موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

في عهدته وتحت قيادته ويسعى في نظامه وترتيبه لئلا يتشوش انتظامه.

وفي سنة ٦٥٢ ه‍ ١٢٥٤ م تواردت (الرسل) في طلب السلطان عز الدين صاحب الروم ليحضر بنفسه في خدمة منگو قاآن. فاعتذر بظهور أعداء له من ناحية المغرب. وقد أوضح أبو الفداء العلاقة معهم في حوادث سنة ٦٤١ ه‍ وما بعدها ، فنكتفي بالإشارة هنا.

سفر هلاكو وقصده بلاد الملاحدة ووقائع أخرى (١)

: وفي شعبان سنة ٦٥٣ ه‍ ١٢٥٥ م نزل هلاكو بمروج مدينة سمرقند ، أقام بها أربعين يوما وحينئذ استقبله الملك شمس الدين كرت ونال حظوة عند الخان أكثر من غيره من سائر الذين استقبلوه وهناك أدرك أخاه سنتاي اوغول اجله وأخبر بوفاة أخيه الآخر في طرف بلاذر فتكدر خاطره لهاتين الوقعتين فوصل إليه الأمير أرغون وأكثر اكابر خراسان وقووا عزمه.

ثم وصلوا خراسان وعسكروا هناك. فأقاموا شهرا واحدا في

__________________

(١) في جهانكشاي جويني سعة زائدة عن مذاهب الباطنية ، وعن الإسماعيلية من (ص ١٠٦ : ١٤٣ ج ٣) وبيان واف عن حسن الصباح وأخلافه ، وهم (إسماعيلية) أوضح عنهم من ص ١٨٦ إلى آخر الكتاب وهناك حواش وتعليقات قيمة للأستاذ القزويني ، وتعريف ببلدانهم من ص ٣٠٢ إلى ص ٤١٠ ويلاحظ أن ما ذكرته في ص ١٥٤ من كتبهم وهو (سمط الحقائق) فإنه من كتب الإسماعيلية المعروفين (بالبهرة) ، وينتسبون إلى الطيب وتدعى فرقتهم ب (الطيبية) وهي مشتقة من المستعلية وأما الإسماعيلية (أصحاب حسن الصباح) فإنهم تدعى نحلتهم بال (نزارية) ، ومن بقاياهم الأغاخانية في الهند ، ومن كتبهم المعروفة روضة التسليم ، ومطيع المؤمنين ، وهفت باب المعروف ب (كلام پير) و(الهداية الآمرية) و(حقيقة الدين) ... وفي هذه الأيام عرف من كتبهم (الفلك الدوار) ، ونشرات أخرى ، كل منها يعين ناحية ، ويكشف عن صفحة ... وفي طبقات ناصري توضيح عن الدولة الإسماعيلية في مصر ..

١٦١

خلاله نشروا أوامر (يرليغات) إلى ملوك الطوائف تشعر بنواياهم وأنهم لم يأتوا بقصد التسخير. وإنما جاؤوا لإبادة (الملاحدة) والقضاء على هذه الطائفة المفسدة. ومن سلم وأتى إلى المعسكر وساعد بالعدد والعدة بقي له وطنه وحافظ على جيوشه وأهليه وقبلت طاعته ...

ومن أبدى التهاون والإهمال في امتثال الأمر فحينئذ وإثر أن نسحق تلك الطائفة بقوة الباري تعالى نتوجه على العاصي ولا نسمع منه عذرا ونعامله آنئذ بما نعامل به الطائفة المذكورة.

وأرسل هلاكو لتبليغ هذه الأوامر سفراء سريعي السير. وحين سمعوا بالخبر وافت الوفود من أنحاء كثيرة لعرض الطاعة. فورد من الروم السلاطين عز الدين وركن الدين ، ومن فارس سعد ابن اتابك مظفر ، ومن العراق وخراسان وأذربيجان آخرون. وكذا من كرجستان وغيرها. فأبدوا الطاعة والانقياد.

وفي غرة ذي الحجة سنة ٦٥٣ ه‍ ١٢٥٦ م انشأوا جسرا على نهر جيحون وعبروا. وكان الوقت شتاء شديد البرد لا يقشع غيمه ولا ينقطع وقوع الثلج ، وهناك قضى جيشه الشتاء فلم يستطع المضي لتلف الخيول الكثيرة. فأمر الأمراء أن يقصدوا في عساكرهم قلاع الملاحدة ...

وكان مقدم الإسماعيلية يومئذ ركن الدين خورشاه (١) بن علاء الدين وأخربت خمس قلاع من قلاعه التي لم يكن فيها ذخائر للحصار وأقبل رسول هلاكو إلى حد قصران وكان أرسل كيتو بوقا نويان قائدا بتاريخ جمادى الثانية سنة ٦٥٠ ه‍ ٢٦٥٢ م إلى حرب الملاحدة فذهب إلى هناك. وفي اوائل المحرم لسنة ٦٥١ ه‍ ١٢٥٣ م عبر نهر جيحون وأخذ يغزو

__________________

(١) ورد في بعض الكتب خوزشاه وليس بصحيح وقد ذكره صاحب جامع التواريخ وغيره مكررا بالوجه المذكور في الأصل.

