موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

فسلم عليه الشرابي بالخلافة وأجلسه على سرير الخلافة وكان والده مسجّى ، وكتم الأمر إلى ليلة السبت ١١ من الشهر المذكور ، ثم استدعى الوزير ابن الناقد فحضر في محفة لعجزه عن المشي وأحضر أستاذ الدار ثم حضر عمه أبو الفتوح حبيب وجماعة من بيت الخلافة ومن أولاد الخلفاء فبايعوه ثم بايعه الوزير وأستاذ الدار ثم تقدم بتعيين الأمراء لحراسة البلد.

أصبح الناس يوم السبت فشاهدوا أبواب دار الخلافة مغلقة وقد أمر عبد اللطيف بن عبد الوهاب الواعظ أن يشعر الناس بوفاة الخليفة المستنصر بالله وجلوس ولده المستعصم.

ثم استدعي إلى دار الوزارة المدرسون ومشايخ الربط والولاة والزعماء وأعيان الناس وفتح باب العامة فدخل منه من استدعى الدخول وعليهم ثياب العزاء فبايعوا على اختلاف طبقاتهم وتفاوت درجاتهم. وأستاذ الدار يلقن الناس لفظ البيعة.

ثم أسبلت الستارة وانفصل الناس. وكانت الحال ساكنة والناس على اشغالهم. ثم جلس في اليوم الثاني فدخل كافة الأمراء والمماليك وبايعوه. وفي اليوم الثالث كانت البيعة العامة حضرها من تخلف من الأمراء والغرباء وضروب الناس كالتجار وغيرهم ...

ثم أمر الناس بالخروج ومضى الوزير وأستاذ الدار ...

هذا ولا محل لتفصيل كل ما جرى من مراسم أبهة ، وأشكال عظمة (١) ...

ثم تقدم الخليفة بالإفراج عمن كان محبوسا بحبس الجرائم وليس في قتله حد شرعي.

__________________

(١) التفصيل في ابن الفوطي.

٢٠١

وفي يوم الجمعة ١٧ جمادى الآخرة قد نثرت مبالغ كثيرة من النقود في الجوامع عند ذكر الخليفة.

ثم جاءت الوفود من الجهات القريبة والنائية للعزاء والتبريك. وفي ٢ رجب أمر الخليفة بتغيير ثياب العزاء وخلع على الأمراء والأعيان ونفذت خلع إلى ولاة الأطراف أيضا (١).

وهنا نقول لم تكن الخلافة والبيعة في الحقيقة إلا من قبل مملوكه الشرابي ... ثم استدعى بعض أهل الحل والعقد ... وما هذه المراسم والترتيبات إلا بقايا عن الفرس والأعجام ، ومثلها ما مر عن تتويج ملوك المغول والأبهة والعظمة ... لمن لا يستحق أن يستعظم لهذا الحد ... فإننا أمرنا بطاعة الخليفة للقيام بواجب الخلافة ومراعاة لوازمها ... وإن هي إلا الإدارة الرشيدة بتطبيق الشرع وتأمين العدل والمحافظة على بيضة الإسلام ... ومن حين دخلت هذه الظواهر والمظاهر واستعظام الأمور إظهارا للكبرياء والأبهة ... دب دبيب الضعف والانحطاط وحاول القوم بهذه وأمثالها أن يبرزوا لأعين الرائين ...

وغالب من تكلموا على الخليفة من كتاب المغول ومؤرخي عصورهم فلا يعول على ما يقولون من وصفه الشخصي ، ولنورد بعض النصوص ، قال ابن الطقطقي : «كان ... شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة ، وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه على التنعم واللذات لا يراعون له صلاحا ... وكتبت له الرقاع ... في ابواب دار الخلافة فمن ذلك :

قل للخليفة مهلا

أتاك ما لا تحب

__________________

(١) «ر : تاريخ الفوطي».

٢٠٢

ها قد دهتك فنون

من المصائب غرب

فانهض بعزم وإلا

غشاك ويل وحرب

كسر وهتك وأسر

ضرب ونهب وسلب

كل ذلك وهو عاكف على سماع الأغاني ...» إلى آخر ما جاء ... مما كتب إرضاء للقوم وأمرائهم ... وكان قد نقل عنه حكاية عبد الغني بن الدرنوس وتقبيح رأي المستعصم مما لا يسع المقام ذكر أمثالها ... وقص ترجمته الواسعة عند بيان الخلفاء (١) ...

وقد نعته ابن العبري بقوله :

«وكان صاحب لهو وقصف ، وشغف بلعب الطيور واستولت عليه النساء وكان ضعيف الرأي ، قليل العزم ، كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول. وكان إذا نبه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التتار إما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم ، أو تجييش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق فكان يقول : أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها عليّ إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ولا يهاجمونني وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله ...» ا ه.

وفي تواريخ المغول الأخرى ما يؤيد هذه وقد مر ذكر بعضها ...

وفي خلاصة الذهب المسبوك المختصر من سير الملوك لعبد الرحمن سنبط قنيتو الاربلي ما نصه :

__________________

(١) الفخري ص ٤٢ وص ٣٣ وص ٢٩٧.

٢٠٣

«قال ابن الساعي : شاهدته يعني الخليفة المستعصم وهو اسمر اللون مسترسل اللحية ، ربعة ، ليس بالطويل ، ظاهر الحياء ، لين الكلام ، سهل الاخلاق ، سليم الصدر ...

