موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

المضي إلى مملكة جنگيز والتطلع على أحوالها بشراء جنگيز أموالهم ...

بعثة جنگيز إلى بلاد خوارزمشاه :

ثم إن جنگيزخان تقدم إلى الأولاد والخواتين والأمراء أن ينفذوا مع هؤلاء بجماعة من أصحابهم. ومعهم بواليش الذهب والفضة ليجلبوا لهم من طرائف البلاد ونفائسها ما يصلح لهم فامتثلوا ما أمرهم فاجتمع معهم مائة وخمسون تاجرا من مسلم ونصراني وتركي وفي رواية شجرة الترك ٤٥٠ شخصا وأرسل معهم رسولا إلى السلطان محمد يقول له :

«إن التجار وصلوا إلينا وقد أعدناهم إلى مأمنهم سالمين غانمين ، وسيرنا معهم جماعة من غلماننا ليحصلوا من طرائف تلك الأطراف ، فينبغي أن يعودوا إلينا آمنين ليتأكد الوفاق بين الجانبين وتنحسم مواد النفاق من ذات البين» (١). وهؤلاء جيش لجب من الجواسيس يخشى طبعا منهم ويحسب لهم الحساب العظيم ... إذ إنهم سوف يجوسون خلال الديار فيقفون على كافة أسرارها وظواهرها ، في حين أن جماعة خوارزمشاه الذين ذهبوا لم يتمكنوا من الاطلاع على الوضع والحالة وعلى كل كان الملك الواحد منهما مستوحشا من الآخر وحذرا منه ...

جاء هؤلاء التجار مدينة (أوترار) (٢) وكان أميرها (اينالجق) (٣) وهو خال السلطان محمد خوارزمشاه وكان قد لقبه السلطان خوارزمشاه بلقب (غايرخان) فوردوا إليه وطمع هذا الأمير غاير خان فيما معهم من الأموال والصحيح اشتبه منهم بل قطع في أنهم جواسيس فطالع السلطان في أمرهم وحسن له إبادتهم واغتنام أموالهم فأذن له في ذلك فقتلهم طرا

__________________

(١) «ر : العبري ص ٤٠١».

(٢) وفي العبري والمنكبرتي : اترار. وفي ابن بطوطة : اطرار بضم الهمزة ص ٢٢٥ والألفاظ متقاربة ...

(٣) جاء في المنكبرتي بلفظ «ينال خان».

١٠١

إلا واحدا منهم فإنه هرب من السجن. ولما رأى ما جرى على اصحابه لحق بديار التتار وأعلمهم بما وقع (١).

وفي ابن بطوطة : إن ملك خوارزم له قوة عظيمة وشوكة فهابه جنگيزخان وأحجم عنه ولم يتعرض له ، فاتفق أن بعث جنگيزخان تجارا بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أطرار آخر عمالة جلال الدين فبعث إليه عامله عليها معلما بذلك واستأذنه ما يفعل في أمرهم فكتب إليه يأمره أن يأخذ أموالهم ويمثل بهم ويقطع اعضاءهم ويردهم إلى بلادهم ... فلما فعل ذلك تجهز جنگيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام (٢).

وفي شجرة الترك ضعف هذه الرواية وعول على أن جنگيزخان أرسل محمود يالواجي وقال للسلطان محمد خوارزمشاه عن لسان جنگيزخان : «إن الله اعطاني ملك الشرق إلى حدود ملكك ، فأنت ابني ، فاجهد على الجميل يكن المسلمون في راحة وطمأنينة!». وقد عرض رسالته هذه على السلطان محمد ، ثم إن السلطان قدم لؤلؤة إلى محمود يالواجي ثم جرت بينهما محادثة ... قال : «إني سائلك فاصدقني هل كان أخذ خانك للخيتاي (الخطا) صحيحا؟ فأجابه : «وحق الله إن خاني ينطق بالصدق ، وسيأتيكم نبأ صدقه قريبا» ، أما السلطان محمد فقد قال له بحنق وغضب : «إنك تعلم يا محمود سعة ملكي وقوة سلطاني ، ومن خانك ليعد نفسه أكبر مني فيقول لي ابني؟ وما مقدار عسكره ليرى نفسه أعلى مني؟».

وحينئذ خاف محمود يالواجي من توسع الموضوع فكان جوابه : «إن جند جنگيز تجاه عسكرك كضياء القمر حيال نور الشمس!». فانتهى

__________________

(١) «ر : ص ٤٠١ ابن العبري وشجرة الترك».

(٢) ر : ص ٢٢٥ ج ١ تحفة النظار».

١٠٢

القول بينهما وانقطع بهذه الصورة ونجا يالواجي من غضب السلطان.

وبهذه الصورة دامت الصداقة والوفاق بينهما فصار عدو أحدهما عدو الآخر ، وصديقه صديقه فتعاهدا على أن لا يضر الواحد الآخر.

