من هدى القرآن - ج ١٣

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٣

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-16-5
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٧

شديد خالد ، ومن بشارة بنعيم عظيم دائم ، الاهتمام بها وبامكانية وقوعها حتى ولو كان بنسبة ضئيلة جدا؟! كيف وأن نسبة احتمالها مرتفعة حتى عند الجاحدين بها لتواتر الأدلة عليها؟!

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ)

فكم تكون خسارة البشر عظيمة عند ما يكفر برسالة ربّه ، ويتحدّى خالقه ورازقه ومن إليه مصيره؟!

إنّ هذا التساؤل يهزّنا من الأعماق ، ويجعلنا نبدأ مسيرة الشك المنهجي فيما نسترسل فيه من الأفكار والقناعات.

وحتى بالنسبة إلى المؤمنين برسالات الله ينبغي أن يكسروا حالة الجمود الفكري ، ويتساءلوا في أنفسهم : كم هي عظيمة رسالات ربّهم ، وكم حظهم عاثر لو استخفّوا بها أو لم ينفّذوا كلّ تعاليمها؟ حقّا : إنّه يسقط عنا ـ نحن المؤمنين ـ حجاب العادة التي تمنع إيماننا من التسامي ، كما يسقط عن الآخرين حجاب الاستكبار الذي يمنعهم عن رؤية شواهد صدق الرسالة ، فتراهم ـ مثلا ـ يغفلون عن شهادة العلماء بصدق الرسالة ، ولا يسألون أنفسهم : كيف أسلم علماء بني إسرائيل للرسالة الجديدة ، كأمثال عبد الله بن سلام الذي كان معروفا عندهم بالصدق والنزاهة.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ)

بالرغم من مخالفة الايمان ظاهرا لمصلحته. أليس يفقد مكانته عند قومه كقائد ، ويصبح جنديّا في جيش الإسلام؟

١٤١

(وَاسْتَكْبَرْتُمْ)

عن الحق ، فلم تؤمنوا به بالرغم من البينات التي تواترت على صدقه.

بلى إنّ الحجاب الكبير الذي يحجز نور الايمان عن قلوبهم هو استكبارهم في الأرض ، وظلمهم للناس. أو ليس الظلم ظلاما دامسا؟

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

[١١] ما الذي يمنع الظالمين من الايمان بالرسالة؟ إنّه استكبارهم على الناس ، واعتقادهم بتميّزهم عنهم ، حتى لو سبق طائفة منهم إلى الايمان بالرسالة كفروا بها ترفّعا عن التساوي معهم ، وقالوا : كيف نسمح لأنفسنا أن نكون عند الناس من اللاحقين ، بينما يسبقنا إلى الرسالة من هم أدنى منّا؟ إذا دعنا نكفر بها خشية العار!

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)

لقد كانت القبائل العربية في الجاهلية شديدة الخلاف بينها ، تتعالى على بعضها ، ولا ترضى أن تعترف بأيّة فضيلة لبعضها ، فاذا آمنت قبيلة كفرت المنافسة لها حتى لا تسجّل لخصمها نقطة عليها.

مثلا كانت قبيلة غفار البدوية تستصغر من قبل قريش ، وتسمّيها الحلفاء استهانة بها ، فلمّا أسلم أبو ذر الغفاري وأسلمت معه قبيلته قالت قريش : غفار الحلفاء!! لو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه. (١)

__________________

(١) قال ابن المتوكل أنّ الآية نزلت فيهم (تفسير القرطبي ج ١٦ ص ١٨٩).

١٤٢

وهكذا كفرت بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع ، وقالوا لمن أسلم من غفار وجهينة ومزينة وخزاعة : لو كان ما جاء به محمّد خيرا ما سبقنا إليه رعاة البقر البهم إذ نحن أعز منهم. (١)

كما أنّ اليهود الدين استوطنوا الجزيرة العربية بزعم انتظارهم للنبي الموعود فيها كفروا بالنبي بعد إيمان العرب به ، وقالوا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ).

كما أنّ قريشا كفرت بالرسالة حين رأت مبادرة الموالي من أمثال بلال وصهيب وعمّار إليها. إنهم كانوا يبحثون عن دين يقوّي نفوذهم في الطبقات الدنيا لا أن يساويهم بها.

