من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

فيقسّم طاقاته بعدالة بين حياته هنا وحياته الأبديّة هناك. أمّا إذا استكبر فانّه يشتري هوان العذاب في الآخرة ، ويقال لمثله :

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)

والفسق هو الخروج عن الحدود ، ممّا يدلّ على أنّ المستكبر بغير حق يتجاوز حدود الشرع ممّا يوجب له أليم العذاب.

الحياة بين الحكمة والمتعة :

إنّ حياتنا في هذه الدنيا ذات حكمة تنبسط على كلّ ممارستنا فيها ، ممّا يجعل لكلّ بعد منها هدفا محدّدا لو سعينا نحوه كانت الحياة شريفة. أمّا إذا فرّغنا أعمالنا من أهدافها ، ومارسناها لذاتها ، فإنّها تصبح متعة زائلة ، فمثلا : الطعام سبيلنا إلى القوّة فمن طعمه لشهوة الأكل (لا لبلوغ سلامة البدن وقوّته) كان ممّن أذهب طيباته ، والثياب وسيلة للستر والزينة فمن استهدف المفاخرة بها أذهب طيباته ، وهدف التعلّم العمل فمن تعلّم العلم للعلم دون أيّ هدف آخر ضلّ سبيله وأضلّ عمله ، وليس صحيحا أن نجعل الفنّ للفنّ ، إنّما لتوعية الناس ، وتحسيسهم بالحقائق ، وإثارة حوافز الخير فيهم ، ومن دون ذلك يصبح الفنّ هراء ، ويذهب بطيباتنا.

وحين يفقه الإنسان حكمة الحياة ومفرداتها يعتدل سلوكه فيها. يبصر الهدف من طعامه فيزهد فيما لا ينفع جسده ، ويعرف الهدف من ثيابه فلا يفاخر ولا يبذّر ، ويضع علمه في خدمة قيمة ، وإذا مارس الفنّ حقّق أهداف أمّته من ورائه.

ألا ترى كيف كان يعيش رسول الله والأئمة الصالحون من خلفائه عليهم جميعا

١٦١

صلوات الله.

روي في الحديث أنّ عمر ابن الخطّاب قال : استأذنت على رسول الله (ص) فدخلت عليه في شربة أمّ إبراهيم ، وإنّه لمضطجع على خصفة وإنّ بعضه على التراب ، وتحت رأسه وسادة محشوّة ليفا ، فسلّمت عليه ثمّ جلست فقلت : يا رسول الله أنت نبيّ الله وصفوته وخيرته من خلقه ، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟!! فقال رسول الله (ص) : «أولئك قوم عجّلت طيّباتهم ، وهي وشيكة الانقطاع ، وإنّما أخّرت لنا طيّباتنا» (١).

أمّا الإمام أمير المؤمنين فيقول عنه حفيده الإمام الباقر (عليهما السلام):

«والله ان كان علي يأكل أكلة العبد ، ويجلس جلسة العبد ، وإن كان يشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ثمّ يلبس الآخر ، فإذا أجاز أصابعه قطعه ، وإذا جاز كعبه حذفه ، ولقد ولّي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة ، ولا لبنة على لبنة ، ولا أورث بيضاء ولا حمراء ، وإن كان ليطعم الناس خبز البرّ واللحم ، وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخل ، وما ورد عليه أمران كلاهما لله عزّ وجل فيه رضا إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه ، ولقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه ، تربت منه يداه ، وعرق فيه وجهه ، وما أطاق عمله أحد من الناس ، وإن كان ليصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وإن كان أقرب الناس به شبها عليّ بن الحسين ما أطاق عمله أحد من الناس بعده» (٢)

وهكذا كان يربّي النبي أصحابه ، فقد ورد في الحديث أنّه (صلّى الله عليه وآله) دخل على أهل الصّفة وهم يرقّعون ثيابهم بالأدم (٣) ما يجدون لها رقاعا ، فقال :

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٥).

(٢) المصدر / ص (١٦).

(٣) الجلد المدبوغ.

١٦٢

«أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى ، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويستر بيته كما تستر الكعبة؟ قالوا : نحن يومئذ خير ، قال : بل أنتم اليوم خير» (١).

