موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

أبوه (ته موچين). ويقال لأولاد يسوكي ومن تناسل منهم بورجيكين قييان. لكونهم شهل العيون وبيضا. وقد خلفه من أولاده ابنه الأكبر وهو جنگيزخان وبهذا انتهت (امارات المغول) وابتدأت (حكومتهم العظمى). ولذا أفردت بالبحث.

حكومة جنگيزخان

أوائل أيامه :

وضع له أبوه اسم (تموچين) وفي تحفة النظار : أنه كان حدادا بأرض الخطا وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم وكان يجمع الناس ويطعمهم ثم صارت له جماعة فقدموه على أنفسهم وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره فغلب على ملك الخطا ثم على ملك الصين وعظمت جيوشه وتغلب على بلاد الختن وكاشخر (كاشغر) والمالق وكان جلال الدين ... خوارزمشاه له قوة وشوكة فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له. ومثلها في غيرها (١). ولما صار خانا لقب (بجنگيزخان). ويقال له ولإخوته ولمن تناسل منهم قبيلة (بورجكين قييان) لكونهم بيض البشرة وشهل العيون. وهذا ما توسمته فيهم جدتهم العليا الانقووا في البطن التاسعة.

إن جنگيز ولد سنة الخنزير (٥٤٩ هجرية) في المغول في محل يقال له ييلون بيلدوق (ديلون بولداق). وكانت إحدى يديه وجدت مقبوضة على قطعة دم. وكان أحد الحضار في مجلس والده ـ حين تداولوا في غرابة ذلك ـ أبدى أن هذا يدل على أنه سيكون ملكا عظيما. وأبوه يسوكي بهادور. وقد مر القول عن أجداده سوى أن المغول يقفون

__________________

(١) ر : ج ١ ص ٢٢٥.

٨١

عند الجد السابع ولا يعدون ما بعده. وفي المثل عند الترك في الاناضول إلى الآن يقال : [هو حداد من سابع ظهر] كما أن عندنا ما يشابه هذه العادة فإذا سب أحدنا الآخر يشتمه إلى [سابع ظهر].

ولما توفي يسوكي (١) (والده) كان له من العمر عشر سنوات وكان إخوته صغارا وأن نسل بودانجار كلهم كانوا تابعين ليسوكي خان فيأخذ منهم العشر من أموالهم. وأن الأموال التي يؤخذ عليها العشر : هي الخيل والإبل والبقر والغنم. ومن عوائدهم أن الخان إذا مات وترك أولادا ينصبون أحدهم. وأما الباقون فيختلطون بالأهلين فيكونون كأحدهم. وفي كل سنة يؤدون للخان فرسا أو بعيرا. ولكن هؤلاء إذا ماتوا وقد خلفهم أولادهم فحينئذ يؤدون العشر كسائر أفراد العشيرة بلا فرق.

فالذين يؤدون إلى يسوكي الخراج نحو ٣٠ أو ٤٠ ألف بيت. ولما مات وخلفه ابنه وكان صغيرا صار الناس لا يخشون بطشه. ولذا حلا المال بأعينهم وصار يصعب عليهم إعطاؤه ففروا منه ولم يبايعوه وذهبوا إلى مواطن بعيدة بقصد التخلص من القيود ...

افترقت قبيلة أبيه بعد موته وهي من عشائر التايجوت وتبعثرت أمورها وانقسمت إلى فريقين أحدهما وهو ثلاثة أرباعها قد اتفق مع التايجوت والفريق الآخر بقي مع جنگيز. وأيضا بقي معه من القبائل الأخرى البيت والبيتان والثلاثة أو الأربعة إلى الخمسة والباقون انفصلوا عنه فوقعت حروب دامية بين الفريقين وأما القبائل الأخرى فقد مالت إلى التايجوت.

إن أم جنگيزخان كانت تسمى اولون ، وهي من قبيلة اولقنوت وكانت عاقلة مدبرة ، وهذه إثر وفاة والده تزوجت من (مينكيليك) الملقب

__________________

(١) يلفظ «يه سوكه ي» أيضا كما تقدم.

٨٢

(ايچيكه) ، وبهذه الوسيلة قد التحقت قبيلته المسماة (قونغ قومار) بجنگيزخان فصارت تابعة له ، وهذا مما ساعد جنگيزخان كثيرا في نجاحه على مناوئيه وتسلطه عليهم ...

محاربات جنگيز القبائلية :

ولما بلغ جنگيزخان ثلاث عشرة سنة من عمره حارب قبيلة تايجوت ونيرون اللتين من قبيلة والده في أكثر أحيانه حروبا وبيلة ، وعديدة ، فلم يظهر الغالب تماما فكانت سجالا بين الفريقين.

وفي سنة ٥٩٠ للهجرة (١١٩٣ م) بلغ جنگيز الإحدى والأربعين سنة من عمره. وحينئذ اتحدت القبائل واتفقت على مقارعته والقضاء عليه ...

وفي هذا الحين عرك الدهر بتجاربه فعرف حلوه ومره وحلب أشطره فمخض شؤونه وقد تمرن على الكفاح ونال مهارة ، فلما سمع بالخبر جمع أمواله وقبائله. فكان معه في ذلك الوقت ١٣ قبيلة (أوروق) (١) فاتخذ ثلاثة عشر مقرّا (كوران) لجيوشه على عدد قبائله وقرب الواحد من الآخر فجعلهم بشكل دائرة ووضع في وسط هذه الدائرة نفائس أمواله ، وشد أحمالها ، وأما الرديء والتافه من الأموال فقد وضعه خارج الفيالق ...