سفير الخليفة إلى جنگيزخان :

وعلى هذا ذهب سفراء جنگيزخان إليه فسر ، وعزم أن لا يتجاوز على السلطان محمد ما لم يتعد عليه وفي هذه الأثناء جاءه سفير الخليفة الناصر فلم يلتفت إليه ، أو بالتعبير الأصح أظهر طرد سفير الخليفة ولم يقبله حبا في المصافاة ... وفي هذا من التكتم ما فيه ... حتى دعا ذلك أن يقال إنه لم يفكر في الإخلال في المعاهدة كما في (شجرة الترك) هذا في حين أننا نرى صحبة الطرفين على دخل ولم يهمل واحد منهما الطريقة اللازمة للتزود من المعرفة ووقوف كل على احوال الآخر. وما يحكيه صاحب الشجرة من أن التجار حين وردوا إلى غايرخان عرفه أحدهم وكان يعرف اسمه الأصلي (أينالجق) فدعاه به فغضب وكان هذا التاجر لا يعرف اللقب الجديد فكتب الوالي إلى السلطان محمد بأنه وردنا جواسيس فاستطلع رأيه فيهم ... فهذا غير صحيح ولا يعول عليه بوجه. فلا يكون مغفلا لهذا الحد ولكن الغلط كان فيما أجراه من قتل التجار والرسل فكان الواجب عليه أن يعاملهم بالحسنى ويعيدهم دون أن يدعهم يتوغلون في المملكة أو يؤخر أمرهم إلى أن يستأذن فلم يؤذن لهم إلا إلى وقت آخر وأن يعين الطريق الذي يجب أن يسيروا فيه تحت مراقبة وترصد تامين (١).

__________________

(١) كنت أوردت عن ابن الأثير اتهامه الخليفة الناصر ، ونقل أيضا عن مؤرخي العجم كما في ج ١٢ ص ١٨١ في حوادث سنة ٦٢٢ ه‍.

وجاء في ابن أبي عذيبة :

١٠٣

__________________

«ويقال إنه هو الذي كاتب (التتار) ، وأطمعهم في أخذ البلاد بسبب ما كان بينه وبين خوارزمشاه من العداوة» ا ه.

ونرى الجويني قد أوضح صفحة أخرى تشير إلى ما وراءها ، فبين أن الخليفة الناصر بسبب الوحشة بينه وبين خوارزمشاه كان يكاتب ملوك قرا خطا دائما ، ويطير لهم الأخبار في دفع السلطان محمد (خوارزمشاه) ، وكذا يراسل سلاطين الغورية ، ويبعث إليهم القصاد ، فظهر للسلطان محمد نوايا الخليفة ، ووقف على ما جرى ... وأن مكاتبات الخليفة تشتمل على الإغراء والتحريض على السلطان ، وكان يستمد بجيوش الخطا ، ولكن السلطان لم يقدر أن يقف على سرّ ذلك حتى أن جلال الدين حسن كان قد أظهر الإسلام لمصلحة ، وقبل الخليفة منه ذلك ، فشاع أمره ، ولتقوية هذه الشائعة ذهب إلى الحج ... وغرض الخليفة أن يوجه وضعه في صحة مناصرته على سلطان خوارزم ... فلما علم السلطان بذلك تأثر كثيرا ولم يقف الخليفة الناصر عند حدود ذلك وإنما رتب فدائيين عليه ... وكذا على أمير مكة لما كان بينه وبينه من العداء ...

وذلك كله ما دعا خوارزمشاه أن لا يعترف بإمامة الخليفة الناصر ... وقد أطنب الجويني في ذلك ، وذكر محاولاته في نصب إمام غيره من آل علي ، ونزع الخلافة منه ، كان يعده مخالفا لشرط الإمامة ، ولم يكن من أولاد علي ... (جهانكشاي جويني ج ٢ ص ١٠).

والمؤرخون الآخرون ومنهم صاحب شجرة الترك يوضحون ورود رسل الخليفة إلى جنگيز ، وأنه لم يقبلهم ظاهرا ليبدي أنه مخلص لخوارزمشاه ... فلم ينفرد ابن الأثير في هذه الرواية على أنه عبّر عنها ب (قيل) ولم يقطع فيها ... فلا يقال إنه كان يميل إلى ترويج سياسة أتابكة الموصل ، كما لا يصح أن يسند إلى ابن أبي عذيبة هذا الإسناد. ومثل هذه الاتفاقات لا تظهر لكل أحد ، وإنما تجري في الخفاء.

وفي أيامنا هذه ، وعصورنا الحاضرة لا تعرف بعض الاتفاقات الدولية بل تبقى مكتومة حتى يحصل ما يدعو لانكشافها وإعلانها لأسباب خاصة أو قاهرة ...

والمعاصرون للمغول ، ومن بعدهم ذكروا الحادث ، وأكدوا شبهته بتفصيلات وتوضيحات تناقلوها ، ونحن في هذه يجب أن نعين كافة الصفحات ونشير إلى ما شاع ... والخلاف بين الناصر والخوارزمية واقع ، ويعدّ من مؤيدات التهمة ..