كان حافظا للقرآن المجيد ، عاكفا على تلاوته مواظبا على الصلوات في أوقاتها وصوم الأثنين والخميس من كل شهر وصوم شهر رجب دائما لا يخل بذلك مدة خلافته وقبل خلافته وله جاريتان قبل الخلافة له من إحداهما ثلاثة بنين وبنت ومن الأخرى أربع بنات فلما أفضت الخلافة إليه لم يتغير عليهما ولا اغارهما بل راعاهما حفظا لعهدهما. ثم طلبت منه أم البنين أن يعتقها ويتزوجها ففعل ذلك فلما ماتت استجد أخرى وحظيت عنده فلم يعترض بغيرها وجاء منها بولد ذكر وطلبت منه أيضا أن يعتقها ويتزوجها ففعل ذلك. هذا فيما يرجع إلى حسن العشرة وحفظ العهد ومراعاة الصحبة والوفاء. وكان عفيف الفرج لم ينكشف ذيله على حرام قط ، ولا شرب مسكرا ولا وقعت عينه عليه ، ولم يعلم أنه عصى الله بفرجه ولا فمه غير أنه لم ينزه سمعه من سماع المحرم فإنه كان مغرما بسماع الملاهي محبا للهو واللعب ، يبلغه أن مغنية ، أو صاحب طرب في بلد من البلاد فيراسل سلطان ذلك البلد في طلبه.

ثم وكل أموره الكليات إلى غير الأكفاء وأهمل ما يجب عليه حفظه والنظر فيه فأنفذ الله فيه قضاءه وقدره وأجرى عليه ما قدره فقتل ... فكانت مدة خلافته ١٦ سنة و ٧ أشهر و ٤ أيام وعمره ٤٦ سنة ... وكان ولد يوم ١١ شوال سنة ٦٠٩ وأمه أم ولد واسمها هاجر.» ا ه.

والظاهر كما يفهم من الاستدلال ببعض الحوادث والنقول المارة أنه كان مغلوبا على أمره ، وأمراؤه متخالفون ، فهو مضطر للمماشاة وتوجيه الإدارة بقدر الإمكان ...

٢٠٤

وكان الأمراء قد ضربوا على يد الخليفة باستخدام العوام والإذاعة في تقبيح عمل الوزير. وبالنتيجة توجيه اللائمة على الخليفة من جراء التزامه الوزير وقسره على متابعة اولئك ... مما دعا إلى تذبذب الإدارة وسقوط المملكة ...

والأمراء كلهم أو أكثرهم كانوا من المماليك الترك أو كان أهل السلطة منهم وكانوا يتناوبونها ويتنازعون عليها من مدة طويلة ويتحكمون في غيرهم ... فانحلت الإدارة أو بالتعبير الأصح صارت منقادة طوع ارادتهم وتسييرهم ، وكان منهم إقبال الشرابي وقد تنازع على السلطة قبل هذا مع رشيق فالخليفة من حين تسنم عرش الخلافة قربه وكان شرابيا له ... فنال مكانة لحد أنه ولي زمام القيادة للخيالة (سرخيل العسكر) أو قل إنه صار أكبر أهل العقد والحل ، وغالب رجال الجيش من الترك.

ومهما كان الأمر أو تعدد الأمراء العرب أو كثروا ... فالعروة بيد الكواز ، والحكومة حقيقة بيد الجيش التركي ...

ومن الأدلة التاريخية المذاكرات والمعارضات الجارية عند الحوادث المهمة كحوادث المغول العديدة والمداولات من أجلها والاستفادة من الأوضاع السياسية وحوادث العزل والنصب ... فكان الخلفاء فداء هذا الإصرار والعناد الذي قام به الأمراء والوزير دون انصياع إلى الصواب أو محافظة للاعتدال ولا مراعاة الغرض وكانت الحزبية بالغة غايتها ... وكانت الفتن تجري ومنها ما وقع بين الدواتدار الصغير وبين الوزير ، ومثلها ما جرى بين محلة أبي حنيفة والخضريين وبين أهل الرصافة ، ومنها ما وقع بين أهل الكرخ الشيعة ، والسنة ... وهكذا أهمل البلد بوقوع الغرق العظيم وتلف أكثر عماراته ... ومن ثم زادت النقولات وكثرت على الخليفة وعلى وزيره وأمرائه التنديدات ، وأهمها أن الخليفة أهمل حال الجند ومنعهم أرزاقهم بميله لرأي

٢٠٥

الوزير ... فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس وبذل وجوههم في الطلب في الأسواق والجوامع ...

