موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

(وفي العبري) أنه سير ابنه الكبير في تومانين من العساكر إلى جانب خجند والآقانويان وسه كتو بوغا بخمسة آلاف على فناكت (بناكت) وخجند وذهب هو بالباقي من الجيش مع ابنه تولى خان إلى بخارا.

محاصرة أوترار وضبطها :

دام القتال على او ترار مدة خمسة أشهر. لأن السلطان محمدا كان قد سير إليها غايرخان في خمسة آلاف فارس (وفي الشجرة كان معه خمسون ألفا لمحافظة المدينة) ثم لما علم أن المغول سوف يهاجمون المدينة سير من ضباطه قراجا (١) خان حاجب وأمدّه في عشرة آلاف وكانوا كلهم بها. ولما ضاقت الحيلة بمن في المدينة وعجزوا عن المقاومة شاور قراجاخان وأشار إلى غايرخان في لزوم الصلح وتسليم البلد فأبى غايرخان إلّا المجاهدة حتى الموت ، لعلمه أن المغول لا يبقون عليه ، فلم ير في المصالحة مصلحة ، فتوقف قراجا إلى هجوم الليل وخرج في أكثر عسكره إلى الخارج من باب الصوفي (٢) فأخروه إلى الصبح ، ثم حمل إلى ابني جنگيزخان فاستنطقاه واستعلما منه كنه أحوال البلد وأمر بقتله وقتل كل من معه ، قائلين : إذا كنت لم تبق على مخدومك وولي نعمتك فلا تبق علينا ، وزحف العسكر إلى المدينة فدخلوها وأخرجوا أهلها جميعهم إلى ظاهرها وأغاروا على ما فيها ، وبقي غايرخان في عشرين ألفا من عسكره متفرقين في دروب المدينة لم يتمكن منهم المغول ، وكانوا يخرجون خمسين خمسين يكاوحون ويطعنون في عسكر المغول ويقتلون ثم يقتلون.

وكان هذا دأبهم شهرا إلى أن بقي غابر خان ومعه نفران يجالدون

__________________

(١) وفي الشجرة قرا حاجب.

(٢) وفي ابن العبري باب دروازة الصوفي فجمع بين باب ومعناها وهي دروازة وهذا غير صحيح.

١٢١

في سطح دار السلطنة وكان قد برز مرسوم الخان أن لا يقتل غايرخان في الحرب وطلب أن يحمل حيا إليه. فلذلك كثر التعب معه ، وقتل صاحباه وبقي وحده يقاتل بالآجر الذي كان الجواري يناولنه من الجدار ، فلما عجز عن المناولة أحاط به المغول وقبضوه وحملوه إلى جنگيزخان بعد عودته من بخارى إلى سمرقند ، وقتل هناك في كوي سراي (١).

ولو أن كل مدينة قاومت هذه المقاومة وناضلت هذه المناضلة لما تمكن المغول من الوقيعة العظمى بالبلاد لهذا الحد ، وبعد أن ذكر ذلك العبري بين أنه في شعبان سنة ٦١٢ ه‍ ١٢١٥ م ملك السلطان محمد مدينة غزنة. وكان استولى على عامة خراسان وملك باميان. ولذا يلاحظ الفرق في تاريخ الهجوم بين ٦١٠ و ٦١٥ ه‍ في شجرة الترك والعبري مع أن العبري يسلسل الحوادث ولكنه خرج عن كافة المؤرخين مثل أبي الفداء وابن الأثير وسيرة منكبرتي والشجرة والصحيح ما جاء في الشجرة فإنه يتفق ومنكبرتي.

تقدم جنگيزخان على بخارى :

إن جنگيزخان توجه من اوترار على بخارى. ولذا وافى على حين غرة على قلعة يقال لها زرنوق فلما رأى الأهلون جنگيزخان قد حاصر القلعة استولى عليهم الرعب وخافوا كثيرا ، فغلقوا الأبواب ، أما جنگيزخان فإنه كان له عالم يقال له (حاجب) وهو مسلم ، فبعثه إلى المدينة سفيرا وهذا نصح الأهلين وحذرهم ، وعلى هذا أخذ جميع الأهلين هناك هدايا وقدموها إلى جنگيزخان ، فعاملهم بالحسنى وسمى مدينتهم قوتليق باليق ومعناه في لغة المغول المدينة المباركة.

__________________

(١) ابن العبري ص ٤٠٣.

١٢٢

وحينئذ أخذ شبان المدينة وترك شيوخها واستمر في طريقه فجاء مدينة نور ، وهؤلاء أيضا حاصروا في المدينة فأرسل عليهم جنگيزخان رسولا. وبعد تعاطي السفراء الكثيرين جاء الأهلون بهدايا إلى الخان ورأوا منه حسن معاملة ، فأمر أن يأخذ الأهلون ما يتمكنون على أخذه من بذور وبقر وغيرها وأن يخرجوا بها ، والباقي ترك جيشه ينتهبه فانتهبه.

