موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

__________________

سليمان شاه عليه فجعلوه وجيشه في الوسط فقتلوا الكثيرين منهم والقوا القبض على خليل وقتلوه وأن أخاه اعتصم بالجبل وطلب الأمان فنزل واستولى سليمان شاه على مدينتين من مدنهم أحدها شيكان وكانت حصنا حصينا ، والأخرى دزيزا كذا ، وغير منقوطة) وهي ضمن مدينة شاپور.

وفي هذه السنين أيضا قصدت جماعة من المغول تقرب من خمسة عشر ألف فارس أنحاء بغداد ، سارت من همذان ، ثلة منهم مضت إلى خانقين ، وأخرى صادفت أصحاب سليمان شاه فواقعتهم .. وجماعة توجهت إلى ناحية شهر زور.

وأن الخليفة أمر شرف الدين إقبال الشرابي ، ومجاهد الدين ايبك الدواتدار الصغير ، وعلاء الدين التون پارس الدواتدار الكبير مع جيش عظيم من الموالي والأعراب فخرجوا عليهم ، ونصبوا خارج بغداد المجانيق ، فجاءت الاخبار أن المغول وصلوا إلى قلعة .. وأن سليمان شاه رتب الجيوش المذكورة ونظم صفوفها للحرب ووصل المغول إلى قرب الجعفرية ، وليلا أوقدوا النيران ، وعادوا ولم يمض إلا القليل حتى أتت الأخبار بورود المغول إلى الدجيل وغارتهم له ، وأن الشرابي ذهب لدفع غائلتهم من هناك فعادوا (جامع التواريخ ج ٢ ص ٣٤٢ وما يليها.

وهنا لم يشأ مؤرخ المغول أن يدون هزيمة لهم فأخذها هذا المؤرخ بخفة واختصار ولم يصرح بما يجب .. وهذه الوقعة توافق ما ذكره صاحب النهج سواء عن حسام الدين أو عن هجوم المغول إلا أن التاريخ متخالف .. فقد ذكر الوقعة أيام مانگو (مونككا) المذكورة أعلاه وتبتدىء قطعا بعد سنة ٦٤٨ ه‍ المذكورة في حين أن تاريخ گزيده بخلاف ذلك وكذا صاحب شرح النهج ..

٤ ـ ومن ثم تتوضح الوقائع التي اوردها التاريخ المنسوب للفوطي. قال : «ذكر قتل خليل بن بدر الكردي ـ كان أحد زعماء ارستان (صحيحها لرستان لما مر من النصوص السابقة) فخرج عن طاعة الخليفة ، والتجأ إلى المغول ، وكان يلبس زي القلندرية ويزعم أنه من أصحاب الشيخ أحمد بن الرفاعي ، وأظهر الاباحة ، فأجتمع عليه خلق كثير ، وكان يشرب الخمر ، ويأكل الحشيش المسكر فخرج معه جمع كثير من المغول وغيرهم وقصد نواحي اللحف (في جامع التواريخ وردت بلفظ تحف غير منقوطة) ونهب جماعة من رعية سليمان شاه وقتلهم ، ثم حضر قلعة وهار وهي لسليمان شاه ، فخرج إليه في خلق كثير ، فالتقوا واقتتلوا من ضحى النهار إلى العصر ، فقتل من أصحاب خليل ومن المغول ألف وستمائة فارس وراجل ، وانهزم خليل ، فظفر به بعض أصحاب سليمان شاه وأراد قتله

١٨١

__________________

فوعده بمال كثير فلم يقتله ، فأخذه أسيرا فمر به قوم من التركمان من أصحاب سليمان شاه كان قد قتل منهم جماعة فقتلوه وحملوا رأسه إلى سليمان شاه فأمر بتعليقه على باب خانقين فعلق» ا ه (تاريخ الفوطي ص ٢٨٦).

ومن النصوص المذكورة أعلاه نجد العلاقة بين هذه الوقعة المدونة في حوادث سنة ٦٥٣ ه‍ والوقعة التالية المذكورة فيه في حوادث سنة ٦٤٣ ه‍ صلة وارتباطا.

قال :

«في المحرم وصل الخبر إلى بغداد من ارسل أن المغول خرجوا من همذان في ستة عشر ألفا وقصدوا الجبل ، فأمر الخليفة بالاستعداد للقائهم ، وتبريز العسكر إلى ظاهر السور فخرجوا على التوءدة والهوينى ، فوصل الخبر أن طائفة منهم قصدوا خانقين ، ووقعوا على جماعة من أصحاب الأمير شهاب الدين سلمان شاه ابن برجم زعيم الايوانية (وردت في شرح النهج الايواء ، وفي تاريخ ايران الايوائية كما مر في النصوص السابقة) ، وقربوا من بعقوبا ، ونهبوا وقتلوا ، ووصل أهل طريق خراسان والخالص إلى بغداد ، فأمر حينئذ باستنفار الأعراب من البوادي والرجال من الأعمال ، وتفريق السلاح ، ورفع المجانيق على السور ، وخرج الشرابي إلى مخيمه بظاهر السور فوصل إليه رسول من فلك الدين محمد سنقر الاسن المعروف بوجه السبع ، وكان بالقليعة يزك يخبره بوصول المغول ومحاذاتهم له فركب في الحال وعين على من يتوجه لمساعدة فلك الدين المذكور ثم أخذ في تعبئة العساكر وترتيبها ميمنة وميسرة ، فوصلت عساكر المغول ونزلوا بإزائهم وجرت بين الفريقين حرب ساعة من نهار ، ثم باتوا على تعبئتهم فلما أصبحوا لم يجدوا من عساكر المغول أحدا ..