هذه الحالة من وسائل توليد العداء بين أفراد الشعب ، وعدم سماع الأقوال النافعة ... يضاف إلى هذه فقدان الأقوات بحدوث الغلاء ، والعدو على الأبواب توجه نحو العراق ... قال المجد النشابي متألما لما وقع ولما ستؤدي إليه التذبذبات في الإدارة وقلة الحزم ولم يستثن أحدا :

يا سائلي ولمحض الحق يرتاد

اصخ فعندي نشدان وإنشاد

* * *

عن فتية فتكوا في الدين وانتهكوا

حماه جهلا برأي فيه إفساد

إذا ترامت أمور الناس ليس لهم

فيها رواء ولا حزم وانجاد

أما الوزير فمشغول بعنبره

والعارضان فنساج ومداد

وحاجب الباب طورا شارب ثمل

وتارة هو جنكي وعواد

وشيخ الإسلام صدر الدين همته

مقصورة لحطام المال يصطاد

* * *

إن جئت يثرب أو شارفت ساحتها

فقل لمن انزلت في حقه صاد

الكفر أضرم في الإسلام جذوته

وليس يرجى لنار الكفر اخماد

٢٠٦

واضيعة الملك والدين الحنيف وما

تلقاه من حادثات الدهر بغداد

أين المنية مني كي تساورني

فللمنية إصدار وإيراد

من قبل واقعة شنعاء مظلمة

يشيب من هولها طفل وأكباد (١)

ومع هذه الآلام والمصائب على الأهلين والجند لا يؤمل ضبط الإدارة وتحسين الحالة فضلا عن صد غائلة العدو الذي جاء بجيوش تملأ الفضاء واستصحب آلات الحصار وغيرها وأجفل أهل السواد من بين يديه إلى بغداد حتى ضاقت على سعتها وامتلأت شوارعها ونال الناس الخوف الشديد ...

ولا نطيل القول بأكثر فقد مر بنا بعض الحوادث الخاصة بالمغول والتدابير المتخذة ضدهم ... مما يعين حقيقة الحالة ... كما أن الوضع الراهن بالنظر لحدود سلطة الخليفة جغرافيا صريح في الاستدلال على ضعف إداراته ، والأهواء تتجاذبه ، والأمواج السياسية تتقاذفه ... وتكاد تقضي عليه قبل أن يتصادم مع جيش قوي قد اتخد كل أهبة ، واحتاط بكل ما وسعه من تبصر وحساب للأمر ...

قتل الخليفة بالوجه المشروح (٢) ، والأسف ملء القلوب على انقراض هذه الأسرة وعلى تسلط حكومة أجنبية لا علاقة للأهلين بها ولا رابطة لهم معها سوى القدرة الحربية التي قضت على جيش المسلمين ... فاستولى اليأس على القلوب ، وماتت السجايا العالية ... والعوامل في إمانتها كثيرة ومنها ما وقع على يد نفس الحكومة المنقرضة

__________________

(١) تاريخ الفوطي.

(٢) ص ١٢٥ من تاريخ الفخري وما يليها وفيها تفصيل عن حادثة القتل.

٢٠٧

حبا في الاحتفاظ ببيتها وإشادته ... خذلت العرب في مواطن عديدة ، وحوادث كثيرة إلى أن وصلوا إلى حالة لم تعد فيهم معها قدرة أن يقودوا الجيوش وأن يناضلوا عن الكيان ويحرصوا على حفظ بيضة الإسلام ... واليأس قتال ولا أضر منه على النفوس ... وقد استولى على الكل ... ولعل أكبر عامل فيه الوزير فإنه لم يتخذ تدبيرا وإنما كان يخذل ... فلم تظهر منه مساعدة ، ولا أي عمل من شأنه أن يدفع العدو وكل ما عرف التخذيل لكل تدبير وإظهار التألم منه وتقوية اليأس ...

وهكذا قضي الأمر. ولم تفرح النفوس ، وتنتعش لمدة قصيرة إلا عند ما قبل المغول الشريعة الإسلامية ومالوا إليها رغبة فيها ... ولكن هذه لم تفد لإحياء الروح العربية وإنعاشها بإعادة قدرتها الأولى وسجاياها الماضية ...

نظرة عامة في عهد العرب المسلمين في العراق

أيام العرب المسلمين في العراق

في عام ١٧ ه‍ ٦٣٨ م ـ على أصح الروايات ـ خلص العراق للعرب المسلمين واختطوا الكوفة وعسكروا فيها بتاريخ المحرم لسنة ١٧ ه‍ بعد مقارعات دامت بضع سنوات من المحرم ١٢ ه‍ ٦٣٣ م يتخللها بعض فواصل قليلة آخرها وقعة جلولاء ، وكان في أيدي الفرس الساسانيين وشعوبه مختلفة من فرس وعرب وكلدان وكرد ...

وأذلت هذه الحروب الساسانيين وعركتهم عركة قطعت أوصالهم. ومزقتهم أي ممزق. وعاون العرب المسلمين جماعات من عرب العراق من الشيبانيين ورئيسهم المثنى وغيرهم والعرب آنئذ في ضواحي الفرات وفي الحيرة ومواطن أخرى كثيرة حتى خليج فارس (الأبلة). وأساسا عهدهم قديم في سكنى العراق فاندغموا في العرب المسلمين سواء منهم

٢٠٨

من قبل الاسلامية أو من بقي على دينه الأصلي وغالبهم آنئذ نساطرة ...

رأى الفرس من العرب وفيهم من كان تحت نير سلطتهم وإدارتهم ما لم يروه من قوم ، ولا شاهدوا كحروبهم من أمة ما ... والمدة التي قضوها لتخليص العراق وفتحه قليلة جدا لم تتيسر لأمة حتى في هذه الأيام ... مع ملاحظة الفواصل ، والحروب الأولى وهي أشبه بحروب عصابات لغرض التشويش في الإدارة والتزام جيوش كثيرة في أنحاء عديدة والمطاولة في ذلك ...