وفي سنة ٦١٦ ه‍ (وفي العبري في اوائل المحرم سنة ٦١٧ ه‍ ١٢٢٠ م) جاء إلى بخارى فأحاط بها ، وفي منتصف الليل هاجم كوك خان ، وسوينج خان وكوچلوخان بعشرين ألفا من العساكر ، فعلم بذلك جنگيزخان فاتخذ لذلك الترتيبات اللازمة فتقاتل الفريقان بشدة وكانت الحرب طاحنة. وفي النتيجة تمت الغلبة لجنگيزخان فنكل بالعشرين ألفا.

(وفي ابن العبري أن هؤلاء تحققوا عجزهم عن مقاومة المغول فخرجوا من الحصار بعد غروب الشمس فأدركهم المحافظون من عسكر المغول على نهر جيحون فأوقعوا فيهم وقتلوهم كافة ولم يبقوا منهم أثرا). وفي وقت السحر ؛ قد فتح مفتي المدينة وعلماؤها الأبواب فجاؤوا إلى الخان ، فدخل جنگيزخان بنفسه المدينة ، وقد قال ابن الأثير إن دخول جنگيز المدينة كان يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة سنة ٦١٦ ه‍ ١٢٢٠ م وذلك أنهم حصروا بخارى وقاتلوا أهلها ثلاثة أيام قتالا شديدا متتابعا.

فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان.

(ولم يدر ابن الأثير بما اصابهم بعد خروجهم ولا حكى ذلك). فلما أصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضعفت نفوسهم فأرسلوا القاضي بدر الدين قاضيخان ليطلب الأمان للناس فأعطوهم الأمان.

وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم فاعتصموا بالقلعة. فلما أجابهم جنگيزخان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة في اليوم المذكور فدخل التتر بخارى ولم يتعرضوا إلى أحد بل

١٢٣

قالوا لهم كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيرها أخرجوه إلينا وساعدونا على قتال من بالقلعة ، وأظهروا عندهم العدل وحسن السيرة ودخل جنگيزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ونادى في البلد أن لا يتخلف أحد ومن تخلف قتل فحضروا جميعهم فأمرهم بطمّ الخندق فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك ... ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو اربعمائة فارس من المسلمين فبذلوا جهدهم ، ومنعوا القلعة اثني عشر يوما يقاتلون التتر وأهل البلد ، فقتل بعضهم ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم ووصل النقابون إلى سور القلعة ، فنقبوه واشتد حينئذ القتال ، ومن بها من المسلمين يرمون بكل ما يجدون من حجارة ونار وسهام ، ثم باكروهم في اليوم التالي فجدوا في القتال ، وقد تعب من بالقلعة وجاءهم ما لا قبل لهم به فقهروا ودخل التتر القلعة وقاتلهم المسلمون. الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم ...

فلما فرغ جنگيزخان من القلعة أمر أن يكتب له رؤوس البلد ورؤساؤهم ففعلوا ذلك فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضروا فقال أريد منكم (النقرة) التي باعكم خوارزمشاه فإنها لي ومن اصحابي أخذت وهي عندكم فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه ، ثم أمرهم بالخروج من البلد فخرجوا مجردين من أموالهم ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه ، ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه وأحاط بالمسلمين فأمر اصحابه أن يقتسموهم فاقتسموهم وكان يوما عظيما من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان وتفرقوا أيدي سبا وتمزقوا كل ممزق واقتسموا النساء أيضا وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس وارتكبوا من النساء العظيم ، والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئا مما نزل بهم فمنهم من لم يرض بذلك واختار الموت على ذلك فقاتل حتى قتل ، وممن اختار ذلك الإمام ركن الدين إمام زاده وولده والقاضي صدر الدين خان ومن استسلم أخذ

١٢٤

أسيرا وألقوا النار في البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناس بأنواع العذاب من طلب المال ، ثم رحلوا نحو سمرقند ، وقد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم وهم بمكانة بين ترمذ وبلخ واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل.

فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم حتى تقدموا شيئا فشيئا ليكون أرعب للقلوب ، فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه ، فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم فظن أهل البلدان الجميع عساكر مقاتلة وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية ، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة ...

القتال على سمرقند :

وحينئذ خرج إليهم شجعان أهل سمرقند وأهل الجلد والقوة رجالة (مشاة) ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء التتر فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر يتأخرون وأهل البلد يتبعونهم ويطمعون فيهم. وكانوا قد كمنوا لهم كمينا. فلما جاوزوا الكمين خرجوا عليهم وحالوا بينهم وبين البلد ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم أحد. قتلوا عن آخرهم وكانوا سبعين ألفا على ما قيل.

فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضعفت نفوسهم (عزائمهم) وأيقنوا بالهلاك ، فقال الجند وكانوا أتراكا نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا فطلبوا الأمان فأجابوهم ففتحوا أبواب البلد ، ولم يقدر العامة على منعهم وخرجوا إلى التتر بأهليهم وأموالهم ، فقال لهم التتر ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم

١٢٥

ففعلوا ذلك ، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيوف فيهم وقتلوهم عن آخرهم وأخذوا أموالهم ودوابهم ونساءهم.