١٦٢

ولايات قهستان. وكان معه خمسة آلاف من الخيالة ومثلهم من المشاة ووصل إلى كردكوه.

وفي خلال المدة بين ربيع الأول لسنة ٦٥١ وصفر سنة ٦٥٥ ه‍ ١٢٥٧ م استولى على بقاع عديدة حتى حدود زاوه ... فتمرض هناك ، من ثم أرسل كوكا ايلكا وكيتوبوقانويان مع سائر الأمراء لفتح باقي المدن.

وفي ٧ ربيع الأول وصلوا إلى بلدة تون وفي ١٩ ربيع الآخر استولوا على بلدة شهرستان وتوجهوا نحو طوس ففتحوها وتوجهوا إلى دامغان وخربوا الموت (عاصمة الإسماعيلية).

وفي هذه الأثناء لازم الخواجه نصير الدين الطوسي هلاكوخان وكان في خدمة علاء الدين محمد بن الحسن الإسماعيلي فحظي عنده وأنعم عليه فعمل الرصد بمراغة. ثم توجه نحو خورشاه ملك الإسماعيلية للاستيلاء على قلاعه وبلاده وكان من محاسن الصدف ـ كذا قال الخواجه رشيد الدين ـ مرافقة نصير الدين الطوسي لهلاكو في هذه الحملة. وكان هو السبب في حقن الدماء وتسليم البلاد لهلاكو. لأن الناس كانوا لا يستطيعون الحرب معه فسعى في المسالمة وأخذ ينصح خورشاه لطاعة هلاكو والانقياد له. فقبل خورشاه النصيحة. وكان يتماهل في إظهار الطاعة إلى أن حاصروه من جميع الجهات في قيادة بوقاتيمور وكوكا ايلكا وذلك في ١٤ شوال سنة ٦٥٤ م ١٢٥٦ م حتى اضطروه إلى التسليم في اواخر ذي القعدة من السنة المذكورة. وقتل سنة ٦٥٥ ه‍ (١). فافتتحت بلاد الملاحدة.

__________________

(١) ابن الفوطي حوادث سنة ٦٥٤ ه‍ ، وقد أوضح ابن العبري ، وجامع التواريخ سبب قتل خورشاه.

١٦٣

اجمال عن الملاحدة :

هذه الحكومة من حكومات الإسماعيلية ، دامت من سنة ٤٧٣ ه‍ (وعلى قول صاحب جامع التواريخ من سنة ٤٧٧ ه‍) (١) إلى سنة ٦٥٤ ه‍ ولي أمرها ثمانية امراء أولهم الحسن بن علي بن محمد الصباح الحميري وآخرهم ركن الدين خورشاه ؛ وكانت قاسية في حكمها وأنتهكت حرمات وقتلت علماء وأمراء ، وأجرت مظالم سجلها التاريخ عليها ...

وهذه قائمة بأسماء حكامها :

١ ـ الحسن بن علي بن محمد الصباح (٤٧٣ ه‍ ١٠٨١ م : ٥١٨ ه‍ ١١٢٥ م).

٢ ـ كيابزرك أميد (٥١٨ ه‍ ١١٢٥ م : ٥٣٣ ه‍ ١١٣٩ م).

٣ ـ كيا محمد بن كيابزرك أميد (٥٣٣ ه‍ ١١٣٩ م : ٥٥٧ ه‍ ١١٦٢ م).

٤ ـ الحسن بن كيا محمد (٥٥٧ ه‍ ١١٦٢ م : ٥٦١ ه‍ ١١٦٦ م).

٥ ـ خواند محمد بن الحسن (٥٦١ ه‍ ١١٦٦ م : ٦٠٧ ه‍ ١٢١١ م).

٦ ـ خواند جلال الدين حسن ابن خواند محمد (٦٠٧ ه‍ ١٢١١ م : ٦١٨ ه‍ ١٢٢٢ م).

٧ ـ خواند علاء الدين محمد ابن خواند جلال الدين حسن (٦١٨ ه‍ ١٢٢٢ م : ٦٥٣ ه‍ ١٢٥٦ م).

٨ ـ خواند ركن الدين خورشاه بن علاء الدين محمد (٦٥٣ ه‍ ١٢٥٦ م : ٦٥٤ ه‍ ١٢٥٧ م).

وهذا الأخير ووالده قتلهما المغول وقضوا على ادارتهم ...

__________________

(١) في جامع التواريخ أن اسم «الموت» هو تاريخ حكومتهم وظهورهم وحروفها تساوي ٤٧٧ فبنى تاريخه على هذا الاساس.

١٦٤

وقال في جامع التواريخ ملوكهم سبعة بإغفال جلال الدين حسن السادس من المذكورين في القائمة.

وأوضح عقائدهم ناصر خسرو في كتبه (وجه دين) ، و(زاد المسافرين) ، و(سفر نامة) ، و(روشنائي) وغيره وكان هذا قد تلقى تعاليمه من مصر مركز الدعوة ، ومن نفس قرامطة البحرين فصارت أساسا لهؤلاء ...

