مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة - ج ١٠

السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي

مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة - ج ١٠

المؤلف:

السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي


المحقق: الشيخ محمّد باقر الخالصي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٩

أزيد بيسير ، وكيف كان فاحتمال البريد في النخيلة قائم ولا منافي له وقد دلّ الخبر على التقصير بها.

الرابع من أخبار هذا النوع : ما رواه الصدوق في كتاب الصوم من «المقنع (١)» بحذف الإسناد وقد قال في أوّله إنّ ما بيّنه فيه موجود في الكتب الأُصوليّة مبيّن عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقات رحمهم الله ، قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل أتى سوقاً يتسوّق وهي من منزله على أربع فراسخ ، فإن هو أتاها على الدابّة أتاها في بعض اليوم ، وإن ركب السفن لم يأتها في يوم؟ قال : يتمّ الراكب للّذي يرجع من يومه صوماً ويفطر صاحب السفن. كذا في «البحار (٢) والوسائل (٣)» نقلا من الكتاب المذكور ، وفيما وجدناه من نسخ المقنع : «صومه» بالإضافة إلى الضمير بدل «صوماً» بالتنكير ، و «سبع فراسخ» مكان «أربع فراسخ» والأربع أنسب بقول السائل «فإن هو أتاها على الدابّة أتاها في بعض يوم» ولقوله (عليه السلام) «يتمّ الراكب الّذي رجع من يومه» والعدد بالتأنيث في جميع النسخ وحقّه التذكير ، فإنّ الفرسخ مذكّر لا مؤنث ، ولعلّه هنا بمعنى الساعة فإنّها من جملة معانيه كما في «القاموس (٤)» أو على التأويل بها لانطباقه عليها غالباً.

والحديث قد دلّ على عدم الاكتفاء بالأربعة في تحقّق المسافة ، وظاهره عدم حصولها بانضمام الرجوع وإن كان ليومه ، وهو خلاف الأقوال المعتبرة في المسألة ، بل مقتضى مفهوم قوله (عليه السلام) «يتمّ الراكب الراجع من يومه» اختصاص الإتمام بالراجع ليومه ، فيكون شرط القصر في الأربعة عدم الرجوع لليوم عكس المشهور ، وهو خلاف إجماع العلماء كافّة ، إذ لم يقل أحد باشتراط عدم الرجوع لليوم في التقصير بالأربعة وإنّما الخلاف في اشتراط الرجوع فيه ، ومع هذا

__________________

(١) المقنع : كتاب الصوم باب تقصير المسافة في الصوم ص ١٩٩.

(٢) بحار الأنوار : في باب وجوب قصر الصلاة ج ٨٩ ص ١٠.

(٣) وسائل الشيعة : ب ٣ من أبواب صلاة المسافر ح ١٣ ج ٥ ص ٥٠٢.

(٤) القاموس المحيط : ج ١ ص ٢٦٦ مادّة «الفرسخ».

٤٢١

الحديث بظاهره مشكل وتقريب الاستدلال به يتوقّف على بيان الإشكال ورفعه على وجه ينطبق على المدّعى. والإشكال فيه من وجوه :

أحدها : إنّ قوله (عليه السلام) : «يتمّ الراكب الّذي يرجع ليومه صومه» يدلّ بمنطوقه على وجوب الصوم على قاصد الأربعة الراجع لليوم ، وهذا إنّما يتمشّى على القول بتخيير مريد الرجوع ليومه في الصلاة دون الصوم أو القول بسقوط اعتبار الأربعة ولو مع الرجوع لليوم مع إلغاء مفهوم الحديث على الأخير ، وهما خلاف الأقوال المعتبرة في المسألة والقول بهما على تقدير ثبوته مرغوب عنه.

وثانيها : إنّ مفهوم هذا الكلام اختصاص الراجع لليوم بوجوب الصوم ، ومقتضاه وجوب الصوم على الراجع ليومه وعدم وجوب الصيام والإتمام على الراجع في غيره وهو خلاف إجماع العلماء كافّة بل خلاف المعلوم بالضرورة من عدم اشتراط القصر فيهما بانتفاء الرجوع لليوم عكس المشهور من اشتراط الرجوع فيه.

وثالثها : إنّ السائل قد سأل عن رجل خرج إلى سوق يتسوّق بها ، وظاهر الحال في المتسوّق عدم الرجوع لليوم ، سواء أخذ طرق البحر أو البرّ وإن قصرت المسافة على الأوّل ، فقوله (عليه السلام) : «ويتمّ الراكب الّذي رجع من يومه» لا ينطبق على السؤال والمنطبق عليه بيان حكم الراجع لغير اليوم ، وغاية الأمر أن يكون السؤال عامّاً شاملا للراجع لليوم وغيره فيجب أن يكون الجواب كذلك ، فالتعرّض للراجع لليوم في الجواب غير مناسب للسؤال.

ورابعها : إنّ سؤال السائل غير مختصّ بالصوم فإنّه سائل عن هذا المسافر القاصد للسوق إذا أتاها على الدابّة أو ركب السفن وهو إمّا سؤال عن الصلاة والصوم معاً أو عن الصلاة على ما هو الكثير الشائع في سؤال الناس ، فينبغي أن يكون الجواب عنهما أو عنها لا عن الصوم وحده لعدم مطابقته لظاهر السؤال ، فظهر أنّ الجواب غير ملائم للسؤال باعتبار الموضوع والحكم معاً ، والبناء على دلالة المفهوم ـ مع فساده هنا كما عرفت ـ لا يرفع الإشكال ، لأنّ الملائم للسؤال

٤٢٢

في الموضعين هو العكس بجعل المفهوم منطوقاً والمنطوق مفهوماً ، فيبقى سؤال الخروج عن الظاهر.

ولا مخلص من هذه الإشكالات إلاّ بنقل الإثبات في قوله (عليه السلام) «يتمّ الراكب الّذي يرجع من يومه» إلى النفي وتحويل الإيجاب فيه إلى معنى السلب إن لم يكن سقط حرف النفي فيه من النسّاخ كما يعطيه ظاهر وضع الكلام. والنقل إلى النفي يمكن بوجهين :

أحدهما : تقدير أداة النفي في نظم الكلام ، والمعنى : يتمّ الراكب الّذي لا يرجع من يومه ، فحذفت «لا» فيه كما حذفت من قوله تعالى (تالله تفتأُ تذكر يوسف) (١) وقول امرئ القيس (٢) :

فقلت يمين الله أبرح قاعداً

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

فإنّ المعنى : تالله لا تفتأُ ، أي لا تزال تذكر يوسف ، ويمين الله لا أبرح قاعداً بحذف «لا» في الموضعين كما صرّح به أئمّة العربية والتفسير قال البيضاوي (٣) : لأنّه لا يلتبس بالإثبات ، فإنّ القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي. وفي «الكشّاف (٤) والمجمع (٥)» وغيرهما (٦) : أنّ الإثبات مع القسم لا ينفكّ عن اللام والنون فمع انتفائهما يتعيّن النفي. والقرينة في الحديث وقوعه جواباً عن سؤال المتسوّق الّذي لا يرجع من يومه فيكون على النفي لا على الإثبات وإلاّ لم يطابق الجواب السؤال. ومن ثمّ جعلنا الحذف في قوله «يرجع» لا في «يتمّ» وإن تمّ به المعنى ، لأنّ المطابقة لا تحصل به ، مع أنّ حكم الراكب على هذا التقدير هو القصر كصاحب السفينة فكان المناسب جمعهما فيه. وهذا الوجه مبنيّ على جواز حذف

__________________

(١) يوسف : ٨٥.