١٠٤

رأي ابن الأثير في اتهام الخليفة :

ومهما كانت الروايات فإن الذي دعا لهذه النفرة والاشتباه من هؤلاء القوم (جنگيزخان وقومه) وصول سفير الخليفة الناصر لدين الله العباسي يغريه على القيام ومناصرة الخليفة له ويروى أنه لم يقبله أو تظاهر بذلك. وقد شاعت هذه القضية حتى أن ابن الأثير لم يستطع كتمانها وهو يدون التاريخ لذلك الحين وإنما قص قضية قتل التجار ونهب أموالهم وأن ذلك هو السبب وقال : «وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر :

فكان ما كان مما لست أذكره

فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر» انتهى

فتراه يخشى من تدوينه في بطون الدفاتر كما أن في قوله (فكان ما كان مما لست أذكره) تأييدا لصحة هذه الشائعة وترجيحا لصدقها وإن لم يبينها. والكناية أبلغ من التصريح في مثل هذا المقام ... ومنها يتبين أن مهمة رسول الخليفة هي حث جنگيزخان على الخروج على خوارزمشاه ...

وجاء في ابن السبكي ما يوضح ذلك قال : «وكان السلطان الأعظم للمسلمين ـ أيام جنگيز ـ هو السلطان علاء الدين خوارزمشاه محمد بن تكش ... اتسعت ممالكه وعظمت هيبته وأذعنت له العباد ودخلت تحت حكمه ، وخلت الديار من ملك سواه ... فتجبر وطغى وأرسل إلى خليفة الوقت الناصر لدين الله الذي لا يصطلى لمكره بنار ، ولا يعامل في احواله بخداع يقول له : كن معي كما كانت الخلفاء قبلك مع سلاطين السلجوقية ... فيكون أمر بغداد والعراق لي ولا يكون لك إلا الخطبة فيقال ـ والله أعلم ـ إن الخليفة جهز رسله

١٠٥

إلى جنگيزخان يحركه عليه ...» ا ه (١).

وفي الفخري : «كان كل أحد من أرباب المناصب يخافه ـ الناصر ويحاذره بحيث كأنه يطلع عليه في داره ، وكثرت جواسيسه وأصحاب أخباره عند السلاطين وفي أطراف البلاد وله في مثل هذه قصص غريبة ...» ا ه (٢) مما لا يسع المقام إيراده ...

وعلى كل حال إن السلطان محمد أمر بقتل السفراء والتجار ووجد أن مطالعة أميره ملحوظة وواردة فحاذر أن يختبروا المسالك والطرق ويعرفوا الوضع السياسي والعسكري فأوقع فيهم غايرخان. ويؤيد هذا الحكاية التالية :

قال ابن الأثير (٣) : فلما قتل نائب خوارزمشاه (أميره غايرخان المذكور) أصحاب جنگيزخان أرسل جواسيس إلى جنگيزخان لينظر ما هو وكم مقدار ما معه من اليزك (٤) وما يريد أن يعمل فمضى الجواسيس وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم حتى وصلوا إليه. فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم وأنهم يخرجون عن الإحصاء وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم. ومثل هذا جاء في تحفة النظار قال : «لما سمع عامل اطرار (أو ترار) بحركة جنگيزخان بعث الجواسيس ليأتوه خبره فذكر أن أحدهم دخل محلة بعض امراء جنگيز في صورة سائل فلم يجد من يطعمه ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زادا ولا اطعمه شيئا فلما أمسى أخرج مصرانا يابسة عنده فبلها بالماء وقصد فرسه وملأها

__________________

(١) طبقات السبكي ج ١ ص ١٧٦.

(٢) «ص ٢٨٧ الفخري».

(٣) «ص ١٣٩ ج ١٢ ابن الأثير.

(٤) الجيش.

١٠٦

بدمه وعقدها وشواها بالنار فكانت طعامه فعاد إلى أطرار (أو ترار) فأخبر عاملها بأمرهم وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم فاستمد ملكه جلال الدين (خوارزمشاه) ...» ا ه.

ويريد أن يقول إن الصائل قوي ، متعود على شظف العيش ، ومتمرن على الكفاح ويحاول أن يهتم القوم للأمر ، وهذا ما دعا أن تكون الحروب طاحنة ، والوقائع بين الفريقين دامية ومهولة ...

خوارزمشاه وهذا الحادث :

«إن خوارزمشاه كان قد ندم على قتل اصحاب جنگيز وأخذ أموالهم. وحصل عنده فكر آخر ، فأحضر الشهاب الخيوفي وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده لا يخاف ما يشير به فحضر عنده فقال له : قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه فآخذ رأيك في الذي نفعله وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى فقال له في عساكرك كثرة ونكاتب الأطراف ونجمع العساكر ويكون النفير عاما. فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون (هو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام) فنكون هناك. فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة لقيناه ونحن مستريحون وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب. فجمع خوارزمشاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فلم يوافقوه على رأيه بل قالوا نتركهم يعبرون سيحون إلينا ويسلكون هذه الجبال والمضايق فإنهم جاهلون بطرقها ونحن عارفون بها فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد. فبينما هم كذلك إذ ورد رسول من جنگيزخان معه جماعة يتهدد خوارزمشاه ويقول اتقتلون اصحابي وتأخذون أموالهم!؟ استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به!؟» انتهى (١).

__________________

(١) ابن الأثير ج ١٢ ص ١٤٠.