ويعتقدون ما يعتقده غلاة التصوف من الوحدة والاتحاد والحلول وهم منهم ، ويتمسكون بالفلسفة اليونانية ، وبأمور من شأنها ابطال الشريعة الإسلامية بالركون إلى تأويلات خرجوا بها عن مدلول اللفظ ، وصرفوها عما يفهم منها إلى معاني الحروف ، والرموز المكنونة فيها وهي من اختراعهم لتوجيه الناس إليها دون الالتفات إلى معاني الآيات ...

ومنهم اشتقت عقائد (غلاة التصوف) ؛ و(الحروفية) ، و(الدروز) ، والأغاخانية والكشفية والبابية ، والبهائية ... في أزمنة مختلفة ، وأشكال متنوعة ...

وأصل عقيدتهم تسليم القياد للأشخاص بحيث يعدونهم تارة آلهة ، وأخرى أئمة أو دعاة ، أو دعاة الدعاة وهكذا ... فيتمسكون بالأشخاص تمسكا ليس وراءه حد ...

وقد تكلم كثيرون عن عقائدهم ، وأظهروا بعض ما أبطنوا منها ، ولا تزال المجاهيل عديدة ، واشتهر من كتبهم (رسائل إخوان الصفا) ، وكتب ، (ناصر خسرو) ، وفي كتب الملل والنحل بيانات كثيرة عن عقائدهم ، وفي (كتاب الفرق) وعندي مخطوط منه تفصيل كثير عن عقائدهم ، وطريق دعوتهم ، ومؤلفه أبو محمد لا نعرف عنه أكثر من أنه يمان ، مجاور لهم ، اطلع على مؤلفاتهم ونقل عنها عازيا كل قول لصاحبه ...

١٦٥

وعند استئصال هذه الفرقة من قبل هلاكوخان طلب علاء الدين الجويني من هلاكو حينما كان في (لمسر) (١) أن يطلع على مكتبتهم المشهورة في بلدة (الموت) فوافق وحينئذ ذهب إليها وأخرج منها المصاحف والكتب النفيسة ، والكراسي وكتاب الحلق ، والاسطرلابات وغيرها فانتقاها من بين كتبهم ، وحرق الباقي مما يتعلق بضلالاتهم مما لا يستند إلى معقول أو منقول ... حكى ذلك كله الجويني ونشر لهم ملخص ما يسمى عندهم ب (سيرة سيدنا) (سركذشت سيدنا) في مناقب الحسن ابن الصباح مؤسس حكومة الملاحدة ، ذكر ذلك في الجلد الثالث من كتابه (جهان گشا) ، ثم بسط القول أكثر الخواجه رشيد الدين في كتابه جامع التواريخ في المجلد الثاني منه ...

ولا تزال كتب الإسماعيلية موجودة في الهند واليمن. وقد عثرنا مؤخرا على رسالة منظومة في عقائدهم تسمى (سمط الحقائق) للداعي علي بن حنظلة بن أبي سالم ...

وعلى كل ما زالت ولا تزال النشرات عنهم متوالية ...

توغل هلاكو خان في فتوحه :

وفي شوال سنة ٦٥٤ ه‍ كان توجه هلاكو نحو مدينة طالقان ، ومنها توجه نحو قهستان.

وفي ربيع الأول سنة ٦٥٥ ه‍ أتم هلاكوخان أمر الملاحدة وتوجه من قزوين إلى همذان وحينئذ وصله القائد باجونويان من حدود آذربيجان. فعاتبه هلاكوخان وقال إني لولا كثرة الجيوش ووعورة الطرق لافتتحت بغداد. وأنقذتها من أيدي الكفار (يقصد الخلفاء). ثم ذهب بايجو نحو الروم وحارب الأمير غياث الدين بن علاء الدين في

__________________

(١) في جامع التواريخ «لمبسر».

١٦٦

١٦٧

مكان يسمى كوسه داغ فكان المنتصر.

أما هلاكو خان فإنه مع سائر أمراء الجيش أخذ يهيىء العدد في صحراء همذان بقرب كردستان ويستعد للكفاح.

وفي هذه الأثناء سيّر السلطان عز الدين رسولا إلى خدمة هلاكو خان شاكيا على باجو نويان أنه ازاحه من ملكه فأمر هلاكوخان أن يقتسم الممالك هو وأخوه ركن الدين ...

ثم خرج بايجو نويان من حدود الروم طالبا العراق. ولما وصلوا ملطية خرج أهلها إلى خدمة بايجو نويان بأنواع الهدايا (الترغو) (١) والتحف ...

توجه هلاكو تلقاء بغداد

توجه هلاكو على بغداد ـ تردد الرسل :

في ٩ ربيع الآخر سنة ٦٥٥ ه‍ ١٢٥٧ م وصل هلاكو خان إلى دينور قاصدا بغداد ومن هناك رجع إلى همذان في ١٢ رجب من تلك السنة.