(٢) ديوان امرئ القيس : في قصيدته ألا عِمْ صباحاً ص ١٤١.

(٣) أنوار التنزيل وأسرار التأويل : في تفسير سورة يوسف الآية ٨٥ ج ١ ص ٥٠٦.

(٤) تفسير الكشّاف : في تفسير سورة يوسف الآية ٨٥ ج ٢ ص ٤٩٨.

(٥) مجمع البيان : في تفسير سورة يوسف الآية ٨٥ ج ٥ ص ٢٥٧.

(٦) التفسير الكبير : في تفسير سورة يوسف الآية ٨٥ ج ١٨ ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

٤٢٣

النفي في غير القسم ، وربّما لاح من كلمات القوم اختصاص الحذف بالقسم ، وهو غير معلوم وإن اختصّ الشاهد به.

وثانيهما : حمل الرجوع في قوله (عليه السلام) «يرجع في يومه» على التمكّن من الرجوع ، والمراد يتمّ الراكب الّذي يتمكّن من الرجوع ليومه ولا يرجع فيه وذلك لأنّ هذا الكلام قد وقع جواباً عن الفرض المتقدّم في كلام السائل. وكلا الأمرين مستفاد منه ، أمّا التمكّن من الرجوع لليوم فلقوله «فإن هو أتاها على الدابّة أتاها في بعض اليوم» فإنّه إذا أتاها في بعض اليوم أمكنه الرجوع في البعض الآخر بناءاً على أنّ المراد بالبعض ما لا يزيد على النصف كما هو الظاهر. وأمّا عدم الرجوع لليوم فلأنّ المفروض فيه السؤال عن الخارج المتسوّق والرجوع لليوم في مثلهغير مقصود في الغالب كما سبقت الإشارة إليه من أنّ هذا القيد لا بدّ منه في توجيه الكلام وإن خلا عن القرينة الدالّة عليه فكيف مع وجودها.

وهذا الوجه أولى من التزام سقوط حرف النفي من النسّاخ ، فإنّه إنّما يصار إليه عند الضرورة الملجئة ولا ضرورة إليه هنا ، وكذا من التوجيه بحذف لا ، فإنّ حذفها في غير القسم غير ثابت وإن لم يثبت خلافه أيضاً ، وأمّا حمل الرجوع على التمكّن منه فهو مجاز ثابت لا ريب فيه ، وكذا التقييد بعدم الرجوع فإنّ باب التقييد كالتخصيص واسع والمدار في الشرعيّات والمحاورات عليهما وقلّما خلا الكلام عن أحدهما ، والقرينة الدالّة على التجوّز والتقييد تقدّم السؤال الدالّ عليهما كما عرفت وهو من أوضح القرائن.

وعلى كلّ تقدير فمدلول الحديث هو أمر مَن لا يرجع من يومه في الأربعة بإتمام الصوم وإن تمكّن من الرجوع ليومه قصّر المسافة. ويفهم منه مفارقة الصلاة للصوم في هذا الحكم ، إذ لو كان حكمهما واحداً لأطلق الإتمام فيهما ولم يقيّد بالصيام ولم يكن في هذا التقييد فائدة مع عموم الحكم وثبوته لهما جميعاً. ويؤكّد ذلك عموم السؤال وتناوله للصوم والصلاة معاً أو ظهوره في الصلاة كما تقدّم فإنّه يقتضي وقوع الجواب على وجه يفيد السائل في حكم الصلاة المسؤول عنها أو

٤٢٤

الداخلة في السؤال وليس إلاّ من جهة هذا القيد ، فكان التقييد به معتبراً مقصوداً به بيان حكم الصلاة. ويزيده بياناً أنّ قوله (عليه السلام) «ويقصر صاحب السفن» كما في البحار والوسائل مطلق يعمّ الصوم والصلاة ، والإطلاق فيه مراد لوجود المسافة الموجبة للقصر فيهما. وهذا الإطلاق مع تقييد الحكم في راكب الدابّة بالصوم في قوّة التنصيص على إرادة التخصيص ، فيكون حكم الصلاة في الراجع لغير اليوممخالفاً لحكم الصوم ، والمخالفة إمّا بتعيين القصر فيها أو بالتخيير بينه وبين الإتمام ، والأوّل باطل قطعاً ، إذ لو تعيّن القصر في الصلاة لوجب الإفطار إجماعاً ، وقد دلّ الحديث على وجوب الصوم ، فتعيّن الثاني وهو التخيير. ولا سبيل إلى حمل الأمر بالصوم على الوجوب التخييري ، لأنّ ذلك ـ مع كونه مخالفاً لظاهر الأمر الدالّ على الوجوب العيني خصوصاً مع الاقتران بمثله وهو الأمر بالقصر في صاحب السفينة ـ يقتضي التخيير في الصوم دون الصلاة ، وهو خلاف الإجماع ، والبناء على توافق الصوم والصلاة في التخيير خلاف ما عرفت من دلالة الحديث (وتوافق الصوم والصلاة في الحكم بالتخيير وقد عرفت دلالة الحديث على الاختلاف ـ خ ل) وكذا القول في حمله على الاستحباب ، إذ لا قائل بالتخيير فيهما مع استحباب الصيام دون الإتمام.

فالحديث موافق لما عليه كثير من الأصحاب من تخيير المسافة في الأربعة بين القصر والإتمام إذا لم يرجع ليومه مع الفرق بين الصوم والصلاة باختصاص التخيير بالصلاة كما ذهب إليه الشيخ (رحمه الله) (١) وجماعة (٢) من أصحاب هذا القول ، وهو أحد الأقوال المعتبرة في المسألة ، فلا يكون منطوق الرواية مخالفاً للأقوال المعتبرة فيها ولا مفهومها مخالفاً للإجماع ، إذ المفهوم حينئذ هو وجوب القصر

__________________

(١) النهاية : في صلاة المسافر ص ١٢٢ و ١٦١.

(٢) منهم الشيخ المفيد في المقنعة : كتاب الصوم في حكم المسافرين في الصيام ص ٣٤٩ ، والصدوق في من لا يحضره الفقيه : باب الصلاة في السفر ج ١ ص ٤٣٦ ذيل ح ١٢٦٨ ، وسلاّر في المراسم : في صلاة المسافر ص ٧٥.