ثم ورد الخبر أن طائفة منهم عبرت إلى دجيل فقتلوا ونهبوا فنفذ إليهم جماعة من العسكر والعرب نحو ثلاثة آلاف فارس وقدم عليهم الأمير قزقر الناصري فلما عرفوا بعبور العسكر إليهم رجعوا» ا ه (تاريخ الفوطي ص ١٩٩ ـ ٢٠٠).

وهذا التفريق الكبير في تاريخ الفوطي بين الوقائع المتماسكة والمتصلة هو الذي سبب أن تحوم الظنون حول القطع في واحد من المترجمين المذكورين وهل الواحد منهما عين الآخر؟ والآن لم يبق ريب في الغيرية وأن خليل بن بدر من اللر الصغير ، وبقي الشك في حسام الدين عكه من أي قبيل هو؟. فلا يزال الغموض باقيا والتحري مستمرا ...

وهنا يلاحظ أن الاضطراب في تاريخ الفوطي موجود من جهة بيانه قتلة خليل بن بدر فقد عرف مما مر أنه قتل سنة ٦٤٠ ه‍ كما أن شرح النهج عين وقعة المغول

١٨٢

الوارد ذكره في حوادث سنة ٦٥٣ ه‍ من ابن الفوطي إلا أنه بينهما تخالف وما جاء في جامع التواريخ يفصل الوقعة ، والشخص واحد ، وبعض العبارات تتفق تماما (١) ...

وكان هلاكو يستشير أركان دولته وأعيان حاشيته عن فتح بغداد. فكل واحد كان يبدي رأيه حسب اعتقاده فطلب حضور حسام الدين المنجم الذي كان مصاحبا لهلاكو خان بأمر القاآن. وهذا لم يقدم على أمر ما إلا برأيه ومشورته فقال له :

بيّن لنا رأيك بلا تردد ولا مداهنة فيما تراه من الحوادث الدالة على وقوع ذلك استطلاعا من سير الكواكب ومطالع النجوم فقال له المنجم بلا تردد ولا خوف :

إني لا أرى من المصلحة أن تقصد الخلافة العباسية وأن تدفع بجيشك إلى بغداد إذ ما من ملك مقتدر وسلطان قاهر أراد سوءا بالعباسيين بقصد الاستيلاء على بغداد إلا كان نصيبه الخيبة والخذلان وانسلاب الملك من يده وانقطاع حياته. وإذا لم يسمع الملك بما نصحته وقصد بغداد وأساء إلى العباسيين فسيقع من عمله هذا ست حوادث :

__________________

سنة ٦٤٣ ه‍ والارتباك في هذه الوقعة يجعلنا نجزم بأن الفوطي لم يذكرها إلا نقلا عن غيره بصورة مبتورة ومرتبكة ، فلا اتصال لبعض اجزائها ببعض ...

وعلى كل إن النصوص المارة كشفت الغموض عن حقيقة الوقعة مع خليل بن بدر والتعريف به وحقيقة علاقته بوقائع بغداد والمغول والسياسة التي كانوا يرمون إليها من جذب المجاورين واستمالتهم باستخدامهم على الخلافة .. وقد عرضنا هذه النصوص لتعلم درجة علاقة الفيلية بالعراق واتصالهم الوثيق به ، وليكون القارىء على علم من حقيقة الأوضاع السياسية آنئذ وروابطها بالمجاورين ، وما تجره الاغلاط من ويلات ونتائج قاسية.

(١) جامع التواريخ ج ٢ ص ٢٠٤.

١٨٣

١ ـ هلاك الدواب والحيوانات ومرض الجنود.

٢ ـ لا تطلع الشمس من مشرقها.

٣ ـ تقطع الأمطار.

٤ ـ تهب ريح صرصر أو عاصفة شديدة ويقع زلزال يخرب العالم.

٥ ـ لا تنبت الأرض نباتا.

٦ ـ يموت في تلك سلطان عظيم.

فطلب هلاكو منه أدلة قاطعة وحججا دامغة وبراهين ساطعة يأتي بها إثباتا لما بينه فعجز عن ذلك.

ثم أخذ الأمراء وقواد الجيوش يحثون هلاكو بالمسير ويقوون عزمه ويقولون له : إن توجهنا إلى بغداد عين الصلاح والصواب.

وحينئذ أمر أن يحضر الخواجه نصير الدين الطوسي فاستطلع رأيه في القضية فتوهم الخواجه أن هذا الطلب على سبيل الامتحان له فقال مبديا رأيه بأن ما بينه حسام الدين المنجم غير صحيح ولا تقع حادثة ما ، فقال هلاكو : فماذا يكون؟ قال له :

إنما تكون أنت خليفة بمكانه.

ثم أمر هلاكو باجتماع المنجمين المذكورين فقال الخواجه :

اتفق جمهور علماء الإسلام بأن أكثر الصحابة قتلوا ولم يقع فساد في الكون. وإذا قالوا إن هذه الحوادث سوف تقع لأجل العباسيين ومن خصائصهم فإن طاهرا قد ذهب بأمر المأمون من خراسان وقتل أخاه محمدا الأمين ، وأن المتوكل قد قتل بتحريك من ابنه أو أن ابن المتوكل اتفق مع الأمراء وقتل أباه ، وأن المنتصر والمعتز قتلا من قبل الحراس والحجاب بتحريك من الأمراء ... وقد قتل من الخلفاء عدد كثير ولم يقع خلل في الكون.