وهكذا اليوم نجد الدعوات الصلاحية التي يستجيب لها المحرومون والمستضعفون تلقى الصدّ من قبل المترفين والمستكبرين ، بدعوى أنّنا أعرف منهم وأعلى مقاما فلا يجوز أن نعترف بحقوقهم أو بميزتهم علينا في السبق إليها. أو ليس السابقون هم المقرّبون؟!

كما أنّ بعض السفهاء يخالفون الحق ويمنعون عن أنفسهم خيراته لمجرّد أن منافسيهم سبقوهم إلى الايمان به. إنّ ذلك من بقايا العصبيات الجاهلية التي تمنع نور الهدى.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)

بسبب عصبياتهم وظلمهم واستكبارهم فانّهم يبحثون عن تبرير لجحودهم يقنعون به الضعفاء منهم ، بل ويريحون نفوسهم التي تلومهم أبدا على ترك الحق ، فتراهم يتهمون الرسالة بالإفك.

__________________

(١) قال الكلبي والزّجاج وحكي عن ابن عباس ان الآية نزلت فيهم (المصدر ص ١٩٠).

١٤٣

(فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ)

وهكذا يتسافل الجاهل في دركات الكفر ابتداء من ظلمه للناس واستكباره عليهم ، ومرورا بالتشبّث بدليل ضعيف أنّه لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، وانتهاء بوضع نظرية معادية واتهام الرسالة بأنّها إفك قديم ، كما قالوا بأنّها أساطير الأوّلين.

[١٢] كلّا .. إنّها رسالة الله الواحدة التي تشهد حقائق التاريخ بصدقها ، وأعظم ما يصدّقها أنّ بعضها مصدّق البعض.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً)

فهو برنامج للاقتداء ، ورحمة لمن اقتدى به.

(وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا)

فهو ليس إفكا قديما كما زعموا ، بل صدق شهدت أحداث التاريخ على نفعه العام للانسانية. أفلا ترون كيف كان كتاب الله النازل على موسى لبني إسرائيل ، أنقذهم من الضلالة والاستضعاف والحرمان حين طبّقوه؟

(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)

فالطغاة والمستكبرون والمترفون الذين ظلموا الناس لا يمكنهم اتخاذ القرآن وسيلة لاستثمار الآخرين كما تهواه أنفسهم ، بل جاء الكتاب لانذراهم ولانقاذ المحرومين من ظلمهم.

(وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ)

١٤٤

من أيّة طبقة كانت ، فاذا آب أولئك إلى رشدهم وتابوا وأحسنوا فان لهم البشرى كما للمحرومين.

[١٣] التوحيد هو عبادة الله أبدا ، وعدم التسليم للآلهة المزعومة التي تعبد من دون الله باسم السلطة السياسية أو النظام الاقتصادي أو الضغوط الاجتماعية ، وإنّما يتبين توحيد الإنسان عند ما يتعرّض لإرهاب السلطة وترغيب الثروة ومقاطعة المجتمع إذا استقام على الدين ، والكتاب بشرى للمحسنين الذين يتحدّون كلّ تلك الصعاب.

ولعلّ سياق الآية يدلّ على ضرورة الاستقامة أمام البدع الجديدة التي تخلقها القوى المتسلطة ، وتتهم الرسالة بأنّها إفك قديم سعيا وراء تغيير بعض بنودها الذي يخالف مصالحها ، كلّا .. لا بد من الاستقامة على أحكام الدين بلا تحريف أو تأويل أو نقص أو زيادة.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

[١٤] بالرغم من إرهاب الطغاة فانّه لا خوف عليهم ، لأنّ العاقبة لهم ، وغدا حين ينتصر الحق لا يحزنون على ما فاتهم من الخيرات.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

وحين يدخلون الجنة يعلمون أنّ الثمن الذي قدّموه لها كان زهيدا نسبة بما حصلوا عليه من ثواب الله العظيم.

ونستوحي من كلمة «جزاء» هنا أنّ الجنّة لا تعطى بالتمنّيات ، إنّما هي ثمن الاستقامة والصبر والتحدّي.