[٢١] عذاب الدنيا أهون من جهنّم ، ولكنّه شاهد عليها ، ولقد استمتع الكفّار بدنياهم ، وأذهبوا فيها طيباتهم ، فابتلوا بعذاب بئيس هنا قبل الآخرة. ألا يكفينا ذلك عبرة؟

هؤلاء قوم عاد ملأ قلوبهم حبّ الدنيا حتى حجبهم عن فهم حقائق الآخرة ، فإذا بهم يعرضون عن النذر بالرغم من بلاغ إنذارهم.

ويبدو أنّ السياق يضرب لنا من قصّة عاد مثلا على جملة البصائر التي تقدّمت في هذا الدرس ، والتي منها : تشبّث الإنسان بالتقاليد ، وتوغّله في شهوات الدنيا.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ)

دعنا نذكرهم لنتعظ بمصيرهم.

وكان هود من ذات القبيلة فكان إنذاره بليغا. أو ليس يتحدّث بلسانهم وحسب مستواهم العقلي؟ وبالإضافة إلى ذلك هو من أنفسهم يحبّ لهم الخير.

(إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ)

قالوا : الأحقاف هي الكثبان الرملية التي تتجمّع هنا وهناك.

وقالوا : إنّها كانت وسط الجزيرة العربية بين نجد والأحساء وحضرموت

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٥) / ص (١٧).

١٦٣

وعمان.

وقال بعضهم : كانت جنوب الجزيرة باتجاه اليمن أو في سواحل بحر العرب بين عمان وعدن ، وقيل أنّهم كانوا مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشّحر. (١)

ويبدو أنّ ذكر الأحقاف هنا للدلالة على أنّ الله أسبغ عليهم نعمة الماء والكلأ في موقع يندران فيه أي بين التلال الرملية المتحرّكة ، وكان عليهم أن يشكروا نعمة الله ، ويستجيبوا للنذر. أو لا يرون طبيعة الأرض من حولهم ، وكيف تكاد الرمال المتحرّكة تبتلع حضارتهم الهشّة ، ولكنّهم اغتروا ، وتجبروا ، واستكبروا في الأرض بغير الحق ، وفسقوا عن أمر ربهم فجاءتهم عاصفة رملية دمّرت حياتهم.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)

لعلّ المراد من هذه الكلمة : أنّ النذر توالت عليهم في فترات متعاقبة قبل بعثة هود ، فبعضهم كانوا قريبين من عصره «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» ، بينما كان بعضهم بعيدين من عصره «من خلفه» ، والله العالم.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)

هذه هي الرسالة بصورة مختصرة ، وهي تحتوي على سائر التعاليم ، فمن عبد الله وحده تعبّد بالشريعة التي أمر بها ، ومن عبد الله وحده كفر بالطاغوت وكلّ مستكبر وظالم ، ورفض التبعية ، ومن عبد الله وحده لم يسترسل مع شهوات الدنيا حتى الهلاك.

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

__________________

(١) راجع التفاسير وبالذات تفسير القرطبي / ج (١٦) ص (٢٠٤) وتفسير نمونه (بالفارسية) / ج (٢١) ـ ص (٣٥١).

١٦٤

[٢٢] أمّا عاد فقد تشبّثوا بالواقع الراهن رغم فساده ، لأنّهم زعموا أنّ مصالحهم تتعرّض للخطر لو آمنوا بربهم.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا)

وكأنّ آلهتهم التي كانت رمزا لقوى الظلم والاستكبار هي المقدّسات التي أراد هود أن يصرفهم إفكا عنها.

وربما يوحي الاستفهام بأنّهم لم يصدّقوا أنفسهم كيف يجرأ أحد على مقاومة تلك الآلهة ، لذلك تحدّوا هودا بكلّ صلافة قائلين :

(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

وهكذا الذي يركن إلى المادة يستبدّ به الغرور إلى درجة تراه يتحدّى من ينذره ، ويستعجل لنفسه العذاب.

[٢٣] وكعادة الكفّار بالغيب زعمت عاد أنّ هودا هو الذي ينزل عليهم العذاب ، وأنّ بيده أمره ، فنفى ذلك بصراحة :

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ)

وإنّما هو رسول يبلّغهم أمر الله.

(وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ)

وهذه مسئولية أصحاب الرسالة الأساسية ، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّه مجرّد ساعي بريد ، كلّا .. بل له بدوره كلام ينصحهم به ألّا يكذّبوا بالرسالة :

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)

١٦٥

ذلك أنّ تحدّي جبّار السموات والأرض ، واستعجال عذاب الإبادة والتدمير ، لا يكون إلّا عن جهل مطبق.

