من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

أخرى ، ولذلك فانّ الذي يتحمّل الجزاء ليس الفرد في غالب الأحيان وإنّما المجتمع بأكمله.

وعند ما يبيّن القرآن حكمة الجزاء يضرب لنا مثلا من واقع المجتمعات الغابرة التي جزيت بأفعالها على الرغم من قوتها وكيدها ، وهذا الجانب من التاريخ البشري يعكس هدفية الحياة وعقلانيتها.

إنّ الذي يعمل شيئا لا يستطيع الهروب من الجزاء ، فهو إن لم يلحقه عاجلا فسوف يلقاه آجلا ، وفي دعاء كميل نقرأ تعبيرا عن هذه الحقيقة عند قول الامام علي (ع): «ولا يمكن الفرار من حكومتك» (١).

ومن فكرة الجزاء نهتدي إلى أنّ الدنيا دار ابتلاء ، وأنّه لا بد من دار أخرى للجزاء ، ذلك أنّنا نجد البعض يموتون دون أن يلقوا جزاءهم في هذه الحياة ، أو يلقونه بأقلّ ممّا يستحقّون .. فهل كان جزاء هتلر الذي جرّ العالم إلى الحرب التي أدّت إلى مقتل أكثر من (٦٠) مليون إنسان أن يموت انتحارا؟ وهل جزاء شمر الذي أدخل الحزن على قلوب الملايين عبر التاريخ بقتل سيّد شباب أهل الجنة أن يقتل قصاصا وحسب؟! كلا .. إنّ لهم جزاء أكبر من ذلك في دار أخرى يلقى فيها الجميع جزاءهم الواقعي.

إنّ منهج طرح القرآن للموضوعات المختلفة منهج حكيم للغاية ، فهو من جهة يحدّثنا عن جزاء المجتمعات السابقة ، ومن جهة يحدّثنا عن هدفية الخلق ، ثم يذكّرنا بيوم القيامة ، وهذه الموضوعات الثلاثة حينما تتفاعل عبر النظرة الواحدة للحياة تنسجم مع بعضها ، وتصير صورة واحدة متكاملة ، فربّنا عاقب الأمم الغابرة مّما يهدينا إلى أنّه خلق الخلق لغاية لو زاغوا عنها عوقبوا بشدّة ، ويهدينا بالتالي إلى

__________________

(١) مفاتيح الجنان / دعاء كميل

٤١

أنّه سوف يجازي الأفراد في الآخرة الجزاء الأوفى.

ولكن لماذا لا يضرب لنا القرآن أمثالا من حياة الأفراد ، كفرعون الذي أغرق في النهر ، أو قارون الذي خسف به وبداره الأرض ، أو إذا تكلّم عنهم بمفردهم كان الحديث إشارة وحسب؟

والجواب : إنّ النظر إلى جزاء أمّة سيكون أجدى من النظر إلى جزاء فرد واحد ، لأن جزاء الأفراد قد يفسر بالصدفة ، ولكن جزاء الأمم وبتلك الصور المتميّزة دليل على حكمة الباري ، وأنّه المدبّر للخليقة.

بينات من الآيات :

[٣٠ ـ ٣١] بنو إسرائيل مثل حي لجزاء الأمم على أفعالهم خيرا أو شرا ، والقرآن ذكر هذا المثل لأنّ حياة بني إسرائيل تشبه إلى حد بعيد مسيرة الأمة الاسلامية من حيث أنّهم كانوا أمة مؤمنة بنو حضارة رسالية ثم انحرفوا كما هو حال المسلمين ، وإذا فضّلهم الله على علم على العالمين فانّ هذه النعمة ليست من قبيل الرزق الذي يهبه الله بلا سعي ، وإنّما هي من قبيل الكسب ، وبنو إسرائيل بلغوا هذه الدرجة السامية بعملهم لا بعنصرهم ، وهذا بدوره يؤكّد عقلانية العالم ، والحكمة الالهية التي يقوم عليها ، وبالتالي يؤكد وجود الجزاء في الآخرة.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ* مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)

وأي اهانة أعظم من أن يسلب الإنسان حريته ، ويصير عبدا للطغاة ، يسحقونه لتعلو مكانتهم ، ويسلبونه لكي يبذّروا ويسرفوا؟!

