.. إلخ؟!

إن الإنسان ليتعجب لو نظر إلى صندوق يحوي ملايين القطع التي يتكون منها محرك الطائرات العسكرية ، أو جهاز معقد آخر ، وربما لا يصدق ان أحدا قادر على جمعها وتركيبها لتصير إلى ذلك مرة أخرى ، أما الخبير الذي اخترعها وصنعها فليس كذلك ، إنه ينظر للأمر على انه ممكن ، بل هو أمر يسير ، فكيف بالله الذي خلق الأشياء ، والذي كان أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون؟

[٥] إن مشكلة الكفار انهم لا يتبعون الحق ، بل لا يريدون اتباعه ، لهذا تراهم لا يفقهون هذه الحقائق ، ولا يثبتون على رأي واحد في الحياة لاتباعهم أهواءهم ، إذ الحق واحد وثابت في كل زمان ومكان بينما الهوى متغير.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)

والذي يؤكد هذه الفكرة موقفهم من الرسول (ص) ، فهم يسمونه ساحرا تارة ومجنونا أخرى ، وشاعرا ثالثة ، وأمينا وصادقا و.. و.. إلخ ، ولو أنهم اتبعوا الوحي لكان يعطيهم بصيرة وجوابا لكل سؤال ، حتى سؤالهم هذا عن البعث ، ولكنهم تركوه للهوى والمصالح فصاروا إلى الهرج والمرج ، ولعل هذا يفسر بروز النظريات المختلفة والمتناقضة في مختلف الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

٤٦٠