وكان الميل إلى الدين الإسلامي واعتناقه كبيرا جدا. دخل الناس فيه أفواجا ... وبعد استقراره للعرب المسلمين جاءته الفرس. وقد قبلت الإسلامية كما أن أقواما جديدة أخرى دخلت في الإسلامية وأهم عناصرها الترك ولا تزال بقاياهم إلى اليوم ... وموضوعنا يتناول :

١ ـ العرب :

من أوضح العناصر العراقية الشعب العربي فهو أكثرها دائما وتغلب على سائر الأقوام ... وعناصره القحطانية والعدنانية. وكانت الإسلامية ظهرت في الحجاز عام البعثة في مكة المكرمة وأكثر الأهلين هناك حتى صاحب الدعوة عليه الصلاة والسلام من الجذم العدناني وأهل المدينة من القحطانية ومثلهم أهل اليمن ...

وأهل المدن في ذلك العهد من العرب عامة اصحاب إمارات صغرى محددة سلطتها في مدنها ، وفي بعض القبائل المجاورة لها ... وأهل البادية قبائل تمتّ إلى أحد الجذمين (١) ولها رؤساء يديرون شؤونها وهم في حالة مبعثرة ، مشتتة لا تجمعهم جامعة ، وفي الغالب لا علاقة لقبيلة مع أخرى ولا ارتباطا سياسيا أو قوميا إلا بعض الحلوف والعهود

__________________

(١) القبائل المتحيرة قليلة.

٢٠٩

بنتيجة المجاورة أو القربى ... والإمارات لديهم قليلة جدا ، ولا يلتفت إلى دعاوى بعض امرائهم. أو شعرائهم في حماستهم من أنهم أقوى الأمم ، وأنهم تخر لهم الجبابرة ساجدين ، وأنهم ملكوا البر والبحر ...

ومن شاهد القوم في باديتهم لأول وهلة ، ورأى إدارتهم بنظرة بسيطة قطع أنهم أهل بداوة ... والأمر بين ذاك الغلو في الدعوى والمبالغة في الذم من المجاورين (الفرس خاصة) ... فللعرب نظام اجتماعي لكل قبيلة ويكاد يتشابه في القبائل بتفاوت قليل مما أصله معروف ومتعين ... يضاف إلى هذا ما لديهم من أخلاق نبيلة في كثير من أحوالهم كالشمم والإباء ، وحفظ الجوار والوفاء ... والصلاح لكل ما يستطاع من المكانة الاجتماعية. والفضائل النفسية ...

كان يفقدهم التضامن ، والاجتماع العام نظرا إلى تأصل العداء وتمكنه منهم ، ومن ظواهره الأخذ بالثأر ولو تقادم العهد ... والنهب والسلب (الغزو) ، والتباعد من بعضهم البعض بحيث تكاد كل قبيلة أن تنفصل عن غيرها وتستقل في كافة شؤونها ... يدل على ذلك التفاوت نوعا في لغاتهم ، والتباين في أديانهم ، والتخالف في عوائدهم ، وغزو بعضهم بعضا ، وقتالهم سواء في حلهم وترحالهم ... لم تؤلف بينهم جامعة ، وتغلب عليهم الفوارق أكثر من التشابه ، ولم يتفقوا إلا بعض الاتفاقات كما في (التنوخ) المعروف تاريخيا ... وهؤلاء حلوا البحرين. ثم مالوا إلى ضواحي العراق وتملكوا بعض أنحائه ... وكونوا إمارات صارت ملجأ للعرب الذين هاجروا إليهم بعد ذلك ؛ وكان قد سبقهم إلى التوطن (الحضر) في العراق. و(الغسانيون) في سورية ، ولهؤلاء تاريخ معروف اجمالا. وتنقل عنهم مبالغات زائدة مثلما ينقل بفخر وحماسة عن امراء البادية ... المجاورون ـ خصوصا الفرس ـ تجاوزا الحد في الذم ونبزوهم بشر الأوصاف ، وعدوها خصائص لازمة قطعا ، وغير منفكة ... ولم يدروا أن الأقوام في تبعثرها الاجتماعي وأوضاعها

٢١٠

المشتتة لا تختلف عن العرب ، وأنها تحتاج إلى من ينفخ فيها روح الشجاعة والبطولة ، والدعوة إلى الاصلاح ... والعرب أقرب الأمم لقبول الحضارة ، وأكثر استعدادا للحصول عليها ...

وبينا هي في هذه الحالة ، أو ما يقاربها إذ ظهر المبدأ الإسلامي الجليل ، والدين القويم فأصلح العقيدة ووحد الأمة ، ونظم شؤون العائلة ، والقبيلة ؛ وسير كافة أقسام الشعب نحو نظام اجتماعي عام أساسه الأخوة الدينية ، وهذب الكل ، وألف بين شؤونهم ، وساقهم إلى الوحدة في كل معانيها ، وجعل أساسها الاخلاص في العقيدة والأخوة التامة ، والتبشير بالاخلاق الفاضلة الشريفة ... وبعث فيهم روحا جديدة لها علو همتها ، وقرر التعاون على البر والتقوى والإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا ومنع من الإثم والفسوق والتنابز بالألقاب مما شأنه أن يولد البغضاء. والحاصل جعل الأساس الاخلاص لله وحده ، وأن يراعى الخير لصلاح الجماعة والأمة ونفعها بل هو إصلاح لجميع الشعوب ... مما لم تألفه البشرية في عصورها البائدة ...