إنّ فرعون هو الآخر لقي جزاءه العادل في الدنيا لضلاله وانحرافه ، فهو من جهة

٤٢

كانت علاقته مع الناس العلوّ والاستكبار ، وكانت علاقته مع الطبيعة علاقة التبذير والإسراف.

وكلمة «عاليا» لا تدل هنا على العلو في الإسراف ، وإنّما العلو على الناس ، وربّنا عزّ وجلّ يبيّن ذلك في آية أخرى حين يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً» (١).

أي الذين لا تكون علاقتهم مع الآخرين الاستكبار والتعالي ، ولا مع الطبيعة الفساد ، وهكذا يفسّر القرآن بعضه بعضا.

[٣٢] أمّا النعم الالهية الأخرى على بني إسرائيل بعد النجاة من حكم الطاغوت ، فهي تفضيلهم على سائر الأمم ، واختيار الله لهم حملة لرسالته ، لا لشيء فيهم سوى أنّهم تجاوزوا الفتنة الكبرى في الحياة ، وأثبتوا جدارتهم ـ بالسعي ـ لهذه المنزلة.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ)

بجدارتهم ، وتميّزهم بايمانهم وصالح أعمالهم.

(عَلَى الْعالَمِينَ)

إذن فعلينا وعلى الأمم التي تنشد التقدم أن لا تسعى للاستعلاء في الدنيا ، فلكي نحقّق هذه الغاية علينا أن نوفّر عوامل الحضارة في أنفسنا ، كالتزكية ، والتعاون ، والتعوّد على الخشونة ، والمثابرة في العمل ، والصبر ، والاستقامة على الحق ، وعندها سوف يوفّقنا الله ، ويفضّلنا على غيرنا ، وسنتقدم ، ومعنى العالمين

__________________

(١) القصص / ٨٣

٤٣

ـ حسب المفسرين ـ الناس المعاصرين لهم ، إذ أنّ الله فضّل المسلمين على غيرهم حين امتثلوا أحكام الله فقال : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ» (١)

[٣٣] وتفضيل الله لأمة من الناس على غيرهم لا يعني أنّهم يبقون الأفضل للأبد ، أو أنّهم يبعدون عن دائرة الامتحان والابتلاء ، كلّا .. فربّنا أعطى بني إسرائيل آيات القدرة والعلم والفضيلة ، ورزقهم النصر على عدوّهم ، وواتر عليهم أنبياءه ورسله ، ولكن هذه النعمة كانت تحمل في طيّاتها ألوانا من الامتحان.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)

الابتلاء سنّة ثابتة في الحياة لا يغيّرها شيء ، بلى. قد ينتقل الإنسان الفرد أو المجتمع من حال العسر إلى حال اليسر ، ولكنّه يبقى معرّضا للامتحان في الحالين سواء ، فاذا كان القهر والعذاب الذي حلّ ببني إسرائيل بلاء بالسيئة ، فانّ الاغراءات التي تنطوي عليها سائر النعم التي أعطيت لهم بعد النصر كانت بلاء بالحسنة ، وقد قال ربّنا سبحانه : «وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (٢).

وهذا النوع من الابتلاء قد يكون أعطم خطورة على الإنسان من الأوّل ، وقد رأينا في تاريخ البشرية كيف أنّ الكثير من الناس يصمدون أمام الإرهاب والتعذيب ، ويتحدّون الطاغوت بصلابة واستقامة ، ولكنّهم ينهارون أمام الإغراء ، ولذلك يجب على الإنسان أن يحذر النعم كحذره من النقم وأشدّ من ذلك ، ولن يفلح في حياته إلّا إذا جعل حقيقة البلاء أمامه في كلّ حال ، وقد قال أمير المؤمنين

__________________

(١) آل عمران / ١١٠

(٢) الأعراف / ١٦٨

٤٤

عليه السّلام : «اتقوا سكرات النعمة ، واحذروا بوائق النقمة» (١) ، وقال : «أيّها الناس ليركم الله من النعمة وجلين ، كما يراكم من النقمة فرقين» (٢).