[٢٤] وها هي إرهاصات العذاب تلوح في الأفق. أرأيت الأعاصير الترابية كيف تبدو من بعيد؟ كأنّها سحابة سوداء ، وبما أنّهم قد منع عنهم الغيث لفترة حتى أجدبت أرضهم استبشروا خيرا بما رأوا ، وزعموا أنّه غيث يستقبل أوديتهم العطشى.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا)

ولعلّ تأخّر المطر عنهم كان بهدف إنذارهم عمليّا لعلهم يتضرّعون إلى ربّهم ، كما كانت بين يدي غرق فرعون وجنوده آيات تهدف إيقاظهم من سباتهم ، ولكنّهم أصرّوا على كفرهم ، فجاءهم النداء :

(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)

من العذاب.

(رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ)

[٢٥] إنّها عاصفة رملية مأمورة من عند الله بأن تدمّر كلّ شيء ممّا عند قوم عاد في الوقت المحدّد ، فهي إذا ليست هو جاء تمضي من دون أمر.

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها)

تتصل ظواهر الطبيعة بعمل الإنسان حتى لا تكون حادثة صغيرة أو كبيرة إلّا ولها علاقة بما يختلج في قلبه أو تكسبه يداه ، أو تبلو به سرائره وتختبر إرادته ، فحتى

١٦٦

الأمواج الهادرة التي تحيط بالسفن الشراعية وهي تمخر عباب البحر ليست بعيدة عمّا يجري في داخل السفينة. أرأيت كيف تتساقط أغشية الشرك عن أبصارهم فيهرعون إلى الدعاء لكي ينقذهم الله من ورطتهم ، كما يصف ربنا ذلك بقوله : «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ». (١)

بلى. إنّ هذه البصيرة تجعل الإنسان يزداد تحسّسا بالمسؤولية ، واتقاء للأخطاء ، وانضباطا في أعماله وأقواله ونيّاته ألّا تفسق عن الحدود التي رسمها له الله. أو ليس كلّ شيء يحدث بأمر ربّه؟ أو ليس الله حكيما لا يقضي بشيء من دون استحقاق؟ إذا دعنا نكن حذرين ، نتورّع عن ما يغضب الرب ، ونعتبر بمصير الغابرين.

إنّ الجهل والعناد والجحود لا تنفعنا شيئا ، بل هي مسئولة عن وقوع أكثر الناس في المهالك. إنّهم يزعمون أنّ الطبيعة عمياء تصيب ضحاياها بلا قانون! كلّا .. إنها مأمورة ، وربّها الذي يدبّرها عليم حكيم.

وها قد نزلت الكارثة بقوم عاد بأمر الله ، واجتاحت العاصفة ديارهم ودمّرتهم.

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ)

ودليل أنّ الريح كانت مأمورة أنّها لم تأخذ إلّا المجرمين منهم.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)

__________________

(١) يونس / (٢٢ ـ ٢٣).

١٦٧

فهي سنّة عامة لا تخصّ عادا وحدهم ، فأيّ قوم مجرمين لا بد أن يحيق بهم عملهم يوما.

أمّا هود والمؤمنون معه فقد أنجاهم الله. قالوا : إنّهم اعتزلوا في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه إلّا ما يلين أعلى ثيابهم ، وتلتذ الأنفس به ، بينما كانت تمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا. (١)

وقد جاء في التاريخ : أنّ الخليفة العباسي المهدي أمر بحفر بئر بقرب قبر العبادي (وهو حسب قول الحموي : منزل في طريق مكة من القادسية إلى العذيب) لعطش الحاج هناك ، فحفروا أكثر من مأة قامة ، فبينما هم يحفرون إذ خرقوا خرقا وإذا تحته هواء لا يدرى قعره ، وهو مظلم ، وللريح فيه دويّ ، فأدلوا رجلين فلما خرجا تغيّرت ألوانهما فقالا : رأينا هواء واسعا ، ورأينا بيوتا قائمة ، ورجالا ونساء ، وإبلا وبقرا وغنما ، وكلّما مسنا شيئا رأيناه هباء ، فسألنا الفقهاء عن ذلك فلم يدر أحد ما هو ، فقدم أبو الحسن موسى بن جعفر ـ عليه السّلام ـ على المهدي فسأله عن ذلك فقال : «هؤلاء أصحاب الأحقاف وهم بقية من قوم عاد ، ساخت بهم منازلهم» وذكر على مثل قول الرجلين. (٢)

__________________

(١) تفسير القرطبي / ج (١٦) ـ ص (٢٠٧).