نهض هذا المبدأ السامي بهؤلاء القوم ؛ وبشر ودعا أن يترك أكثر ما كان عليه القوم ، وما كانوا تلقوه عن آبائهم من الرذائل والشرور فصاروا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ... فنالته مصاعب كبرى ومخالفات شديدة في سبيل هذه الدعوة شأن الجديد الذي لم يجرب ولم تعرف نتائجه ... أو لغرابته وعدم مألوفيته ... خصوصا في جزيرة العرب حتى اذعن الكل ... ومن ثم دعا هؤلاء القوم مجاوريهم فعارضوهم أيضا وجادلوهم بل جالدوهم حتى استظهر العرب المسلمون عليهم ...

قوم عمائمهم ذلت لعزتها ال

قعساء تيجان كسرى والأكاليل

٢١١

ومن الأقطار التي أذعنت بالطاعة : العراق وكثير من أهليه عرب فإنه جادل مدة قليلة وحكومته فارسية فأذعن بالطاعة وولى القوم الأدبار ... ومن ثم تغلب العنصر العربي وخلص العراق بالوجه المذكور آنفا ...

وحينئذ كون حكومة عربية ، وأسس حضارة على يد الخلفاء الراشدين ومن وليهم وكانت حكومته مستقلة في إدارتها إلا في بعض الشؤون كالولاية ، والقضاء ، والاستشارة في المهمات وعظائم الأمور وهي من خير الإدارات ، وحكومته من أفضل الحكومات ... لم تدع مجالا للتدمير والتخريب ولا محلا للقسوة والظلم ...

٢ ـ حكوماته :

١ ـ وحكوماته من زمن عمر (رض) إلى آخر أيام الإمام علي (رض) تدعى (حكومة الخلفاء الراشدين). وهذه بشرت بالمبدأ الإسلامي الجليل ورأت من الناس قبولا كبيرا ولم يصبها خلل إلا في أواخر أيام عثمان (رض) وأيام الإمام علي (رض) فصار العراق فيها موطنا لوقائع مهمة مثل وقعة الجمل وصفين والنهروان ... حدثت من جراء نزاع الخلافة والقيام عليها من جوانب مختلفة وفي هذا الحين صار العراق موطن الخليفة الإمام علي (رض) حتى كان مشهده الأخير فيه ...

٢ ـ وقد تلتها (الحكومة الأموية) وبهذه انقاد العراق إلى الشام ببيعة الحسن (رض) عام ٤٠ ه‍ لمعاوية (رض) ومن ثم انقطع النزاع على الخلافة نوعا ولأمد قصير ، تخلص الحكم للأمويين وصارت مملكة العراق تابعة للشام بعد أن كانت منقادة للحجاز أولا وعاصمة للخليفة الإمام علي (رض) ثانيا ... ودامت سلطة الأمويين إلى عام ١٣٢ ه‍ وفي أيامها نالت الخلافة الإسلامية مكانة عظمى ورسوخا وسعة في الملك.

٢١٢

وفي خلال الحكم الأموي حدثت وقائع سياسية وحربية مهمة ... ونهضات على الحكم الأموي من كثيرين والكل يرى أنه الأهل للحكم والأحق به ... ولكن هذه الحوادث كلها لم تؤثر على الروح الإسلامية في فتوحها وانتشارها ... ولم تقض على وضعها وإدارتها القويمة رغم تلاعب الأهواء واختلاف النزعات والحزبية القاسية في وضعها ، والقاهرة في نكايتها بعدوها والمتصلبة في سائر أحوالها ...

وتوالى على العراق سواء في عهد الخلفاء أو في عهد الأمويين أمراء كثيرون وحدثت وقائع ذات بال أهمها قتلة الحسين (رض) ، وحوادث المختار ، ووقائع الحجاج ، وما أعقبها من حوادث العلوية والعباسية ... إلى آخر ما هنالك مما لا طريق فيه للتوسع ...

٣ ـ الخلافة العباسية وهذه نتيجة تشويش في الإدارة ، وثورة على الأمويين بصورة متوالية ومن كل فج ، وأحزاب قوية ... فكان العراق وخراسان موطن النشرات والإذاعات والترتيبات المختلفة على الأمويين لبعده عن العاصمة حتى تغلب الحزب العلوي والعباسي فاتفقا على الوقيعة بالأمويين ، والقضاء على حكومتهم فتمكن القوم من مرادهم ...

تكونت الحكومة العباسية. وهذه قد صفا لها الجو وسارت أمورها بنجاح وقويت في أيامها ثقافة المسلمين ونشطت عقيدتهم نشاطا تاما إلا أنها بعد قليل وجدت من العلويين نفرة ، وصار دينهم الدعوة والتكتم ومراعاة الحزبية تارة والظهور أخرى فشوشوا على العباسيين أمرهم ... فلم تقو الدعوة العلوية على قلب هذه الحكومة والسيطرة على الإدارة ... ولكنها لم تخل من ازعاج ونفرة ، ومن تكدير الصفو ، أو الخوف أو التخوف من جانب العباسيين بانضواء الأحزاب المعارضة إلى العلوية وغالبهم فارسي النزعة ... وقد وقعت فتن أدت إلى استقلال العلويين في مصر والمغرب ، وتكوين حكومة أيضا باسم العلويين في

٢١٣

اليمن وأخرى في نجد (الإحساء والبحرين) ، وفي ايران بأنحاء قهستان والموت ... وكل هذه لم تفلّ من غرب العباسيين ، ولا استطاعت القضاء عليهم ولم يتم ذلك إلا على يد هلاكو عام ٦٥٦ ه‍ والخلافة العباسية في آخر رمق من حياتها ... وخلصت المملكة العراقية للتتر بعد أن دامت حكومتها للعباسيين من ١٢ ربع الأول عام ١٣٢ م ٧٤٩ م إلى ٥ صفر ٦٥٦ ه‍ ١٢٥٨ م.