١٠٧

أما جنگيزخان فإنه عند ما سمع قتل أصحابه عظم ذلك عليه وغضب منه غضبا كبيرا جدا وهجر النوم وصار يحدث نفسه ويفكر فيما يفعله. وقيل (١) إنه صعد إلى رأس تل عال وكشف رأسه وتضرع إلى الباري تعالى طالبا نصره على من بادأه بالظلم وبقي هناك ثلاثة أيام بلياليها صائما. وفي الليلة الثالثة رأى في منامه راهبا عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم على بابه يقول له : لا تخف افعل ما شئت فإنك مؤيد. فانتبه مذعورا ذعرا مشوبا بالفرح وعاد إلى منزله وحكى حلمه إلى زوجته وهي ابنة أونك خان فقالت له : هذا زي أسقف كان يتردد إلى أبي ويدعو له ومجيئه إليك دليل انتقال السعادة إليك. فسأل جنگيزخان من في خدمته من نصارى الأويغور : هل هنا أحد الأساقفة فقيل له عن ماء دنحا. فلما طلبه ودخل عليه بالبيرون الاسود قال هذا زي من رأيت في منامي لكن شخصه ليس ذاك. قال الأسقف : يكون الخان قد رأى بعض قديسينا. قال العبري بعد أن أورد هذه الحكاية وعبر عنها بلفظ قيل إن استمر في قوله : ومن ذلك الوقت صار يميل إلى النصارى ويحسن الظن بهم ويكرمهم (٢).

هذا وإن جنگيزخان أراد في سياسته أن يستفيد من العناصر الضعيفة والمخالفة للمسلمين والمذاهب المستضعفة من المسلمين فقرر لزوم رعايتهم ليحصل على المعلومات الكافية وليدلوه على خفايا المسلمين وبواطنهم وكافة أحوالهم في الوقت الذي هم عائشون معهم وأعرف بهم ، ويظهر أثر ذلك بوضوح في فتح بغداد على يد هولاكو

__________________

(١) هذه الحكاية نقلها ابن العبري وهو نصراني ومع هذا عبر عنها بلفظ قيل لعدم وثوقه منها واعتقاده بصحتها ونحن نذكرها لنبين أوضاع القوم مع المخالفين لتظهر السياسة ... وفي طبقات السبكي أورد مثلها وليس فيها ذكر للنصارى «ج ١ ص ١٧٨».

(٢) «ر : ص ٤٠٢ عبري.

١٠٨

خان ، فقد مشى أولاده على هذه الفكرة ولم يشذوا عنها وهذه الحكاية قد اختلقت بعد أن وقع الأمر ففسرت أعماله بهذه الحكاية ، وميله للنصارى يؤوّل بما ذكرت من الاستعانة.

والمعلوم أن المغول قد تعاطوا المخابرات السياسية بينهم وبين الافرنج فكانت الحماية لهذا الغرض ومن طريق القسوس ... وكانت السلطة السياسية بأيدي القسوس فهم هناك ليسوا دعاة دين وإنما هم سياسيون ... والوقائع التاريخية تبرهن على وجود المخابرات على يد سواح الغربيين وترددهم لهذا الغرض ... ومثل ذلك يقال عن اعتناقهم النصرانية فإنه لا صحة له وإنما العلاقة سياسية لا غير ويفسر بتكاتف الأمتين على الهجوم والقضاء على العالم الإسلامي والتناصر على توهين قواه واكتساحه ...

حكومة خوارزمشاه :

إن حكومة خوارزمشاه كانت في ذلك العصر من أقوى الحكومات الإسلامية. وكانت في أمل الاستيلاء على الخلافة أو جعلها منقادة إليها كما كانت طوع أمر السلاجقة والصحيح أن المساعي مصروفة لإلغائها ... فهي ذات الحول والطول. وملكها المعاصر لجنگيزخان هو محمد علاء الدين. وكان لقبه قطب الدين فغيره.

استقر في الحكم حين توفي والده خوارزمشاه تكش بن ارسلان في ٢٠ رمضان سنة ٥٩٦ ه‍ ١٢٠٠ م. وكان والده عادلا حسن السيرة يعرف الفقه والأصول على مذهب الحنفية. وحكومتهم في خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها من البلاد الجبلية وكان ضبطها طغرل بك السلجوقي من آل سبكتكين ثم جعلها سنة ٤٣٤ ه‍ ١٠٤٣ م إلى ابريقداره وبعدها وجهت حكومتها إلى انوشتكين من عتقاء السلاجقة وبوفاته سنة ٤٩٠ ه‍ ١٠٩٧ م توالى عليها أولاده المعروفون بالخوارزمشاهية وهم :

١٠٩

١ ـ قطب الدين محمد بن انوشتكين (٤٩٠ ه‍ ١٠٩٧ م : ٥٢١ ه‍ ١١٢٨ م).

٢ ـ اتسز خوارزمشاه بن محمد (٥٢١ ه‍ ١١٢٨ م : ٥٥١ ه‍ ١١٥٧ م).

٣ ـ ايل ارسلان بن محمد (٥٥١ ه‍ ١١٥٧ م : ٥٦٨ ه‍ ١١٧٣ م).

٤ ـ سلطان شاه بن ايل ارسلان (٥٦٨ ه‍ ١١٧٣ م : ٥٨٩ ه‍ ١١٩٤ م).