وفي ١٠ رمضان أرسل رسولا إلى الخليفة مزودا بالتهديدات والوعيد ومعاتبا له في عدم نصرته له في حرب الملاحدة (الإسماعيلية) قائلا :

«كلما استنجدت بك اعتذرت ولم تبعث لنا مددا مع أنك من عائلة قديمة وسلالة نبيلة. أما سمعت بأننا من ظهور جنگيزخان إلى يومنا هذا قد أصبنا العالم ما أصبناه بجيشنا المغولي وألحقنا بالأسرة الخوارزمية والسلجوقية وملوك الديالمة والاتابكية وغيرهم ما ألحقنا مع ما كانوا عليه من الكبرياء والعظمة والمقدرة ... أما رأيتم ما نالهم الآن من الذل والهوان ...

__________________

(١) تلفظ تورغو أيضا وتعني النفائس والأقمشة الثمينة كما مر.

١٦٨

ولم تكن بغداد في يوم مسدودة على هؤلاء الأمراء. وإنما كانت مفتحة الأبواب لهم فكيف تكون مغلقة في وجوهنا وموصدة عنا مع ما لنا من الحول والسلطة والعظمة ...

إننا نحذرك مغبة المناوأة والعداء وأن تتقي الحرب وإلا تضرب ... فالشمس لا تستر بغربال ... هذا وقد مضى ما مضى فعليك أن تهدم القلاع وتطمّ الخنادق وتسلم البلدة والممالك إلى أحد أولادي ، وأن تتوجه لملاقاتنا ، وإذا صعب عليك المجيء فأرسل إلينا الوزير وسليمان شاه والدواتدار ليأخذوا العهد منا ويوصلوه إليك بلا زيادة ولا نقصان.

وإذا لم تفعل ذلك ولم تراع ما انطوى عليه هذا الكتاب فتأهب للقتال واستعد للنضال وجهز جيشك وعين جبهة القتال. فإنا متهيئون للكفاح ، ومستأنسون به ...

فإذا جهزت العساكر وغضبت عليك فاعلم أنك لا تنجو مني ولو صعدت إلى السماء أو اختفيت في باطن الأرض فلا واقي لك ... وإن أردت أن تبقى رئيسا لأسرتك القديمة النبيلة فاسمع نصيحتي ... وإلا فنرى ما يريد الله بنا وبكم». انتهى.

هذا وكان أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سير رسولا إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة ـ كما أشار في هذا الكتاب ـ فأراد الخليفة أن يسير إليه فلم يمكنه الأمراء وقالوا :

إن هلاكو رجل صاحب احتيال وخديعة. وليس محتاجا إلى نجدتنا. وإنما غرضه إخلاء بغداد من الرجال ليملكها بسهولة ...

فتقاعد الخليفة بسبب ذلك عن إرسال الرجال. ولما فتح هلاكو تلك القلاع أرسل رسولا آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة بكتابه المدون اعلاه فوصل الرسل إلى بغداد وأنذروا الخليفة وحينئذ شاور الوزير فيما يجب أن يفعلوه فقال :

١٦٩

ـ لا وجه لإرضاء هذا الملك الجبار إلا ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه ...

وعند ما أخذوا في تجهيز ما يسيرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه :

إن الوزير إنما يدبر شأن نفسه مع التتار وهو يروم تسليمنا إليهم.

فلا نمكنه من ذلك!!

وحينئذ أبطل الخليفة تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شيء نزر لا قيمة له وأرسله مع شرف الدين عبد الله ابن استاذ الدار محيي الدين يوسف ابن الجوزي وكان رجلا فصيحا وجعل صحبته جماعة سيرهم مع رسل هلاكو ، وزود الخليفة رسله بجواب إلى هلاكو وهو :

أيها الولد الغر الذي لم يبلغ الحلم أظن أنك تريد أن تذهب بحياتك وتتطلب قصر الأجل ، تتخيل أن اقبال الأيام ومساعدة الظروف تدوم لك ، كأنك تحاول أن تسيطر على العالم ، وتحسب أن أمرك قضاء مبرم ، وإرادتك حكم محتم ، فأراك تطمع بما لا يتيسر ...!

أما تعلم أن أهل المشرق والمغرب من غني وفقير وشيخ وشاب ممن يدينون بدين الله يذعنون لي بالطاعة ، وإذا أشرت عليهم أن يجمعوا شملهم فعلوا واستولوا على ايران وتوجهوا من هناك إلى توران فاكتسحوا ممالككم إلا أني لا أرغب في ايجاد البغضاء ولا أود أذى الخلق فلا أحب أن يفتح لسان الورى من هيبة جيوشي ورهبتهم بتحسين أو استياء ...!!

وأنت لو كنت تزرع بذر المحبة والسلم في قلبك لما كنت تكلفنا بهدم القلاع وطمّ الخنادق.

١٧٠

والحاصل أدعوك أن ترجع إلى خراسان! وإلا فإن جيشنا كبير يحجب غبار خيله نور الشمس». انتهى.

وأرسل معهم بعض الهدايا والتحف كما تقدم.

ولما صار رسل هلاكو خارج بغداد كانت الصحراء مملوءة من عوام الناس وأخذوا يسبون الرسل ويظهرون السفه. وكانوا يأخذون بأثواب الرسل ويمزقونها ويشتمونهم ويتفوهون بما يؤذونهم به ... فلما علم الوزير بذلك أرسل من يفرقون هؤلاء السفهاء عنهم.