٤٢٥

لمريد الرجوع ليومه أو عدم وجوب الإتمام عليه وهو قول معظم الأصحاب (١) ، والجواب منطبق على السؤال ومبتن عليه في كلٍّ من الموضوع والحكم ، وغايته الاكتفاء في الصلاة بدلالة المفهوم وهذا لا يقتضي عدم المطابقة. ولعلّ التنصيص على حكم الصوم لخفاء حكمه أو لعلمه (عليه السلام) بشدّة احتياج السائل إليه فدلّ عليه بالمنطوق واكتفى في الصلاة بالمفهوم. ومثله كثير والأمر فيه هيّن.

فاندفع الإشكال في الحديث وظهر انطباقه على المدّعى بل تبيّن أنّه من أجمع روايات الباب وأوفاها بجميع أحكامها ومطالبها ، والمستفاد منه ممّا يتعلّق بالمقام عدّة أحكام :

الأوّل : عدم حصول المسافة المتعيّنة للقصر والإفطار بمجرّد الأربعة ، إذ لو كان كذلك لوجب الحكم تعييناً على صاحب السفن وراكب الدابّة مطلقاً رجع ليومه أم لا أراد الرجوع أم لم يرد ، لوجود الأربعة في الجميع ، ومقتضى الحديث خلاف ذلك.

الثاني : تعيين الصوم على قاصد الأربعة إذا لم يرد الرجوع ليومه سواء أقام في المقصد أم رجع من دون إقامة لا ليومه كما يقتضيه إطلاق الأمر بالصوم الظاهر في الوجوب العيني من غير تقييد.

الثالث : تخيير غير قاصد الرجوع لليوم في الصلاة بين القصر والإتمام على تقديري الإقامة وعدمها لعموم المفهوم. وهذا أحد القولين لأصحاب الخيار والقول الآخر اختصاص التخيير بما إذا لم يرد المقام عشرة أيّام ، فيتعيّن عليه الإتمام في الطريق مع إرادته. وعلى هذا فلا بدّ من اعتبار قيد آخر في الكلام أو حمل المفهوم على سلب العموم لا عموم السلب ، والمعنى عدم تعيين الإتمام في الصلاة مطلقاً بل مع عدم إرادة المقام في المنزل.

__________________

(١) منهم الحلّي في السرائر : في أحكام صلاة المسافر ج ١ ص ٣٢٩ ، والمحقّق في المختصر النافع : في صلاة المسافر ص ٥٠ ، والسيّد عليّ في رياض المسائل : في صلاة المسافر ج ٤ ص ٤٠٩.

٤٢٦

الرابع : إنّ الراجع ليومه مخالف لغيره في الحكم المذكور ، وذلك إمّا بتعيّن القصر في الصوم والصلاة أو بالتخيير فيهما كذلك أو التعيين في الصلاة لا في الصوم دون العكس فإنّه خلاف الإجماع المعلوم كتعيّن الإتمام فيهما أو في الصلاة دون الصوم مع ثبوت الترخّص لغير الراجع ليومه ، والأوّل أولى بناءاً على عموم المفهوم وأنّ مفهوم الأمر بالإتمام عرفاً هو الأمر بالقصر لا عدم الأمر بالتمام وظهور أنّ المراد من رفع التخيير في الصلاة بين الإتمام والقصر هو تعيين القصر ولأنّ القصر قد ثبت في الجميع بمفهوم المخالفة فيتعيّن بالأصل والعمومات الدالّة على تعيين القصر.

وفي الحديث دلالة على حكم آخر وهو أنّه إذا كان للمقصد طريقان أقرب وأبعد كان لكلٍّ منهما الحكم المختصّ به ولا يتعدّى الحكم من أحدهما إلى الآخر سواء سلك الأقرب أو الأبعد. وقد نبّه على ذلك الأصحاب (١) واستندوا فيه إلى العمومات ، وليس في المسألة ما يصرّح بذلك غير هذا الحديث ، فإنّه دلّ على أنّ المسافر إلى السوق ذات الطريقين إن سلك الأبعد وهو البحر البالغ مسيرة يوم وأكثر قصّر مطلقاً وإن سلك البرّ وهو أربعة فراسخ لم يثبت له ذلك. وهذا يقتضي النفي فيما دون الأربعة ، فإنّ عدم تعدّي حكم الأبعد إلى الأقرب مع كونه مسافة في الجملة يستلزم انتفاء التعدية إلى ما ليس بمسافة أصلا بطريق أولى. وإطلاق الحديث يقتضي وجوب القصر عليه إذا سلك الأبعد ولو قصد الترخّص كما هو المشهور ، وقيل (٢) بانتفاء القصر هنا وهو ضعيف.

فإن قلت : الاستدلال بالرواية استدلال بالمؤوّل ولا يصحّ إلاّ إذا انحصر

__________________

(١) منهم العلاّمة في مختلف الشيعة : في صلاة المسافر ج ٣ ص ١٤٥ ، والسيّد العاملي في مدارك الأحكام : في صلاة المسافر ج ٤ ص ٤٣٨ ـ ٤٣٩ ، والشهيد الأوّل في ذكرى الشيعة : في صلاة المسافر ج ٤ ص ٣١٣.

(٢) القائل ابن البرّاج في المهذّب : في صلاة المسافر ج ١ ص ١٠٧ ، ونقله عنه السيّد العاملي في مدارك الأحكام : في صلاة المسافر ج ٤ ص ٤٣٨.

٤٢٧

التأويل فيما يفيد المدّعى ، والحصر هنا ممنوع ، فإنّ من الجائز حمل الأمر بإتمام الصوم للراجع لليوم على التخيير مع إلغاء المفهومين المشعرين بمخالفة الصلاة للصوم ومخالفة غير الراجع لليوم للراجع فيه ، لأنّ التخيير في الصوم يستلزم التخيير في الصلاة إجماعاً وتخيّر الراجع ليومه يستلزم التخيير لغير الراجع فيه إلاّ على قول نادر لا عبرة به ، فيكون الحكم بإتمام الصوم لمن يرجع من يومه للتنبيه على حكم غيره من باب التسوية وحاصله التخيير لقاصد الأربعة مطلقاً ، وهو أحد الأقوال المعتبرة ، فلا يكون الحديث خارجاً عنها ولا مخالفاً للإجماع ، ولا يلزم عدم مطابقة الجواب للسؤال لدلالة الجواب على حكمي الصلاة والصوم للراجع ليومه وغيره ويدخل فيه المسؤول عنه ولو بدلالة التنبيه وهي إن لم تكن أقوى من المفهوم فإنّها تساويه.