(٢) تفسير نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٨) نقلا عن الخرائج والجرائح.

١٦٨

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ

١٦٩

ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

___________________

(٣١) (يُجِرْكُمْ) : أي يحفظكم.

١٧٠

فاصبر كما صبر أولو العزم

هدى من الآيات :

يستمر السياق في الحديث عن سنّة الله في الخليقة التي تتجسد في بعث الأنبياء ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ كلّما انحرف الناس عن المسيرة ، وإنذارهم بمصيرهم المرتقب ، ويشير إلى القرى التي أنذر أهلها بالأنبياء ، وأنزل لهم الكتب لعلّهم يهتدون ، ولكنّهم بدل أن يعبدوا الله ويعتمدوا عليه إذا بهم يعبدون الأنداد من دونه ، فلم يغنوا عنهم ـ ساعة الانتقام ـ شيئا.

ويقصّ علينا ربّنا في هذا السياق كيف صرف إلى الرسول نفرا من الجن يستمعون القرآن فلمّا آمنوا به ولّوا إلى قومهم منذرين ، ولعلّ سبب ذكر هذه القصة في هذا السياق أنّ الكفّار كانوا يزعمون بأنّ الجن أنصاف آلهة ، وأنّهم يدفعون عنهم الضراء. أو لم يقل ربّنا سبحانه : «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ» ، فجاءت هذه القصة لبيان حاجة الجن أيضا إلى الرسالة.

١٧١

بينات من الآيات :

[٢٦] عند ما يفرّ الجاحد ـ لآيات الله ـ من مسئولية الاعتراف بالحق ، والتسليم له ، يلجأ ـ في زعمه ـ إلى ركن الغرور بالقوّة والعلم ، ويعتقد أن ما يملكه من أموال ، ومن كيد ، ومن مكر تغنيه شيئا عند ما يحدق به خطر الدمار ، بسبب كفره بالله ورسالته.

كلا .. إن مصير الغابرين من عاد ، وثمود ، وفرعون وهامان وجنودهما ، وغيرهم يكفينا عبرة بأن قدراتنا المادية والعلمية إن هي إلّا غرور.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)

قال المبرّد : «ما» في قوله : «فيما» بمنزلة (الذي) و «إن» بمنزلة (ما) والتقدير : ولقد مكّناهم في الذي ما مكناكم فيه ، والمعنى : أنّهم كانوا أقوى منكم ، وأكثر منكم أموالا (١) وكذا في قوله تعالى : «كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ»

وهكذا كانت الإمكانات التي سخّرت لهم أكثر مما سخرت لقريش ، وربما لكلّ قوم يتلون الكتاب من بعدهم.

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً)

وبما أنّهم كانوا مزوّدين بهذه الأجهزة زعموا بأنها تنقذهم من عذاب الله. ذلك أن الإنسان يهلك إذا كان ضعيفا ، أو جاهلا ، أو غافلا ، ولم يكن أولئك القوم كذلك ، ومع ذلك اهلكوا عند ما أراد الله.

__________________

(١) يمرط : ينزع.

١٧٢

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ)

وانما ينتفع الإنسان بهذه الجوارح إذا كان مؤمنا بآيات الله ، أمّا إذا كفر بها فإنه سوف يخطأ المنهج السليم للانتفاع بها .. أرأيت الذي يملك أفضل وسيلة سير ثم يخطأ السبيل فهل تنفعه وسيلته لبلوغ غايته إذا كانت وجهة سيره خاطئة؟! كذلك الذي لا يؤمن بالحقائق الكبرى ثم لا يستفيد من معرفته بالحقائق الجزئية التي تقع في اطارها ويكون مثله كالذي لا يعترف أنّ عدوّه يمتلك قنبلة نوويّة ، ثم يجدّ في معرفة عدد دبابات العدو .. انه سيخسر المعركة قطعا حتى إذا عرف كلّ حقيقة في سلاح المدرعات عند العدو.