وفي اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه ، وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله ، وافتضوا الأبكار وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال وقتلوا من لم يصلح للسبي وكان ذلك في المحرم سنة ٦١٧ ه‍ ١٢٢٠ م (١).

إن أمثال هذه الأعمال لا تزال مشهورة عن المغول ومدونة في منشوراتهم للتهديد ، فعلوها باتفاق من عامة المؤرخين. وإليك أيها القارىء ما قصه ابن العبري (٢) قال :

وفيها (سنة ٦١٧ ه‍ ١٢٢٠ م) في ربيع الأول نزل جنگيزخان على مدينة سمرقند وكان قد رتب السلطان محمد فيها مائة ألف وعشرة آلاف فارس يقومون بحراستها. فلما نازلها منع أصحابه عن المقاتلة وأنفذ سنتاي نوين ومعه ثلاثين ألف محارب في أثر السلطان محمد ، وغلاة نوين وبسور نوين إلى جانب طالقان ، وأحاط باقي العسكر بالمدينة وقت السحر فبرز إليهم مبارزو الخوارزمية ونازعوهم القتال ، وجرحوا جماعة كثيرة من التاتار ، وأسروا جماعة وأدخلوهم المدينة فلما كان من الغد ركب جنگيزخان بنفسه ودار على العسكر وحثهم على القتال ، فاشتد القتال ذلك اليوم بينهم ودام النهار كله من أوله إلى أول الليل ووقف الأبطال من المغول على أبواب المدينة ولم يمكنوا أحدا من المجاهدين من الخروج فحصل عند الخوارزمية فتور كثير ، ووقع الخلف بين أكابر

__________________

(١) ابن الأثير.

(٢) ص ٤٠٨.

١٢٦

المدينة ، وتلونت الآراء فبعض مال إلى المصالحة والتسليم ، وبعض لم يأمن على نفسه وإن اؤمن خوفا من غدر التاتار ، فقوي عزم القاضي وشيخ الإسلام على الخروج فخرجا إلى خدمة جنگيزخان وطلبا الأمان لهما ولأهل المدينة فلم يجبهما إلا إلى أمان أنفسهما ومن يلوذ بهما. فدخلا إلى المدينة وفتحا أبوابها فدخل المغول واشتغلوا ذلك اليوم بتخريب مواضع من السور وهدم بعض الأبرجة ولم يتعرضوا إلى أحد إلى أن هجم الليل فدخلوا إلى المدينة وصاروا يخرجون من الرجال والنساء مائة مائة بالعدد إلى الصحراء ، ولم ينكفوا إلا عن القاضي وشيخ الإسلام وعمن التجأ إليهما ، فاحتمى بهما نيف وخمسون ألفا من الخلق ، ولما أصبح الصباح شرع المغول في نهب المدينة ، وقتل كل من لحقوه مختبئا في المغائر ومتواريا بالستاير ، وقتلوا تلك الليلة نحو ثلاثين ألف تركي وقنقلي ، وقسموا بالنهار ثلاثين ألفا على الأولاد والأمراء وأطلقوا الباقي ليرجعوا إلى المدينة ويجمعوا من بينهم مائتي ألف دينار ثمن أرواحهم ، وكان المحصل لهذا المال ثقة الملك والأمير عميد وهما من أكابر سمرقند والشحنة طايغور (ويروى كايغور).

ومن هناك توجه جنگيزخان بعساكره إلى نواحي خوارزم وأنفذ الرسل إليهم يدعوهم إلى الايليه ، والدخول في طاعته» .. الخ انتهى.

وكان خوارزمشاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدمون على الوصول إليها فاستولى عليهم الخذلان حتى ضبطها جنگيزخان فقد سيّر مرة عشرة آلاف فارس فعادوا وسيّر عشرين ألفا فعادوا أيضا ...

وفي الشجرة أن خانات السلطان محمد قد قتلوا جميعهم مع جيشه في محاربة سمرقند بعد أن خرجوا وحاربوا بشدة وأسروا قسما من المغول في اليوم الأول ، وفي اليوم التالي هاجمهم جنگيز بنفسه فكانت

١٢٧

الحرب طاحنة فلم يجسر أحد من الخوارزميين أن يخرج إلى المحاربة خارج البلد ولكن تحاربوا على السور بشدة أيضا ...

وعند الغروب ذهب شيخ الإسلام والقاضي وأتوا إلى جنگيز يطلبون منه الأمان فعاملهم بالحسنى وفتحوا أبواب البلد ، فتحوا باب المصلى ، وحينئذ هجم المغول ودخلوا من الباب وانتهبوا ما في المدينة ... سوى أن ألب خان قاتل وتضارب مع جيش جنگيز حتى تمكن من النجاة بألف جندي ...