قلت : يضعّف هذا الوجه أوّلا ضعف القول بالتخيير مطلقاً في الصوم والصلاةللراجع لليوم وغيره كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه ، فلا يصلح بناء الحديث عليه وثانياً ما في هذا الوجه من التكلّف يصرف الأمر الظاهر في الوجوب العيني إلى التخييري مع انتفاء القرينة الدالّة عليه ، بل مع وجود قرينة الخلاف والبناء على مساواة حكمي الصوم والصلاة وحكمي الراجع لليوم وغيره مع دلالة المفهومين على المخالفة بين الحكمين وثالثاً إنّ البناء على التسوية إنّما يصحّ لو كانت التسوية مستندة إلى أمر بيّن معلوم في أزمنة الصدور كما قد يتفق في الجزئيّات الّتي تقع على سبيل التمثيل ، والأمر هنا ليس من ذلك القبيل فإنّ العلم بمثله إنّما يحصل للفقهاء العارفين بالأدلّة والخلاف والوفاق المتجدّدين بدقيق النظر بخلاف الرواة ، إذ لا اطّلاع لهم على الأسباب الحادثة القاضيةبالتسوية ، فلا يتأتّى البناء عليها إلاّ بجعل السبب اللاحق كاشفاً عن وجود أمر سابق يدلّ عليها في أوقات الحضور وشاهد الحال بل ظاهر السؤال يأبى ذلك ، وبالجملة : فلا خفاء في ضعف هذا الوجه وبُعده بخلاف ما تقدّم فإنّه مستفاد من نفس السؤالمن دون استعانة بالأُمور الخارجة النظرية ، فيتعيّن الحمل عليه دون غيره.

٤٢٨

فإن قيل : لعلّ الوجه في الحديث ما ذكره الشيخان الفاضلان المحدّثان في «الوسائل (١) والبحار (٢)» أنّ راكب الدابّة يمكنه الرجوع ليومه قبل الزوال لقصر المسافة فيجب عليه الصوم بخلاف صاحب السفينة أو ما اختصّ به صاحب «الوسائل» من احتمال خروج الراكب بعد الزوال فيجب عليه إتمام الصوم على المشهور من أنّ المسافر إنّما يجب عليه الإفطار إذا خرج قبل الزوال لا بعده.

قلنا : أمّا احتمال الخروج بعد الزوال فلا يختصّ براكب الدابّة بل هو قائم في صاحب السفينة أيضاً لتمكّنه من ذلك كراكب الدابّة من غير فرق فلا وجه لتخصيصه به وبناء الفرق عليه وأمّا الرجوع قبل الزوال فإن أُريد به رجوع الخارج من أوّل النهار فلا ريب في بُعده ، لبلوغ المسافة ذهاباً وإياباً ثمانية فراسخ وهي وحدها شاغلة لليوم فكيف يتأتّى له الرجوع قبل الزوال مع قضاء وطره من السوق الّتي صار إليها للتسوّق ، هذا على نسخة الأربع كما في الكتابين ، وأمّا على نسخة السبع فالرجوع قبل الزوال كاد يكون من الممتنع المحال ، وإن أُريد به رجوع الخارج من البلد ولو قبل اليوم فراكب الدابّة وصاحب السفينة في ذلكسيّان ، لأنّ صاحب السفينة يمكنه الرجوع قبل الزوال مع عدم تعيين زمانالخروج كراكب الدابّة.

نعم ، قد ينقدح هنا احتمال ثالث وهو خروج الراكب بعد الزوال من اليومالأوّل ورجوعه قبل الزوال من الثاني فلا يفطر في سفره ذلك بخلاف صاحب السفينة إذ لا بدّ له من تخلّل يوم تمام بين يومي الخروج والدخول كما يشهد له قول السائل «وإن ركب السفن لم يأتها في يوم» فيجب عليه الإفطار في ذلك اليوم المتوسط وإن سلم له الطرفان إذا خرج بعد الزوال ودخل قبله.

وهذا الوجه وإن كان أجود من سابقيه إلاّ أنّه يرد عليه مع ما تقدّمه خلوّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ب ٣ من أبواب صلاة المسافر ذيل ح ١٣ ج ٥ ص ٥٠٢.

(٢) بحار الأنوار : في باب وجوب قصر الصلاة ج ٨٩ ص ١٥.

٤٢٩

الحديث عن اعتبار الخروج بعد الزوال والرجوع قبله ، إذ ليس فيه إلاّ أنّ الّذييرجع من يومه يتمّ صومه ، والرجوع لليوم كما يكون قبل الزوال فكذا يكون بعده ، وأقصى ما هناك تمكّن الراكب ممّا ذكر وهو لا يستلزم الوقوع ولا وجوب اختيار ذلك ، فإنّ للمسافر أن يخرج متى شاء ويرجع متى شاء ولو في شهر رمضان ولا يجب عليه الخروج بعد الزوال ولا الرجوع قبله لأجل الصوم. وأيضاً فمقتضى الفرق بين الصوم والصلاة على هذا المعنى عدم وجوب إتمام الصلاة على الخارج بعد الزوال والراجع قبله مطلقاً وإن أخّر الصلاة عن أوّل وقتها حتّى خرج من منزله أو رجع إليه ، فيكون الاعتبار بحال الأداء في الخروج والوجوب في الدخول وهو خلاف الأقوال المعروفة في المسألة من اعتبار حال الأداء مطلقاًوالوجوب كذلك أو الدخول دون الخروج ، وأمّا العكس فلم نجد به قائلا بل هوخلاف الإجماع.

فالظاهر أنّ المقصود في الحديث بيان حكم الراكب وصاحب السفينة منجهة المسافة وبيانها في الموضعين من دون إشعار بأمر آخر كزمان الدخول والخروج يكون ذلك ملتفتاً إليه في الحديث بل موكولا إلى الأدلّة الخارجة كما في سائر أخبار المسافة ، ويمكن أن يكون بناء الأمر فيه على الغالب الكثير في السفرمن خروج المسافر أوّل النهار فيجب القصر والإفطار على صاحب السفينة لوجود المسافة مع خروجه قبل الزوال بخلاف راكب الدابّة ، لانتفاء المسافة المعينة لهما في حقّه ، فلا يجب عليه الأمران وإن خرج قبل الزوال.

وقد علم ممّا ذكرنا أنّ الوجه في الحديث هو الّذي قلناه وبه يتمّ المطلوب.