هكذا من لا يعتقد بقوّة الله التي أرسلت على قوم عاد تلك العاصفة الهوجاء ، التي دمّرت كلّ شيء بإذن ربّها ، أو التي أخذت فرعون وجنوده ونبذتهم في اليمّ نبذا. إن مثل هذا الرجل لن ينتفع شيئا بمعرفته مثلا بأصول الهندسة ، أو كيفيّة تنظيم الجيش ، لأن كل ذلك وضع في مواجهة أخطار بسيطة ، أما مقاومة تغيير طبيعي هائل فانه فوق قدراتنا المنظورة .. تماما كالذي يجهد نفسه في بناء خندق عميق في مواجهة سلاح ذريّ .. إنه مغرور لأن الخندق انما أنشئ لمواجهة سلاح تقليديّ وليس سلاحا ذرّيّا.

وهكذا السمع والأبصار والأفئدة انما هي أدوات لمواجهة أخطار عاديّة ، ولا تنفع الذي يخالف إرادة الله شيئا.

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

من الحقائق الكبيرة التي جحدوها ، وسخروا منها. انها نزلت بهم كالصاعقة ، وتنزل بمن يسير في خطهم الباطل.

١٧٣

[٢٧] لا تزال على الطبيعة من حولنا آثار تنطق بسنن الله في التاريخ ، فهذه القرى من حولنا قد أهلكت بفعل ضلالتهم عن الحق. ولكن هل أهلكوا فجأة ومن دون نذر؟ كلّا ..

وكانت قريش تمرّ على قرى مدين وثمود عند رحلتهم صيفا نحو الشمال ، وعلى قرى الأحقاف عند رحلتهم شتاء نحو الجنوب ، وجاء القرآن يبصّرهم بعبر تلك القرى الخاوية على عروشها ، وتلك الآبار المعطّلة ، وآثار القصور المشيدة.

وهكذا يستنطق كتاب الله حوادث التاريخ وآثار الغابرين ، ويجعلها تحكي للإنسانية عبر أسلافهم لعلّهم يسعدون بتجاربهم.

( لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى)

وفي أيّ بلد كنت طف على القرى الغابرة من حولك. قف على أطلالها ، واستنطق آثار الأوّلين ، وسائلهم : لماذا أهلكوا ، فاستوعب عبر حياتهم قبل أن تكون عبرة لمن يعقل من بعدك ، ذلك أنّ البلاد جميعا لا تخلو من آثار الغابرين الذين كتبوا عليها دروسا لم يتعلّموها من أحد ، ولو تعلّموا بعضها إذا ما أهلكوا.

(وَصَرَّفْنَا الْآياتِ)

لنا كما لأولئك الغابرين ، فلم تدمّر حياتهم بلا سابق إنذار ، وكانت النذر تترى عليهم بهدف صرف العذاب عنهم إذا اتبعوا النذر وعادوا إلى الرشد.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

ونستوحي من كلمة «يَرْجِعُونَ» أنّهم كانوا مستبصرين في أوّل حياتهم ، ماضين على الفطرة الأولى ، فلمّا انحرفوا أنذروا بالعذاب لعلّهم يرجعون إلى فطرتهم

١٧٤

الأولى.

[٢٨] فلما ذا تولّوا عن النذر ، ولم يستجيبوا لداعي الله ، ولماذا لم يعتبروا بمصير من سبقهم؟

لأنّهم اتخذوا من دون الله قربانا آلهة فزعموا أنّهم ينصرونهم من عذاب الله ، ولكن هيهات.

وهكذا يزعم الإنسان أنّ بمقدوره التمسك بذيل من يزعم أنّهم مقرّبون إلى الله ، من آبائه أو عظماء قومه لينجونه من مصيره ، وهكذا يخدع نفسه ويظل في غروره حتى يأتيه العذاب فيكتشف متأخّرا أنّه كان في ضلال بعيد ، وأنّهم لا يستطيعون نصره أبدا.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً)

وكما أنّهم لم يقدروا على نصرهم في الدنيا من الدمار فإنّهم لا ينصرونهم في الآخرة من عذاب النار.

(بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ)

لقد ضلّت الآلهة عنهم فلم يجدوا لها أثرا عند نزول العذاب ، شأنهم شأن كلّ دجل وخداع ترى له صورا ، وتسمع جلبة ، وتستقبل وعودا في الرخاء ، أمّا عند الشدة فهي تتلاشى كما يتلاشى السراب عند ما تقترب منه.