ثم إن جنگيز وزع ثلاثين ألفا من الأهلين على النويان وعفا عن خمسين ألفا لشيخ الإسلام والقاضي وأخذ من الباقين مائتي ألف دينار. وهذه الوقعة جرت في ٦١٦ ه‍ (١٢١٩ م).

مسير التتر إلى خوارزمشاه :

لما ملك التتر سمرقند عمد جنگيزخان وسير عشرين ألف فارس (وفي رواية الشجرة ثلاثين ألفا) تحت قيادة چيه نويان ، وسو بوداي بهادر ، ودوغاچار القونقراتي وهذا الأمير قتل من قبل تيمور ملك في نيسابور والرواية المعول عليها : أنه قتل في بلخ وقال لهم اطلبوا خوارزمشاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه وهذه الطائفة تسميها التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم.

فلما أمرهم جنگيزخان بالمسير ساروا وقصدوا موضعا يسمى فنج (١) آب (وفي أبي الفداء پنج آب) ومعناه (خمسة مياه أو خمسة أنهار) فوصلوا إليه فلم يجدوا هناك سفينة فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء ووضعوا فيها سلاحهم

__________________

(١) لعله نهر آمو.

١٢٨

وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها وتلك الحياض التي من الخشب مشدودة إليهم فكان الفرس يجذب الرجل وهو يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره فعبروا كلهم دفعة واحدة ...

وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعبا وخوفا. وقد اختلفوا فيما بينهم وظنوا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن النهر بينهم فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات ولا على المسير مجتمعين بل تفرقوا أيدي سبا وطلبت كل طائفة منهم جهة ، ورحل خوارزمشاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته وقصدوا نيسابور ، فلما دخلها اجتمع عليه بعض العساكر فلم يستقر حتى وصل اولئك التتر إليها ، وكانوا لم يتعرضوا في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلونه فيجمع لهم ، فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران ، وهي له أيضا فرحل التتر المغربون في أثره ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه ، فسار منها ووصل الري. ثم منها إلى همذان والتتر وراءه ففارق همذان في نفر يسير جريدة ليستر نفسه ويكتم خبره وعاد إلى مازندران ومنها وصل الساحل المعروف بالسكون (آبسكون) وركب البحر المسمى ببحر طبرستان إلى قلعة البحر. فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصلت التتر فرأوا خوارزمشاه قد دخل البحر فوقفوا على الساحل. فلما يئسوا من اللحاق به رجعوا.

وهؤلاء هم الذين قصدوا الري وما بعدها. وذلك أنهم رجعوا إلى قاراندار فضبطوها وأسروا زوجته وأولاده الذكور هناك ومنها توجهوا إلى ايلال. وكان أولاد السلطان محمد الصغار هناك فحاصروها. ويروى أنها في تلك السنة لم تأتها المياه مع أنها كانت كثيرة فلم تصبها الأمطار. وفي مدة ١٥ يوما نفدت مياهها. فاستولوا عليها. وهذه الوقعة كانت سنة ٦١٧ ه‍ ١٢٢١ م ويحكى أنه حين سمع بسقوط هذه المدينة أغمي عليه فمات. وبعدها استولوا على نخچوان وآذربيجان فخربوهما ،

١٢٩

١٣٠

وجاؤوا إلى شروان ومضوا من دربند ، فاتفقوا مع القفچاق بداعي أنهم منهم وسحقوا اللان. وحينئذ وبعد سحق اللان وتحققهم من ضعف القفچاق تحاربوا معهم وعادوا ظاهرين. وعلى هذا اكرمهم جنگيزخان بإنعامات كبرى (١) ...

وفاة خوارزمشاه محمد :

أما خوارزمشاه فإنه حين وصل القلعة المذكورة مرض بذات الجنب في الجزيرة الكائنة في البحر فأقام بها طريدا لا يملك طارفا ولا تليدا ، والمرض يزداد حتى توفي سنة ٦١٧ ه‍ ١٢٢١ م (٢).

وكانت مدة ملكة ٢١ سنة وشهورا تقريبا. اتسع ملكه وعظم محله وأطاعه القاصي والداني ولم يملك بعد السلجوقيين أحد مثله فإنه ملك من حد العراق إلى تركستان وملك بلاد غزنة وبعض الهند وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة وملك بلادهم ، وكان فاضلا عالما بالفقه والأصول وغيرهما ، وكان مكرما للعلماء محبا لهم محسنا إليهم ، يكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه ، وكان صبورا على التعب وإدمان السير غير متنعم ولا مقبل على اللذات ، إنما همه في الملك وتدبيره وحفظه وحفظ رعاياه ، وكان معظما لأهل الدين ، مقبلا عليهم متبركا بهم ...

وهذه خصال عددها ابن الأثير وهي كافية لبيان مكانة الرجل ومقدرته ، وأقول إنه لم يدخر وسعا في تدبير المملكة ، ولو لم يقتل التجار والسفراء ولم يعاملهم بهذه المعاملة القاسية واتخذ الطريقة التي

__________________

(١) شجرة الترك وابن الأثير ص ١٤٣».