الخامس من أخبار هذا القسم : عبارة الفقه المنسوب إلى سيّدنا ومولانا أبيالحسن عليّ بن موسى الرضا عليه وعلى آبائه السلام ، قال (عليه السلام) في باب صلاة المسافر : والمريض ومَن سافر فالتقصير عليه واجب إذا كان سفره ثمانية فراسخ أو بريدين وهو أربع وعشرون ميلا ، فإن كان سفرك بريداً واحداً وأردت أن ترجعمن يومك قصّرت ، لأنّه ذهابك ومجيئك بريدين ، وإن عزمت على المقام وكان

٤٣٠

مدّة سفرك بريداً واحداً ثمّ تجدّد لك فيه الرجوع من يومك أقمت فلا تقصّر ، وإن كان أكثر من بريد فالتقصير واجب إذا غاب عنك أذان مصرك ، ثمّ قال (عليه السلام) بعد ذكر جملة من الأحكام : وإن سافرت إلى موضع مقدار أربع فراسخ ولم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار فإن شئت تمّمت وإن شئت قصّرت ، وإن كان سفرك دون أربع فراسخ فالتمام عليك واجب ، هكذا في أصل الكتاب (١). وفي «البحار (٢)» نقلا عنه إلاّ أنّ فيه «لأنّه ذهابك ومجيئك بريدان» برفع البريدين كما هو الظاهر ، وعليه فالضمير المنصوب للشأن والجملة خبر ، وهو على الأوّل للسفر والخبر قوله :ذهابك ومجيئك ، ونصب البريدين على الحالية أو المفعولية أو الخبرية ليكون المقدّرة ، وفي بعض نسخ الأصل بدل قوله «أقمت فلا تقصّر» «أتممت فلا تقصّر» أمراً بالإتمام ونهياً عن التقصير تفريعاً على الأمر ، فيحتمل أن يكون «أقمت» تصحيحاً من النسّاخ لأتممت وأن يكون أتممت تصحيحاً منهم لأقمت لخفاء المعنى فيه ، ولعلّ المراد : كنت في حكم المقيم بالعزم على الإقامة وإن لم تقم ، والتفريع على هذا أوجه ، ولا يبعد سقوط «فما» قبل «أقمت» والتقدير : إن عزمت على المقام ثمّ تجدّد لك الرجوع فما أقمت فلا تقصّر ، فيكون قوله : فلا تقصّر ، هو الجواب ، وهذا أمكن في المعنى وأبين ، والفاء في قوله : فإن كان سفرك بريداً ، للتفصيل لا للتفريع ، لأنّ الأمر بالتقصير في البريد لا يتفرّع على ما تقدّمه من اشتراط البريدين في القصر ، وأربع في الأميال والفراسخ بدون التاء في جميع النسخ ، ويمكن توجيهه في الفراسخ بنحو ما مرّ في رواية «المقنع (٣)» وفي الأميال بعودها إلى الأذرع والأصابع وبأنّ الميل كما قيل (٤) مسافة متراخية من الأرض بغير حدّ أو بقدر مدّ البصر.

__________________

(١) فقه الإمام الرضا (عليه السلام) : باب صلاة المسافر والمريض ص ١٥٩ ـ ١٦١.

(٢) بحار الأنوار : باب وجوب قصر الصلاة ج ٨٩ ص ٦٥ ح ٣٥.

(٣) تقدّمت في ص ٤٢١.

(٤) كما في القاموس : ج ٤ ص ٥٣ مادّة «مال».

٤٣١

والبريد أربع فراسخ ، وفي حكمه ما زاد من الأعداد إلى أن يبلغ البريدين ، للإجماع على اتحاد حكم الجميع ودلالة التحديد بالبريدين على ذلك ، ولا ينافيه قوله : بريداً واحداً ، لأنّه للاحتراز عن المتعدّد ، ولا يحصل التعدّد إلاّ إذا كان بريدين أو أكثر ، وعليه يحمل قوله : وإن كان أكثر من بريد ، فهو تأكيد لما قبله من وجوب القصر في البريدين وتوطئة لما بعده من اشتراط خفاء الأذان.

وهذه العبارة واضحة الدلالة على المطلب جامعة لأطراف المسألة وقد دلّت صريحاً على وجوب القصر في الثمانية ووجوب الإتمام فيما دون الأربعة وهما موضع وفاق ، وعلى ثبوت التقصير بالأربعة ولو بالتخيير لمن لم يعزم على المقام وأنّه لا يكتفي بها ولا بمطلق الرجوع في تعيين القصر.

وظاهرها تعيين القصر إذا قصد الرجوع ليومه والإتمام إذا عزم على مقام عشرة أيّام والتخيير بينهما إذا لم يرد الرجوع ليومه ولم يعزم على المقام.

أمّا الأوّل فلقوله (عليه السلام) «وإن كان سفرك بريداً واحداً أو أردت أن ترجع من يومك قصّرت» فإنّه أمر بالتقصير في هذه الصورة ، وظاهره تعيين القصر ، ويؤيّده التعليل بالبريدين ، فإنّ الأمر بثبوت حكم البريدين الامتدادين هنا لاتصال المسافة وحكمها تعيين القصر فيتعيّن في هذا الفرض ، ويزيده تأكيداً قوله بعد ذلك «وإن سافرت إلى موضع مقدار أربع فراسخ ولم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار ، فإن شئت تمّمت وإن شئت قصّرت» لدلالته بمفهوم الشرط وقرينة المقابلة على انتفاء الخيار إذا أراد الرجوع ليومه ، وهو إمّا تعيين الإتمام أو تعيين القصر بالبريدين ، والأوّل باطل قطعاً فتعيّن الثاني. وتحديد وجوب القصر بالبريدين وإن اقتضى لعموم المفهوم عدم تعيين القصر فيما دونهما مطلقاً ، إلاّ أنّ هذه الصورة قد خرجت من العموم بما دلّ من الكلام على تعيين القصر فيهما بالخصوص ، فكان الحدّ أحد الأمرين من البريدين الامتدادين والبريد الواحد بشرط الرجوع لليوم.

وأمّا الثاني فيستفاد من قوله (عليه السلام) «وإن عزمت على المقام وكان مدّة سفرك

٤٣٢

بريداً واحداً ثمّ تجدّد لك فيه الرجوع من يومك أقمت فلا تقصّر» فإنّه تضمّن النهي عن التقصير وهو حقيقة في التحريم ، وتحريم القصر مع تجدّد الرجوع لليوم يستلزم تحريمه مع بقاء العزم على المقام أو إرادة الرجوع بعد اليوم قبل العشرة ، والتقييد للتنصيص على الفرد الخفي لا للتخصيص ، فمقتضى الكلام وجوب الإتمام على عازم المقام سواء بقي على عزمه أو رجع عنه أراد الرجوع ليومه أم لا ، فيجب إخراجه من إطلاق الخيار لمن لم يرد الرجوع ليومه حملا للمطلق على المقيّد. والمراد بالمقام عشرة أيّام لا ما قابل الرجوع لليوم وإلاّ لزم اختصاص الخيار (بالمتردّد ـ ظ) ولم يقل به أحد ، على أنّ النفي في قوله «ولم ترد الرجوع في يومك» إمّا أن يتوجّه إلى القيد أو إليه مع المقيّد ، وعلى التقديرين فقاصد الرجوع لغير اليوم داخل في موضع الخيار مقصود من هذا الحكم في الجملة فيخرج عن هذا الكلام الدالّ على تعيين الإتمام.