ولما جاءته الأعداء أركب خيالته وجعلهم صفوفا لمحافظة الكتائب والجيوش من الوراء. أما جنگيز فقد كان معه عشرة آلاف في حين أن أعداءه كانوا ثلاثين ألفا فاشتبك القتال بين الطرفين ونالت الحرب شدة وقوة. فتغلب جنگيز على اعدائه وقد فقد من جيوشه خمسة آلاف إلى ستة آلاف.

أما الذين قبض عليهم من قبيلة تايجوت فقد أغلى لهم الماء

__________________

(١) ورد في جامع التواريخ بلفظ «أوروغ» «ر : ص ٦ منه».

٨٣

بمراحل ورماهم فيه أحياء فقتلهم بهذه الطريقة وأبقاهم حتى نضجوا.

وحينئذ تقدم إلى مواطنهم فاستولى عليها وانتهب ما فيها من أموال واتخذ أبناء الرؤساء أسرى وموالي والباقين ألحقهم بقبيلته.

وبهذا النصر نال غلبة وقوة فاكتسح بعد هذه الوقعة جميع انحاء مغولستان. وهذه الحروب وإن كان غاية ما يقال عنها إنها قبائلية ولم تكن مقارعة حكومة بحكومة إلا أنها تعلق عليها أهمية كبرى أولا من ناحية تمرنه على الحروب وممارسته لها وثانيا من حيث توحيد أمة المغول وتوجيهها نحو وجهة واحدة ، معلقة به قلبا وقالبا. وتظهر نتائج هذه وأهميتها في غلبته على الأقوام الأخرى. وظهوره بمظهر فاتح ...

حرب جنگيز مع ملك كرايت (١) وتغلبه عليه :

إن چاموقا چچن (ومعنى چچن العاقل المدبر) جاء يوما إلى سنكون بن أونغ (أونك) (٢) خان الكبير وقال له : إنكم تعرفون جنگيز صديقا لكم. والحال أنه اتفق مع تايانك خان وبويوروق خان خفية لمحوك وأباك وإزالة أثركما. ولم يكن أحد واقفا على أسرار جنگيز مثلي لأني من أقاربه وألصق الناس به خصوصا أنا عشنا سويّة ...

وبتأثير من قوله هذا حدثت منافرة بين المتجاورين كرايت ونايمان واشتد العداء بينهما فالكل اعتقدوا بصحة ما قاله چچن إلا أن الأب قال لابنه : «ان يسوكي ، وابنه جنگيز ، قد صنعا جميلا معنا فإذا لم يتجاوزوا علينا فلا نقدر أن نعتدي عليهما وإن چاموقا چچن كثير الكلام ومفسد. فلا أعتقد بكلامه ولا أشتري عداوة صديقي ومن له لطف علي فليس ذلك مني بصحيح».

__________________

(١) ورد في ابن العبري بلفظ كريت.

(٢) ورد بهذا اللفظ في الكتب العربية «أبو الفداء. وابن العبري».

٨٤

وسبب الصداقة القديمة هو أن قبيلة كرايت كان يملكها (مارغوزخان). ولهذا ابنان (قوجاقور) و(كور). ولما مات أبوهما اقتسما المملكة بينهما. وكان لقوجاقور خسمة أولاد أونغ خان (اونك) ، وأركه قارا ، وباي تيمور ، وما ميشاي ، وجاكه مبو. ولما مات أبو هم لم يقسم في حياته الملك بينهم فصارا اونغ خان مع جاكه مبو في جهة واركه قارا مع باقي أخويه في جهة أخرى فتحارب الفريقان ، فتغلب اونغ خان فاضطر اركه قارا على الفرار والتجأ إلى نايمان فأمده. وعلى هذا تمكن من الوقيعة باعدائه «أخوته» وحلوله محلهم. أما اونغ خان فأنه التجأ إلى يسوكي وهذا هاجم اركه قارا فهزمه وأقام أونغ مقام أبيه. ثم أن اركه قارا التجأ إلى عمه كورخان وأراد أن يتوسط الأمر صلحا فلم يقبل اونغ خان ولذا مشى عليه عمه وتحارب معه وفي هذه المرة أعانه يسوكي أيضا بعد أن ذهب عنه جميع من معه وألتحقوا بأخيه فتغلب على الكل وقتل أخاه واستقل بالخانية ومن ذلك الحين لم يطرأ على دولته خلل بل زادت وتكاملت بمرور الأيام.

والحاصل أن اونغ خان نسي هذا الجميل مؤخرا وهو الذي دبر قتل جنگيزخان بحيلة وذلك أنه أعطاه ابنته فدعاه إلى بيته بأمل أن يأتيه فيقتله وكان اسم بنته چاأور بيكي ، ودعا جنگيز بواسطة «بوقداي قونجات» ويسمون الداعي «چاقيرنا» ، وكانت البيوت متقاربة. أما چنكز فانه كان غافلا عما دبروه من الحيلة للوقيعة به ، ولذا أخذ معه أثنين من أعوانه وخرج للذهاب إلى بيت اونغ خان. ولكن صادفه في طريقه (مينكيليك ايچيكه) وهذا أطلع جنگيز على الحيلة وما ينويه اونغ خان. ولهذا عاد جنگيز وأبدى أن فرسه متعب ولا يستطيع الذهاب. وأنه بعد أيام سيرسل خبرا بذلك معتذرا عن حسن معاملته.

وبعد بضعة أيام جاء إلى جنگيز شابان اسم الكبير منهما (باداي) والآخر (قيشاق) فأخبرا جنگيزخان أن (بوكه چه ران) الذي يرعيان بقره

٨٥

حينما جاء كبيرهما بحليب إلى بيته وقبل أن يدخل سمعه يكلم زوجته أن بوقداي حينما عاد من جنگيز عقد الخان مجلس شورى (كنكاش) والظاهر أن جنگيز اطلع على الحيلة ولذا لم نتمكن من الوقيعة به. فليلة غد نركب خيولنا ونخرج وقت السحر وسنفاجئهم على غرة ... ولما سمعت هذا القول منه قدمت لهم الحليب ورجعت توا إليك لأخبرك بما جرى.» ا ه.