وحينما وصل الرسل إلى هلاكو عرضوا عليه ما شاهدوه وما نالهم فغضب هلاكو وقال :

تبين أن الخليفة ليس له كفاءة. فإذا ساعدني الله وأمدني بمدد منه فسأقوم معوجّه!!.

ثم وصل رسل الخليفة إلى هلاكو عقيب ذلك وهم ابن الجوزي المذكور وبدر الدين وزنكي وبلغوا الرسالة فغضب هلاكو من كلمات الخليفة وقال في نفسه :

يظهر أن الله يريد السوء بهؤلاء القوم!

وأذن هلاكو بانصراف رسل الخليفة وقال لهم :

إن الخالق القديم منذ نشر لواء جنگيز وهبنا وجه الأرض من الشرق إلى الغرب فكل من كان مخلصا لنا حفظ ماله وأهله وأولاده ونجا من مخالب الموت ومن خالفنا فليس له أمان ولا أمن.

وأخذ يعاتب الخليفة وكتب له :

إن حب الجاه والمال والغرور قد أثر ببصيرتك بحيث لم تسمع نصائح المصلحين ومريدي الخير ولم تعد تسمع أذناك كلام المشفقين فانحرفت عن طريق آبائك وأجدادك فعليك أن تستعد للقتال فإني سائر

١٧١

عليكم نحو بغداد بجيوش عدد النمل والجراد. وإذا تبدلت الأحوال فذاك لله ...!

وفي سنة ٦٥٥ ه‍ تجاوز هلاكو حدود همذان بجيوشه الكثيرة ...

ولما وافى رسل بغداد بعدما أدوا الرسالة إلى الخليفة وقرروا ما قاله هلاكو برمته وعرضوها على الخليفة استطلع الخليفة رأي وزيره وأمرائه في دفع هذا الخصم القاهر ، والعدو القادر فقال له الوزير :

إن ساعدي الخصم لا تغلان إلا ببذل المال ، والنصرة على الأعداء لا تحصل إلا بالصرف ، لأن المال إنما يدخر لوقاية العز والشرف. فعلينا أن نرسل إليهم ألف حمل من الأموال النفيسة محمولة على ألف من كرائم الإبل وألف حصان عربي نجيب وأن نقدمها مع موسيقى تعزف أمامها ، وأن نبعث للأمراء لكل منهم تحفا وهدايا تليق بمقامهم ...

وهذه تقدم مع رسل دهاة كفاة وأن نعتذر عما بدر وأن تقرأ الخطب ، وتضرب النقود باسمه». انتهى.

فقبل الخليفة رأي الوزير. ثم أمر بتنفيذ ما ذكره الوزير ، وكان بين مجاهد الدين ايبك ويسمى الدواتدار الصغير وبين الوزير عداوة مستحكمة وكدورة قديمة (١) فانتهز الدواتدار الفرصة للفتك بالوزير فذهب إلى الخليفة ومعه الأمراء وذوو الأغراض وقالوا : إن رأي الوزير وتدبيره ناشىء عن مصلحة شخصية ويريد بذلك أن يحبب نفسه إلى هلاكو ليفتك بنا وبجيشنا فيوقعنا بمحن. فيجب أن نرسل الجيش ونستعد للنضال ...

فخدع الخليفة بهذه الكلمات وعدل عن رأيه بحمل الأموال وقال

__________________

(١) كان الوزير من المتهمين في ان الدواتدار الصغير دبر خلع الخليفة ، وغيره أتهم بذلك أيضا وقد فصل ابن الفوطي هذا الحادث في سنة ٦٥٣ ه‍.

١٧٢

لا خوف من المستقبل. لأن بيني وبين هلاكوخان وأخيه منگو قاآن روابط ودية ومحبة صميمة لا عداوة ونفرة. وحيث إني أحبهم فلا شك أنهم يحبونني ويميلون إلي وأحسب أن الرسل قد بلغوني عنهم كذبا.

وإذا ظهر خلاف فلا خشية منه. لأن كل الملوك والسلاطين على وجه الأرض بمنزلة جنود لنا فهم مطيعون ومنقادون فلا خوف من تهديد المغول ووعيدهم ولو أنهم ممتعون بقوة وشوكة ... فهم بالنسبة للعباسيين لا أهمية لهم ...

فاضطرب الوزير من هذه الكلمات وأيقن بالوبال عليهم وعلى الخلافة. وكان يرى انقراض الخلافة وسقوط العباسيين في وزارته صعبا عليه وهو يراه مجسما في ذهنه ومخيلته وكان يتألم جدا من هذه الأحوال فهو كالملدوغ فلم يدخر وسعا من السير الحثيث والتدبير الصائب لسلامة هذه العائلة (١) ...

وكان أعاظم بغداد كسليمان شاه بن برجم وفتح الدين ابن كره ومجاهد الدين الدواتدار الصغير ... قد اجتمعوا عند الوزير وفتحوا ألسنتهم بالطعن على الخليفة ، وقالوا إنه مولع بالمطربين ومنهمك باللهو ويبغض العسكريين وأمراء الجيش ...