[٣٤ ـ ٣٥] وبعد هذه الأفكار التمهيدية ينتهي السياق إلى البصيرة الأم في الدرس ليؤكد العدالة والجزاء ، ويستنكر مزاعم لكفّار والمشركين بأنّ الدنيا هي آخر المطاف.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ)

لأنهم لا يدرسون التاريخ ، ولا ينظرون إلى الحياة نظرة موضوعية ، وإلّا لاهتدوا الى حكمتها ، وأنّها قائمة على أساس العدل ، مّما يؤكّد وجود الدار الآخرة ، والموتة الأولى هي الوفاة التي زعموا أنّها النهاية فلا نشأة بعدها ولا حياة ، كما قالوا : «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (٣).

[٣٦] وإذ أنكروا البعث والنشور حاولوا تبرير هذا الاعتقاد بطلب ، قالوا :

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

ولو أنّ الله يحيي آباءهم ما كان ذلك يجعلهم يؤمنون ، لأنّهم يتشبّثون بهذه الفكرة تبريرا لكفرهم ، ولو بطلت نظريّا أو عمليّا لبحثوا لهم عن تبرير آخر للإصرار على الضلالة.

[٣٧] لذلك فانّ القرآن لا يجازيهم ، وهل يغيّر ربّنا سنّته في الكون للاجابة على

__________________

(١) نهج البلاغة / خطبة ١٥١

(٢) نهج البلاغة / حكمة ٣٥٨

(٣) الأنعام / ٢٩

٤٥

تساؤل تافه للمشركين؟ كلّا .. وإنّما يوجّه أنظارهم إلى الآيات الكفيلة بهداية من يريد إلى الايمان بالبعث ، وذلك باثارتهم نحو التفكير في سنّة الجزاء الحاكمة في الكون من خلال دراسة شواهدها في التاريخ ، فهؤلاء قوم تبّع ومن يسبقهم من الأقوام لقوا جزاءهم حينما اختاروا سبيل الضلال والجريمة.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)

وتبّع أحد ملوك اليمن الصالحين ، اقتفى آثار أحد الأولياء ، وتبعه في مسيرته ، وفي الأخبار نهي عن لعنه ، فعن النبي (ص) أنّه قال : «لا تسبّوا تبّعا فانّه كان قد أسلم» (١) وإنّما الذين أجرموا قومه فأخذهم الله بالعذاب ، وحيث يندرج هذا الجزاء في سنّة الهيّة كونيّة فانّ العذاب قد ينال كلّ بشر إذا انتحل الاجرام.

[٣٨ ـ ٣٩] وسنّة الجزاء ليست أمرا شاذّا عن طبيعة الحياة ، إنّما هي نابعة من صميم الخلق ، ذلك أنّ الله خلق السموات والأرض لغاية سامية ، الأمر الذي يقتضي الجزاء ويحتمه.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ)

إنّما خلق الله كلّ شيء لهدف محدد ، مهما كان ذلك الشيء صغيرا وتافها في نظر الإنسان ، وقد تقرّر في علم الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء) أنّ كلّ شيء في الإنسان يؤدّي دورا معيّنا ، ولا يكون الإنسان كاملا إلّا به ، حتى الشعرة الواحدة ، بل حتى جزء الخلية المتناهية في الصغر ، فهل يعقل إذن أن يكون ربّنا قد خلق الإنسان بأكمله عبثا؟! كلّا .. إنّ له هدفا في الحياة ، وهو مسئول عن كلّ شيء

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٦٢٩

٤٦

أمام ربّه ، ولكن هذه الحقيقة الواضحة تبقى غامضة لدى الجاهلين والضالين.