ولما سمع جنگيز بهذا الخبر أرسل على أفراد قبيلته وأمر أن يرحلوا إلى عين بالجونا وأرسل رجاله إلى هناك وبقي أعوانه المسلحون معه. وكانوا كلهم ٢٥٠٠ رجل فانتظروا الليل كله وأعنة خيولهم بأيديهم وتأهبوا للطوارىء يتربصون الوقت المنتظر للهجوم. وقبل أن ترتفع الشمس (١) نحو رمح أو رمحين جاءهم الأعداء وكانوا اثني عشر ألفا فتقارعا.

ثم إن جنگيز تشاور مع قو يولدار چچن رئيس قبيلة مانقوت فأبدى له أنه بقبيلته يهاجم الأعداء ويركز علمه (توغه) وراء الأعداء وأن يلازم جنگيز الجبهة ويهاجم من ناحيتها وعلى هذا هاجم قو يولدار من الخلف وصال جنگيز من الأمام.

أما الكرايت فإنهم هاجموا بجماعاتهم ثلاث هجومات وفي الرابعة هاجم (سنكون) ابن اونغ خان فاخترق صفوف المغول ولكنه في هذه الأثناء جرح في وجهه. وهذا ما دعا أن يقتل من الكرايت كثيرون وينسحب الباقون لما نالهم من الجروح.

وبعد هذا النصر قال جنگيز : «إننا لو بقينا في مواطننا تضررنا.

__________________

(١) في ابن العبري هاجمهم العدو وقت السحر «ر : ص ٣٩٤».

٨٦

لأن الكرايت سوف يأتيهم مدد كبير. فينبغي أن ننسحب بانتظام إلى المواطن التي فيها رحالنا». وعلى هذا تركوا الأعداء في مواقعهم ورحلوا لمكانهم الأول. أما الأعداء فإنهم كانوا قد ذهبت منهم ضايعات كثيرة. فلم يستطيعوا اللحاق بالجيش وتعقب أثره فبقوا في مواطنهم.

وصل جنگيز ومن معه إلى عين (بالجونا) [بالجونا بولاق] حيث كانت رحالهم ، ولكن لم يكن هناك من الماء ما يكفي لسد حاجتهم فرحلوا منه إلى ساحل نهر قولا فأقاموا فيه ونزلوا على طول النهر قليلا.

وهناك صادفوا قبيلة قونقرات ، وحينئذ بعثوا إليهم خبرا بأننا جئنا إلى هنا فإن كنتم حربا معنا ـ رغم أننا لم تكن بيننا وبينكم أمور تستوجب ذلك ـ فبينوا رأيكم وصارحونا ، وإن كنتم سلما معنا فعرفونا الصحيح. وعلى هذا وافى الرؤساء إليه وأبدوا الطاعة وبايعوا جنگيزخان ، ثم إن جنگيزخان رحل من هناك أيضا وترك نهر قولا وتوجه نحو نهر تونقانور فجاؤوا إلى ساحله وحلوا به فنزلوا فيه براحة وطمأنينة.

ثم إن جنگيزخان أرسل سفيرا إلى اونك (اونغ) خان ملك كرايت مذكرا له بالحقوق القديمة وهذا أحال الأمر إلى ابنه سنكون فأجابه أننا سوف نصطدم وسيجعل الله الفوز لواحد منا ولا جواب لنا غير ذلك ، ومع هذا كرر جنگيز إرسال السفراء لعدة مرات وكلفهم بالصلح فلم يوافقوا. ولما لم يبق له أمل في الصلح هاجم اونك (اونغ) خان فكانت المعركة قوية ودامية جدا فتغلب فيها جنگيز ، وإن اونغ خان وابنه سنكون فرّ كلّ منهما لجهة مع بضعة أفراد ، فتمكن جنگيز من الاستيلاء على أموالهم ومواشيهم ومزارعهم ، وكانت الغنائم وافرة جدا.

وكانت وجهة اونغ خان الهزيمة إلى ملك نايمان وهو تيانغ خان ، ولكنه حينما وصل إلى قريب من هناك صادفه بعض الأمراء وهما

٨٧

قوروسوماجو وتانيكا فهؤلاء حاذروا أن يأتوا به إلى ملكهم فيغضب عليهم نظرا للعداء السابق بينه وبينهم فقتلوه وقدموا رأسه إلى خانهم (تيانغ خان) المذكور ، وكذا من كان معه ، فلما جاؤوا برأسه غضب وأسف لقتل ملك عظيم مثل أونغ.

أما سنكون فإنه ذهب إلى تيبت وبقي هناك بضع سنوات ، وقد حاول التيبتيون مرة قتله فعلم بذلك وهرب إلى خوتان (ختن) ، وهناك كان الملك (قليچ قارا) ملك قبيلة قالاچ في ختن فألقى القبض عليه وقتله ، وأرسل رأسه مع عائلته وصغاره من أولاد وغيرهم إلى جنگيزخان (١).

وقد أشار في تاريخ العبري في وقائع سنة ٥٩٩ ه‍ ١٢٠٣ م إلى هذه الوقائع بين ملك كرايت أونك خان (اونغ خان) وبين تموچين (قبل أن يتسمى جنگيز) ، وقال عن الكرايت إنها تدين بالنصرانية وإن تموچين كان في خدمته وهو من قبيلة أخرى وقد ابرز من سن الطفولية إلى أن بلغ حدّ الرجولية بأسا وقهرا للأعداء فحسده الأقران وسعوا به إلى اونك خان ، وما زالوا يغتابونه حتى اتهمه وتغيرت نيته وهم باعتقاله والقبض عليه فانضم إليه غلامان من خدم أونك خان فأعلماه القضية وعينا له الليلة التي يريد فيها اونك خان اغتياله وكبسه وفي الحال أمر تموچين أهله بإخلاء البيوت وكمن هو ورجاله بالقرب منها فلما هاجم اونك خان وأصحابه البيوت لقيها خالية من الرجال وكر عليه تموچين وأصحابه من الكمين وأوقعوا بهم وهزموهم ، وبعد هذه حاربوه مرتين حتى قتلوه وأبطاله وسبوا ذراريه (٢).