٥ ـ علاء الدين تكش بن ايل ارسلان (٥٨٩ ه‍ ١١٩٤ م : ٥٩٦ ه‍ ١٢٠٠ م).

٦ ـ علاء الدين محمد بن تكش (٥٩٦ ه‍ ١٢٠٠ م : ٦١٧ ه‍ ١٢٢١ م).

وهذا الأخير عند ما خلف والده هرب ابن أخيه هندوخان بن ملكشاه بن تكش منه وذهب إلى ملك الغورية وهو غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام بن الحسين الغوري صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها يستنصره على عمه فأكرمه ووعده بالنصر. ومن ثم تولدت الحروب بين الطرفين إلى أن توفي غياث الدين في جمادى الأولى سنة ٥٩٩ ه‍ ١٢٠٣ م وكان غياث الدين هذا مظفرا منصورا لم تنهزم له راية قط ، وكان له دهاء ومكر ، وكان حسن الاعتقاد كثير الصدقات فيه فضل غزير وأدب مع حسن خط وبلاغة ، وكان ينسخ المصاحف بخطه ويقفها في المدارس التي بناها. وكان على (مذهب الكرامية) (١) ثم تركه وصار شافعيا. فخلفه ابنه محمود ولقب غياث الدين بلقب والده ولم يحسن عمه شهاب

__________________

(١) من فرق المرجئة ، اصحاب محمد بن كرام ، أحد شيوخهم ومصنفي كتبهم ، خالفوا الجهمية في قولهم : الإيمان هو القول باللسان دون المعرفة بالقلب واعتقادهم في الحسين رضي الله عنه قريب من اعتقاد اليزيدية «ر : أصل اليزيدية في التاريخ».

١١٠

الدين الخلافة على ابن أخيه ولا على غيره من أهله.

وفي سنة ٦٠٠ ه‍ ١٢٠٤ م كان بين شهاب الدين ملك الغورية وبين خوارزمشاه محمد قتال انتصر فيه ملك الغورية واستنجد خوارزمشاه بالخطا فساروا وتحاربوا مع شهاب الدين فهزموه ثم عاد ووصل إلى غزنة وتراجعت الأمور إليه على ما كانت عليه. وفي أول ليلة من شعبان سنة ٦٠٢ ه‍ ١٢٠٦ م قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام بن الحسين الغوري ملك غزنة وبعض خراسان ، قيل أنه قتله الإسماعيلية. وكان شجاعا كثير الغزو عادلا في الرعية. وكان الإمام فخر الدين الرازي يعظه في داره.

ولما قتل كان صاحب باميان بهاء الدين سام بن شمس الدين محمد بن مسعود عم غياث الدين المذكور ، فسار بهاء الدين ليمتلك غزنة ومعه ولداه علاء الدين وجلال الدين ، فأدركت بهاء الدين الوفاة قبل أن يصل إلى غزنة وعهد بالملك إلى ابنه علاء الدين محمد فوصل غزنة ودخلها هو وأخوه وتملكها. وكان تاج الدين يلدوز مملوك غياث الدين ملك الغورية كبير الدولة وكانت كرمان اقطاعه ومرجع الأتراك إليه ، فسار هذا على غزنة ومن ثم انسحب علاء الدين وجلال الدين ولدا بهاء الدين إلى باميان وجمعا عليه العساكر فكانت النتيجة أن انتصرا عليه ، فاستقر علاء الدين في غزنة وذهب أخوه جلال الدين إلى باميان ، ثم إنه لم تستقر الأحوال ودام النضال بينهما حتى انتصر يلدوز فألقى القبض عليهما وعلى هندوخان ابن أخي ملك خوارزم المار الذكر فحبسهم ، ثم ظهر غياث الدين محمود بعد قتل عمه في (بست) فسار إلى فيروزكوه وتملكها وجلس في دست أبيه وتلقب بألقابه وقد حاول استمالة يلدوز مملوك أبيه فلم ينجح والحاصل كانت مملكة الغورية في اضطراب بالغ أشده.

١١١

قتال خوارزمشاه مع الخطا (الخيتاي):

وفي سنة ٦٠٤ ه‍ ١٢٠٨ م كاتب ملوك ما وراء النهر مثل ملك سمرقند وملك بخارى خوارزمشاه يشكون ما يلقونه من الخطا ويبذلون له الطاعة والخطبة والسكة ببلادهم إن دفع الخطا فعبر علاء الدين محمد خوارزمشاه نهر جيحون واقتتل مع الخطا. وحدثت عدة وقائع والحروب بينهم وبينه سجال. فاتفق أن خوارزمشاه انهزم وأخذ اسيرا ولكن شخصا من أصحابه وهو ابن شهاب الدين مسعود احتال في خلاصه باستخدامه له كغلام فقال للخطا إنه فلان ويخشى أن ينقطع خبره فأراد أن يعلمهم بحاله وطلب ذلك منهم فأجابوه إلى سؤاله فأرسل خوارزمشاه فعاد إلى مملكته وتراجع إليه عسكره.

وكان لخوارزم شاه أخ يقال له (علي شاه) بن تكش وكان نائب أخيه بخراسان فلما بلغه موت أخيه في الوقعة مع الخطا دعا إلى نفسه بالسلطنة واختلف الناس بخراسان وجرت فيها فتن كثيرة.