وبهذا فقد العراق الحكم العربي في البلاد. وفي الحقيقة كان فقدانه لاستقلاله وحكمه من أمد بعيد ، فالاسم كان للعباسيين والواقع أن العباسيين كانت حكومتهم فارسية في اوائل أمرها ، تركية في اواخرها ... ولم يكن حكم للعباسيين عربيا فالحربية بيد أهلها والوزارة منقادة للسيف وكفى ... وإن كانت المدونات عربية.

هذا ولا مجال للتفصيل والإطالة ... وعلى كل دام الحكم في العراق للعرب المسلمين من سنة ١٧ ه‍ إلى سنة ٦٥٦ ه‍.

٣ ـ الشعوب الأخرى في العراق :

إن الأقوام العراقية بعد الفتح الإسلامي تغلبت عليهم العربية والعرب منهم يمتون إلى العنصر القحطاني ويتلوهم في الكثرة الجذم العدناني. وأول من مال إلى العرب المسلمين من غير العرب الديلم فإنهم انحازوا إلى العرب وقاتلوا معهم ... أيام الفتوحات الإسلامية الأولى وهناك وإثر تأسيس الحكم المدني أو بالتعبير الأصح بعد انقراض الفرس مالت ايران إلى العراق وعاودته مسلمة وتكاثر فيه الفرس وحصل على ثقافة جديدة ، هي الثقافة العربية ولكنها كانت تنزع إلى حضارتها الفارسية الأولى بتلقينات وبلا تلقينات ، أو بذكرى الماضي والميل إليه ... خصوصا إن بعض القوم لا يزال على ديانته الأولى وصار هؤلاء يبشرون بالوطنية الإيرانية ويدعون إليها حينما رأوا أن لا قدرة لهم ولا

٢١٤

قوة على المناضلة عن كيان دينهم ... وهكذا فعل باقي أعداء المسلمين ممن دخلوا في الذمة ، وصاروا من المعاهدين ... يبثون ما من شأنه التشويش ويروجون إذاعة روح التفرقة سواء في كلماتهم ، أو أعمالهم ، أو سائر أحوالهم حتى مدوناتهم التاريخية ... إلا أن قلة العناصر الأخرى من أكبر دواعي خذلانها وعدم الاستطاعة في التأثيرات الكبرى على الدين والثقافة ، وتغلبت الأخوة الدينية في الأكثرية الساحقة ... وأن كان الأثر مشاهدا في السياسة وملموسا ... ولا تعاب الحكومة إلا من جهة تعصبها الشديد للعرب بزيادة عن غيرهم ...

لم ينتبه العرب في الدور الأموي لتغلب الفرس من طريق الاعتصام بالمخالفين إلا وقد انقلب الحكم وزالت الأموية من العراق وغيره ... وقد جربت تجارب عديدة أو اكتشفت مؤامرات كثيرة لقلب الحكومة العباسية في عين الطريقة التي قضى بها على الأموية بل أشد وأقوى فذهبت التدابير عبثا وبلا جدوى وإن كلفت بما لا يستهان به بل تعد من البواعث الكبرى للقضاء على الحكومة العباسية ... لما نالها من التأثير المتوالي ... ونجاحها في هذه ظاهري ...

أما التدابير الأخرى التي قامت بها العباسية كالقضاء على أبي مسلم الخراساني أولا وعلى البرامكة ثانيا ، وجلب الأتراك لإيقاف تغلب الفرس عند حد والسيطرة عليهم ... فهي مما كون بلاء آخر وحول الحكومة من فارسية إلى تركية ...

وذلك أن القوم لم يحتاطوا دائما وفي غالب أحوالهم لقهر اعدائهم ، أو المناوئين لهم ، أو المتغلبين من رجالهم ... كما فعل أسلافهم وأوائلهم الذين كانوا يفكرون في الأخطار وما ينجم من بوادر الحوادث والإشارة الخفيفة تكفي للتنبه ... وأن يتداركوا الخلل وتوقع المصائب ببصيرة ... وإنما استهوى القوم النعيم وتركوا الحزم وفاتتهم اليقظة للحوادث وأبطرهم المال ، وانغمسوا في الملاذ واتبعوا الشهوات والأهواء ...

٢١٥

فلما استخدم القوم الترك وخلفهم ابناؤهم ولم يلقنوا السياسة ومنطوياتها. أو أنهم أهملوا أمرها لانهماكهم في ملذاتهم ، ولأنهم أمنوا الطوارىء بخدامهم الصادقين فأمّروهم وباتوا بطمأنينة كاملة ... ومن هنا داهمهم الخطر وتسرب إليهم الضرر ، ونالهم المكروه من جراء الإهمال ... أو قل سلموا مقاليد الأمور إليهم ، بل إنهم استرسلوا في الأهواء فناب عنهم خدامهم وأعوانهم فصاروا هم الأمراء بل الخلفاء وأودع إليهم الحل والعقد وصارت الدولة في أيديهم ...