وفي ابن العبري أيضا أنه «أنعم على ذينك الغلامين وذريتهما بأن

__________________

(١) شجرة الترك ص ٨٤.

(٢) ابن العبري ص ٣٩٤.

٨٨

جعلهم (ترخانية) والترخان هو الحر الذي لا يكلف بشيء من الحقوق السلطانية ويكون ما يغنم من الغزوات له مطلقا لا يؤخذ منه نصيب للملك وزاد لهؤلاء أن يدخلوا على الملوك بغير إذن ولا يعاقبوا على ذنب إلى تسعة ذنوب» وذلك حينما انتصر على الأقوام وعلا شأنه (١).

وعلى كل حال إن مصادرنا القديمة أخذت الوقائع بصورة موجزة كما تقدم في أبي الفداء والعبري فلم تبين حقيقة الوضع ، ومن هذا القبيل الوقائع التالية الموجودة في تاريخ العبري وسائر التواريخ إلى أيام مقارعتهم مع المسلمين ... ولكن يقطع بالصحة من حيث الأساس رغم الاختصار ، ورغم الغلط في الإعلام سواء من النساخ أو من التلقي لبعد الاتصال ، أو صعوبة التلفظ ببعض الأعلام ...

صيرورة جنگيزخانا (ملكا)

إعلانه الملكية

اعلانه السلطنة ووجه تسميته بجنگيز :

في هذه الحروب والانتصارات حصل جنگيزخان على ملك عظيم ، ولكن مع هذا كانت هناك قبائل أخرى لا تزال غير منقادة له خصوصا القبائل ذات الحول والطول منها. فلم يلتفت لمخالفة هؤلاء وأعلن خانيته (ملوكيته) سنة ٥٩٩ ه‍ اي في تلك السنة (١٢٠٣ م) التي تغلب بها على كرايت. وكان عمره آنئذ ٤٩ عاما وذلك في محل يقال له [نيمان كهره].

وحينئذ أجري له احتفال عظيم بأبهة وزينة لا مثيل لهما ، وقد جاء

__________________

(١) ر. ص ٣٩٥.

٨٩

[كوكجه] ابن مينكليك ايچيگه الذي هو من قبيلة [قونقامار]. وهذا يدعوه الناس (صنم الله) (تكري (١) بتي) فقال لجنگيز : «أمرت من جانب الله تعالى أن آتيك وأنبئك وسائر الناس بأن لا يدعوك تموچين. وليكن اسمك جنگيز (٢) وأن الله أعطاك كافة أقطار الأرض». [وچنيك مفرد چنكز بمعنى العظيم أو القهار أو الفظ القاسي]. وكان كوكجة هذا يتجول في البراري والجبال من أرض المغول وفي شتائها القارس حافيا عاريا ويغيب أياما ثم يأتي وكان يقول إنه يأتيه فرس أدهم من الغيب فيركبه ويسري به إلى السماء فيكلمه الله هناك ثم يرجع» وقد تفاءل تموچين خيرا بهذه التسمية فلم يعدل عن قوله. ومثل هذه القصة ما جاء في ابن العبري ولكنها غير واضحة بهذه الصورة : (ص ٣٩٤ : ٣٩٥).

أعماله التالية لإعلانه الاستقلال :

وحينئذ أرسل الرسل إلى جميع شعوب الترك فمن أطاعه وتبعه نجا ومن خالفه خذل وذل (ص ٣٩٥ العبري). وإن أول من عارضه (تيانك خان) [تيانغ] ففي سنة ٦٠٠ ه‍ (١٢٠٣ م) حاربه وكانت من أعظم الحروب التي صادفت جنگيز وكان هولها خطيرا.

وهذه المحاربة الدموية طالت من وقت السحر إلى الغروب جرح فيها تايانك (تيانغ) وكسر جيشه وقد فر مجروحا فمات في الطريق فانتصر عليهم جنگيز وتغلب بصورة باهرة وذلك لأن جنگيز علم بتأهبه من رئيس قبيلة اونغوت التي كتب لها أن لا تتابع جنگيز وهذه أخبرته ،

__________________

(١) وفي ابن العبري تبت تنكري وهو غلط وصحيحه ما ذكر في الأصل كأنه أراد أن يقلب الإضافة ويبقى الاسماء بحالها ...

(٢) ولفظه ابن بطوطة «تنگيزخان» بالتاء ولعله أخذه عن التلفظ وشيوعه بهذه الصورة وقد شاعت اسماء أمراء بهذا اللفظ «تنكيز» في أنحاء سورية ولكن التواريخ العربية نطقت به خاصة بما تقدم ... «ر : ص ٢٢٤ ج ١ تحفة النظار».

٩٠

وأما ابنه وهو (كوچلو) (١) فقد سلم وذهب إلى عمه الأكبر بويروق خان.

وهذه الفتن والأحوال الحربية كان منشأها وسببها الوحيد چاموقا چچن المار الذكر فإنه أوهم اونك خان حتى وقع فيما وقع وفي هذه المرة أهلك تيانك خان (تيانغ) ولذا اتفق الجويرات فألقوا القبض عليه وسلموه إلى جنگيزخان خلاصا من شره فقتله.