فلما عاد خوارزم شاه محمد إلى ملكه خاف أخوه (علي شاه) فسار إلى غياث الدين محمود ملك الغورية فأكرمه وأقامه عنده (بفيروزكوه). وبعد أن استقر خوارزم شاه في ملكه وبلغه ما فعله أخوه علي شاه أرسل عسكرا إلى قتال غياث الدين محمود الغوري وكان مقدم عسكره (أمير ملك) فسار إلى (فيروز كوه) وبلغ ذلك غياث الدين محمودا فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان فأعطاه (أمير ملك) الأمان فخرج غياث الدين مع علي شاه فقبض عليهما وأرسل يعلم خوارزم شاه بالحال فأمره بقتلهما فقتلهما في يوم واحد. واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه وذلك سنة ٦٠٥ ه‍ ١٢٠٩ م بانقراض دولة الغورية بقتل آخر ملوكهم. وكانت دولتهم من أحسن الدول. وكان محمود هذا عادلا كريما.

١١٢

الكرة على الخطا (الخيتاي):

لما خلا الجو لخوارزمشاه في جهة خراسان عبر (نهر جيحون) وسار إلى الخطا ، وكان وراء الخطا المغول في حدود الصين وكان هناك ملك يقال له كشلي خان (كوچلو) (وقد مر ذكره في مقارعاته مع جنگيزخان). وكان بينه وبين الخطا عداوة مستحكمة فأرسل كل من كشلي خان ومن الخطا يسأل خوارزم شاه أن يكون معه على خصمه. فاجابهما بالمغلطة وانتظر ما يكون منهما فتقارعا بينهما فانهزمت الخطا فمال عليهم خوارزم شاه وفتك فيهم وكذلك فعل كشلي خان بهم فانقرضت الخطا. ولم يبق منهم إلا من اعتصم بالجبال أو استسلم وصار في عسكر خوارزم شاه.

وهذه الوقعة من الظروف الكبرى المسهلة لجنگيزخان في فتحه وامتلاكه لهذه (المملكة الكبرى) بحيث صار مجاورا لخوارزمشاه بعد ما قضى عليها واكتسحها ...

بقايا الغورية :

وفي شعبان سنة ٦١٢ ه‍ ١٢١٥ م ملك خوارزم شاه محمد مدينة (غزنة) وأعمالها. وأخذها من يلدوز مملوك الغوري فهرب يلدوز إلى لهاوور من الهند واستولى عليها ثم سار يلدوز من لهاوور واستولى على بعض بلاد الهند الداخلة تحت حكم قطب الدين أيبك خشداش. فجرى بينه وبين عسكر قطب الدين مصاف فقتل. وكان حسن السيرة في الرعية كثير الإحسان إليهم.

وقائع أخرى :

وفي سنة ٦١٤ ه‍ ١٢١٨ م سار خوارزم شاه إلى بلاد الجبل وغيرها فملكها. ومنها ساوه وقزوين وزنجان وأبهر وهمذان واصفهان وقم

١١٣

وقاشان. ودخل ازبك بن بهلوان صاحب اذربيجان وأران في طاعة خوارزم شاه وخطب له ببلاده.

مسير خوارزمشاه إلى بغداد :

ثم عزم خوارزم شاه على المسير إلى بغداد للاستيلاء عليها (سنة ٦١٤ ه‍ ١٢١٨ م) وقدم بعض العسكر بين يديه وسار خوارزم شاه في أثرهم عن همذان يومين أو ثلاثة. فسقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله فهلكت دوابهم ، وخاف من حركة التتر على بلاده. فولى ولاة على البلاد التي استولى عليها ، وعاد إلى خراسان ، وقطع خطبة الخليفة الإمام الناصر من بلاد خراسان سنة ٦١٥ ه‍ ١٢١٩ م ، وكذلك قطعت خطبة الخليفة من بلاد ما وراء النهر. وبقيت خوارزم وسمرقند وهراة لم تقطع الخطبة منها ، فإن أهل هذه البلاد كانوا لا يلتزمون بمثل هذا بل يخطبون لمن يختارون ...

وهذه الحادثة فاتحة المناوشات الكبرى بين الخليفة وخوارزمشاه ؛ وأشار ابن الأثير وغيره إلى ما شاع عن الخليفة في إغراء التتر للهجوم على خوارزم شاه ، ولكن أبا الفداء لم يتعرض لذلك وإنما اكتفى بقوله : «إن جنگيزخان راسل خوارزمشاه في الصلح فلم ينتظم فجمع جنگيزخان عساكره والتقى مع خوارزمشاه محمد ، فانهزم خوارزمشاه فاستولى جنگيزخان على بلاد ما وراء النهر ، ثم تبع خوارزمشاه محمدا وهو هارب بين يديه حتى دخل بحر طبرستان. ثم استولى على البلاد ...» انتهى وعلى كل حال وقوع الاغراء من الخليفة ليس بالمستبعد وقد استعان خوارزمشاه محمد بالخطا على الغورية بمثل ذلك. ومع هذا لا تصلح أن تكون سببا رئيسيا يعول عليه ... فالواحد يخشى الآخر بل إن جنگيز متأهب للوثوب ...