عرف هؤلاء الأمراء خلفاءهم. ولما استقر لهم المقام في ادارتهم ، ونالوا الإمارة ؛ تسلطوا ... وتدخلوا في كافة الشؤون حتى في أمور الخلافة ، ولم تدر الخلفاء ماذا يفعل بهم ... فعهدت الأمور إلى هؤلاء المماليك من حوط الثغور والنظر في السياسة ... ولما شعر بعض الخلفاء بما جرى حاول القيام فلم يتمكن وهو في حالة من يصحو من سكرته قليلا فقام المماليك في وجههم علنا. وطغوا على ملوكهم ... فأصاب الخلفاء منهم ما أصابهم ، وقد يكون ما أصاب بعض الخلفاء بلا علم منه ولا معرفة بما وقع ... ذلك لأن الأمراء تقارعوا فيما بينهم فكانت العاقبة أن سخط هؤلاء على الخليفة للسخط على مملوكه وهو أمير آخر ... وهكذا.

ومن ثم قوي أمرهم كثيرا واستمروا في الإدارة ولم يستطع في هذه الحالة الخلفاء أن يستعينوا بغيرهم للقضاء عليهم ... إلى أن قضي على الخلفاء وعليهم ... بالصورة المشروحة عند الكلام على الخليفة المستعصم. لذا نرى قادة جيشنا في محاربة المغول تركا وتترا والمخابرات السياسية والاستهواء كان من هذه الناحية وحادثة ايبك الحلبي من جملة هذه ، فقد مال للجيش المغولي وصار هاديه في سيره ... ولعل أكبر دواعي تمكن المغول هو أن الترك كانوا منبثين في كل الأنحاء فلم يجد المغول غرابة أو عدم ألفة معهم بل التفاهم سهل جدا ... وهكذا وقع ...

٢١٦

والعامل المهم في التسلط لم يكن في تغلب العناصر وحدها فقد رأينا الأمة اليقظة لا تبالي بتغلب عنصر أو أكثر ... وإنما تستفيد من هذا التغلب لتجعلهم في تطاحن ... أو كما فعلت الإسلامية بأن سوت بين الجميع ... وإنما كان الخلل في سوء الإدارة فالعباسيون شغلوا بالملاذ والملاهي ولم يكن لهم من الوقت ما يبصرهم بإدارة المملكة ولم ينظروا إلا لنعيم أنفسهم وتنعمهم فساق ذلك إلى قهر الأهلين وظلمهم ... ومن ثم تدخل المماليك في الإدارة وذاقوا حلاوتها فسيطروا وهكذا استمروا حتى انتزعوها من أهليها ... وكان الانتباه أحيانا من بعض العباسيين بعد أن قضي الأمر وسبق السيف العذل يعد في غير أوانه ولم يعدل في الوضع ، ولا في التغلب على العنصر القابض على أزمة السلطة ... ومن العدل الإلهي أن لا يدوم ملك بلا نظر ، وحسن إدارة ...

والأمة في الحقيقة لا تدري إلا بقيام خليفة مكان آخر وهي في حالاتها تئن من ظلم السابق وتتوقع عتوّ اللاحق ... وكانت السلطة تتناوبها المماليك وأمراء الترك الواحد إثر الآخر ، والحكم للأقوى ... والخليفة تابع لمراسم يجريها فكأنه آلة ميكانيكية تابعة لحركة غيرها ليس له من الأمر شيء ... ويكفيه الجواري الكثيرة ، والملاذ النفسية ولا تهمه الإدارة ولا الشعب ...

والأولى لحكومة مثل هذه أن تموت أولا لأنها ساعدت على سحق الشعب فلم تسوّ بين أفراده ، وثانيا لم تبق فيه من المقدرة للنهوض في وجهها ومحاسبتها على اعمالها ... وهذه الغلبة أي انتصار الحكومة على الشعب لم يسبق له نظير في أمة ... والمأسوف عليه أنها لم تستبدل بما هو اصلح منها. وإنما الحالة سارت إلى التسافل والتدني يوما فيوما إلى أن قضي عليها وعلى الأهلين ولم يبق فيهم من يعرف للحرية قيمة ولا للحياة الاجتماعية مكانة فهم مسيرون لا يدرون ماذا

٢١٧

يفعل بهم أو يراد ... يسومهم الملوك والأمراء سوء العذاب يذبحون ابناءهم ويستحيون نساءهم ... ولا بلاء أكبر من هذا ...