(٢) تاريخ أبي الفداء وسيرة المنكبرتي ص ٤٨.

١٣١

راعاها جنگيزخان مع تجاره لكان أكبر ملك حقيقة مهما كانت نتائج مقدراته ، كما أن غلطته في مقاومة الخلافة وقطع الخطبة وضرب النقود ... مما هيجت عليه الرأي العام وأحبطت مساعيه أكثر مما لو صحت مكاتبة الخليفة الناصر للتتر ودعوتهم للتسلط على خوارزمشاه ...

وله أغلاط كبرى غير هذه مثل قتلة الشيخ مجد الدين العالم المشهور (١). وكانت حروبه شديدة وطاحنة ولو لا هذه الحروب وتوقف جنگيز من أجلها لما صده صاد ... فقد رأى الهول منه وكاد ينتصر عليه ... وعلى كل كانت عظمته تفوق سائر الملوك وموكبه فخما وعلامات أعلامه لا تشبه غيرها ... ومن أراد التفصيل أكثر فليرجع إلى أبي الفداء وإلى المنشي النسوي فإنهما نقلا أمورا مستقصاة لا يسعها بحثنا هذا فقد التزمنا الاختصار لبيان الأوضاع بين الحكومتين والمقارعات الحاصلة بينهما ...

جلال الدين منكبرتي :

سار جلال الدين منكبرتي (٢) بعد موت أبيه السلطان محمد من الجزيرة إلى خوارزم ثم هرب من التتر ولحق بغزنة وجرى بينه وبين التتر قتال فهرب جلال الدين من غزنة إلى الهند فلحقه جنگيزخان إلى ماء السند وتصافقا صبيحة يوم الأربعاء لثمان خلون من شوال سنة ٦١٨ ه‍ ١٢٢٢ م وكانت الكرّة أولا على جنگيزخان ثم عادت على جلال الدين وبالا وحال بينهما الليل وولى جلال الدين الأدبار منهزما وأسر ولد جلال الدين وهو ابن سبع سنين أو ثمان وقتل بين يدي جنگيزخان صبرا.

__________________

(١) شجرة الترك ص ١٠٢.

(٢) ورد في ابن الفوطي بلفظ منكوبرتي و«منكو» اسم من اسماء الله أو صفة من صفاته و«برتي» ويردى بمعنى أعطى وتلفظ «بردي» أيضا والمجموعة بمعنى عطاء الله أو ما هو قريب منها ...

١٣٢

ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كسيرا رأى والدته وأم ولده وجماعة من حرمه يصحن بالله عليك اقتلنا أو خلصنا من الأسر فأمر بهن فغرقن ...

ثم اقتحم جلال الدين وعسكره ذلك النهر العظيم فنجا منهم إلى جانب البر الآخر نحو أربعة آلاف رجل حفاة عراة ... ثم جرى بين جلال الدين وبين أهل تلك البلاد وقائع انتصر فيها جلال الدين ووصل إلى لهاوور من الهند. ولما عزم جلال الدين على العودة إلى جهة العراق استناب بهلوان أزبك على ما كان يملكه من بلاد الهند واستناب معه حسن قراق ولقبه (وفاء الملك). وفي سنة ٦٢٧ ه‍ ١٢٣٠ م طرد (وفاء الملك) بهلوان أزبك واستولى وفاء الملك على ما كان يليه البهلوان من بلاد الهند.

وكان جلال الدين قد عاد من الهند ووصل كرمان في سنة ٦٢١ ه‍ ١٢٢٥ م وقاسى هو وعسكره في البراري بين كرمان والهند شدائد. ووصل معه أربعة آلاف رجل. ثم سار جلال الدين إلى خوزستان واستولى عليها ثم على اذربيجان ثم كنجه وسائر بلاد أران.

وعند ذلك نقل جلال الدين أباه من الجزيرة إلى قلعة ازدهن ودفنه بها. ولما استولى التتر عليها نبشوه وأحرقوه. وكذا فعلوا في محمود سبكتكين حين استولوا على غزنة.

وفي هذه الأثناء تمكن التتر من اذربيجان فسار يريد ديار بكر ليذهب إلى الخليفة ويلتجىء إليه ويعتضد بملوك الأطراف على التتر ويخوفهم عاقبة أمرهم ، وطلب النجدة من الملك الأشرف فلم ينجده ، وعزم على المسير إلى اصفهان ، ثم انثنى عزمه وبات بمنزله ... ، وحينئذ أحاط به التتر وصبحوا عسكره :

فمساهم وبسطهم حرير

وصبحهم وبسطهم تراب

١٣٣

ومن في كفه منهم قناة

كمن في كفه منهم خضاب

فلم يشعر إلا وأحاطت به أطلاب التتر بمخيم جلال الدين وهو نائم ... فحمل بعض عسكره وهو اورخان وكشف التتر عن المخيم ودخل بعض الخواص وأخذ بيد جلال الدين وأخرجه وعليه طاقية بيضاء فأركبه الفرس وساق أورخان مع جلال الدين وتبعه التتر فقال جلال الدين لأورخان انفرد عني بحيث تشغل التتر بتتبع سوادك. وكان ذلك خطأ منه. فإن أورخان تبعه جماعة من العسكر يقدرون بأربعة آلاف فارس وقصد أصفهان واستولى عليها مدة.