١٨٤

الزحف على بغداد :

ثم إنه بعد الاطلاع على ما تقدم وسماع الأقوال وتدبرها من قبل هلاكو استعد للزحف وعزم عزما جازما لفتحها وجيّش جيوشا من الأطراف والجوانب. وأمر بعض القطعات المغولية المرابطة في جهة الروم التي كانت تحت قيادة جرماغون وبايجونويان (١) أن تسير على ميمنته من أطراف أربيل وتتوجه نحو مدينة الموصل وتعبر جسرها وتعسكر في الجانب الغربي من بغداد وعين لمسيرهم إلى غرب بغداد وقتا معينا يصادف وقت مجيء الرايات المغولية من المشرق وأمر أيضا قوادا آخرين من المغول أن يسيروا إلى ميمنته وهم :

(بلغا بن شيبان بن جوجي) ، و(توتار بن سنقور بن جوجي) ، و(قولي بن أورده بن جوجي) ، و(سونجاق نويان) (٢) ، و(بوقا تيمور نويان) ، وأمر (كيتو بوقا نويان) و(قدسون) و(ترك ايلكا) أن يسيروا على الميسرة من حدود لورستان وبيات وتكريت (٣) وخوزستان وكانت جبهتهم ممتدة إلى سواحل عمان (٤).

ثم توجه هلاكوخان من أرياف همدان ووضع على رأسه التاج

__________________

(١) ورد في تاريخ الفخري بلفظ «باجو».

(٢) ورد في الحوادث الجامعة بلفظ سوغو نجاق وكذا في جامع التواريخ.

(٣) قد بلغ التصحيف في الأعلام التاريخية حده ، ومهما قوبلت النسخ ، أو روجعت النصوص المتنوعة فلا يكاد يظهر أحيانا وجه الصواب وعاد لا يعرف. وما ذلك إلا لأن الغلط يتكرر ولا يدخل الإصلاح والتنبيه على اللفظ الصحيح ، وقد يصعب ... وهذه اللفظة جاءت في جامع التواريخ بلفظ (تكريت) ، وهو الأشبه بالقبول. ولكن الأستاذ القزويني كان قد راجع نصوصا عديدة منها تاريخ كزيده ، وشرفنامة ، ودائرة المعارف الإسلامية فتحقق لدى حضرته أنها (كريت) من قرى مملكة اللر ، وأنها لا تزال معروفة بهذا الاسم مما لا يدع ريبا في صحة تدقيقه ... (جهانكشاي جويني ج ٣ ص ٤٧١).

(٤) الظاهر عبادان.

١٨٥

المغولي المسمى [قباق (١) نويان] ويعني (تاج القيادة) أو (تاج الإمارة).

وفي أواخر المحرم لسنة ٦٥٥ توجه ومعه جيش عظيم وسار من طريق كرمنشاه وحلوان وبرفقته من أعاظم الأمراء :

كوكا ايلكا ، وارقنو ، وارغون آغا ، وقراتاي بتيكجي (٢) (بمعنى كاتب) ، وسيف الدين بتيكجي.

وكانوا من مدبري مملكته. وكذا كان معه الخواجة نصير الدين الطوسي والصاحب علاء الدين عطا ملك مع أعاظم ايران وكتابها.

ولما وصلوا إلى أسد آباد أرسل أيضا رسولا إلى الخليفة يبلغه لزوم حضوره إلى هلاكوخان. وجاءهم أيضا من بغداد إلى دينور ابن الجوزي للمرة الأخرى حاملا كتاب الخليفة ممزوجا بالوعد والوعيد والتضرع والالتماس طالبا رجوع هلاكوخان مع جيشه وانصرافه عن التوجه إلى بغداد مبينا انقياد الخليفة لما يقرره هلاكو وما يطلب إرساله من المال في كل سنة إلى خزانة هلاكو.

تدبر هلاكو في الأمر وظن أن الخليفة ينوي بهذا أن يرجع مع جيشه ليستعد هو ويكتب للأطراف فقال :

نظرا لقطعنا المسافات البعيدة لا يسعنا أن نرجع بلا ملاقاة الخليفة ومواجهته. ثم بعد الحضور والمشافهة نرجع بإجازته.

ومن هناك توغلوا في جبال كردستان.

__________________

(١) قباق ما يلبس في الرأس ونويان يراد بها القائد ، أو الأمير ، «الشهزادة» ، وما جاء في جامع التواريخ بلفظ قياق بالياء فغير صحيح.

(٢) وهو بتقديم التاء على الياء بخلاف ما جاء في جامع التواريخ «راجع : لغة جغتاي ص ٧٤».

١٨٦

وفي ٢٧ من الشهر المذكور نزل في كرمانشاه (١) فتطاولت أيديهم بالسلب والغارة للأطراف ...

ثم أمر هلاكو بإحضار الأمراء (الشهزادية) وسونجاق وبايجو نويان وسونتاي على وجه السرعة وأن يصلوا إليه قرب طاق كسرى ، فألقوا القبض على (ايبك الحلبي) و(سيف الدين قلج) وأتوا بهما إلى هلاكو فعفا هلاكو عن ايبك وتعهد هذا أن يعرض له الأمر على وجه الصحة.

ثم عينه هلاكوخان ضابطا ليزك المغول (٢).

وفي الحوادث الجامعة : «سار السلطان حينئذ نحو بغداد ، وأمر الأمير سوغو نجاق أن يسير بقطعة من الجيوش على اربل ، ويعبر دجلة ففعل وسار السلطان في باقي الجيوش. فلما بلغ الخليفة مسيره أمر الدويدار أن يخرج من بغداد بالعساكر فخرج ونزل قريبا من بعقوبا. فلما بلغه وصول سوغو نجاق وابيجو عبر دجلة ونزل حيال حربى ، وأرسل أميرا يعرف بايبك الحلبي في مقدمته فمضى واتصل ببايجو وأقبل بين يدي العسكر يعرفهم الطرق ويهديهم.» ا ه (٣).

ثم أنعم هلاكو على الأمراء وأمرهم أن يعبروا دجلة ويتوجهوا نحو غربي بغداد. وكانت لهم عادة أن يحرقوا الصوف الذي في كتف الأغنام فأحرقوه وعبروا دجلة وتوجهوا نحو غربي بغداد.