١٤٥

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ

١٤٦

لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)

___________________

(٢٤) (عارِضٌ مُمْطِرُنا) : أي شيئا كالسحاب ذي المطر عرض في أفق السماء.

١٤٧

ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا

هدى من الآيات :

لكي ينظّم الإنسان علاقة سليمة مع والدية والجيل السابق لا بدّ أن يختار الرشد الذي يدعونه إليه ، ويترك الغي ، امّا التمرّد الذي يحدو إليه النزق ، والذي يدفع بعض الأبناء إلى اتّهام آبائهم بالرجعية ، والافتراء على الدين الذي يدعون اليه بأنّه من أساطير الأوّلين ، فانّه سفه وطيش لا يقل سوء عن تقديس الآباء وتقليد عاداتهم ، وردّ الدعاة الى الإصلاح.

في هذا الدرس يوصينا الرب بالإحسان إلى الوالدين الذي هو عنوان العلاقة السلمية ، حيث أنّه الطريق القويم بين التقليد الأعمى والتمرّد الطائش.

كما يذكّرنا بأنّ عاقبة الطيش والتمرّد النزق على الآباء هي الخسران.

بينما نقرأ في الدرس التالي قصة الذين اتبعوا آباءهم الضّالين ، ولم يستجيبوا لداعي الله هود الذي أمرهم بالإصلاح ، فكانت عاقبتهم الدمار.

١٤٨

وتعتبر العلاقة السليمة مع الآباء سمة إيمانية ، كما أنّ العلاقة الشاذّة عقبة كأداء في طريق الايمان.

بينات من الآيات :

[١٥] بما تتميّز الوصيّة عن الحكم؟ ولماذا نجد في القرآن التعبير بالوصيّة حينا وبالحكم حينا؟ لعلّ الوصية تتصل بالقيم التي هي محتوى الأحكام ، بينما يعبّر عن النظام ، والذي هو منهج تطبيق القيم ، فاذا كان التعبير بالحكم فلا بد من الالتزام بحدوده وحروفه وتفاصيله بدقّة وصرامة ، بينما إذا جاء التعبير بالوصية فلا بد من الالتزام بالقيم بأيّة طريقة ممكنة ، وبالمنهج الذي يراه العرف مناسبا.

وحين يأمر ربّنا بالعدل فانّ التعبير يأتي بصيغة الأمر : «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» ، ذلك لأنّ العدالة قيمة تتحقق بالأحكام المفصّلة ، والنظام الشامل ، أمّا إذا كان الحديث عن الإحسان فانّه يأتي بصيغة الوصية ، لأنّ الإحسان يتحدّد بالعرف وحسب ظروف كلّ شخص ومنهجه.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً)

لا بدّ أن يهتم الإنسان ـ أيّ إنسان ـ بوالديه أنّى كانا اهتماما يبلغ درجة الإحسان ، وهي فوق أداء حقوقهم القانونية.

ويختلف الأمر بالإحسان عن الأمر بالطاعة اختلافا كبيرا ، ذلك أنّ الإحسان ينبعث من اليد العليا ، بدافع الاحساس بالاستقلال والقدرة ، وصاحبه يقدّر متى وكيف وبأيّ قدر يمارسه ، بينما الطاعة حالة التسليم والخضوع وفقدان الاستقلال وحسب الأمر الموجّه إليه دون أن يكون لصاحبه الحق في تقدير أيّ أمر منه.

ولم يأمر الإسلام بطاعة الوالدين بل بالإحسان إليهما ، لأنّ الطاعة لله وللرسول

١٤٩

ولأولي الأمر ، ولا يستطيع الوالدان أن يحرّما حلالا أو يحلّلا حراما ، بل أمر بالإحسان إليهما ، وقد يتجلّى الإحسان في قبول أمر هما فيما لا يخالف الشرع والعقل ، ويكون فيه فائدة عائدة إليهما.

والدليل الذي يبيّنه السياق للوصية بالإحسان إلى الوالدين يعمّ المؤمنين والكافرين ، البرّين والفاجرين ، حيث يعزي السياق ذلك إلى الجهود الكبيرة التي بذلاها في سبيل تنشئة الولد.