ولما انفرد جلال الدين عن أورخان ساق إلى انحاء آمد فلم يمكن من الدخول ، فسار إلى قرية من قرى ميافارقين طالبا شهاب الدين غازي ابن الملك العادل صاحب ميافارقين ، ثم لحقه التتر في تلك القرية فهرب إلى جبل هناك وبه أكراد يتخطفون الناس فأخذوه وسلبوه ثم قتلوه.

ويحكي عنه المنشي النسوي أنه كان اسمر قصيرا تركي الشارة والعبارة ، يتكلم الفارسية ، وأنه كان يكاتب الخليفة على مبدأ الأمر على ما كان يكاتبه به أبوه. فكان يكتب (خادمه المطواع منكبرتي) وبعد أخذ خلاط كاتبه بعبده. ويكتب إلى ملك الروم وملوك مصر والشام اسمه واسم أبيه وكانت علامته على توقيعه (النصر من الله وحده). وكان جلال الدين يخاطب ب (خداوند عالم) أي صاحب العالم.

وقال المنشي : «كان اسدا ضرغاما ، اشجع فرسانه اقداما ، وكان حليما لا غضوبا ولا شتاما ، وقورا لا يضحك إلا تبسما ، ولا يكثر كلاما ، وكان يحب العدل غير أنه صادف أيام الفتنة فغلب ، ويحب الترفيه على الرعية لولا أنه ملك في زمان الفترة فغصب ..» وعلى كل «فتقلبات الأيام بجلال الدين من إهباط وإصعاد ، وإطفاء شعلة نار

١٣٤

وإيقاد ، يوما نفاذ حد وإيراء زند ، وآخر ضرع خد ، وسقوط جد ، بينا تملكه ، إذ تكاد تهلكه ، وحال تعليه ، إذ رأيته تبتليه ، لبلغ افادة الغرض ، إذ في تصاريف أحوال الزمان به عجائب لم توجد أخواتها ... لفظته بلاد الترك إلى أقاصي الهند وأقاصي الهند إلى أواسط الروم من مليك مطاع ، وطريد مرتاع ... الخ» مما يعين روحيته ويبين مقدرته ... وله أربع عشرة وقعة مع المغول في إحدى عشرة سنة فصلها النسوي المذكور (١) ...

وكان مقتله في منتصف شوال سنة ٦٢٨ ه‍ ١٢٣١ م ومحمد المنشىء النسوي ممن كان في خدمة جلال الدين وملازمته في جميع اسفاره وغزواته إلى أن قتل. وكان كاتب الإنشاء ومحظيا متقدما عنده فهو أخبر بأحوال جلال الدين ووالده.

وقد مر الكلام على كتابه (سيرة منكبرتي) ووقائعه وبعض النقول عنه ... وكان قد ذكر في أواخره أنه كتبه سنة ٦٣٩ ه‍. وأما النسخة المطبوع عليها فقد نجزت سنة ٦٦٧ ه‍.

ثم إن الخوارزمية عاثوا في البلاد في انحاء حلب وحصلت منهم غارات نهب وسفك دماء ما لا يقل عن أعمال التتر كما في أبي الفداء وابن الفوطي مما يلي المباحث المتقدمة.

وقائع جنگيزخان الأخرى :

إن جنگيزخان بعد أن ضبط سمرقند توجه بعساكره إلى نواحي خوارزم وأنفذ الرسل إليهم يدعوهم إلى الايليّة (٢) والدخول في طاعته.

__________________

(١) أبو الفداء ج ٣ ص ١٥١ وسيرة المنكبرتي ص ٢ وص ٢٤٧.

(٢) «المتابعة والانقياد له والدخول في عداد أهل مملكته وليست هي الآلية بمعنى القسم كما قال الناشر لتاريخ ابن العبري».

١٣٥

وشغلهم أياما بالوعد والوعيد والتأميل والتهديد إلى أن اجتمعت العساكر ورتب آلات الحرب من منجنيق وما يرمى بها فأنشبوا الحرب والقتال على المدينة من جميع جوانبها حتى عجز من فيها عن المقاومة فملكوها بعد قتل ونهب وأسر ...

وفي أوائل سنة ٦١٨ ه‍ ١٢٢١ م عبر جنگيزخان نهر جيحون وقصد مدينة بلخ فخرج إليه أعيانها وبذلوا الطاعة وحملوا الهدايا وأنواعا من (الترغو) (١) فلم يقبل منهم بسبب أن السلطان جلال الدين كان في تلك النواحي يهيئ أسباب الحرب ويستعد للقتال. ولذا أمر بخروج أهل بلخ فقتل فيهم أكثر الأهلين وأسر ...