وكانت جيوش بغداد معسكرة في تلك الجهة تحت قيادة قراسنقور القبجاقي ولما كان سلطان جوق (٤) من الخوارزميين بمعية المغول (في

__________________

(١) تلفظ عند الإيرانيين كرمان شاهان والعرب يقولون قرمسين واليوم شائعة «كرمنشاه» على لسان العموم.

(٢) جامع التواريخ.

(٣) ابن الفوطي حوادث سنة ٦٥٥ ه‍.

(٤) وفي موطن آخر ورد بلفظ «سلطان جون».

١٨٧

يزكهم) وهو في خدمة هلاكو أرسل رسالة إلى قراسنقور (١) يخبره بأننا وإياكم من جلدة واحدة وقوم واحد ونحن بعد الدفاع الكثير عجزنا واضطررنا إلى طاعة هلاكو والآن نحن في خدمته وهو يحسن إلينا.

وأنتم أيضا ارأفوا بأرواحكم وأشفقوا على أولادكم وأطيعوا المغول حتى تكونوا في مأمن منهم على أنفسكم وأموالكم وأولادكم. فأجابهم قراسنقور :

إن المغول أعجز من أن يتمكنوا من الفتك بالبيت العباسي. لأن هذا البيت رأى أمثال جنگيزخان كثيرا. فأساسه أحكم من أن يمسه جنگيز وأتباعه بسوء ولا يتزلزل لكل عاصفة مهما كانت شديدة. وهم منذ أكثر من خمسمائة سنة يحكمون كابرا عن كابر. وكل من قصدهم بسوء نال جزاءه ، ولا يأمن سطوات الدهر.

ولما كنت تكلفني بالطاعة لدولة المغول الحديثة العهد فقولكم هذا بعيد عن الكياسة. ومن لوازم القرابة والصداقة أنكم لما رأيتم هلاكو خان فتح قلاع الملاحدة أن تصدوه وترجعوه إلى الري وترجعوا إلى مواطنكم تركستان وخراسان.

فالخليفة متألم من تطاول هلاكوخان. وأن هلاكوخان إذا كان ندم عن فعله وجب عليه أن يرجع بجيشه إلى همذان حتى يتشفع الدواتدار له عند الخليفة ليعفو عن هلاكو ويقبل الصلح فيسد باب القتال والجدال.

وهذا الكتاب قدمه (سلطان جوق) إلى هلاكوخان.

وحينما اطلع هلاكو على مضمون هذا الكتاب ضحك بسخرية وقال :

__________________

(١) جاء في أكثر الكتب العربية «قراسنقر».

١٨٨

ـ إن قوتي وعظمتي نتيجة فعلي وإرادتي ولم تكن بدرهم ولا دينار. وإذا يسر الله نصرتي وأعانني فلا أخشى من الخليفة وجيشه.

ثم إنه أرسل رسولا آخر يبلغ الخليفة أنه يدعوه بالحضور إليه قبل سليمان شاه والدواتدار حتى يسمع نصيحته. وتوجه في اليوم التالي إلى اطراف نهر حلوان. فأقام هناك من ٩ ذي الحجة إلى ٢٢ منه وفي تلك الأثناء ورد إليه كيتو بوقا نويان آتيا من لورستان وكان قد استولى على الكثير منها طوعا وكرها. وفي ٩ المحرم سنة ٦٥٦ ه‍ توجه بايجو نويان وبوقا تيمور وسونجاق على الموعد من طريق دجيل فعبروا دجلة ومنها مضوا حتى وافوا إلى حدود نهر عيسى.

وقد التمس سونجاق نويان من بايجو أن يكون في مقدمة العسكر المتوجه إلى غربي بغداد فوافق وسار مع جيشه ووصل إلى حربي (١). وكان مجاهد الدين ايبك الدواتدار قائد جيش الخليفة هناك مع فتح الدين بن كر القائد وعسكروا بين بعقوبة وباجسرى. ولما سمعوا بوصول المغول إلى غربي بغداد غيروا وجهتهم وساروا من دجلة إلى حدود الأنبار على ابواب قصر المنصور في صدر المزرفة ويبعد تسع ساعات عن بغداد ورتبوا صفوفهم واستعرضوا الجيوش مع عساكر سونجاق نويان وبوقا تيمور ، أما جيش المغول فإنه عطف عن المصاف وانحاز إلى نهر بشير من بز الدجيل فرأوا بايجو واتصلوا به فقال لهم ارجعوا. وفي هذا المكان كسروا سدة النهر من هناك ليغرقوا جيش بغداد ولتغمر المياه تلك الصحراء ...

وفي يوم الخميس وقت طلوع الفجر من يوم عاشوراء هاجم بايجو وبوقا تيمور جيوش الدواتدار وابن كر وهزموهم شر هزيمة. وقتل

__________________

(١) جاءت في جامع التواريخ بلفظ حربية وصحيحها ما ذكر والعامة عندنا يسمونها «حربة» وهي أطلال وبقربها «جسر حربة» قنطرة لا تزال قائمة.

١٨٩

في هذه الحرب قراسنقور وفتح الدين بن كر وهما قواد الجيش مع اثني عشر ألفا من الجيش. وهؤلاء عدا من غرق في النهر. وانهزم إلى نواحي الحلة والكوفة وبقوا متفرقين مدة.

وفي يوم الثلاثاء منتصف المحرم استولى بوقا تيمور وبايجو وسونجاق على الجانب الغربي من بغداد ونزلوا في ساحل دجلة في اطراف البلدة.

ووصل في هذه الأثناء من أطراف نحاسية وصرصر القائد كيتو بوقا نويان مع امراء آخرين بجيش عظيم.