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً)

فمنذ الساعات الاولى من الحمل يمتص الجنين طاقات الأم ممّا يعرّضها للارهاق والأخطار ، وكلّما تقدّم بها الحمل كلّما زادت الصعوبات الجسدية ، كما تزيد عندها المخاوف والهموم.

(وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)

وقد تكون الولادة عسرة ممّا تجعل الأم تقول : يا ليتني متّ قبل هذا اليوم وكنت نسيا منسيّا.

ثم أنّ ذلك لا يتمّ عبر فترة بسيطة ، بل يمتدّ أشهرا عديدة ، ممّا يجعل دين الأم عظيما في ذمّة الولد.

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)

فخلال تسعمائة يوم تقريبا تنشغل الأمّ بوليدها. أفلا ينبغي للولد بعد أن يشتد عوده وتخور طاقات أمّه أن يحسن إليها؟

بلى. وهذا من ديدن الرجل الصالح الذي قد تستمرّ رعاية الوالدين إليه حتى

١٥٠

يبلغ أشدّه ، بل ويبلغ أربعين سنة وتكتمل رجولته.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ)

ومتى يبلغ الإنسان أشدّه ، هل عند ما يصل إلى سنّ البلوغ الشرعي الذي هو عند الفتى كمال سن الخمسة عشر أو الاحتلام ، وعند الفتاة كمال التاسعة من عمرها ، أم عند ما يبلغ سنّ الرشد الذي قيل أنّه بلوغ الثامنة عشر؟

قال البعض : إنّ الإنسان لا يبلغ أشدّه إلّا عند سنّ الأربعين ، بيد أنّ الأقرب الى ظاهر الآية هو بيان نوعين من البلوغ : الأوّل : البلوغ الأوّلي الذي يجعل الفرد مستعدّا لدخول الحياة ، الثاني : البلوغ الأتمّ الذي يحدث عند سنّ الأربعين حيث يكتمل نموّ خلايا المخ ، وتتراكم تجارب الحياة ، ويكون الإنسان في قمّة عمره حيث ينحدر من بعدها شيئا فشيئا إلى نهايته ، ومن هنا جاء في الحديث أنّ الشيطان يمسح يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، ويقول : بأبي وجه لا يفلح.

ويؤيد ذلك أنّ الإنسان يمثّل في العقد الأربعين من عمره دور الولد الذي أكمل الوالدان دورهما في نموّه وتطوّره ، كما يمثّل الوالد الذي ذاق ـ بدوره ـ الصعوبات التي تحمّلها والداه في أمره فعرف قدرهما ، ووعي قدر النعم التي أسبغها الله عليه. فطفق يشكر الله شكرا جزيلا ، ولكنّه كلّما ازداد وعيا بالحياة ومشاكلها كلّما عرف عجزه عن أداء شكر الله فأخذ يدعو الله أن يوفّقه لشكر هما بفضله ، لأنّ منبعث الشكر الرؤية الايجابية إلى الحياة ، وهي تطلق قدرات الإنسان من عقال اليأس والتشاؤم والسلبية ، وتزرع في قلبه حبّ السعي ، وروح النشاط ، وهمّة التقدّم ، والتطلّع إلى الأهداف السامية.

١٥١

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ)

ونستوحي من الآية مقياسين لصلاح العمل : المقياس الذاتي الذي يتمثّل في فائدة العمل وصحته بحكم العقل والعرف ، والمقياس الشرعي الذي يتمثّل في مرضاة الله التي نعرفها بالقيم الدينية .. والمؤمن يتطّلع لتحقيق العمل الصالح في ذاته الذي يقرّ به شرعا إلى الله ، وهو بالطبع ليس كلّ عمل صالح ، بل الذي يقع ضمن استراتيجية الرسالة ، فمثلا : تعبيد الطرق عمل صالح ، إلّا أنّه قد لا يكون مرضيّا عند الله ، كما لو ابتغى الفرد منه علوّا في الأرض أو فسادا ، كذلك حين يكون هذا الفعل الصالح معارضا لعمل أوّلي كالدفاع عن الوطن أو مقاومة الطاغية.