(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ)

وسيلة وغاية.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

وعدم علمهم ليس لأنهم لا يرون الآيات الهادية إلى هذه الحقيقة ، وإنّما لأنّ هذه الآيات لا تتحول في ضمائرهم وأذهانهم إلى بصيرة ، ذلك أنّ نظرتهم إلى الحياة نظرة قشرية مجرّدة ، وإنّما الذين ينظرون إليها ببصيرة الايمان يهتدون إلى لبابها الحق.

[٤٠ ـ ٤٢] وحيث ميّز الله الإنسان عن سائر خلقه بالعقل ، وكرّمه بالحرّية ، فهو مسئول أمامه عن العمل وفق الغاية التي خلق من أجلها ، فان تحمّل مسئوليته نعمه في الجنة ، وإن نكص عنها عذّبه في النار.

ومع أنّه تعالى جعل سنّة الجزاء جارية في الحياة الدنيا ، إلّا أنّها أكثر تجليّا في الآخرة ، حيث تنصب الموازين ، ويفصل بين الصالحين والأشرار.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ)

وهذا اليوم ضرورة حتمية تقتضيها عدالة الله ، وإذ يسمّيه ربنا «يوم الفصل» فلأنّه اليوم الذي يحكم فيه الحق بعيدا عن التبريرات أو التأجيل ، فهو يوم حاسم في حياة كلّ إنسان ، ويعتبر فيصلا يتقرّر فيه مصيره الأبدي.

وإذا أعطى ربّنا الحرية الكاملة للإنسان في اختيار الحق دون أن تستطيع أيّة

٤٧

قدرة سواه تعالى إكراه باتجاه معاكس لما يريد ، كان من أبرز معاني الفصل أن يتحمّل المسؤولية شخصيا حتى يكون يومئذ مفصولا عن سائر الناس.

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)

بلى. قد يضغط من حول الإنسان عليه باتجاه معيّن ، ولكنّ الموقف الحاسم يبقى رهن إرادته وحده ، ولكي يتجنّب التأثر بالضغوط السلبية صوب الباطل يجب عليه أن يلقي نظرة إلى الآخرة ، حيث يخذله الجميع وينفصلون عن نصرته ، بل لا يجدون الى ذلك سبيلا ، ويقف هو وحده بعمله.

ثم إنّ السياق القرآني ينعطف بعد هذا التخويف ليثير فينا الأمل والرجاء ، حينما يذكّرنا برحمة الله إلى جانب عزّته ، فبعزّته جعل سنة الجزاء ، وبرحمته جعل الشفاعة والمغفرة لهذا الإنسان الضعيف ، فقد استثنى من بين سائر الناس الذين تتقطّع بهم الوشائج ، ويرتهنون بأعمالهم السيئة ، وأولئك الذين تشملهم رحمته عزّ وجل فقال :

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ)

فهداه إلى الايمان ، ووفّقه للعمل الصالح في الدنيا ، وغفر له ذنوبه ، وشفّع فيه أولياءه في الآخرة ، فانّه تغني عنه شفاعة الصالحين ، وينصره الله على العقبات.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

قال الشحّام : قال لي أبو عبد الله (ع) ونحن في الطريق في ليلة الجمعة : اقرأ فانّها ليلة الجمعة قرآنا ، فقرأت : «(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) (الى قوله) (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ)» فقال أبو عبد الله (ع) : «نحن والله الذين استثنى الله فكنّا نغني عنهم» (١).

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٤ ص ٦٢٩

٤٨

[٤٣ ـ ٤٦] وكنتيجة لحكم الله في يوم الفصل يحدّثنا القرآن عن صورتين متناقضتين ، وهما صورة أصحاب النار الذين يعانون ألوان العذاب ، وصورة أهل الجنة الذين يتقلّبون في نعيمها.