١١٤

التتر والخوارزمشاهية :

إن خوارزمشاه محمد علاء الدين قضى على حكومات صغيرة وخرب فيها وانتهب وقارع الخلافة والحكومات مبعثرة ، لم تكن كتلة واحدة ، ولا استقرت حكومة خوارزمشاه بعد الحروب الدامية ولا اكتسبت انتظاما ولا قويت سلطتها على الممالك المفتوحة ... فهي في حالة تأسيس إدارة قوية ففاجأها التتر ، ولم تبق حكومة قوية تخلفها في انكسارها. وهذه الممالك انهكتها الحروب وتبعثرت أحوالها ...

وعن هذه قال ابن الأثير : «إن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع ، وسبب عدمه أن خوارزمشاه محمدا كان قد استولى على البلاد ، وقتل ملوكها وأفناهم ، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها ، فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها ...» انتهى (١).

وهذا السبب المسهل يضاف إلى قوة جنگيزخان التي قضت على حكومات وأقوام كثيرة ، وأنهم من أهل البداوة والاعتياد على شظف العيش والبساطة ، والاكتفاء بما حصل وأن الكل محاربون ، ونساؤهم وأولادهم عون لهم في غزوهم وحروبهم ... وهذه الأسباب والظروف المتقدمة لا تخرج عن كونها مسهلات وإلا فالقوة في الأصل عظيمة ومدربة ، وقانونها (الياساق) قاطع لا يقبل التردد ، أو الافتكار ، بل هو واجب التنفيذ ، وأمراؤهم منقادون لرأس واحد ولا يسوغ لهم الاختلاط بأحد ، والمراجعة مع آخر أو التدخل في سياسة ، (فالطاعة) أصل الآمرية والمأمورية ... والجيش منسق ومنظم تنظيما لا يكاد يتيسر لمن قبله ...

وأقوى من كل مقارع له من أي قوم وأمة ، وليس هناك سر من الأسرار أو شيء خارق للعادة ، فمن ملك هذا الجيش المنقاد ودبره هذا التدبير ،

__________________

(١) ابن الأثير ج ١٢ ص ١٣٩».

١١٥

وحصل على مثل هذه الظروف ... نال مبتغاه قطعا ... ولم يكن ذلك إلا نصيب القليل من الفاتحين وأعاظم الرجال ...

ظهور المغول في المملكة الإسلامية :

في سنة ٦١٦ ه‍ كان ظهور المغول وفتكهم في المسلمين وكذا في هذه السنة كان تمكن الافرنج وتملكهم لدمياط وقتلهم أهلها وأسرهم ... وكأن هذه الأقوام في صلة وتآزر للقضاء على المملكة الإسلامية استفادة من تذبذب الحالة فلم ينكب المسلمون بأعظم مما نكبوا في هذه السنة. والمصيبة الكبرى هي (ظهور التتر) وتملكهم أكثر بلاد الإسلام وسفك دمائهم وسبي حريمهم وذراريهم. ولم يفجع المسلمون منذ ظهر دين الإسلام بمثل هذه الفجيعة ... أما الذي سلم من هاتين الطائفتين (الافرنج والتتر) فالسيف بينهم مسلول والفتنة قائمة على ساق (١).

وإن خطر هؤلاء التتر كان أعظم فإنهم لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة. فهذه الحادثة استطار شررها وعظم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح ولا يزال صداها يرن في الأذان حتى الساعة فإن قوما خرجوا من اطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون (٢). ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها الأفاعيل على الوجه الذي سيذكر ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد

__________________

(١) «ابن الأثير ص ١٣٨ ج ١٢» وأبو الفداء.

(٢) وردت في منكبرتي بلفظ «بلاساقون» «ر : ص ٩ منه».

١١٦

العراق ثم يقصدون بلاد اذربيجان وارانية ويخربونها ويقتلون أكثر أهليها ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة ... هذا ما لم يسمع بمثله.

ثم لما فرغوا من اذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم وعبروا عندها إلى بلد اللّان واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا. ثم قصدوا بلاد قفچاق. وهم من أكثر الترك عددا فقتلوا كل من وقف لهم فهرب الباقون إلى الغياض ورؤوس الجبال وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها ... فعلوا هذا في أسرع زمان لم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير.

ومضت طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد.

هذا ما لم يطرق الأسماع مثله. فلم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه.

والغريب في هؤلاء أنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم. فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير. وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير. فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون إلى شيء من خارج. كذا قال ابن الأثير (١) ، لخص وقائعهم وبين أوصافهم والرعب الذي استولى على القلوب من جراء هجومهم ثم ذكر التفصيل ...

__________________

(١) ص ١٣٨ ج ١٢».