وهكذا يدعو الإنسان السويّ ربّه التوفيق للقيام بعمل صالح مرضي عنده وليس كلّ عمل صالح ، كما يدعو إلى أن يكون امتداده في الحياة وذريّته من الصالحين. لقد سهر الآباء لتربية هذا الجيل على الفضيلة والتقوى ، وأنفقوا في سبيل إنشاء المدارس والمعاهد ، وتوفير الثقافة الحكمية ، وبناء الجوامع ومراكز التوعية والتوجيه ، وقد أثمرت جهودهم في بناء هذا الجيل الصالح. أفلا نسعى نحن في سبيل بناء الجيل الصاعد على ذات الأسس الصالحة؟ بلى. إنّ ذلك هو الشكر العملي على نعمة الصلاح التي أسبغها علينا الرب.

وأصلح لي في ذرّيّتي

إنّ صلاح الذريّة يكرّس مكاسب هذا الجيل الحضارية ، ويبقى لهم الذكر الحسن ، ويكون بمثابة صدقة جارية تغدق عليهم الثواب وهم مستريحون في أجداثهم ، ولعلّه لهذه الأسباب جاء التعبير القرآني «لي» ، بلى. إنّ فائدة صلاح الذريّة لي قبل غيري.

إنّي تبت إليك

١٥٢

فخلال رحلة العمر ذات الأربعين ربيعا أزاغته الذنوب عن صراط ربّه العزيز الحميد ، وقد ذهبت الآن شرّة السهو عنه ، كما تلاشت لذّات الشهوات ، وأزالت طوارق الزمن سكرة الشباب ، واكتمل عقله ، وعرف أنّ طريق الفلاح ينحصر في التوبة إلى الله عزّ وجل.

لقد قرأت أخيرا في مجلّة غربيّة واسعة الانتشار مقالا يدعو من بلغ الأربعين ألّا يحاول تغيير عاداته ، ويبدو أنّ الكاتب كان يعتمد في ذلك على أنّ الإنسان في مثل هذا الوقت لا يملك إرادة التغيير ، وهذا ينسجم مع النظرة المادية إلى الإنسان ، وتلخيص دوافعه في الشهوات الدنيوية التي تتراجع عند سنّ الأربعين ويتلاشى بعضها ممّا لا يجد دافعا نحو التغيير ، بينما البصيرة القرآنية تدعونا إلى التوبة عند سنّ الأربعين ، حيث يكتمل العقل ، وتلتهب جذوة الضمير ، وتتهيّأ فرصة الإصلاح ، وتتنامى دواعي الخير وبواعث الفضيلة فيه.

وهكذا يكون عقد الأربعين أفضل مناسبة للثورة الذاتية ، بالتوبة إلى الله ، والتسليم للشريعة التي تخاطب العقل ، وتذكي دواعي السعي للآخرة التي يكون صاحب الأربعين أقرب إليها من غيره.

(وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

فاذا دعتني سكرة الشباب الى التمرّد ردحا من الزمن فها أنا ذا اليوم أعترف بالذنب ، وأخضع لك يا ربّ خضوعا تامّا ، وأفتّش في صفحات تاريخي ، فاذا وجدت فاحشة هنا وخطيئة هناك ، وظلما للناس ، وغصبا للحقوق ، وانحرافا في العقيدة ، وزيفا في الثقافة ، وعادات سيئة وما أشبه ، فانّي أسعى لتغييرها والتخلّص من وزرها وتبعاتها بتوفيقك. أو ليس كلّ ذنب وزيغ وانحراف يخلّف

١٥٣

أثره في قلب الإنسان ، دعنا إذا نتخلّص منه بالتوبة ، لنطهّر القلب من أدرانه ، والسلوك من سيئات العادات ، ونترك جانبا الاستخفاف بالقيم ، والتهاون بالواجبات والسهو عن الصلاة والزكاة و.. و..