أمّا عن النار فانّ من أشدّ أنواع العذاب فيها شجرة تنبت في أصلها ، ويمتدّ منها غصن لكلّ شخص فيها ، اسمها الزقوم ، وهي تجسيد لذنوب أهلها وآثامهم. (١)

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ)

وحيث يشعر أهل الجحيم بشدة الجوع يبحثون عن الأكل ، فيجدونه في هذه الشجرة ، ولا يجدون بدّا من التقامه ، وبمجرّد أن يصل إلى جوفهم يصير كالرصاص والصفر المذاب تنشوي منه وجوههم حتى تسقط أشفار عيونهم ، وتتقطّع منه مصرانهم حتى يتقيّحون دما ، وربّنا يشبّه لنا الزقّوم بالمهل لتقريب المعنى إلى أذهاننا المحدودة ، وإلّا فهي أشدّ وأعظم من ذلك.

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ* كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)

والحميم هو الماء الحار جدّا ، وحيث يصل المعدن كالرصاص أو النحاس إلى حد من الغليان يصير فيه كالماء فانّ حرارته لا تطاق.

[٤٧] ولون آخر من العذاب يتجرّعه المجرمون حينما يأمر الله زبانية النار بسحبهم إلى وسطها وإهانتهم.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ)

والاعتال هو السحب بغلظة وإيذاء ، وإن كان المعني من ظاهر الآية أبو جهل إذ

__________________

(١) راجع تفسيرنا للآية (٦٥) الصافات

٤٩

جاءت الصيغة بالمفرد ، إلّا أنّها تشمل كلّ مجرم ، وصيغة المفرد بيان للخذلان الذي يلقاه أهل النار من أقرانهم وسادتهم في الدنيا حيث لا ناصر ولا معين لهم فيها.

[٤٨ ـ ٤٩] وبعد سحب كلّ واحد منهم إلى سواء الجحيم ، يأمر الله ملائكة العذاب باهانته ماديّا ، بصبّ العذاب على رأسه ، وهو أكرم موضع لدى الإنسان ، ومعنويّا بالكلمات الجارحة ، وهذا جزاء الاستكبار في الدنيا على الحقّ والمؤمنين.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ)

وحيث الدلالة في «من» تنصرف للتبعيض ، تدلّ الآية على أنّ العذاب لا يصبّ مرة واحدة ، وإنّما مرات ومرات بلا انقطاع ، مبالغة في الإيذاء ، وهل ينتهي الأمر إلى هذا الحد وحسب؟ كلّا .. إنّما يهان بالكلام أيضا فيقال له :

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)

وروي في جوامع الجامع أنّ أبا جهل قال لرسول الله (ص) : ما بين جبليها أعزّ ولا أكرم منّي. (١)

وفي تفسير علي بن إبراهيم قال : أنّ ذلك ردّ على أبي جهل ، وذلك أنّ أبا جهل كان يقول : أنا العزيز الكريم وفيعير بذلك في النار. (٢)

وقال بعض المفسرين : إن ذلك إهانة واستهزاء إلى جانب العذاب المادي ، وهو نظير لاكرام الله المؤمنين في الجنة بالسلام عليهم إضافة لنعيمها ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» (٣) ، وهذا تفسير صائب ، ولكن يبدو لي تفسير آخر للآية وهو أن الله لم يخلق الإنسان ليلاقي

__________________

(١ ، ٢) نور الثقلين / ج ٤ ص ٦٣٠

(٣) الزمر / ٧٣

٥٠

هذا المصير السيء ، وإنما خلقه ليرحمه فيعيش كريما معززا ، ولكنه اختار هذا المصير ، واشتراه بعمله السيء ، إذ لم يستطع الاستقامة على الفطرة والصبر على الحق ، والآية جاءت تذكيرا لهذه الحقيقة.

[٥٠] أمّا عن السبب الذي يوصل الإنسان إلى الذلّ بعد العزة ، وإلى الهوان بعد الكرامة ، فهو شكّه في الجزاء ، لأنّ الشك فيه يجعله يعيش بعيدا عن المسؤولية والرقابة تجاه سلوكه وأعماله.