وعن هذه جاء في ابن الفوطي :

«ذكرنا في سنة ٥٥ مسير السلطان هلاكو قاآن من بلاده نحو بغداد ، وأنه أمر الأمير بايجو بالمسير إلى اربل وأن يعبر دجلة ويسير إلى بغداد من الجانب الغربي ففعل ذلك ، فلما بلغ الخليفة وصوله تقدم إلى الدويدار الصغير مجاهد الدين ايبك وجماعة من الأمراء بالتوجه إلى لقائه ، فعبروا دجلة فلما تجاوزوا قنطرة باب البصرة بفرسخ واحد رأوا عساكر المغول قد أقبلت كالجراد المنتشر فالتقوا واقتتلوا يوم الأربعاء تاسع المحرم ، فانكسرت عساكر المغول قصدا وخديعة ، فتبعهم الدويدار وقتل منهم عدة كثيرة وحمل رؤوسهم إلى بغداد ، وما زال يتبعهم بقية نهاره فأشار عليه الأمير فتح الدين بن كر بأن يثبت مكانه (١) ولا يتبعهم ،

__________________

(١) وفي مجمع الآداب أيضا «وكان من الامراء الذين عبروا إلى الجانب الغربي ، وامتار عليهم بالرجوع فلم يسمعوا الامير أبو المظفر الدمشق بن عبد الله القفجاقي الناصري) فلم يسمعوا ، وقاتل إلى أن قتل رحمه الله في المحرم سنة ٦٥٦ وقد نيّف عن الثمانين» قاله معالي الشيخ الاستاذ محمد رضا الشبيبي. وفي طبقات ناصري أن الملك عز الدين بن فتح الدين قد كان جهده منصرفا إلى لزوم تعقب أثر المنهزمين للقضاء عليهم. ولكن مجاهد الدين الدوالي تأنى في الأمر ليلته.

١٩٠

فلم يصغ إليه ، فأدركه الليل وقد تجاوز نهر بشير ببز دجيل فباتوا هناك فلما أصبحوا حملت عليهم عساكر المغول وقاتلوهم قتالا شديدا ، فلم يثبت عساكر الدويدار ، فانكسروا وكروا راجعين إلى بغداد فوجدوا نهر بشير قد فاض من الليل وملأ الصحراء فعجزت الخيول عن سلوكه ، ووحلت فيه ، فلم يخلص منه إلا من كانت فرسه شديدة ، وألقى معظم العسكر نفسه في دجلة فهلك منهم خلق كثير ، ودخل من نجا منهم بغداد مع الدويدار على أقبح صورة ، وتبعهم الأمير بايجو وعسكره يقتلون فيهم ، وغنموا سوادهم وكل ما كان معهم ، ونزلوا بالجانب الغربي ، فشرعوا بالرمي بالنشاب إلى الجانب الشرقي ، فكانت سهامهم تصل الدور الشطانية ا ه (١).

أما هلاكو فقد توجه من خانقين إلى بغداد ونزل في شرقيها في ١١ المحرم سنة ٦٥٦ ه‍ ١٢٥٨ م وكان العسكر المغولي منتشرا في اطراف بغداد كالجراد وقد توغل في هذه الأنحاء ونصبوا المنجنيقات حوالي بغداد.

وفي يوم الثلاثاء ٢٢ المحرم ابتدأوا بالحرب واشتبكوا في القتال. وكان جيش هلاكو قد اتخذ مقره وسار هلاكو من (طريق خراسان) من نواحي الخالص متوجها على ميسرة المدينة وهدفه (برج العجمي) (٢). وكان هدف ايلكا نويان ، نحو باب كلواذى ، وقولى ، وبلغا ، وتوتار ، وشيرامون ، وأرقيو ، كانت وجهتهم وسط المدينة باب سوق السلطان (الباب الوسطاني).

__________________

(١) الحوادث الجامعة سنة ٦٥٦ ه‍ ومثله في الفخري.

(٢) هذا البرج لا يزال معروفا وأصله أن الشيخ عبد القادر الكيلاني كان يلزم الخلوة فيه فسمي برج العجمي نسبة إليه ... كما في بهجة الأسرار و«مقام الشيخ» هناك كان معروفا إلى أيام احتلال بغداد على يد الانجليز والآن محله معروف إلا أنه اندرس وزال بناؤه ...

١٩١

وبوقا تيمور متوجه من أطراف القلعة من جانب القبلة في موضع دولاب. وتوجه بقل وبايجو وسونجاق من جانب غربي بغداد نحو البيمارستان العضدي.

وكان هؤلاء قد اشتبكوا مشتركا ونصبوا مقابل (برج العجمي) (١) مجانيق متعددة وضعضعوا البرج المذكور.

وفي هذه الأثناء أرسل الخليفة الوزير ومعه الجاثليق وقال لهم بلغوا هلاكو بأن الخليفة أوفى بعهده وأرسل لك الوزير الذي أردته قبلا فيكون بعمله هذا قد نفذ أمر السلطان فقال هلاكوخان :

إن هذا قد اشترطته على أبواب همذان حينما كنت هناك. وفي هذا الوقت وصلنا بغداد وتلاطمت الفتن والانقلابات. فلا يسعني أن اكتفي أو أقنع بوصول وزير واحد فأريد أن يأتوا إلي ثلاثتهم : الدواتدار وسليمان شاه والوزير فرجع الرسل إلى المدينة ودخلوها.

وفي اليوم التالي توجه الوزير وصاحب الديوان وجماعة من مشاهير البلدة وأعيانها إلى هلاكو فخرجوا من بغداد فأرجعهم الجيش المغولي. ودامت الحرب ستة أيام متوالية. وأمر السلطان هلاكو أن يرسلوا يرليغات (فرامين سلطانية) إلى القضاة والعلماء والشيوخ والعلويين والأعيان (أو التجار) والذين ليسوا معهم في حرب ... يؤمنونهم بها على أرواحهم وشدوا هذه الكتب بألواح ونشروها في أنحاء المدينة (رموها) للإعلام بها وإعلانها.