[١٦] وبالرغم من ابتعاد هذا الفريق من الناس حينا عن الصراط السوي فانّ توبتهم مقبولة ، ويتقبّل الله حسناتهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، ويدخلهم الجنة مع الصالحين من عباده.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا)

وإنّما يتقبّل الله من المتقين ، وقد يتقبّل من غيرهم بعد توبتهم حيث يعتبرهم كالذين لم يذنبوا أبدا وهم المتقون من عباده.

وقال المفسّرون : إنّ المراد من أحسن الأعمال الواجبات والمندوبات ، بينما المباحات لا ثواب عليها بالرغم من حسنها.

وقد يقال : إنّ لقبول الحسنات أيضا شروطا لا تتوافر فيها جميعا فلا يتقبّل الله منها إلّا الأحسن ، ممّا يبعث الإنسان إلى السعي لتحقيق كلّ شروط العمل الصالح. مثلا لا يقبل الله من الصلاة إلّا ما التفت العبد فيها إليه ، فلنقم الصلاة بحيث يتقبّلها الله جميعا لا جزء منها هو الأحسن.

(وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ)

أو ليسوا قد تابوا إلى الله منها توبة نصوحا ، والله سبحانه هو التوّاب الرّحيم؟

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ)

أولئك الصالحين الذين أخلصوا لله حياتهم ، وأيّة كرامة أعظم لأمثالنا أن

١٥٤

يدخلنا الله في الصالحين من عباده ونحن ممّن خلط عملا صالحا وآخر سيّئا؟!

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)

[١٧] ويضرب القرآن مثلا من واقع الصراع بين الأجيال ، حيث يتمرّد الجيل الصاعد على قيم الحق وتقاليد الصلاح عند الجيل السائد ، لنعتبر به ألّا نهلك باتباعه.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما)

بينما الدّين أوصانا بالإحسان إليهما نجد هذا الفاسق يضجر من والديه اللذين هما أصل وجوده وكلّ خير فيه ، ويقول لهما : أفّ لكما.

وكلّما يحذّره الوالدان من مغبّة الإيغال في الخطيئة ينهرهما ، ويكفر بالجزاء قائلا :

(أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ)

بعد الموت للحساب ، كلّا .. إنّه وعد مكذوب ، ثمّ يستشهد بما درج عليه الجاحدون للجزاء : بأنّ القرون المتطاولة قد مضت ، ولمّا يخرج منهم أحد. أرأيت ميّتا أحياه الله بعد أن أقبر وأوقفه للجزاء؟! كذلك لا أخرج أنا.

(وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي)

أفلا يعلم أنّ الحياة الآخرة تأتي بعد انقضاء الحياة الأولى ، ويومئذ يبعث الله الأوّلين والآخرين معا ، ويحقّق وعده الحق؟

وهكذا يتمرّد الفاسق على تربية الوالدين وهما يبذلان كلّ جهد ممكن لإقناعه

١٥٥

بالحق ، فاذا شعرا بالفشل استغاثا بالله أن يعينهما في إصلاح ابنهما الضّال.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ)

والتربية الحق هي التي تزرع في قلب الولد خشية الله ، إذ ما قيمة السعادة في الدنيا إذا أعقبها الشقاء الأبدي؟!

(وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)

ونستلهم من هذه الآية المنهج السليم لتربية الطفل الذي كان يتبعه الوالدان المؤمنان ، والذي أنشأ الله به ذلك الجيل الصالح الذي احترم الجيل الماضي بالإحسان إليه والاستغفار له ، كما عمل في سبيل إنشاء جيل صالح بالدعاء والعمل. وهذا المنهج قائم على أساس توسيع رؤية الطفل ليرى الحياة الأخرى فيوازن بينها وبين الدنيا في قراراته ، فيسعى لهما سعيا عادلا ، ولا يترك إحداهما للأخرى ، لأنّهما في الواقع حياة واحدة ممتدة من اليوم حتى يوم الجزاء.

بيد أنّ بعض الآباء يخفقون في هذا السبيل ، وعليهم ألّا يقلقوا فقد أدّوا مسئوليتهم ، وما جعل الله لهما سلطانا يكرهان به ولدهما على اتباع الحق. كيف وقد خاطب الله رسوله الكريم : «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» ، وقال : «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ».