وأمّا الثالث فيعلم من الحكم بالخيار لمن لم يرد الرجوع ليومه مع المنع من التقصير إذا عزم على المقام كما مرّ فيدخل في الخيار للعازم على الرجوع بعد اليوم قبل العشرة والمردّد بأقسامه وهي أربعة ، هذا ما يقتضيه ظاهر العبارة ويتبادر منها أوّل وهلة. وفيها احتمال آخر وهو التخيير في الصوَر الثلاث مع رجحان القصر في الأُولى والإتمام في الثانية والتسوية بينهما في الثلاث ، فإنّه (عليه السلام) أوجب القصر على المسافر إذا كان سفره ثمانية فراسخ ، والمراد الثمانية الامتدادية ، لتبادرها من الإطلاق ووجوب إرادتها هنا بقرينة مقابلتها بالثمانية الملفّقة ، ثمّ أوجب الإتمام في آخر العبارة إذا كان السفر دون الأربعة ، وعموم المفهومين يقتضي عدم تعيين شئ من الأمرين في الأربعة بصوَرها الثلاث ويلزمها التخيير في الكلّ ، فيحمل الأمر بالقصر لمريد الرجوع ليومه على الندب والنهي عنه لمريد المقام على الكراهة والتخيير فيما عداها على التسوية ، فيشعر بذلك العدول عن صريح الوجوب في الأوّلين إلى الأمر والنهي والاكتفاء في الأخير بالتخيير من دون إشعار بالمفاضلة. وظهور قوله «فإن شئت تمّمت وإن شئت قصّرت» في التسوية ،

٤٣٣

ولا ينافي ذلك التعليل بالبريدين في الأوّل إذ ليس نصّاً في اتحاد الحكم بل يحتمل إرادة قرب التلفيق في هذه الصورة في الامتداد وإن بُعد.

ولا ريب أنّ الوجه في العبارة ما تقدّم لتقدّم المنطوق على المفهوم والخصوص على العموم والتخصيص على المجاز ، لأنّ التخيير على خلاف الأصل ، فيقتصر على القدر المعلوم من النصّ مع أنّ التفصيل بالتسوية والترجيح فيما ذكر لم يظهر به قائل من الأصحاب ، ومقتضى كلام القائلين بالتخيير رجحان القصر وإن لم يرجع ليومه ، فإنّهم حملوا أخبار عرفات على استحباب القصر وكراهة الإتمام وهو خلاف التفصيل المذكور.

وممّا ذكرنا تبيّن دلالة العبارة على ما ذهب إليه أكثر القدماء (١) من وجوب القصر على مريد الرجوع لليوم والتخيير لمن لم يرد ذلك ، غير أنّه قد يشكل في قاصد المقام ، فإنّ ظاهر الكلام كما عرفت وجوب الإتمام عليه وإطلاق كلامهم يقتضي التخيير وسياق القول في ذلك آت عند إيراد عبارات الأصحاب في المسألة. وليس في هذه العبارة تصريح بحكم الصوم فإنّ القصر حقيقة في الصلاة والباب معقود لها ، وقال (عليه السلام) بعد هذه العبارة بفاصلة عدّة أحكام : ومتى وجب.

عليك التقصير في الصلاة أو التمام لزمك في الصوم مثله. وفي كتاب الصوم (٢) : وكلّ مَن وجب عليه التقصير في السفر فعليه الإفطار ، وكلّ مَن وجب عليه التمام في الصلاة فعليه الصيام متى ما أتمّ صام ومتى ما أفطر قصّر ، ومقتضى ذلك تبعية الصوم للصلاة إذا تعيّن فيها القصر أو الإتمام لا إذا تخيّر. ويستفاد ممّا ذكره (عليه السلام) في الموضعين إرادة الصلاة وحدها من العبارة المتقدّمة وخروج الصوم عنها فيبقى حكمه في موضع الخيار مسكوتاً عنه ، وحمل الوجوب واللزوم على ما يشمل التخيير بعيد ، ومع ذلك فاللازم منه ظاهراً هو التبعية بالاختيار لا في التخيير

__________________

(١) المقنعة : باب حكم المسافرين في الصيام ص ٣٤٩ ، من لا يحضره الفقيه : في صلاة

المسافر ج ١ ص ٤٣٦ ذيل ح ١٢٦٨ ، النهاية : في صلاة المسافر ص ١٢٢.

(٢) فقه الإمام الرضا (عليه السلام) : في باب الصوم ص ٢٠٢.

٤٣٤

ومنتظر الرفقة إذا خفي عليه الجدران والأذان قصّر إلى شهر إن جزم بالسفر دونها وإلّا اشترطت المسافة.

______________________________________________________

ولا قائل به ، فإنّ القائلين بالتخيير يجوّزون اختيار الصوم مع القصر والإتمام مع الفطر. إلى هنا جفّ قلمه الشريف في هذه الرسالة.

[حكم منتظر الرفقة]

قوله قدّس الله تعالى روحه : (ومنتظر الرفقة إذا خفي عليه الجدران والأذان قصّر إلى شهر إن جزم بالسفر دونها وإلاّ اشترطت المسافة) في المسألة ستّ صوَر ذكرها الفاضل المقداد (١) والمحقّق الثاني (٢) والمولى الأردبيلي (٣) والفاضل الخراساني (٤) وغيرهم (٥) ، وقد اقتصر في بعض العبارات كما ستسمع على بعضها ، وهناك صوَر أُخر لم يذكرها الأكثر ، ولم يتعرّض لهذا الفرع الصدوق والمفيد والسيّد وأبو يعلى والطوسي وأبو المجد وأبو المكارم فيما حضرني من كتبهم ولا في الفقه الرضوي ولا الشيخ في الخلاف.

وبيان الصوَر الستّ : أنّه لا يخلو إمّا أن ينتظرهم وهو دون محلّ الترخّص أو متعدّ عنه أو على رأس المسافة فما زاد ، وعلى كلّ تقدير إمّا أن يكون جازماً على السفر دونهم أو لا فهذه ستّة أقسام.

فإن كان دون محلّ الترخّص فإنّه يتمّ مطلقاً سواء كان جازماً أو لا ، وكذا يتمّ لو كان متعدّياً عن محلّ الترخّص دون المسافة غير جازم على السفر من دونهم ، فهذه ثلاثة أحوال يتمّ فيها.

__________________

(١) التنقيح الرائع : في صلاة المسافر ج ١ ص ٢٨٦.

(٢) حاشية الإرشاد : في صلاة المسافر ص ٤٤ ص ١٦ وما بعده «مخطوط في مكتبة المرعشي

برقم ٧٩).

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : في صلاة المسافر ج ٣ ص ٤٠٣.

(٤) ذخيرة المعاد : في صلاة المسافر ص ٤١١ س ٢٧ وما بعده.

(٥) كالسيّد العاملي في مدارك الأحكام : في صلاة المسافر ج ٤ ص ٤٤٠.