ومما يحكى عنه حين قتله وتعذيبه أنه قال : لو كنت قبضت على جنگيز لفعلت به هذه الفعلة.

وبعد أن قضى جنگيز الشتاء لدى أهله عزم في الصيف على مركيت ، وكانت تحت امارة توقتا ، وهذا اتفق مع تيانغ وتقاتل مع جنگيز ، فأحس بضعفه فانهزم وذهب إلى بويوروق خان ملك نايمان ، فاكتسح جنگيز ملكه وألحقه بممالكه.

ومن هناك ذهب إلى تانغوت وكانوا قد تحاصروا في القلعة وفي مدة قليلة تمكن من الاستيلاء عليهم وجعل القلعة قاعا صفصفا وقتل رئيسهم وجعل على ولاياتهم حاكما ، ورجع عنهم.

قضى الشتاء في هذه المرة أيضا ثم ذهب في الصيف المقبل على ملك نايمان وهو بويوروق خان وحينما قارب نايمان في الربيع لم يكن ل (بويوروق خان) علم وكان قد ذهب للصيد فصادفه جنگيزخان فقتله حالا. (وكانت مواطنهم سلطنة (هيا) وعاصمتهم (هياچه أودي) (والآن هينغ هيا). فهم في اولوداغ في شمال بحيرة بالقاش وهي الأراضي التي تفصل تركستان القديمة عن سبيريا). أما كوچلو بن تيالغ وأمير مركيت وأولادهم فلم يكونوا قد ذهبوا معه للصيد وبقوا في الخيام. ولكن قد فرّ أحدهم وقص الخبر عليهم ففرّ كوچلو مع توقتا وذهب إلى (ايرتيش).

__________________

(١) قد عبر عنه مؤرخونا مثل أبي الفداء نقلا عن المؤرخ النسوي أنه كشلو اوكشلي.

والكلام عنه كان مجملا ومبتورا ... فلم يستوف الوقعة.

٩١

فضبط جنگيزخان خيامهم وقبائلهم ورجع ، ثم إنه بايعه القرغز وقدم له أميرهم أوروس اينال الهدايا الفاخرة.

وفي السنة التالية ذهب جنگيزخان لتعقب أثر كوچلو وتوقتا بك فصادف في طريقه قبيلة أويرات وقبيلة قارلوق فبايعتاه وصارتا تريانه الطريق وتدلانه كخريت له ، وبصعوبة وعلى ساحل ايرتيش عثروا على توقتا فقتلوه. أما كوچلو فقد نجا والتجأ إلى تركستان إلى كورخان ملك الخيتاي (الخطا هكذا يلفظه مؤرخو العرب). وقد أكرمه كورخان وأعطاه بنته وجعله كاتبه ... ومن ثم رجع جنگيزخان إلى فيلقه.

بيعة الأويغور (١) :

إن ملكهم ايديقوت (٢) كان تابعا إلى گورخان ملك قراخيتاي (قراخطا) ويؤدي له الخراج. وأن كورخان كان قد أرسل واليا (داروغا) عليهم أحد أعوانه وهو شادكه م وهذا شرع يظلمهم ويتعدى عليهم بحيث صار الأويغور لا يتحملون ظلمه وقسوته ، وفي هذه الأثناء ذاع صيت جنگيز في كافة الأقطار وزيادة على هذا فإن ايديقوت قتل شادكه م وحينئذ أرسل إلى جنگيزخان رسولا يعرفه بأنه مخلص له وأنه في طاعته إلى أن يموت ؛ وأن جنگيزخان أيضا بالمقابلة أرسل إليه سفيرا من قبله يسمى (دورباي).

ثم إن ايديقوت أعد هدايا عظيمة وذهب بنفسه لزيارة جنگيزخان سنة ٦٠٦ ه‍ (ابن العبري) فرأى التفاتا كبيرا من الخان (٣) وعلى هذا

__________________

(١) في العبري الأيغور بلا واو ـ ص ٣٩٨.

(٢) ورد في العبري ص ٣٩٩ أيدي قوب والصحيح كما في شجرة الترك ايديقوت وتفسيره المرسل من الله «ر : هامش العبري ص ٣٩٩» «قال دي كوين. وأما العبري ففسره بصاحب الدولة».

(٣) ر : تاريخ العبري أيضا ص ٣٠٠».

٩٢

عرض ايديقوت عليه قائلا : «آمل من كرم الخان الأعظم أن أكون خامس أولاده». فانتبه الخان إلى أنه يقصد التزوج ببنته فأعطى إحدى بناته إليه. وهذه ظروف جديدة ومسهلات لاكتساح الممالك الأخرى.

وبهذه الحادثة قد تم لجنگيزخان الاستيلاء على كافة أنحاء المغول «مغولستان» ولم يبق له فيها مناوىء أو منازع.

فتح خيتاي وقراخيتاي وجورجيت

إن جنگيزخان بعد استيلائه على كافة أنحاء المغول كما تقدم جمع أمراء المغول كلهم وقال لهم : «إن آلتان (١) خان : ملك الخيتاي (الخطا) كان قد عامل أجدادي وأقاربي معاملة قاسية ورديئة ، فأنا عازم على أخذ الثأر منه ولكني مرسل إليه قبل ذلك رسولا يدعوه للطاعة لئلا تبقى له حجة». فوافقه الحضار وأرسل ضابطا (نوكرا) مدربا وزوده بمعلومات كافية للمفاوضة وللاطلاع على الحالة ومعرفة الطرق والأوضاع الحربية فلما ورد إليه وقص عليه القصص أجابه بأني متأهب للنضال فليأت بسرعة.