وقد خلق الله الناس أحرارا يبتليهم ، ولعلّنا نستفيد من هذه الآية أنّ مسئولية الدعاة وحملة الرسالة تقتصر على البلاغ ، وحتى لو كانت لديهم قوة رادعة فلا يستحسن التوسّل بها لاكراه الناس على اتباع الرشد ، فبالرغم من أنّ للوالدين السيطرة الطبيعية على الولد إلّا أنّهما حين يقومان بدور الداعية يستفرغان الجهد في إقناعه بالحجة ، وليس بإكراهه ، وعادة ينجحان ، أمّا إذا فشلا فذلك أمر يعود الى

١٥٦

وجود حرية القرار عند الولد الذي قد يتمرّد على الحق بحجة أنّه تقاليد بالية وأفكار رجعية.

(فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

ويبدو من هذه الكلمة أنّه متمرّد على الماضي ، ويتهمه بأنّه يمثّل الخرافة والدجل ، وهذا شأن صراع الأجيال الذي يحرم الجيل الصاعد من ثقافة الجيل السائد وتجاربه وعبره وعظاته ، ويقضي على التواصل الحضاري الذي هو عنوان تقدّم الأمم.

وقد كان لهذا النفس المشؤوم آثاره السيّئة علينا نحن المسلمين في العصر الحديث ، حيث لم يميّز الشباب بين المسلمين والغثّ من تجارب آبائهم فرفضوها ، وسعوا نحو تقليد الأجانب ، فكانوا كالغراب الذي حاول تقليد الطاووس في مشيته فلم يفلح فضيّع المشيتين!

إنّ من لا يملك أصالة لا يستطيع الانتفاع بتجارب الآخرين ، لأنّه لا يملك مقياسا سليما يميّز به ما ينفعه من تجاربهم وما يضره ، فيكون كمن يبني على الرمال سرعان ما ينهار بناؤه.

وقد دلّت تجارب التاريخ على أنّ الأمم ذات الأصالة هي الأقدر على احتواء تجارب غيرها من الأمم المتمرّدة على تاريخها ومكاسب حضارتها.

ونحن اليوم بانتظار ذلك الجيل المؤمن الذي يعيش بثلاثة أبعاد : متفاعلا مع حاضره ، مستفيدا من ماضيه ، متطلّعا لمستقبله.

[١٨] الدّين والكفر قديمان عند البشر ، فكما كان منذ القدم رجال صالحون ملتزمون بالدّين كان آخرون يكفرون به ، فاذا كان كلّ قديم رجعية فانّ الكفر هو

١٥٧

الآخر قديم! وهذه الأفكار التي يروّجها الجاهليّون باسم التقدّمية موغلة في الرجعية ، إذ أنّها تدعو إلى حالة البدائية حيث لم يكن لدى أهلها التزام بالقيم والعادات الصالحة ، وهذا الذي يكفر بالبعث ويدّعي أنّه من أساطير الأوّلين سوف يحشر مع أولئك الكفّار من الأوّلين ، حتى يتبيّن له أنّ الكفر ـ وليس الدّين ـ هو من أساطير الأولين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)

وكيف حقّ القول عليهم؟

لقد كفروا فطبع الله على قلوبهم ، وسلبهم توفيق الايمان ، فظلّوا كافرين حتى أدخلهم الله النار في الأمم الغابرة.

(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)

وعلينا أن نعتبر بمصيرهم فلا نبادر إلى الكفر فيغلق الله علينا باب التوبة إلى الأبد ، ولا يقولنّ الواحد : أكفر الآن فاذا أردت الايمان فالطريق مفتوح أمامي. كلّا .. إنّ فرصة الايمان محدودة ، وقد تسلب منك حتى الأبد.

وفي هذا درس للداعية ألّا يهلك نفسه أسفا على بعض الناس إن لم يؤمنوا ، فلعلّهم ممّن طبع الله على قلبه فلا يستطيع الايمان أبدا.