٤٣٥

______________________________________________________

وأمّا الثلاثة الباقية فإنّه يقصّر فيها ما لم ينو الإقامة عشراً أو يمض عليه ثلاثون يوماً. وفي «الرياض» لو قصد مسافة فتجاوز سماع الأذان ثمّ توقّع رفقة لم يجزم بالسفر من دونهم أتمّ وإن جزم أو بلغ المسافة قصّر بلا خلاف (١) ، انتهى. وفي «مجمع البرهان (٢)» أقسام هذه المسألة مع أدلّتها ظاهرة. وإن لوحظ الجزم بسفر الرفقة أو الظنّ به زادت الأقسام.

وأمّا عبارات الأصحاب في المقام فقال الشيخ في «النهاية» : إذا خرج قوم إلى السفر وساروا أربعة فراسخ وقصّروا من الصلاة ثمّ أقاموا ينتظرون رفقة لهم في السفر فعليهم التقصير إلى أن يتيسّر لهم العزم على المقام فيرجعون إلى الإتمام ما لم يتجاوز ثلاثين يوماً ، وإن كان مسيرهم أقلّ من أربعة فراسخ وجب عليهم الإتمام إلى أن يسيروا فإذا ساروا رجعوا إلى التقصير (٣) ، انتهى. وفي «السرائر (٤)» أنّ ما ذكره في النهاية أخيراً غير واضح ولا مستقيم. وفي «المعتبر (٥)» كأنّه يعني الشيخ عوّل على الرواية * ومنعه المصنّف (٦) وجملة ممّن

__________________

(*) قلت : أراد بالرواية رواية إسحاق بن عمّار (٧) الّذي قال فيها عليه‌السلام : إن كانوا قد بلغوا ، ولذلك ظنّ جماعة (٨) أنّ مذهبه في النهاية أنّ الأربعة باعتبار انضمام الذهاب إلى الإياب مسافة شرعيه كالثمانية وإن لم يرد الرجوع ليومه (منه قدس‌سره).

__________________

(١) رياض المسائل : في صلاة المسافر ج ٤ ص ٤١٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان : في صلاة المسافر ج ٣ ص ٤٠٣.

(٣) النهاية : في صلاة المسافر ص ١٢٤ ١٢٥.

(٤) السرائر : في أحكام صلاة المسافر ج ١ ص ٣٤٣.

(٥) المعتبر : في صلاة المسافر ج ٢ ص ٤٦٩.

(٦) تذكرة الفقهاء : في صلاة المسافر ج ٤ ص ٣٧٦.

(٧) وسائل الشيعة : ب ٣ من أبواب صلاة المسافر ح ١٠ ج ٥ ص ٥٠١.

(٨) منهم الشيخ البحراني في الحدائق الناضرة : في صلاة المسافر ج ١١ ص ٣٣٨ ، والطباطبائي في الرياض : ج ٤ ص ٤١٥.

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تأخّر عنه (١) والحاصل كأنّهم مطبقون على ردّه ، وصاحب «الحدائق (٢)» استجوده بناءً على ما اختاره في مسألة الأربعة الملفّقة كما عرفت.

وقال في «المبسوط» : من خرج من البلد إلى موضع بالقرب من مسافة فرسخ أو فرسخين بنيّة أن ينتظر الرفقة هناك والمقام عشراً فصاعداً فإذا تكاملوا ساروا سفراً يجب عليهم التقصير ، ولا يجوز أن يقصّر إلّا بعد المسير من الموضع الّذي يجتمعون فيه ، لأنّه ما نوى بالخروج إلى هذا الموضع سفراً يجب فيه التقصير ، فإن لم ينو المقام عشرة أيّام وإنّما يخرج بنيّة أنّه متى تكاملوا ساروا قصّر ما بينه وبين شهر ثمّ يتمّ (٣) انتهى. قال في «السرائر (٤)» بعد نقل هذه العبارة : إن أراد المسألة الثانية في النهاية أنّه ما نوى بالخروج إلى دون الأربعة فراسخ سفراً يجب فيه التقصير وإنّما خرج بنيّة أنّه متى تكاملوا ووجد الرفقة سافر فإنّه يجب عليه التمام فإنّه مستقيم صحيح ، وإن أراد أنّه خرج إلى السفر بنيّة السفر فلمّا وصل إلى دون الأربعة توقّف ينتظر الرفقة وما عزم على مقام عشرة أيّام ولا بدا له عن الرجوع فليس بصحيح ولا مستقيم بل الواجب عليه عند هذه الحال التقصير. قلت : يشير إلى إرادة الأوّل قوله في المسألة الاولى «فقصّر» فتدبّر.

__________________

(١) لا يخفى عليك أنّ المنع الّذي أشار إليه الشارح في كلام جملةٍ ممّن تأخّر عن العلّامة إنّما يتعلّق بقول الشيخ : وإن كان مسيرهم أقلّ من أربعة فراسخ وجب عليهم الإتمام إلى أن يسيروا فإذا ساروا رجعوا إلى التقصير ، انتهى. فإنّ كلامه هذا على إطلاقه غير مقبول لأنّ الواقف على أقلّ من أربعة فراسخ قد يجزم بالسفر وإن لم تجئ الرفقة وقد يكون بعد الترخّص وإتيان صلاة واحدة ، ففي هذه الصوَر الحكم إنّما هو التقصير لا الإتمام. نعم يصحّ الإتمام فيما لو لم يجزم على السفر من دون الرفاق في الأوّل ، أو جزم ولكن لم يبلغ إلى حدّ الترخّص ، أو وصل ولكن لم يصلّ صلاة واحدة ، فراجع فوائد الشرائع : ص ٥٩ ٦٠ ، وكشف الالتباس : ص ١٩٥ ، والمدارك : ج ٤ ص ٤٤٠ ، فإنّ كلام هؤلاء وإن لم يكن صريحاً في ردّ كلام الشيخ إلّا أنّه يردّه مضموناً.

(٢) الحدائق الناضرة : في صلاة المسافر ج ١١ ص ٣٣٧.

(٣) المبسوط : في صلاة المسافر ج ١ ص ١٣٩.

(٤) السرائر : في أحكام صلاة المسافر ج ١ ص ٣٤٤.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال في «المعتبر» لو قصد مسافة فتجاوز سماع الأذان وتوقّع رفقة قصّر ما بينه وبين شهر ما لم ينو الإقامة أو العود ، ولو كان دون ذلك أتمّ ، لأنّ قصد المسافة شرط القصر إذا غاب عنه جدران البلد أو خفي أذان أهله ، وإذا توقّع الرفقة فإن عزم العود إن لم يلحقوا به لم يجز القصر وإن عزم السفر لو لم يلحقوا قصّر ، وإن عزم السفر ثمّ توقّع قصّر ما بينه وبين شهر ، ولو كان ما قطعه من المسافة لم يتجاوز موضع الأذان أتمّ ، لأنّ ذلك بحكم البلد وإلى هذا أومأ في المبسوط (١) ، انتهى.