وحينئذ وافاه جنگيزخان بجيش قوي كما أن الطرف الآخر قام بتأهبات حربية كافية وكل من المتنازعين عبّى جيشه ، أما جنگيز فإنه تقدم وصار يهلك ما وجده أمامه ولم يبق ولم يذر من قتل وحرق ... وأرسل آلتان خان أيضا قوة كبرى مع أحد أمرائه لإيقافه عند حده. وفي هذا الحين فر واحد من جيش جنگيزخان وعرف آلتان خان بأنه جاءهم بقوة كبرى وأنه استولى على إحدى المدن فقتل أهليها قتلا عاما وحرق

__________________

(١) هذا هو الذي بين عنه أبو الفداء أنه آلطون خان الخاقان الأعظم ومن ثم تعلم درجة اختلاط الوقائع ونقلها مبتورة ومقطوعة فإنها بوضعها ذلك غير مفيدة.

فالأولى من ذكرها بهذه الصورة أن لا يبحث عنها. ولكن مع هذا نرى فيها رائحة الصحة ظاهرة وأن العرب ثقة في النقل ...

٩٣

المدينة ، وها إني جئتك منه وهو في هذه الحالة. وقد فررت منه. وعلى هذا تقدم الأمير من قبل آلتان خان وكذا جنگيز سار عليه فتلاقى الجمعان وتناضلا فظهر جنگيز على عدوه واستولى حينئذ على كثير من ممالك الخيتاي (الخطا) وحينئذ وصل جنگيزخان إلى المضيق الذي فيه آلتان خان فصارت المحاربة هناك ، وفي هذه الحرب أيضا أضاع آلتان خان نحو ثلاثين ألفا من جيشه كما فقد جيشه المرسل مع أحد أمرائه.

وعلى هذا انسحب آلتان خان إلى طريق خان باليق [پكين ، يه كينگ] ، وأن الأمراء في خان باليق كانوا يحملون اسم آلتان خان ، وفي هذا قد ضبط جنگيزخان ولايات كثيرة أخرى من بلاد الخيتاي.

المصالحة مع آلتان خان :

إن آلتان خان بعد أن وصل إلى خان باليق سمع بأن جنگيزخان اكتسح بلادا كثيرة منه واستولى على قرى عديدة وعلى هذا عقد مجلس شورى (كنكاش) في ترجيح ما إذا كان يتحارب أو يتصالح مع جنگيز الذي هو متوجه نحو خان باليق فأشار عليه وزيره (چينغ (١) سانغ بولاداغا) بترجيح الصلح لأنه من المأمول أن يعود جنگيزخان إذا تم الصلح ويرجع إلى بلاده ، فرأى الملك أن فكرة الوزير هي الصواب فأرسل رسولا إلى جنگيزخان ، وقدم بنته هدية له مع تقدمات أخرى ثمينة ، فلما رأى الرسول رحب به وأعزه وتزوج البنت وأمضى الصلح.

أما آلتان خان فإنه وجد مملكته قد تخربت كثيرا ، ولذا انسحب إلى تمينگ ، وكانت هذه المدينة قد بناها أبوه وجعلها محكمة وهي على الساحل وقد اتخذ في أطرافها ثلاثة استحكامات أخرى ، وقد جعل ابنه في خان باليق وأقام هو في تمينك ولكنه حينما تحرك من خان باليق كان

__________________

(١) «جينغ سانغ هو لقب الوزير عندهم».

٩٤

قد قتل قائد قراخيتاي لجريرة ارتكبها ، ولهذا فإن امراء قراخيتاي وشجعانها قد انتهبوا الخيول والبغال والحمير والأغنام والإبل والبقر ... العائدة إلى ابن آلتان خان فساقوها معهم والتحقوا بجنگيزخان ، ثم ظهر من قراخيتاي بطل فاستولى على عدة ولايات وأرسل رسولا إلى جنگيزخان فبايعه.

وعلى هذا قبل جنگيزخان منهم ذلك بل تلقاه منهم بقبول حسن. ولهذا ولأدنى سبب قد ألتحق أمراء آلتان خان بجنگيزخان. وبعد ستة أشهر رأى الابن ـ ابن آلتان خان ـ أن الحالة مضطربة هناك وهي في تشوش فترك خان باليق لبعض امرائه وذهب إلى أبيه.

أما جنگيزخان فإنه تحقق لديه عجز آلتان خان وابنه ولذا سير أميرين من امرائه وهما (ساموقا بهادر ومينكار بهادر) مع جيش عظيم إلى خان باليق ، وفي أثناء سيرهما قد التحق بهما خلق كثير من أهالي خيتاي ، وحينئذ سمع آلتان خان بأنه في خان باليق مجاعة ولذا لم يرسل جيشا كبيرا إلى هناك بل أرسل بمقدار الحاجة وهذا الجيش لأول ملاقاة قد تشتت شمله وقضي عليه ، فلما علم آلتان خان بالقضاء على جيشه انتحر بشرب السم ، وعلى هذا ضبط جيش جنگيزخان عاصمته خان باليق ، وهناك كانت خزائن لآلتان خان فأوصلت إلى جنگيزخان بما فيها.

إن جنگيزخان في خلال خمس سنوات استولى على أكثر مدن الخيتاي وعين فيها ولاة (داروغا) وعاد لبلاده. وضبط هناك بلادا أخرى.

وكان في نية جنگيز أن يستولي على البلاد الباقية من الخيتاي ولكنه عدل عن ذلك لسبب أن تيانغ خان بعد أن توفي قد هرب ابنه كوچلو إلى تركستان ، وهناك اتفق مع بعض اعداء جنگيزخان فأعلنوا

٩٥

كوچلو (خانا أي ملكا عظيما ، يادشاه) ، وأن كوچلو هذا أرسل سفيرا إلى سلطان محمد (خوارزمشاه) وساقه على حرب گورخان ، وفي ذلك الوقت كانت تركستان تابعة إلى كورخان ملك قراخيتاي ، وأن كوچلو قد ضبط نحو نصف تركستان منه ...