١١٧

أول وقعة جرت بين خوارزم شاه وبين جوجى خان (١)

إن جنگيزخان حينما سمع بقتل التجار والوفود أرسل رسولا اسمه ابن كفرج بغرا مصحوبا باثنين من التتر إلى خوارزمشاه يتهدده ويقول : «تقتلون اصحابي وتأخذون أموالهم ، استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به» وكان جنگيزخان قد سار إلى تركستان فملك كاشغر وبلاساغون وجميع البلاد وأزال عنها التتر الأولى ، فلم يظهر لهم خبر ولا بقي لهم أثر بل بادوا كما أصاب الخطا وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزمشاه ، فلما سمعها خوارزمشاه أمر بقتل رسوله فقتل وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه وأعادهم إلى صاحبهم جنگيزخان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له إن خوارزمشاه يقول لك أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك (٢) فتجهز خوارزمشاه وسار بعد الرسول مبادرا ليسبق خبره ويكبسهم. فأدمن السير فمضى وقطع مسيرة أربعة أشهر فوصل إلى بيوتهم فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأطفال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية ...

وكان سبب غيبتهم عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة أحد ملوك الترك كشلوخان (٣) (كوچلوخان) فقاتلوه وهزموه وغنموا أمواله وعادوا فلقيهم في الطريق. فوصل إليهم الخبر بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج من بيوتهم فلما رآه جوجي خان تذاكر مع أمرائه فنهوه عن الدخول بالحرب إذ لم يأمر جنگيزخان

__________________

(١) ورد بلفظ «دوشي خان» في أكثر الكتب العربية «ر : منكبرتي ص ٩».

(٢) ومثلها في منكبرتي ص ٣٥.

(٣) المعروف أنه أي كشلوخان قضى عليه قبل هذه الحادثة كما مر وقبل أن يقتل التجار ... وكان ذلك سنة ٦١٢ ه‍ ١٢١٦ م خلاف ما جاء في ابن الأثير كما نبه على ذلك المنشي النسوي في سيرة جلال الدين منكبرتي «ص ٩».

١١٨

بالمقاتلة والحرب مع السلطان محمد خوارزمشاه خصوصا أنهم قليلون وهم كثيرون ولكن لو عقبهم خوارزمشاه حاربوه اضطرارا. أما جوجي خان فلم يوافق على هذه الفكرة وقال لا يبقى لي وجه لملاقاة أبي وإخواني (١) وتصافوا للحرب فاقتتلوا اقتتالا لم يسمع بمثله فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها ، فقتل من الطائفتين ما لا يعد ، ولم ينهزم أحد منهم ... وهاجم جوجي خان (دوشي خان) بنفسه لبضع مرات حتى وصل إلى صاحب اللواء وموكب السلطان.

أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم ، وأما التتر فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم واشتد بهم الأمر حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه راجلا ويتضاربون بالسكاكين وجرى الدم على الأرض حتى صارت الخيل تزلق من كثرته واستنفذ الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال ...

هذا القتال جميعه مع ابن جنگيزخان. ولم يحضر أبوه الوقعة ولم يشعر بها فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفا ، وأما من المغول فلا يحصى ، من قتل منهم ، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض ، فلما أظلم الليل أوقد التتر النيران وتركوها بحالها وساروا ، وكذلك فعل المسلمون ، كل منهم سئم القتال ، فأما التتر فعادوا إلى ملكهم جنگيزخان ففرح جنگيز بما فعله ولده وأنعم عليه بإنعامات كبيرة ... (٢).

وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى. فاستعد خوارزمشاه للحصار لعلمه بعجزه ، لأن طائفة من عسكره لم يقدر أن يظفر بهم فكيف إذا

__________________

(١) شجرة الترك.

(٢) شجرة الترك.

١١٩

جاؤوا جميعم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار وجمع الذخائر للامتناع. وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونهم ، وفي سمرقند خمسين ألفا. وقال لهم احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر وأستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.

فلما فرغ من ذلك رحل عائدا إلى خراسان فعبر جيحون ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك.

هجوم جنگيزخان على بلاد المسلمين :

في سنة ٦١٥ ه‍ (قال العبري سنة ٦١٠ ه‍ وليس بصحيح) قصد جنگيزخان بلاد السلطان محمد فهاجم مدينة أوترار (١) من نواحي تركستان والتحق به خان قارليق وهو ارسلان خان بعساكر كثيرة وكذا أيدي قوت بقبائل الأويغور من بيش باليق ، وساغناق بقبيلة تكين من الماليق فالتفوا حول جنگيزخان. وقال ابن العبري ولما وصل أعني جنگيزخان إلى نواحي تركستان أتاه الأمير ارسلان خان من غياليق (صحيحها قارليق) والأمير أيدي قوب (صحيحها أيدي قوت) من بيش باليغ (باليق) والأمير سفتاق (ساغناق أو بالتخفيف سغناق فالتحريف ظاهر) من الماليغ (الماليق) وساروا بعساكرهم (٢).

ولما اجتمعت العساكر جميعها بقرب مدينة أوترار رتب جنگيزخان على محاصرة أوترار ولديه اوكه داي (اوكتاي) وچاغاتاي (جغاتاي) فابتدرا بمحاصرتها وسير جوجي خان (دوشي خان) إلى مدينة خجند

__________________

(١) وهذه المدينة تبعد عن مصب نهر آريس الذي يصب في سيردريا «سيحون» سبع كيلو مترات.

(٢) «ص ٤٠٢» ابن العبري.

١٢٠