ويتبادر إلى الذهن أن تبديل الإدارة إلى الترك أو استبدالها بهم كان غير صواب والأمر لم يكن كذلك وإنما كان تدبيرا صالحا إلا أن هذا العنصر ترك وشأنه ومال الخلفاء إلى الانهماك بالملذات وتسليم الإدارة إلى الخدم والحشم من هؤلاء ... دون علم بما ستصير إليه الحالة فساق ذلك إلى نتائج مؤلمة وإلا فلم يعوز حل ولم يعص تدبير لو كانت الادارة استمرت على رشدها ويقظتها ... واللوم في التدبير الأول فإنه الذي ساق إلى الانهماك في الملاذ النفسية أي أن القوم لم يعلموا بما ستجري عليه الحالة وأن الملوك لم تطرد فيهم المزايا ... وكان الأولى أن يقووا العنصر العربي ويعتمدوا عليه ولكنهم كانوا حاربوه للقضاء على الأموية فلم يعد لهم أمان منه فكأنه عدو ألد لا يصير يوما صاحبا وحبيبا ... وكانوا يخشون أن يتقدم قائد عربي خوفا أن ينتزع السلطة ، أو يشمخ عليهم بأنفه ولم يروا متسعا من الوقت إلى أن يفكروا في الذي أمنوا منه أو اطمأنوا به ونالوا الانتصار به على عدوهم أنه سيعاديهم يوما ما ، أو ينازعهم السلطة والإدارة ... وهذا من نقص التدبير فكانوا محل العبرة والاستبصار ، وحديثا لمن بعدهم وخير مزدجر للملوك أمثالهم ... نعم إن الأقوام الأخرى من العناصر السائرة ممن جعلوهم آلة لتدمير عدو ... ملتفة حولهم لا يتحاشون من تقبيل الأقدام ، وإبداء كل ذل وخضوع للتوصل إلى الإدارة أو الدخول في الخدمة من أي فرجة وجدت ... مما لا يأتلف والنفس العربية الشماء ، والروح الأبية المجبولة على الحرية ، والنفسية الكاملة لا الذليلة المقهورة ...

والحاصل أن التنازع صار أخيرا وبعد انعزال العرب عن الإدارة بين العناصر غير العربية ، وأهين الشعب العربي ولكنه لم يستكن لهذه

٢١٨

الإهانة ورجح شظف العيش والعري على الذل والخنوع ... وصار في الانزواء أو في الانحياز التام عن التدخلات الإدارية ... واستغنى عن الحكومة ورضي بالميسور إذ لم يجد له ناصرا ... بل طارده القوم حتى في خصه وبيت شعره ، أو خيامه الخلقة ... فلم يبال ... وأصاب اولئك الخلفاء من الذل والمسكنة ما لا يقل عن أي ذل رغم ظواهر السلطان. وبهرجة الديوان ، وضخامة البنيان ... هذا ولا يكاد يقف القلم عن جريه فالشجى يبعث الشجى والحديث ذو شجون وشؤون بل آلام وأوجاع ... ونكتفي بهذا.

والعناصر العراقية :

١ ـ العرب : وهم المسلمون وفيهم النصارى ولا تزال جزيرة العرب تفيض بعشائرها العربية المسلمة كلما ضاق موطنها بهم. وقد مر القول عنهم.

٢ ـ العجم. وغالبهم المسلمون وفيهم المجوس والمزدكية ...

وأكثر الإفسادات كانت من غير المسلمين منهم ، والمسوق بآرائهم من المسلمين قليل.

٣ ـ الترك. وفيهم التتر وغيرهم ومن بقاياهم اليوم البيات.

٤ ـ الكرد. وهؤلاء من العناصر الفعالة في العراق وكلما زادت نفوس سكان الجبال منهم مالت إلى المدن.

وفي وقائع كثيرة خدموا الإسلامية ، وناصروها ، فكانوا عضدها القوي وساعدها المكين ... وهم من أقدم سكان العراق ومن أوضح العناصر فيه ... وقد برز منهم علماء ، وأمراء كثيرون ...

٥ ـ الكلدان. وهم نصارى ولهم كيانهم الديني ولم يكن لهم من الكثرة ما يترك أثرا كبيرا إلا أنهم كلما زادت نفوسهم مالوا من القرى

٢١٩

إلى المدن وما زالوا ولا يزالون في قلة ... ولا يفرقون عن العرب في احوالهم وعاداتهم ...

٦ ـ الصابئة .. أرباب دين وكيان معا. وهم من أقل العناصر العراقية.

٧ ـ اليهود. وهم أهل دين وسكناهم قديمة ... وهم في قلة أيضا.

وزارة مؤيد الدين ابن العلقمي من ١٤ صفر سنة ٦٥٦ ه‍

إلى مستهل جمادى الثانية

تنظيم إدارة بغداد :

إن حادثة بغداد شوشت الإدارة وبعثرت الأمور وغيرت المعالم ، وهذا أمر طبيعي ، بقيت الحالة العسكرية والحربية إلى اليوم الذي قتل فيه الخليفة (١٤ صفر) ومن ثم عين لإدارة بغداد وترتيب شؤونها الوزير مؤيد الدين محمد ابن العلقمي فقد جعل وزيرا.

فهو آخر وزير للعباسيين وأول وزير للمغول في بغداد واختير معه من الموظفين في الإدارة :

فخر الدين ابن الدامغاني صاحب الديوان نصب للديوان أيضا ، والأمير علي بهادر للشحنة ، وأرتاقان وأوزان كمرشحين له (ردء) ونائبين لقراتاي عماد الدين عمر القزويني و(الأعمال الشرقية) كالخالص وطريق خراسان والبندنيجين فوضت إلى نجم الدين أبي جعفر أحمد بن عمران الذي كان يسمى بالوزير الصادق أو المخلص (راست دل) ، وهو من أهل باجسرى ، وكان يخدم زمن الخليفة عاملا فاتصل ببعض الأمراء أيام الحرب وحضر بين يدي السلطان هلاكو خان وأنهى إليه من حال العراق

٢٢٠