قال سليمان شاه : إن الخليفة إذا لم يقدم على دفع العدو ولم يبادر إلى رتق الخلل فلا يؤمل أن يجلب خواطر الناس إليه ، وعما قريب نرى الجيش المغولي مسلطا على بغداد لا يرحم احدا كما فعل بسائر البلاد وفتك بأهلها وهتك الحرمات وتجاوز على عصمة المخدرات ... ولما لم يستول المغول على كافة المواطن فإننا نتمكن من مهاجمتهم ليلا ومداهمتهم على حين غرة خصوصا أنهم لم يضيقوا علينا بعد ولم

__________________

(١) جامع التواريخ.

١٧٣

يحصرونا من كل جانب ... فلو جمعنا جيشا وفتكنا بهم ليلا وعلى غفلة لاستطعنا تفريق شملهم. وإذا وقع خلاف ذلك فنكون قد أدينا الواجب في المقاومة والدفاع لآخر نفس.

فلما سمع الخليفة بذلك قال : إن رأي سليمان شاه وتدبيره مصيب فاستعرضوا الجيوش حسبما قرره ...! لأراهم وأبذل لهم ما يحتاجون.

أما الوزير فإنه يعلم أن الخليفة لا يبذل المال ولكنه لا يظهر ذلك خشية من اعدائه وقال لرئيس الاستعراض (التجهيزات) أن يجهز الجيش تدريجا ليذاع صيت تجمعهم في القريب والبعيد من الأماكن وليتشجع في البذل ولئلا يحصل فتور في قصده وإرادته.

وبعد خمسة أشهر أعلم رئيس التجهيزات الوزير بأنه جمع فرقا عظيمة وجيوشا كثيرة ، وأنهم يحتاجون إلى المال من الذهب والفضة فعرض الوزير ذلك على الخليفة فاعتذر.

وحينئذ يئس الوزير من مواعيده تماما ورضي بالقضاء ووجه عيون الانتظار إلى أبواب الاصطبار ...

وكانت العلاقة لا تزال سيئة في هذه الفترة بين الدواتدار والوزير فأخذ اراذل البلد والأوباش المشايعين للدواتدار يشيعون على أفواه الناس أن الوزير متفق مع هلاكوخان ويريد نصرته وخذلان الخليفة فأرسل الخليفة إلى هلاكوخان قليلا من التحف والهدايا مع بدر الدين وزنكي والقاضي البندنيجي وبلغهم أن يقولوا لهلاكو :

إننا مع علمنا أن هلاكو لا يقصد لنا السوء ولكنه يسأل من الواقفين على الأحوال بأن ما من ملوك وسلاطين قصدوا السلالة العباسية ودار السلام إلا كانت عاقبتهم وخيمة مع ما كان لهم من الصلابة والقوة ، لأن بناء هذا البيت محكم للغاية وسيبقى أبد الدهر ، وأن يعقوب الصفاري قصد الخليفة بجيش عظيم وتوجه إلى بغداد ولم

١٧٤

يصل إلى غرضه فابتلي بوجع البطن وقبل أن يتحقق غرضه مات من الوجع المذكور وكذا أخوه عمرو عزم على الوقيعة بالخليفة فألقى القبض عليه إسماعيل بن أحمد الساماني وسجنه وأرسله إلى بغداد ليرى جزاء ما كسبت يداه. وكذا البصاصيري (١) توجه إلى بغداد ومعه جيش لجب من مصر فوصلها وألقى القبض على الخليفة وحبسه في حديثة وأمر الناس أن يخطبوا باسم المستنصر (أحد خلفاء الإسماعيلية بمصر) (٢) وتضرب النقود باسمه. فاطلع طغرل بيك السلجوقي على ذلك وتوجه بعسكر جرار من خراسان لنصرة الخليفة فنكل به وأخرج الخليفة من الحبس وأجلسه على مقر خلافته ، وكذلك السلطان محمد السلجوقي قصد أيضا بغداد فانهزم في أثناء الطريق كما أن السلطان محمدا خوارزمشاه عزم على إبادة هذا البيت بجيش عظيم ومن أثر غضب الله نزل عليهم امطارا غزيرة وصواعق فرجع خائبا خاسئا بعد ان هلك أكثر جيوشه ورأى جزاء أعماله من جدك جنگيزخان في جزيرة (آبسكون).

لذا كان قصدكم هذا البيت ليس من مصلحتكم فاعتبر بهذا الزمان الغدار» انتهى.

فغضب هلاكو من هذه الكلمات غضبا شديدا وأرجع الرسل من حيث أتوا ، وعلى كل حال لا يرى هلاكو قيمة للبيت العباسي ولا يعرف له شأنا ، وأن الوقائع أمثال هذه كان لها عوامل وأسباب لم تقترن بنتيجة لا أن تولد اعتقادا مثل هذا خصوصا في من يعتقد أن الخلفاء كفار. فلا يصد جيش العدو إلا بمثله ولا يقارع بالبيان واللسان. فالحجة للقواضب وللعدة الكافية الكافلة ...

__________________

(١) البساسيري.

(٢) هؤلاء لا يفترقون كثيرا عن إسماعيلية خراسان المعروفين بالملاحدة ولعل بينهما فروقا لا نستطيع ادراكها. وكتاب الفرق المذكور يتكلم عن هؤلاء وكذا «سمط الحقائق» ...