ولكن من المسؤول : الآلهة التي طالما وعدت أنصارها بالنصر ثم ضلّت عنهم عند ما دقّت ساعة الانتقام ، أم أولئك الذين خدعوا بهم؟ لا ريب أنّ الذين قبلوا الانسياق مع ضلالات الآلهة هم المسؤولون ، لأنّ الآلهة من دون الأنصار لا تعني

١٧٥

شيئا. أرأيت لو لم يعبد أحد صنما هل يختلف الصنم عن أيّة حجارة أخرى؟ أو رأيت إن لم يتبع الناس الطغاة هل هم يتميّزون شيئا عن غيرهم؟

إذا المسؤول أوّلا الإنسان الذي يصنع الإفك ، ويفتري على الله.

(وَذلِكَ إِفْكُهُمْ)

قالوا : الإفك الكذب ، وكذلك الأفيكة ، والجمع الأفائك ، وإفك الجماعة كان يتمثّل في تقديس الآلهة والإعتقاد بقوّتهم.

(وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)

ولعلّ المراد من ذلك الأنظمة الفاسدة التي كانت تترتب على هذا الإفك ، والتي كانوا يفترونها على الله كذبا.

وهكذا تكون الحالة الشركية والفساد العريض الذي يؤدي إليه نتيجة ثقافة الضلالة ، وفساد الأخلاق والأنظمة والعادات ، ويزعم البسطاء أنّ الكيان السياسي الفاسد والنظام الاقتصادي والاجتماعي المنحرفين قادرين على المحافظة على مصالحهم ، ولكنّهم يصطدمون فجأة بالواقع المرير الذي يفرزه هذا الإفك الكبير حين لا ينفعهم الندم.

وقد نستلهم من الآية أنّ الأصنام التي كانت تعبد من دون الله ، وكذلك الطغاة والمترفين الذين كانوا يسيطرون على مقدّرات الناس ، إنّما هم جميعا صورة مجسّدة لمجمل ضلالة المجتمع وانحرافه.

[٢٩] ومن الناس من يتخذ الجن آلهة من دون الله ، ويأفك القداسة لهم ، فلا ينتفع بعبر الغابرين اتكالا عليهم ، وقد يستعيذ بهم من دون الله ، ويزعم أنّهم

١٧٦

يمنعونه عن سيئات عمله ، ويغنون عنه من الله شيئا.

كلّا .. الجن كالإنس خلق برأهم الله ، وهم بحاجة إلى الرسالة ، وانّ الرسل الذين يبعثون إلينا هم النذر المرسلون إليهم أيضا .. وإذ يحدّثنا السياق هنا عن قصة استماع الجن للقرآن وإيمان نفر منهم ثم انصرافهم الى قومهم منذرين فإنّه يصحّح بذلك تلك الصورة المشوّهة عنهم في أذهان كثير من الناس حيث يزعمون بأنّ الجن مصدر كلّ شر وخبث ، كلّا .. بل منهم المؤمنون الذين يحملون رسالات الله إلى قومهم.

ويبدو من خطاب القرآن إليهم في آيات عديدة أنّهم مكلّفون به ، وأنّهم متعايشون معه ، ولكنّنا حتى الآن محجوبون عنهم ، كما يظهر أنّهم مجزيّون على إيمانهم وأعمالهم كما الإنس سواء بسواء ، فلا يجوز أن يستعيذ بهم الإنس لأنّهم يزيدونهم رهقا.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ)

أي ألهمنا نفرا من الجن الحضور عندك ، أو حملناهم على المرور بك من دون تقدير منهم.

(يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)

قالوا : في أثناء عودة الرسول (ص) من سوق عكاظ نزل بمكان يقال له : مجنّة ، نسبة إلى الجنّ ، فبات فيه ، وكان من عادته (ص) انه يبيت لربه ساجدا قائما ، يتلو أجزاء القرآن يرتّلها ترتيلا ، وبينما كان يتلو القرآن مرّ به نفر من الجن قالوا كانوا من أهل نصيبين ، فإذا بهم يسمعون ذكرا عجبا.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا)

١٧٧

دعونا نستمع لهذا الذكر!

وقد ذكر المفسرون هنا قصة رحلة النبي (ص) إلى الطائف التي التقى في العودة منها بالجن ، وهي رحلة حافلة بالدروس والعبر ، بالذات فيما يتصل بالصبر والاستقامة اللذين أمرنا بهما في نهاية السورة ، ولهذا نجد من المفيد بيان أبعاد هذه الرحلة الجهادية العظيمة.