__________________

(١) من رأي الاستاذ القزويني أن سبب تسميته ببرج العجم ، أو العجمي هو أنه كان لمحلة قطيعة العجم من محلات بغداد ، ويشتبه من صحة التسمية المذكورة في حواشي الحوادث الجامعة ص ٣٢٦ المتضمنة ملازمة الشيخ عبد القادر في هذا البرج فنسب إليه ، نقلا عن بهجة الاسرار قال ويسمى (با) الترك العثمانيين ب (طابية الزاوية) والطابية هنا تعني البرج ـ راجع ح ٣ ص ٤٧٤ من تاريخ جهان كشاي جويني.

١٩٢

ولما لم يكن لديهم أحجار للرمي صاروا يجلبون الأحجار من جبل حمرين وجلولاء فصاروا يرمونها بواسطة المنجنيقات في المدينة. وكانوا يقطعون النخيل ويجعلون ذلك مكان الأحجار للرمي.

وفي يوم الجمعة ٢٥ المحرم هدموا (برج العجمي).

وفي يوم الاثنين ٢٨ منه تقابلت الجيوش قرب (برج العجمي) وأخذ التتار يستولون على البرج وينسحب الناس من داخلها. وكذا اشتد الأمر من جانب سوق السلطان.

ولما كان القائدان بلغا وتوتار اللذان كان هدفهما جانب السوق السلطاني لم يتمكنا بعد من الاستيلاء عليه وافاهما السلطان هلاكو وشد عزمهم بتحريك نخوتهم. وكانوا طول الليل يحاولون الاستيلاء على سور المدينة.

ثم إن هلاكو أمرهم أن ينصبوا جسرين أحدهما في أعلى بغداد وآخر في أسفلها فأعدوا السفن لها والمجانيق وقطعوا طريق المدائن والبصرة. وهؤلاء كانوا تحت قيادة بوقاتيمور ومعه تومان أي فرقة (عشرة آلاف من الجيش) فأقاموا على طريق المدائن والبصرة. وكان قصدهم من قطع الطريق أن يمنعوا كل من يريد الفرار من بغداد ويحاول الهزيمة.

في هذا الموقف اشتد الحرب في بغداد وضاق الأمر بالناس وحينئذ أراد الدواتدار أن يركب في سفينة وينهزم إلى جانب السيب. ولما مر من قرية (العقابية) (١) أحاطه جيش بوقاتيمور وأخذوا يرمون السفينة بالأحجار والسهام وقوارير النفط بواسطة المنجنيقات واستولوا على ثلاث سفن وأهلكوا من فيها فرجع الدواتدار حينما رأى الفرار

__________________

(١) قرية في الأراضي المعروفة اليوم بأراضي العقابية قرب بغداد في الجانب الغربي في أراضي الدورة وقد سميت في جامع التواريخ بقرية العقاب وكذا في الحوادث الجامعة.

١٩٣

صعبا عليه. فاطلع الخليفة على هذه الحالة فيئس من حكومة بغداد وملكها يأسا كليا. لأنه لم ير مفرا ولا ملجأ لنفسه فقال : ليس لي بد من طاعتهم.

وعلى هذا أرسل الخليفة فخر الدين الدامغاني وابن الدرنوس (١) ومعهما تحف قليلة. لأنه حاذر أن يرسل تحفا كثيرة فتدل على خوفه منهم فيحصل بذلك تعنت من العدو وعناد. فلم يلتفت هلاكو إلى التحف المرسلة ومن ثم رجعوا خائبين.

وفي يوم الثلاثاء ٢٩ المحرم خرج أحد أولاد الخليفة وهو المتوسط منهم أبو الفضائل (الفضل) عبد الرحمن ومعه الوزير وصاحب الديوان وجمع من الأعاظم ومعهم أموال كثيرة فلم يقع ذلك كله موقع القبول من هلاكو خان ...

وفي سلخ المحرم خرج ابن الخليفة الأكبر والوزير وجمع من المقربين بقصد الرجاء والشفاعة فلم يجد ذلك نفعا. وحينئذ أرسل هلاكو الخواجة نصير الدين وايتيمور بصفتهما رسلا إلى الخليفة وبصحبتهما صاحب الديوان فخر الدين الدامغاني وابن الجوزي وابن درنوس وكانوا يقصدون جلب سليمان شاه والدواتدار.

وفي غرة صفر دخلوا بغداد وجاؤوا بيرليغ (أمر سلطاني) وعهد (بايزه) ليطمئنوهما وقالوا :

__________________

(١) هو عبد الغني بن الدرنوس ذكره ابن الطقطقي وقال كان حمالا فتوصل في أيام المستنصر حتى صار براجا في بعض ابراج دار الخليفة فما زال يحسن التوصل إلى ولد المستنصر وهو المستعصم وكان في زمن أبيه محبوسا ، فما زال يتعهده بالخدمة إلى أن جلس على سرير الخلافة فعرف له حق الخدمة ورتبه متقدم البراجين ثم استحجبه حتى بلغ أن صار إذا دخل إلى الوزير ينهض له ويخلي المجلس لعله جاء في مشافهة من عند الخليفة ولقب نجم الدين الخاص ... الخ ص ٣٣.

١٩٤

ـ إن الخليفة إذا أراد أن يخرج فليخرج. وإلا فالرأي له.

وأمر هلاكو الجيش المغولي أن يستقر في أطراف بغداد إلى أن يرجع الرسل ويبلغوه النتيجة.

وفي يوم الخميس غرة صفر تمكنوا من إقناع الدواتدار وسليمان شاه فخرجوا بمعيتهم. ولما وصلوا إلى المعسكر أمرهما أن يرجعا ثانيا ويخرجا متعلقاتهما من بغداد حتى يكونوا في مأمن من الفتك. فلما رأى الأهلون في بغداد ذلك عزموا أن يتبعوهما. وحينئذ أحاط بهم الجيش المغولي وقسموهم ألفا ومائة وعشرا إلى العسكر وقالوا لهم هؤلاء سهامكم فاقتلوهم فقتلوهم عن آخرهم.