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)

أي تشكون والشك أعدى أعداء الايمان ، لأنّه ينتهي إلى الكفر والجحود ، ويعطّل طاقات الإنسان وقدراته أن يوجّها في صناعة المستقبل الأبدي ، فهو إنّما يلتزم بالحق ، ويضحّي من أجله بكلّ شيء ، عند إيمانه بأنّ هذه التضحيات سوف ترد عليه في الآخرة في صورة الثواب ، فكيف يضحّي إذا شك في الجزاء؟

وقد حذّر الامام علي (ع) من خطر الشك فقال : «لا تجعلوا علمكم جهلا ، ويقينكم شكّا ، إذا علمتم فاعملوا ، وإذا أيقنتم فأقدموا» (١) ، ومشكلة أكثر الناس أنّهم يعلمون الحق ويؤمنون به ، ولكنّه لا يتحوّل في حياتهم إلى منهاج عمل ، لجبنهم وفرارهم من تحمّل المسؤولية ، فاذا بهم يشكّكون أنفسهم.

إنّ على الإنسان أن لا يشك بأنّ هواجس الشيطان تحيط به من كلّ جانب ، بل ويستعد لمواجهتها ، بخوف العاقبة السوء ، وعزيمة الايمان.

[٥١ ـ ٥٣] وفي مقابل هذه الصورة يبيّن لنا القرآن الحكيم نعيم المتقين وكرامتهم عند الله ، وتختلف نعم الآخرة عن الأخرى الدنيوية. إنّها خاصة بالمتقين ، وهم

__________________

(١) نهج البلاغة / حكمة ٢٧٤

٥١

الذين يحفظون أنفسهم عن المحرّمات ، ويؤلمون أنفسهم بترك الهوى ، وبالصبر على المصائب وألوان الأذى في الله ، وأخيرا بالاستقامة على الحق حتى الموت ، ذلك أنّ طريق الجنة محفوف بالصعاب والمكاره ، يقول الامام علي (ع) وهو يوبّخ الذين يريدون الجنة بلا ثمن : «أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدمه ، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنته ، ولا تنال مرضاته إلّا بطاعته» (١).

نعم. إنّ الإنسان لا يستطيع بلوغ طموحاته اليومية ، بالتمنيات والأحلام ، فكيف يبلغ بها الجنة وهي اسمى الطموحات ، وأعلى الأهداف؟! ثم إنّ الإنسان يحقّق طموحاته في الدنيا بالسعي ، بينما لا يكفي السعي وحده لدخول الجنة ، إنّما لا بد من العمل الصالح الذي يخلص صاحبه فيه نيته ، إذ لا يتقبّل الله إلّا من المتقين ، والكثير من الناس يصلّون ويصومون ويحجّون وينفقون ولكن عبثا ، ولا يبلغون بذلك جنات الخلد ، لأنّها ليست خالصة لله ، وكيف ترفع الصلاة المحاطة بالشرك والسهو؟! وكيف يتقبّل الصيام رياء وسمعة؟! وكيف يكون سعي الحاج مشكورا وحجّه مبرورا وهو يخضع للطاغوت؟! «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (٢) وفي الأخبار أنّ العبادة أو الشعيرة التي يمارسها صاحبها لغير وجه الله تصير يوم القيامة حجرا تصك بها جبهته.

ونتساءل : من هو المتقي إذن؟

إنّ المتقي هو الذي يتحوّل فعل الخير في حياته إلى سلوك مستمر ، أمّا الذي يفعل الخير إذا حقّق مصالحه وأهواءه ، وأمّا إذا محّص بالبلاء تركه ، فانّه ليس بمتقي .. وربّنا وعد المتقين وحدهم بالمقام الأمين عند ما قال :

__________________

(١) المصدر / خطبة ١٢٩

(٢) المائدة / ٢٧

٥٢

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ)

والأمن والسلام من أهمّ الحاجات النفسية للبشر ، ولا يبلغ غاية الاطمئنان في الدنيا والآخرة إلّا المتقون ، ذلك انه لا يحصل إلّا بذكر الله عزّ وجل ، وباتباع منهاجه في الحياة ، فقد أسّس الله الكون على الحق والعدالة ، ومن يتبع المنهج الربّاني وحده يستطيع العيش مطمئنا وفي مقام أمين من المكاره.