١٧٥

ومع هذا نرى النقول جاءتنا من رجال المغول وكتابهم ...

والأقلام بيد اعداء الخلافة العربية يكتبون بها ما شاؤوا ...

وكل هذه الأقوال مصروفة لتبرئة ساحة الوزير وبيان الوضع السيىء للخليفة باسناد كل خرق له ...

تدابير هلاكو للزحف على بغداد :

إن هلاكو حينما رجع رسل الخليفة أخذ يوجس خيفة على نفسه من كثرة جيوش بغداد. ثم أمر بتجهيز الجيوش والتأهب بنية أن يستولي أولا على اطراف بغداد ونواحيها ليسهل عليه دخولها في يده نظرا للاستحكامات المنيعة التي كانت تعترضه في طريقه.

وعليه أرسل إلى حسام الدين عكة (١). وكان هذا حاكما على

__________________

(١) لما أن ارجع هولاكو رسل الخليفة صار يرتاب من كثرة جيوش بغداد ، فأمر بالتأهب بغية أن يستولي أولا على أطراف بغداد (العراق) ونواحيها ، وفيها من الجبال الشاهقة والمنيعة ما ربما تعترضه في طريقه ، وتكون حائلا دون وصوله إلى غرضه وعليه ارسل هولاكو إلى حسام الدين هذا رسلا وكان حاكما على درتنك (حلوان) ونواحيها.

وفي جامع التواريخ النسخة الفارسية المخطوطة في استانبول أنه جاء إلى خدمة هولاكو وترك ابنه الأمير سعيدا مكانه فنال منه كل لطف وإعزاز ، وأنعم عليه بقلعة زر (دززر) وهل هذه هي المعروفة اليوم ب (آلتون كوبري) ، أو (قنطرة الذهب) ، وأن البلد كان يسمى فيها ب (قلعة الذهب)؟ ثم شاع ب (قنطرة الذهب)؟ وقلعة المرج (دزمرج) ، وبقلاع أخرى ، فانقادت له .. ثم علم منه خيانة فقبض عليه وقتله ... أما ابنه فقد فر وذهب إلى بغداد ، فقتل في المعركة ...

وفي المطبوع من جامع التواريخ أنه منحه قلعة وروده (دزوروده) ، وقلعة المرج (دزمرج) ، وقلاعا أخرى. وفي تعدد النسخ نرى أسماء بلدان أخرى. هذا وإن الصديق الأستاذ مصطفى جواد يرى أن (مبارز الدين كك) هو المعني هنا إلا أننا نرى الاسم ، والزمان مختلفين ...

ودز هنا يراد بها القلعة أو البلد وتكون العبارة الواردة في (ص ١٦٤ س ٣ و ٤) أنه خوله التصرف بالقلاع المذكورة وأطاعه أهلوها ... الخ (التفصيل في جامع

١٧٦

درتنك (١) ونواحيها من قبل الخليفة وكان متألما من الخليفة فلبى دعوة هلاكو بلا تردد ففوض ما تحت يده من الممالك إلى ابنه أمير سعد وذهب بنفسه لخدمة هلاكو فرأى منه كل عطف ولطف فأمره بالرجوع وجعل تحت تصرفه نواحي أخرى مثل ذر وروده ، ودزمرج ، ونواحي أخرى.

سخر هذا دزا وأطاعه الدزيون وانقادوا له. ولما رأى أنه نال ما كان يأمله بالأمس واجتمع تحت أمرته جيوش سليمان شاه وقبلوا طاعته أخذه الكبر والغرور (كذا في خواجه رشيد الدين) وأرسل إلى حاكم اربيل تاج الدين محمد ابن صلايا العلوي وقال له إني زرت هلاكوخان واطلعت على كفاءته وكياسته. وإني رأيته رجلا مهيبا وذا أنفة. ولكن لم أخش سطوته وليس هو ذا قدر ومنزلة في نظري فإن الخليفة أكرمني وشجعني وأرسل إليّ جيشا لتأييدي ونصرتي فأنا أيضا أتمكن أن أبرز جيشا من الكرد والتركمان ما يقرب من مائة ألف مقاتل وأسد الطرق في وجه هلاكو وعساكره ولا يستطيع مخلوق حينئذاك من دخول بغداد.

وعلى هذا أعلم حاكم أربيل ذلك للوزير فعرض هذا الأمر إلى الخليفة فلم يلتفت الخليفة إليه فوصل الخبر إلى مسامع هلاكو وثار ثائره وزاد حنقه وأمر بإعزام قائد الجيش كيتو بوقا نويان بثلاثين ألف مقاتل للتنكيل بهم.

__________________

النوازع ح ١ ص ٢٥٤ و ٢٥٦ فكان اعتراض الصديق الأستاذ مصطفى جواد في محله مما دعا لمعاودة النظر ... [الملحق الثاني].

(١) ودرتنك كانت أيام الخلافة وما بعدها تعد من ألوية بغداد واحتفظت بذلك إلى أيام سلطان سليمان القانوني ، وبعدها ... واليوم بيد ايران ...