ومن هناك توجه نحو الطالقان وفعل بأهليها مثل ما فعل بأولئك وأبقى البعض ومنها سار إلى باميان فعصى أهلوها وقاتلوا قتالا شديدا واتفق أن أصيب بعض أولاد جغاتاي بسهم فقضى نحبه ، وكان من احب أحفاد جنگيزخان إليه فعظمت المصيبة بذلك واضطرمت النيران في قلوب المغول وجدوا في القتال إلى أن فتحوها وقتلوا كل من فيها حتى الدواب والبقر والأجنة ولم يأسروا منها أحدا قط وتركوها أرضا قفرا ، لم يسكنها أحد اليوم (كذا قال ابن العبري) وسموها ما وباليغ أي مدينة البؤس.

ولما فرغ جنگيزخان من تخريب بلاد خراسان سمع أن السلطان جلال الدين قد استظهر بالعراق فسار نحوه ليلا ونهارا بحيث إن المغول لم يتمكنوا من طبخ لحم إذا نزلوا فحين وصلوا إلى غزنة أخبروا بأن جلال الدين قد رحل عنها منذ خمسة عشر يوما وهو عازم على أن يعبر نهر السند فلم يستقر جنگيزخان ورحل في الحال وحمل على نفسه بالسير حتى لحقه في اطراف السند فأحاط به العسكر من قدامه ومن

__________________

(١) الأقمشة الحريرية. أو النفائس الأخرى «لغة الجغطاي ص ١١٦».

١٣٦

خلفه وداروا عليه دائرة وراء دائرة وهو في الوسط وبالغ المغول في المكاوحة وتقدم (١) الأقمشة الحريرية. أو النفائس الأخرى «لغة الجغطاي ص ١١٦». جنگيزخان أن يقبض حيا ووصل جغاتاي وأوكتاي أيضا من جانب خوارزم. فلما رأى جلال الدين حراجة الموقف حمل عليهم حملات وشق صفوفهم مرة بعد مرة وطال الأمر بذلك وأبدى من البطولة والشهامة ما لا يوصف ...

وعند ما رأى التضييق عليه وأن لا نجاة بهذا الديدن همّ بالعبور وأقحم فرسه النهر بعد أن ودع أولاده وخواصه فانقحم وعام وخلص إلى الساحل وجنگيزخان وأصحابه ينظرون إليه ويتأملونه حيارى ...

فتعجب جنگيزخان من ذلك وقال لولديه : من مثل أبيه ينبغي أن يلد ابنا مثله فإذا نجا من هذه الوقعة جرت على يديه وقائع كثيرة ، ومن كلامه : لا يغفل من يعقل. وأراد جماعة من البهادرية أن يتبعوه فمنعهم جنگيزخان قائلا إنكم لستم من رجاله. وذلك لأنه كان يرامي المغول بالسهام وهو في وسط الشط وحينئذ أمر جنگيزخان بقتل جميع الذكور من أولاده. وكان ذلك قد حدث في شهر رجب ولذا قيل في المثل ، عش رجبا تر عجبا (١). وقال أبو الفداء إنه غرق أهله كما مر ذلك عند الكلام على جلال الدين ... وإنما ذكرناها هنا وبنص آخر لاطراد وقائع جنگيز ...

وفي سنة ٦٢٤ ه‍ ١٢٢٧ م قفل جنگيزخان من الممالك الغربية إلى منازله القديمة الشرقية. ثم رحل من هناك إلى بلاد تنكوت (تنغوت) (وهي بلاد شرقي التبت وغربي نهر الصين المسمى (هو) أي النهر الأصفر وهنالك عرض له مرض من عفونة الهواء الوخيم.

__________________

(١) تاريخ ابن العبري ص ٤١٢ وشجرة الترك.

١٣٧

ولما اشتد مرضه استدعى أولاده : جغاتاي واوكتاي والغ نوين وكلكان وجورختاي وأوردجار (وفي رواية اوروجان وفي نسخة أخرى اردوجار) فأوصاهم أن يخلفه ابنه اوكتاي لمزية رأيه المتين وعقله الرزين فجعله ولي عهده فوافقوه على اختياره. وهذا نص وصيته لأولاده :

«اعلموا يا أولادي الجياد أنه قد قرب سفري إلى دار الآخرة ودنا أجلي ، وأنا بقوة الإله ؛ والتأييد السماوي استخلصت مملكة عريضة ، بسيطة بحيث يسلك من وسطها إلى طرف منها مسيرة سنة من أجلكم يا أولادي ، وهيأتها لكم فوصيتي إليكم أنكم تشتغلون بعدي بدفع الأعداء ورفع الأصدقاء ، وتكونون جميعا على رأي واحد حتى تعيشوا في نعمة وعز ودلال ، وتتمتعوا بالمملكة» ا ه.

وقد أورد هذه الوصية صاحب جامع التواريخ بنص عربي ونقلتها من تاريخه العربي. وكان يوصي أولاده بالصيد والقنص ومطاردة الوحش عند ركود الحروب وهدنة القتال كأنه يريدهم أن يكونوا في تمرن دائم للحروب مع الناس ، أو مع الحيوان ...