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ)

تلك الأجسام النضرة الناعمة تميس في الجنان الخضرة بين العيون الرقراقة ، وعليها ثياب الزينة من سندس (حرير ناعم لطيف) ومن إستبرق (حرير ضخم يتلألأ) وتراهم يتقابلون في مجالس الأنس لا يشوب صفاء قلوبهم حقد أو حسد أو غل أو كبر ، فهم إخوان متحابّون كما كانوا في الدنيا ترفرف على رؤوسهم رحمات الله وبركاته ، ونعم أجر العاملين.

[٥٤] ويستمر القرآن في بيان جزاء المتقين فيقول :

(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)

وكذلك تكتمل نعم الجنة بالزواج من نساء جميلات يتجلّى جمالهن في العيون الواسعة الحوراء ، ولعل صيغة الماضي في الزواج تدلّ على أنّ الله زوّج الحور العين لأوليائه بعلمه في الدنيا ، بما قاموا به من عمل ، بلى. لكلّ زواج مهر ، ومهرزيجات الجنة الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا.

[٥٥] ومن نعيم الجنة أن يجد أهلها ما يطلبون دون أدنى تعب.

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ)

٥٣

بعكس الدنيا تماما حيث لا بد للإنسان فيها من السعي لكي يصل إلى رغباته ، والتنازل عن شيء للظفر بشيء آخر ، وصدق أمير المؤمنين (ع) حيث قال : «أيها الناس! إنّما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ، مع كل جرعة شرق ، وفي كلّ أكلة غصص! لا تنالوا منها نعمة إلّا بفراق أخرى ، ولا يعمّر معمّر منكم يوما إلّا بهدم آخر من أجله ، ولا تجدّد له زيادة في أكله إلّا بنفاد ما قبلها من رزقه ، ولا يحيا له أثر إلّا مات له أثر ، ولا يتجدّد له جديد إلّا بعد أن يخلق له جديد ، ولا تقوم له نابتة إلّا وتسقط منه محصودة» (١). أمّا في الجنة فالمتقون آمنون من كلّ هذه العيوب والنواقص.

[٥٦] (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى)

التي ذاقوها في الدنيا ، وهذه الآية اشارة لنعمة الخلود ، وهي من أعظم النعم والغايات التي يتمنّاها البشر.

وإلى جانب هذه المنّة يذكّرنا ربنا بنعمة عظيمة أخرى ، وهي الوقاية من النار ، والتي يعدّها القرآن في موضع آخر فوزا عظيما ، حيث يقول عزّ وجل : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (٢).

(وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)

تلتقي كلمة «المتقين» مع تعبير «وقاهم» في نقطة هامة ، وهي أنّ التقوى التي كانت تحجز هؤلاء عن ارتكاب المعصية في الحياة الدنيا ، هي التي تكون واقية لهم من العذاب في الآخرة.

__________________

(١) نهج البلاغة / خ ١٤٥

(٢) آل عمران / ١٨٥

٥٤

[٥٧] ومع ذلك يؤكّد ربنا بأن هذا الجزاء ليس نتيجة التزام الإنسان برسالة الله وتعاليمه ، لأنّ ذلك واجب طبيعي عليه فطرة وعقلا ، فهو خالقه ورازقه ومالكه الذي يهب له الحياة لحظة بلحظة ، ويأتي هذا التأكيد والتذكير ليعين المتقين على مواجهة الغرور والعجب.

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

وبدون هذا الفضل الإلهي لا يفوز بشر أبدا ، ولا ينجو من العذاب ، وفي الحديث القدسي قال عزّ من قائل : «فلا يتّكل العاملون على أعمالهم التي يعملونها ، فانّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم وأعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين ما يطلبون من كرامتي ، والنعيم في جناتي ، ورفيع درجاتي في جواري ، ولكن رحمتي فليبغوا ، والفضل منّي فليرجوا ، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا ، فانّ رحمتي عند ذلك تدركهم ، وهي تبلّغهم رضواني ومغفرتي ، وألبسهم عفوي ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم» (١) ، وحتى الأنبياء والأولياء إنّما يدخلون الجنة بفضل الله ، وحتّى أعمالهم الصالحة ، إنّما هي فضل من الله عليهم. أو لم يقل ربّنا مخاطبا سيد البشر محمد بن عبدالله (ص) : «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» (٢).