ومن بقي في المدينة أخذوا يختفون في الزوايا والتكايا والأماكن غير المنظورة كالثقوب والسواقي والآبار ... ليبعدوا عن الأنظار فخرج جماعة من أعيان بغداد وأرادوا نجاة منهم وقالوا إن خلقا كثيرا يطلب الأمان ويظهر الطاعة. وإن الخليفة وأولاده سيخرجون فأمهلونا.

وفي هذه الأثناء أصاب سهم عين أحد أكابر أمراء هلاكو وهو (هندوي بتيكجي) فغضب هلاكوخان وسخط على الأهلين فاستعجل في الاستيلاء على بغداد وأمر الخواجة نصير الدذين أن يقف عند باب الحلبة ويؤمن الناس للخروج من هذا الباب فأخذ الناس يخرجون جماعات كثيرة.

وفي يوم الجمعة ثاني صفر قتلوا الدواتدار فاحتال سليمان شاه للخلاص فجمع نحو سبعمائة نسمة من أقاربه وقد حضروا كلهم لدى هلاكوخان مكتفين (مغلولي الأيدي) فعاتبه هلاكوخان وقال له : إن لك علما في التنجيم وسير الكواكب وتعلم حالات السعود والنحوس. أما كنت ترى هذا اليوم الأسود ، اليوم الذي تكون عاقبته سيئة عليك فلم لم تنصح مولاك؟! ليبادر لخدمتنا من طريق الصلح!

١٩٥

فقال له سليمان شاه (هو شهاب الدين الأمير ابن برجم) :

إن الخليفة مستبد ولم يكن رجلا سعيدا (موفقا) ليسمع نصائح المصلحين الذين يريدون له خيرا!!

فأمر بقتلهم وأتباعهم تماما. وقتلوا أيضا ابن الدواتدار الكبير وهو الأمير (تاج الدين) ابن علاء الدين الطبرسي وقطعوا رؤوس هؤلاء الثلاثة وسلموها إلى الملك الصالح بن بدر الدين لؤلؤ فأرسلها إلى الموصل.

فبكى بدر الدين للصداقة بينه وبين سليمان شاه ولكن لم ير بدّا من تعليق رؤوسهم فعلقت حذرا من أن تصيبه نقمة من هلاكوخان.

ثم إن الخليفة لما رأى الأمر قد تضايق عليه من كل الجوانب وأنه خرج الأمر من يده دعا الوزير وسأله تدبيرا فأجابه :

يظنون أن الأمر سهل وأنما

هو السيف عدت للقاء مضاربه

وفي يوم الأحد ٤ صفر سنة ٦٥٦ ه‍ خرج الخليفة من بغداد ومعه ابناؤه الثلاثة وهم أبو الفضل عبد الرحمن وأبو العباس أحمد أبو المناقب مبارك مع ثلاثة آلاف من السادات والأئمة والقضاة والأكابر والأعيان فوصلوا إلى هلاكو خان فلم يبد هلاكو خان أثرا من الغضب عليهم وأخذ يسأل أحوالهم بكلمات طيبة ثم قال للخليفة :

مر الناس أن يلقوا السلاح ويخرجوا من المدينة حتى أحصيهم فرجع الخليفة إلى المدينة ونادى المنادي بأمر الخليفة أن يلقوا السلاح ويخرجوا فألقوا اسلحتهم وأخذوا يخرجون من المدينة. وكان الجيش المغولي يقتلهم عند خروجهم.

ثم أمر أن يخيم الخليفة وأولاده ومتعلقاته محاذيا لباب كلواذى وهو محل معسكر كيتو بوقا نويان فنزلوا هناك وعين بعض أفراد المغول

١٩٦

لحراستهم وكان الخليفة يرى أنه سيهلك قطعا فلم يبق له ارتياب. وكان يأسف على إبائه قبول النصائح (١) ...

احتلال بغداد :

ثم بتاريخ ٥ صفر سنة ٦٥٦ ه‍ استولى المغول على بغداد ودخلوها وقد مرّ الكلام على ذلك في أول الكتاب ...

وقد أوقعوا بالأهلين ما لم يخطر ببال ، وقد اتفق المؤرخون في حكاية الحادث وعظم المصاب (٢) ...

وفي يوم الأربعاء ٧ صفر باشر المغول بالقتل العام وسلب الأموال فهجم الجيش المغولي دفعة واحدة وكانوا يحرقون الأخضر واليابس فلم يسلم منهم أحد إلا البيوت الحقيرة للغرباء والزراع ... فكان الهول عظيما ...

وفي يوم الجمعة ٩ صفر دخل هلاكو المدينة وتوجه إلى مقر الخليفة وجلس في الميمنية وأمر أن يحضر الأمراء وأشار بإحضار الخليفة وقال له :

إننا ضيوف وأنت رب المنزل فأت إلينا بما يليق لضيافتنا. فزعم الخليفة أن ذلك صحيح وكان يرتجف من الخوف ومندهشا لدرجة أنه عاد لا يعلم مفاتيح خزائنه فأمر أن يكسروا الأقفال فأخرجوا ما يقدر بألفين من الثياب وعشرة آلاف دينار ونفائس ومرصعات وجواهر عديدة ... فلم يلتفت هلاكو خان إلى هذه الأشياء ووزعها على الأمراء الحاضرين.

__________________

(١) جامع التواريخ وابن العبري وغيرهما ...

(٢) ر : ص ٣٧ : ٤٠ من هذا الكتاب.