فلما علم جنگيزخان ذلك قال في نفسه : «ليس من المصلحة أن أدع عدوا عظيما يتوسع في جواري وأنا أتوغل في الممالك النائية البعيدة» ، فترك السفر إلى الخيتاي وعدل عن مهاجمتهم.

وفي هذه الأثناء ظهر من أمراء مركيت وهو قودو (عم الأمير الأصلي توقتا) مع اولاده فمضى إلى مملكة نايمان فصار يعيث هناك ويفسد على جنگيزخان ، ولأجل القضاء على هذه الحركة أرسل عليهم جنگيز قوة. ولما صادفوا عسكر قودو كسروه قرب ساحل نهر جم موران وذلك سنة ٦١٣ (١٢١٦ م). وهذه الحرب قضت على سلطنة مركيت.

وفي هذا الحين عصت قبيلة نومان فأرسل عليها سرية فكسرتها وعاد قائد جنگيز بغنائم وفيرة.

قتل كوچلو (كشلوخان):

إن كوچلو كان قد التجأ إلى كورخان في قراخيتاي وهناك قد اختل ما بينهما فاستولى على بعض ولايات كورخان وجمع اعداء جنگيزخان إليه. فلما سمع جنگيزخان بذلك أرسل إليه چپه نويان من قبيلة ييسوت وجهزه بفيلق عظيم ، ولما اشتبك القتال العظيم بينهما غلب كوچلو على أمره وقد فر بجيش قليل كان معه ، فاستولى على عائلته وأولاده فأسرهم بعد أن قتل الباقين. ثم إنه عقب كوچلو فتمكن من اللحاق به وقتل عساكره وضباطه ، ومع هذا قدر أن يفر كوچلو مع ثلاثة من أصحابه فوصل وادي بدخشان إلى محل يقال له (صاري قول) فاستمر على تعقبه حتى ألقى القبض عليه فقتله وقطع رأسه فأتى به إلى جنگيزخان ، فأنعم

٩٦

عليه جنگيزخان وأكرمه بل بالغ في الإحسان إليه جزاء ما أبداه في هذه الحرب وقتله كوچلو.

نظرة عامة ونتائج ضرورية :

كل هذه الوقائع جرت وهذه الحروب الطاحنة مضت بين جنگيز وأعدائه حتى تمكن من الكل وسيطر على الجميع ومع هذا كان المسلمون في مأمن حتى أنهم لم يشعروا بهذه الحروب ، ولم يعلموا عنها كثيرا إذ إنها لا تهمهم لبعد الشقة وانقطاع المواصلة ... ولكن الوقائع المهمة بالنظر إلينا هي التي تخص المسلمين ، ووقعت بينه وبينهم ، وهي ما يتلو هذه الحوادث سوى أنني هنا أقول إن جنگيز قضى على امارات صغيرة وحكومات مفرقة ومشتتة الحالة سواء في المغول أو في الترك. وبذلك تمكن من السيطرة على تلك الأنحاء لعلمه بأنه لا يتم له الأمر ، ولا يستطيع أن يوسع سلطته ، فيحارب المجاورين والخارج بصورة عامة. إن لم يؤمن جماعته له حتى لا يبقى منهم معارض فتيسر له القضاء على السلطات والامارات الصغيرة ، والكبيرة واستقل في كافة هذه الأنحاء استقلالا تاما ، ووحد وجهته واستقامته بعد ذلك إلى خارج بلاد الترك فهاجم العالم الإسلامي.

وهذا ما دعا ابن الطقطقي أن يقول عن المغول بعد أن توحدت قبائلهم :

«لم ينقل في تاريخ ، ولا تضمنت سيرة من السير أن دولة من الدول رزقت من طاعة جندها ورعاياها ما رزقته هذه الدولة القاهرة المغولية ، فإن طاعة جندها ورعاياها لها طاعة لم ترزقها دولة من الدول ...» (١) ا ه.

__________________

(١) كتاب الفخري ص ٢٤ وسيأتي وصفه في حوادث سنة ٧٠١ ه‍.

٩٧

وفي هذا ما يبين عن هذه الوحدة ولكنها على كل حال لم تكن كما حصل للعرب من الألفة إبان ظهور الشريعة الإسلامية الغراء ...

وقد قال ابن السبكي : «كانوا ببادية الصين وهم من أصبر الناس على القتال وأشجعهم فملكوا جنگيزخان عليهم وأطاعوه طاعة العباد المخلصين لرب العالمين» ا ه (١).

العلاقات الأولى

بين جنگيزخان وخوارزمشاه :

نظرا للبعد ووجود حكومات أو إمارات بين جنگيز والبلاد الإسلامية الكبرى كانت بطبيعة الحال العلاقات مفقودة ولكن بعد أن استولى المغول على البلاد المجاورة نشأت العلاقات وذلك أن كشلوخان بعد مفارقته جنگيزخان مال إلى حدود قيالق والمالق فصالحه صاحبها ممدو خان بن ارسلان خان على أن تكون الأيدي واحدة ومتفقة وفي هذه الأثناء كانت هزيمة كورخان ملك الخطا (خيتاي) من وقعة جرت بينه وبين السلطان خوارزمشاه وهي آخر الوقائع بينهما فوصل إلى حدود كاشغر فأخذ ممدوخان يزين لكشلوخان قصد كاشغر والاستيلاء على كورخان فنهضا من قيالق وكبساه بحدود كاشغر واقتنصاه وأجلساه على سرير الملك وصارا لا يعملون بأوامره إلا قليلا.