[١٩] ولكي لا يزعم الإنسان أنّ تقسيم الناس على الجنّة والنار اعتباطي ، يزيدنا السياق هدى بأنّ أعمال الناس هي التي تسوق أصحابها إلى المصير النهائي إمّا الجنة أو النار ، وتأكيدا على ذلك أنّ للجنّة درجات كما للنار دركات ، ومنازل أهل الجنة أو أهل النار تحدّد بأعمالهم أيضا ، حتى لا يدع للشك مجالا في أنّهم لا

١٥٨

يظلمون ، بل هم يجزون بما كانوا يعملون.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)

يبدو أنّ المراد من «ولكلّ» أهل الجنة وأصحاب النار لكلّ درجته ومنزلته حسب عمله.

(وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ)

أى ليجزيهم أعمالهم جزاء تامّا وافيا.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا هنا ، يره هناك بدرجاته المتعالية في الجنّة ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا هنا ، يره هناك بعذاب دركات النار.

[٢٠] ولا يدع كتاب ربّنا الحكيم الإنسان في غمّة من أمره بل يكشف له أسباب الكفر فيبيّن له علاجها ، لكي لا تكون للناس حجة بعد البيان ، ذلك أنّ النار شيء عظيم ، فكيف يلقي ربّ الرحمة عبده العاصي فيها دون أن يتمّ عليه الحجة كاملة.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)

هنالك حيث تستعدّ النار لاستقبال أفواج الكفّار والعصاة بألسنة الّلهب المتصاعدة والشهقات الواسعة التي تبتلع الملايين ، هنالك إذ تتوضّح الحقائق ، فلا غفلة ، ولا استرسال ولا تبرير ، ولا إهمال ، هنالك تقال لهم كلمة الحق التي لو عرفوها في الدنيا إذا ما أهملوا ، ولا تشبّثوا بالأعذار التي لا تغني شيئا.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)

١٥٩

فهذا هو السبب المباشر للمأساة. الوقت والطاقة والفراغ وسائر النعم هي ذخيرة الإنسان ليوم الحساب ، فمن بذّرها للمتعة العاجلة في الدنيا فما ذا يبقى له ليوم فاقته؟

إنّما السعيد من قدّم شيئا ممّا عنده لحياته الخالدة ، وقسّم وقته وطاقاته بين السعي للدنيا والعمل للآخرة ، ولم يكن همّه التمتّع بكل ما يملك في دنياه فيكون مثله كذلك الشاب الذي أبلى شبابه في الّلذات فاذا تقدّم به العمر إلى خريف الحياة لم يجد إلّا الحرمان والألم والحسرات.

ولكن ما الذي يدعو الإنسان إلى التبذير بالطيّبات في الدنيا ، هل الحاجة الضرورية؟ كلّا .. ذلك أنّ حاجات الإنسان محدودة ، ويمكن له توفيرها ببعض قدراته. إنّه يوفّر لقمة عيشه وسكناه وأمتعته بأيسر الجهد ، إنّما لهث البشر يكون عادة وراء الكماليّات. إنّه يختار ألذّ الطعام ، وأرفه المساكن ، وأرقى المتاع ، حتى ولو كان على حساب آخرته ، فيظلم الناس بالسرقة والغش ، وقد يصبح أداة للطغاة من أجل الحصول على الكماليّات ، ولأنّ الكماليّات بدورها درجات ولا يمكنه أن يبلغ مداها فانّك تراه دائب اللهث وراءها ، فاذا بنى قصرا ووجد قصر صاحبه أفخم عقد العزم على بناء ما هو أعظم من بناء صاحبه ، وإذا اقتنى سيارة وعلم أنّ أخرى خيرا منها دخل السوق سعيا نحو شرائها بكلّ وسيلة ممكنة ، وهكذا ..

وهنا نتساءل : ما هو جذر التنافس على الكماليّات بهذه الشدّة ، مع أنّ بعضها لا يمسّ شهوات الإنسان من قريب؟.

الجواب : إنّه الاستكبار. حيث يبحث الإنسان أبدا عن التعالي على أقرانه بحق أو بباطل ، وإذا نزع الإنسان رداء الكبرياء ، وتسربل بالخشوع والقنوع ، فانّه يقتلع جذر الانحراف من نفسه ، هنالك يكتفي بالضرورات وما يتيسّر له من زينة الدنيا ،

١٦٠