[٥٨] وقبل أن يختم ربنا سورة الدخان يصف كتابه الكريم ، وهو المنهاج الذي يبلغ بالإنسان درجة التقوى ثم الجنة ، وبالتالي هو فضل الله الذي ينجي به من النار إذا ما استذكر به واتبع آياته الميسّرة.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

__________________

(١) بح / ج ٧٢ ـ ص ٣٢٢

(٢) الإسراء / ٨٧

٥٥

هكذا يلخّص ربنا هدف كتابه في التذكرة ، لأنّه بما فيه من مواعظ ومعارف إنّما جاء ليذّكر الإنسان بعهده مع ربّه. أوليس أعدى أعداء البشر في الحياة الغفلة؟ بلى. وما وظيفة الأنبياء والرسل ـ عليهم السلام ـ سوى تبليغ هذه التذكرة وبيانها للناس .. ولو لا أنّ الله سبحانه قد يسّر القرآن لم يكن البشر يعقلون حرفا منه ، كيف وهو يذكّرنا بالغيب المحجوب علمه عنّا ، بتلك السنن الثابتة لحقائق الخلق ، بصفات الرب ، بأشراط الساعة ، بما في الحياة الآخرة التي قد تبعد عنّا ملايين السنين ، وفي الحديث المأثور عن الامام الصادق (عليه السلام): «لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفّظ بحرف من القرآن ، وأنّى لهم ذلك وهو كلام من لم يزل ولا يزال» (١).

وقد نستوحي من هذه الآية بصيرتين :

١ ـ إنّ الله جعل القرآن عربيّا بلغة الرسول وقومه تيسيرا لفهمه ، وبالتالي التذكّر به. أو رأيت لو كان القرآن بلغة أخرى هل كان يفهمه العرب بيسر وسهولة؟ ثم هل كانوا يتعظون به؟ كلّا .. ومن هنا فانّ المنهاج الأفضل لتيسير فهم القرآن للمسلمين غير العرب ليس ترجمته ، وإنّما تعليمهم لغة القرآن نفسه.

٢ ـ إنّ للرسول دورا هامّا في بيان القرآن ، وتقريب الأذهان الى معانيه التي لا تتيسّر إلّا بكلامه (ص) ، ومن هنا فانّ أي منهج يبتعد عن السنة (أحاديث الرسول وأئمة الهدى) في فهمه وتدبّره لمعاني الوحي سوف ينتهي الى تفسيرات وتأويلات خاطئة أو قاصرة. أو لم يضلّ الكثير ممّن حاولوا فهم القرآن من خلال الفلسفات البشرية في متاهات خطيرة.

[٥٩] وكالكثير من السور يختتم الباري عزّ وجل هذه السورة ، بإنذار مبطّن

__________________

(١) تفسير نمونه / ج ٢١ ص ٢١٩ نقلا عن تفسير روح البيان / ج ٨ ص ٤٣٣

٥٦

لأولئك الذين لا يستجيبون لدعوته ، ولا يتذكّرون بآياته ، بأنّ تأخير الجزاء ينسجم وطبيعة الحياة الدنيا حيث إنّها دار امتحان وبلاء ، فهو لا يعني بأنّ الله يهملهم ، بل العذاب آت ولا بدّ من ارتقابه.

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)

ارتقب نصر الله ، وليرتقبوا خذلانه ، ارتقب بعملك الصالح جزاء الله الحسن ، وليرتقبوا بسيئاتهم الانتقام ، بلى. إنّ الزمن في مصلحة الحق وأهله ، ولا يمرّ ردح منه إلّا ويقرّب أهل الباطل من العذاب.

٥٧
٥٨

سورة الجاثية

٥٩
٦٠