ولما سمع السلطان بذلك هدد كشلوخان بلزوم تسليمه إليه وما معه من نفائس وأن يأتيه ببنته وخزانته وأوعده فيما إذا امتنع فقدم له طرفا نفيسة جدا وتشفع مستعفيا من إرسال كورخان وكان السلطان يلح وهذا يطاول وآخر رسول بعثه السلطان هو الأمير محمد بن قرا قاسم النسوي وأمره بمخاشنة كشلوخان ففعل فقيده كشلوخان ثم نجا بوقعة جرت

__________________

(١) طبقات السبكي ج ١ ص ١٧٦.

٩٨

لسرية السلطان مع كشلوخان فأنعم عليه السلطان برياسة عامة على خراسان فمني منه الرؤساء بداهية دهياء وخطة نكراء وأما كشلوخان فإن السلطان جهز عليه جيشا بلغت عدته ستين ألفا وذلك بعد أن بعث إليه عدة سرايا. هذا من جهة ومن أخرى هاجمه جنگيزخان فوقع بين نارين لا مخلص له منهما (١) فقضى عليه ومن ثم نشأت العلاقات وصار جنگيزخان مجاورا لبلاد المسلمين فاقتضى التطلع على أحوال التتر ففي سنة ٦٠٩ ه‍ ١٢١٣ م قصد ثلاثة نفر من تجار البخاريين ديار التتر ومعهم البضائع من الثياب المذهبة والكرباس وغيرهما مما يليق بالمغول لما سمعوا أن للمتاع عندهم قيمة وافرة (٢) ... ذهبوا إلى هناك بقصد التجارة ظاهرا ولكن لا يغب عن اذهاننا أن استيلاء جنگيزخان على المجاورين وقيامه بهذا الفتح العظيم مما دعا إلى التطلع على أحواله والوقوف على نواياه والتجسس عن أخباره. فكانت هذه القافلة الأولى التي ارسلها خوارزمشاه باسم تجار لنفائس البضائع ، فلم يضع الفرصة ولم يدع هذا الفاتح الجديد يتوغل وهو في جهالة عنه ، وإهمال لشأنه وإنما راعى الحيطة بأقصى ما يمكن ...

إن هؤلاء التجار وجدوا الطرق محروسة قد أقام بها جنگيزخان جماعة يسمونهم (قراقجية) أي مستحفظين يخفرون المترددين إليهم أو أنهم يراقبون الحدود ويترصدون المارة كما هو معلوم اليوم من تفتيش المارة على الحدود وطلب جواز منهم ومراقبة أحوالهم. فقوى عزمهم وساروا نحوهم. ولما وصلوا إلى نواحيهم وافاهم المستحفظون ووقفوا على ما معهم من السلع (ولم تكن السلع هي الغرض الوحيد من التحريات) فرأوا قماش واحد منهم اسمه أحمد لائقا للخان فسيروه مع

__________________

(١) «ر : منكبرتي ص ٩ وما يليها».

(٢) ابن العبري ص ٤٠٠.

٩٩

صاحبيه إليه. والغرض في التسيير معلوم فعرض أحمد متاعه على الحجاب وطلب الثمن عن كل ثوب كل مشتراه عليه عشرة دنانير إلى عشرين دينارا ثلاثة بواليش (١). فغضب لذلك جنگيزخان وقال : هذا الغافل كأنه يظن أننا ما رأينا ثيابا قط وأمر الخازن فأراه من الأقمشة التي اهداها إليه ملوك الخطا أشياء نفيسة وتقدم أن يكتب ما معه وأنهبه لمن حضر من الحاشية واعتقل أحمد ، إلا أن تمنع هذا وطلبه ثمنا غاليا مغزاه معلوم أيضا إذ الغرض ليس بيع السلعة والربح بها والعودة بسرعة وطلب موظف جنگيز أو خازنه صاحبيه فعرضا عليه متاعهما برمته وقالوا : هذا كله إنما أتينا به لنقدمه خدمة للخان لا لنبيعه عليه ، فألحوا عليهما أن يثمناه فلم يفعلا. فأمر جنگيزخان أن يعطيا لكل ثوب مذهب باليش من ذهب ولكل كرباسين باليش من فضة. وعوض لأحمد أيضا مثل ما اعطاهما ... ومن مجرى هذه الوقعة يفهم أنهم لم يتمكنوا من

__________________

(١) ضبطه ابن بطوطة في رحلته «تحفة النظار ج ٢ ص ١٥٥» بالشت والصحيح أنه بالش أو باليش بإشباع الحركة الحرفية وهو بمعنى الدينار عندنا. قال وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم ... وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد كل قطعة منها بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان وتسمى الخمس والعشرون قطعة منها بالشت ... وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دار كدار السكة عندنا فأخذ عوضها جددا ودفع تلك ولا يعطي على ذلك أجرة ولا سواها لأن الذين يتولون عملها لهم الارزاق الجارية من قبل السلطان وقد وكل بتلك الدار أمير من كبار الأمراء. وإذا مضى الإنسان إلى السوق بدرهم فضة أو دينار يريد شراء شيء لم يؤخذ منه ولا يلتفت عليه حتى يصرفه بالبالشت ويشتري به ما أراد. وهي عين ما هو معروف عندنا اليوم «بالأوراق النقدية» أو «العملة الورقية» وكانت قبل مدة يقال لها «بانقنوط» إذا كانت تحت ضمان مصرف «بانق» وتسمى «أوراق نقدية» إذا كانت غير مضمونة من مصرف والظاهر أن نقود المغول تختلف قيمة عن بواليش الصين كما يفهم من مجرى الكلام ومن قول صاحب لغة جغطاي وهو الشيخ سليمان افندي اوزبكي البخاري قال : وفي لغة المغول أن الباليش نقد ذهبي بقيمة ألفي دينار وفضي بقيمة مائتي دينار ص ٧٢.

١٠٠