وذكر في «المنتهى» ما في «المعتبر» ، وزاد قوله : ولو خرج من بلده إن وجد رفقة سار وإلّا رجع أتمّ ما لم يسر ثمانية فراسخ (٢). ومثله قال في «التحرير (٣)» وأنت خبير بما في كلامه فيهما من النظر فإنّ قضيّته أنّه إنّما خرج من بلده معلّقاً سفره على وجود الرفقة وهذا غير قاصد للسفر وحكمه الإتمام وإن قطع مسافات عديدة بهذه الكيفيّة. والظاهر أنّ مراده وإن قصرت العبارة عنه أنّه خرج ناوياً للسفر وقاصداً للمسافة ولكن عرض له ما يوجب عدم استمرار القصد من انتظار الرفقة ، فإن كان قبل بلوغ نهاية المسافة فالواجب الإتمام ، وإن كان بعد حصول الثمانية فالواجب البقاء على التقصير كما أومأ إلى ذلك في «التذكرة (٤) ونهاية الإحكام (٥)» حيث قال فيهما : إلّا أن يكون قد قطع مسافة فيقصّر إلى شهر. وقريب منهما في ذلك عبارة الكتاب (٦).

وعلى ذلك تنزّل عبارة الشرائع ونحوها وهي أبعد عن الوهم من عبارة المنتهى ، قال في «الشرائع» : لو خرج ينتظر رفقة إن تيسّروا سافر معهم ، فإن كان

__________________

(١) المعتبر : في صلاة المسافر ج ٢ ص ٤٦٨ ٤٦٩.

(٢) منتهى المطلب : في السفر ج ١ ص ٣٩١ س ٧.

(٣) تحرير الأحكام : في السفر ج ١ ص ٣٣٤.

(٤) تذكرة الفقهاء : في السفر ج ٤ ص ٣٧٦.

(٥) نهاية الإحكام : في السفر ج ٢ ص ١٧١.

(٦) تقدّمت في ص ٤٣٥.

٤٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

على حدّ مسافة قصّر في سفره وموضع موقفه ، وإن كان ما دونها أتم حتّى يتيسّر له الرفقة ويسافر (١). وقوله «وإن كان ما دونها أتم» ليس على إطلاقه.

وقال في «البيان» : لو توقّع رفقة علّق سفره عليهم أتمّ إلّا أن يكون بعد المسافة فيقصّر إلى ثلاثين يوماً ، ولو كان التوقّع في محلّ رؤية الجدران أو سماع الأذان أتمّ وإن جزم بالسفر دونها (٢) ، انتهى. وفي «الدروس (٣) والموجز الحاوي (٤) وكشف الالتباس (٥) والهلالية» وغيرها (٦) أنّ منتظر الرفقة على حدّ مسافة مسافر وعلى حدّ البلد مقيم وبينهما إن جزم بالسفر فمسافر وإن وقف عليها فمقيم لكنّه في «الهلالية» اعتبر الظنّ كما في «الذكرى (٧)».

وفي «النافع» لو قصد مسافة فتجاوز سماع الأذان ثمّ توقّع رفقة قصّر .. إلى آخره (٨). ويجب تقييده بما إذا لم يعلّق سفره عليهم ولم يبلغ رأس المسافة.

وعبارة «التذكرة (٩) ونهاية الإحكام (١٠)» كعبارة الكتاب من دون تفاوت أصلاً ، ونحوها عبارة «الإرشاد (١١)» قال فيه : منتظر الرفقة يقصّر مع الخفاء والجزم أو بلوغ المسافة وإلّا أتمّ.

وقال في «الذكرى» : منتظر الرفقة على حدّ المسافة مقصّر إلى ثلاثين يوماً ،

__________________

(١) شرائع الإسلام : في السفر ج ١ ص ١٣٣.

(٢) البيان : في السفر ص ١٥٥.

(٣) الدروس الشرعية : في السفر ج ١ ص ٢٠٩.

(٤) الموجز الحاوي (الرسائل العشر) : في القصر والإتمام ص ١٢٠.

(٥) كشف الالتباس : في القصر والإتمام ص ١٩٥ س ٤ (مخطوط في مكتبة ملك برقم ٢٧٣٣).

(٦) كمدارك الأحكام : في السفر ج ٤ ص ٤٤٠.

(٧) ذكرى الشيعة : في السفر ج ٤ ص ٣٠٢.

(٨) المختصر النافع : في السفر ص ٥٠.

(٩) تذكرة الفقهاء : في السفر ج ٤ ص ٣٧٦.

(١٠) نهاية الإحكام : في السفر ج ٢ ص ١٧١.

(١١) إرشاد الأذهان : في السفر ج ١ ص ٢٧٥.

٤٣٩

الثاني : الضرب في الأرض ، فلا يكفي القصد من دونه ، ولا يشترط الانتهاء إلى المسافة بل ابتداؤه بحيث يخفى عليه الجدران والأذان ، فلو أدرك أحدهما لم يجز القصر ،

______________________________________________________

وعلى أقلّ منها وهو جازم بالسفر من دونها مقصّر إذا كان في محلّ الترخّص ، وإن علّق سفره عليها وعلم أو غلب على ظنّه وصولها فكالجازم بالسفر من دونها ، وإن انتفى العلم وغلبة الظنّ أتمّ ، وكذا لو كان توقّعه في محلّ الترخّص كالّذي لم يتجاوز رؤية الجدار وسماع الأذان (١). وقد وافق على ذلك كلّه الفاضل الميسي والمحقّق الكركي (٢) وتلميذاه في «إرشاد الجعفرية (٣) والغرية» واستحسنه في «الروض (٤)» فعلى هذا عبارة الكتاب ونحوها ليست على إطلاقها ، لأنّ الجازم بسفر الرفقة يقصّر وإن لم يكن بلغ المسافة.

وظاهر «مجمع البرهان (٥)» وغيره (٦) عدم اعتبار الظنّ ، وفي «الذخيرة» في إلحاقه بالعلم نظر (٧).

والكلام في اعتبار الشهر أو الثلاثين يوماً وعدم اختصاص ذلك بالمصر واحتساب ما مضى إذا رجع عن التردّد يأتي في محلّه.

[في اشتراط الضرب في الأرض]

قوله قدّس الله تعالى روحه : (الثاني : الضرب في الأرض ، فلا يكفي القصد من دونه ولا يشترط الانتهاء إلى المسافة بل ابتداؤه

__________________

(١) ذكرى الشيعة : في السفر ج ٤ ص ٣٠٢.

(٢) الرسالة الجعفرية (رسائل المحقّق الكركي : ج ١) في السفر ص ١٢٢.

(٣) المطالب المظفّرية : في السفر ص ١٤٣ س ١ (مخطوط في مكتبة المرعشي برقم ٢٧٧٦).

(٤) روض الجنان : في السفر ص ٣٩٣ س ٢٥.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان : في السفر ج ٣ ص ٤٠٣.

(٦) كرياض المسائل : في السفر ج ٤ ص ٤١٤.

(٧) ذخيرة المعاد : في السفر ص ٤١١ س ٢٨.

٤٤٠