قال المفسرون (ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم): لمّا مات أبو طالب خرج النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة ، فقصد عبد يا ليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة بنو عمرو بن عمير ـ وعندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فدعاهم إلى الإيمان ، وسألهم أن ينصروه على قومه ، فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر : ما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث : والله لا أكلّمك كلمة أبدا ، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام ، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلّمك. ثمّ أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به ، حتى اجتمع عليه الناس والجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، فقال للجمحية : «ماذا لقينا من أحمائك»؟ ثم قال : «اللهمّ إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربّي ، لمن تكلني! إلى عبد يتجهّمني ، أو إلى عدوّ ملّكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوّة إلّا بك» ، فرحمه ابنا ربيعة ، وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عدّاس : خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل ، فلمّا وضعه بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال النبي

١٧٨

(صلّى الله عليه وسلّم) : «باسم الله» ثمّ أكل ، فنظر عدّاس إلى وجهه ثم قال : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): «من أيّ البلاد أنت يا عدّاس وما دينك»؟ قال : أنا نصراني من أهل نينوى ، فقال له النبي (صلّى الله عليه وسلّم) : «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى»؟ قال : وما يدريك ما يونس ابن متّى؟ قال : «ذاك أخي كان نبيّا وأنا نبي» فانكبّ عدّاس حتى قبّل رأس النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ويديه ورجليه ، فقال له ابنا ربيعة : لم فعلت هكذا؟! فقال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا ، أخبرني بأمر ما يعلمه إلّا نبي. ثم انصرف النبي (صلّى الله عليه وسلّم) حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين ، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانوا يسترقون السمع ، فلمّا حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس : إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض ، فبعث سراياه ليعرف الخبر ، أوّلهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة ، فلمّا بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي (صلّى الله عليه وسلّم) يصلّي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن ، فاستمعوا له وقالوا : أنصتوا. (١)

(فَلَمَّا قُضِيَ)

حين انتهى الرسول من قراءته ..

(وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)

__________________

(١) تفسير القرطبي / ج (١٦) ـ ص (٢١٠ ـ ٢١١). وما نقله القرطبي قد يتعارض مع ظاهر الآيات التالية. من أن إبليس قد بعث بسراياه ليعرفوا ما الخبر من حراسة السماء. لأنهم أولا : وكما أكدت الآيات التالية انهم مؤمنون بموسى (ع). وهذا يتناسب والآية (١٠) من ايمان بعض علماء بني إسرائيل بالنبي (ص) ، وثانيا : هذه الحادثة (أي إرسال إبليس لسراياه ليعلموا ما الخبر) ذكرها المفسرون في بعثة النبي (ص) وبعض ذكرها في مولده الشريف (ص).

١٧٩

يبدو أنّهم كانوا ذاهبين إلى مهمّة مّا ، ولكنّهم حينما استمعوا إلى القرآن عادوا دون أن يقوموا بمهمتهم ، لكي ينذروا قومهم.

[٣٠] وفيما يلي من الآيات نصّ الإنذار الذي حمله الجنّ إلى قومهم :

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى)

قالوا : إنّ الرسالة الحقيقة من بعد رسالة إبراهيم (ع) كانت رسالة الله إلى عبده وكليمه موسى (ع) ، وأمّا الإنجيل فقد كان تكميلا للتوراة ، كما قال الله عن لسان عيسى (ع) : «وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» (١) ، واستمرّت رسالة موسى إلى أن بعث الله نبيّنا الأكرم (ص) ، وخلال هذه الفترة ـ بين الرسالتين ـ بعث الله أنبياء ولكن ضمن رسالة موسى (ع).

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)

إنّ وحدة القيم والمبادئ والتعاليم والمناهج والشرائع في الرسالات الربّانية شاهد صدق على أنّها من عند الله الواحد ، ولو لا ذلك كيف تتناغم هذه المنظومة المتكاملة من المعارف والأنظمة عبر العصور المختلفة والبلاد المتفاوتة والرجال المتباعدين عن بعضهم في أكثر الأبعاد المادية؟

وهكذا اهتدى الجن إلى صدق الرسول من خلال النظر العميق في رسالته وأنّها تنسجم مع جوهر رسالات الله السابقة ، فهي صادقة كما أنّ ما سبقتها كانت صادقة.

ويا ليت شعري كيف كان يكفر بالقرآن من آمن حقّا بالتوراة ، والقرآن هو

__________________

(١) آل عمران / (٥٠).

١٨٠