ثم اشتد وجعه فتوفي في ٤ رمضان ٦٢٤ ه‍ ١٢٢٧ م (وفي شجرة الترك أنه توفي بتاريخ ١٤ رمضان وقد عاش ٧٣ سنة وفي تواريخ الصين أنه عمر ٦٦ سنة وطالت حكومته ٢٥ عاما).

وحينئذ شكلوا مجمعا كبيرا يسمى عندهم (قور يلتاي) (وهذا هو الصحيح ولا يلتفت إلى القول بأنه القعر يلياي فإنه غير معروف ولا صحيح). فكان اجتماعهم سنة ٦٢٦ ه‍ ١٢٢٩ م وأجمعوا على أوكتاي حسب الوصية فألحوا عليه بالقبول وهو يتمنع لمدة ٤٠ يوما حتى قبل. فلقبوه (قاآن) أي ملك أو سلطان وأجلسوه على سرير المملكة (١).

__________________

(١) تاريخ العبري ص ٤٢٨ وفيه تفصيل عن مراسم الجلوس.

١٣٨

صفوة القول عن جنگيزخان :

إن هذا الملك كانت ادارته أشبه بحكومات اليوم. فلم يضع عقلا ولم ينتهج غيا. فهو صاحب حكومة مدنية لم يؤسس عمادها على دين وشكلها استعماري ، استخدم جماعات من العناصر المختلفة والأمم المستضعفة لترويج غرضه وتمشية منهاجه. وإن كان الأقوام الذين معه سلكوا المحرمات وأباح هو المنهيات لأمور لا تخفى على العاقل مغازيها بالنظر لأوضاع الاجتماع آنئذ ... ولكنهم احترموا ضعفاء الأقوام وجعلوهم احرارا في كل مراسمهم الدينية فصار يظن لأول وهلة أنهم نصارى من قبل النصارى وهكذا ... ولكن المفهوم أنهم يقدسون الشمس فتراهم في تولية اوكتاي السلطنة مقام أبيه قد جثوا على ركبهم تسع مرات دلالة على التعظيم له. ثم خرجوا من المخيم وجثوا ثلاث مرات حيال الشمس ... ومن هذا يفهم أنهم يعظمون الشمس ويخضعون لإشراقها ...

قال ابن السبكي في الطبقات : «كان من أعقل الناس ، وأخبرهم بالحروب ووضع له شرعا اخترعه ، ودينا ابتدعه ... سماه (الياسا) لا يحكمون إلا به ، وكان كافرا يعبد الشمس ...» ا ه وقد مر النقل عنه أن قومه أطاعوه طاعة العباد المخلصين لرب العالمين (١) ...

وإن القصة التالية توضح عقيدة جنگيزخان :

«إن جنگيزخان بعد أن ضبط طوران وإيران وبعد أن أتم أمراؤه وأبناؤه ما عهد إليهم من تخريب أنحاء غزنة من قبل اوكتاي وتعقيب أثر السلطان جلال الدين من قبل جغتاي خان فانعدم أثره وعاد بغنائم وفيرة وأسرى كثيرين ... جاء إلى سمرقند وعين في الولايات حكاما عسكريين

__________________

(١) طبقات الشافعية ص ١٧٦.

١٣٩

(داروغا) ومضى من نهر آمو وجاء إلى بخارى. وإن أولاده الذين بعثهم إلى الأطراف عادوا جميعا والتحقوا به.

وحينئذ أرسل إلى أهليها أن يبعثوا إليه أحد علمائهم يسأل منه بعض الأمور فبعثوا إليه القاضي أشرف ومعه واعظ آخر فجرت بينهما المحاورة الآتية :

جنگيزخان ـ ما المسلمون؟ ولماذا انتم مسلمون؟

الجماعة ـ المسلمون عبيد الله. والله واحد ، وليس له مثل ولا شريك.

/ ـ أنا أيضا اعتقد أن الله واحد!

هم ـ ولله رسل. هم سفراء الله. ارسلهم ليبينوا أوامره ونواهيه.

ج ـ وهذا مقبول.

هم ـ ونحن نصلي خمس أوقات نعبد الله بها.

ج ـ وهذا حسن.

هم ـ ونصوم شهرا في السنة.

ج ـ وهذا حسن أيضا.

هم ـ إن لله بيتا في مكة. فإذا تمكنا من الذهاب إليه فعلنا.

ج ـ لا أوافق على هذا فالعالم كله بيت الله. فلما ذا يخصص في محل معين؟ ثم انتهت المحاورة بهذا الوجه.

ولم يبين له هؤلاء العلماء السبب الذي أورده القرآن الكريم نفسه وهو أنه أول بيت وضع للناس وأنه واسطة التعارف بين المسلمين وموطن التكبير لله على الهداية باعتبار أنه موطن الهداية والدعوة الأولى ...

١٤٠