١٩٧

ثم خاطب الخليفة بأن الأموال الموجودة في سطح الأرض ظاهرة فنريد أن تبين الدفائن وموضعها وماهيتها فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء من الذهب في وسط السراي (البلاط الملكي أو القصر الملكي) فأخذوا يحفرون المكان الذي عينه فوجدوه مملوءا من الذهب الإبريز (الخالص). وكانت كل قطعة منه بزنة مائة مثقال.

ثم أمر أن يحصوا حرم الخليفة فوجدوا ٧٠٠ من النساء والسرايا وألفا من الخدم ...

فلما اطلع الخليفة على احصاء حرمه تضرع وقال إن حرمي لم تكن الشمس والقمر تطلع عليها فقال له هلاكو : إن عليك أن تختار مائة منهن وخل الباقين فجمع الخليفة مائة من النساء اللآتي لهن علاقة به من أقاربه والخاصين به فجمع منهن مائة وهن القريبات إليه فأرسلهن خارج بغداد ورجع هلاكوخان إلى معسكره ليلا وأمر القائد سونجاق أن يذهب إلى المدينة (بغداد) ويضبط أموال الخليفة ويخرجها فجمع هذا ما كان ادخره الخلفاء في مدة خمسمائة سنة فلفها بأقمشة وأخرجوها ...

وقد أحرقت أكثر المواقع الشريفة في هذه الوقعة كجامع الخليفة ومشهد موسى الجواد ومراقد الخلفاء.

وحينئذ التمس الناس من شرف الدين المراغي وشهاب الدين الزنجاني و(ملك دل راست) (١) ليذهبوا إلى هلاكوخان ويطلبوا الأمان فتشفع هؤلاء فشفعهم وأمر أن يكفوا عن القتال وسلب الأموال. وأمر باستقرار الناس واشتغالهم بكسبهم. وعليه أمن من بقي من الناس ممن نجا من سيوفهم ...

__________________

(١) هو نجم الدين أبو جعفر احمد بن عمران ويسمى وزير راست دل أيضا «ر : ص ٣٠٨ جامع التواريخ».

١٩٨

وقال ابن الطقطقي :

«وأما حال العسكر السلطاني فإنه يوم الخميس رابع المحرم من سنة ٦٥٦ ه‍ ... قد طبق وجه الأرض وأحاط ببغداد من جميع جهاتها ، ثم شرعوا في استعمال أسباب الحصار ، وشرع عسكر الخليفة في المدافعة والمقاومة إلى يوم ٢٩ المحرم فلم يشعر الناس إلا ورايات المغول ظاهرة على سور بغداد من برج العجمي ... وتقحم العسكر السلطاني هجوما ودخولا ، فجرى من القتل الذريع ، والنهب العظيم ، والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة فما الظن بتفصيله ...» ا ه (١) ولا محل لإيراد جميع النصوص المنقولة واستيعابها ...

خروج هلاكو من بغداد ووقائع أخرى :

في يوم الأربعاء ١٤ صفر رحل هلاكو خان من بغداد نظرا لعفونة هوائها بسبب القتلى ونزل في قرية الوقف والجلابية (٢). وأرسل الأمير عبد الرحمن لفتح ولاية خوزستان وطلب إحضار الخليفة فكان يرى الخليفة أمارات سيئة مما سيصيبه واشتد خوفه فقال للوزير :

ما التدبير لنجاتنا!

فأجابه :

لحيتنا طويلة! (وكان قصده من ذلك أنه لما دبر أول الأمر وأبدى رأيه بإرسال تحف كثيرة لدفع هذه المصيبة قال الدواتدارآنئذ : لحية الوزير طويلة!) وكان قد أفسد تدبيره بهذه الكلمة فقنع الخليفة بقوله.

والخلاصة أن الخليفة لم يبق له أمل في الحياة وطلب رخصة أن يدخل الحمام ويجدد غسله. فأمر هلاكو أن يصحبه خمسة من المغول

__________________

(١) الفخري ص ٣٠١.

(٢) الظاهر الجلالية.

١٩٩

وكان الخليفة يكره صحبة هؤلاء الخمسة الذين عينوا لحراسته وكان يكرر :

وأصبحنا لنا دار كجنات وفردوس

وأمسينا بلا دار كأن لم نغن بالأمس

القضاء على الخليفة :

وفي آخر يوم الأربعاء ١٤ صفر صنة ٦٥٦ قضوا على الخليفة وعلى أولاده وخمسة من خدمه وملازميه في (قرية الوقف).

وفي اليوم التالي قتلوا من كان اتبع الخليفة وخرج معه وأقام في باب كلواذى. ولم يبقوا ممن وجدوا من العباسيين إلا نفرا معدودا ممن لم يدخل في الحساب.

ووهبوا مبارك شاه ابن الخليفة الأكبر إلى اولجاي خاتون. وهذه ارسلته إلى مراغة وكان مع الخواجة نصير الدين فزوجوه بامرأة مغولية فولد لها منه ولدان.

وفي يوم الجمعة ١٦ صفر استشهد ابن الخليفة المتوسط ، قضي عليه وألحق بأبناء الخليفة الآخرين وكانوا قد قتلوا في باب كلواذى فتم أمر آخر الخلفاء العباسيين وانقرضت حكومتهم وبهذا خلصت بغداد للتتر ...

ترجمة الخليفة المستعصم بالله :

هو أبو أحمد عبد الله ابن الخليفة المستنصر بالله أبي جعفر. ولما توفي والده بكرة الجمعة ١٠ جمادى الثانية لسنة ٦٤٠ ه‍ ١٢٤٢ م لم يكن حاضرا فاستدعاه شرف الدين إقبال الشرابي (١) من مسكنه بالتاج سرا من باب يفضي إلى غرفة في ظهر داره فحضر ومعه خادمه مرشد الهندي

__________________

(١) توفي سنة ٦٥٣ ه‍ وترجمته في ابن الفوطي في حوادث هذه السنة.

٢٠٠