وفي الملحق : ورتنك هذه كانت مشهورة ب (حلوان) فقد جاء في كتاب نزهة القلوب : إن حلوان من الاقليم الرابع من مدائن عراق العرب السبع ، بناها قباد ابن فيروز الساساتي. والآن خراب ... ومن المدفونين.

١٧٧

ولما تقدم الجيش المغولي إلى تلك النواحي أرسل القائد إلى حسام الدين يخبره أنهم متوجهون إلى بغداد ويحتاجون إلى مشورته ولم يدر أنها خدعة وحيلة للوقيعة به فعزم على الذهاب بلا تدبر ولا تفكر. فجاء إليهم فأمره القائد بأن يخرج زوجته وأسرته وأولاده وسائر متعلقاته وعساكره ... إن كان يريد النجاة وأن يعرضوا أنفسهم أمامه للإحصاء ليقرر لهم الرواتب طبق عددهم.

فلم ير بدا من الامتثال وحينئذ أخرج هؤلاء فقال له القائد إنك إن تخلص لنا وتكون في صفاء مع السلطان هلاكو خان فعليك أن تأمر اصحابك بهدم القلاع والحصون ليتحقق لنا حسن نيتك ... فأحس حسام الدين بأنهم اطلعوا على منوياته (مذكراته مع الخليفة والمكاتبات معه) فيئس من حياته وأمر الأصحاب بهدم القلاع.

وبعد أن امتثلهم فيما أمروه وأصحابه إلا ابنه أمير سعد الذي امتنع عن طاعتهم وكان متحصنا في القلعة مع اعوانه فأنذروه بالتهديد فلم يجب لذلك وقال : إنكم أناس لا وثوق بمواعيدكم ولا اعتماد عليكم. وما مواعيدكم إلا دسائس وحيل.

وبقي متواريا في الجبال والوديان ثم ذهب إلى بغداد فلقي حين قدومه إكراما من صاحب الديوان. وأقام بها إلى أن قتل في الحرب.

ثم رجع القائد كيتوبوقا نويان ثملا بخمرة النصر وجاء إلى هلاكو خان وهذا الذي أوقعوا به هو حسام الدين خليل بن بدر الكردي (١)

__________________

(١) حسام الدين خليل بن بدر الكردي ـ حسام الدين عكة :

في تواريخ عديدة نرى ذكر حسام الدين خليل بن بدر الكردي وأنه كان حاكما على درتنك (حلوان) لهذا الموضوع صلة في مبحث : درتنك : ـ حلوان ، المار الذكر. فمال إلى المغول وهكذا يعرض لنا اسم حسام الدين عكه في عين

١٧٨

__________________

الوضع ، ونرى العلاقة بالمغول متماثلة للاثنين فكل منهما التجأ إليهم لما رأى من نفرة من دار الخلافة ، وكان الظن مصروفا غالبا إلى أنهما بالنظر لما ذكر يتبادر إلى الذهن العينية كما أن سليمان شاه بن برجم ذو ارتباط بحوادث كل منهما واسمه مقرون باسمهما ... حتى أن التاريخ على ما جاء في بعض نصوصه متقارب ... ولا يكاد يفرق بينهما. ذلك ما دعانا أن نشير إلى المخالفة بينهما.

وإذا راجعنا التواريخ القديمة المعاصرة للمغول ، أو القريبة العهد بهم ، ولاحظنا المتأخرين ممن نقل عن تلك الآثار تكونت لنا من النصوص بالنظر لمجراها ما يفيدنا أنهما متغايران بالرغم من اتفاق الموقع ، والحاكمية ، واللقب ، والاتصال بالمغول .. وأن الأول منهما هو حسام الدين خليل بن بدر قد زال عنه الابهام والغموض تاما ، وأن حسام الدين عكه لا يزال في طي الخفاء ، لا يعرف عنه أكثر من أنه كان أحد أمراء الكرد المشاهير وكان حاكما في حلوان (درتنك). ولم نر من تعرض لأصله وطريقة استيلائه ...

وتوضيحا لهذا نذكر أن التخالف الذي شعرنا به وأشرنا إليه في صلب التاريخ (تاريخ العراق) قد تحقق كما يظهر من النصوص التالية :

١ ـ جاء في تاريخ مفصل ايران ما ملخصه أن حسام الدين خليل بن بدر كان من أمراء اللر الصغير ، وكان بينه وبين سليمان شاه الايوائي منازعة شديدة فاضطر أن يلتجىء إلى المغول أيام تأهبهم للهجوم على بغداد فجعلوه شحنة (عهدوا إليه بخفارة الطرق) وبعد حروب بينه وبين سليمان شاه المذكور قتل سنة ٦٤٠ ه‍ ذلك ما دعا أن يهاجم المغول بغداد انتصارا لشحنتهم خليل بن بدر المذكور فهاجموها في ١٦ ربيع الآخر من سنة ٦٤٣ ه‍ فلم يفلحوا في هجومهم وعادوا إلى بلادهم (تاريخ مفصل إيران ص ٤٤٩ : ٤٥٢).

وغالب نصه الذي نقله يوافق ابن أبي الحديد ... من جهة و(تاريخ گزيده) من أخرى وهذا الأخير يعين تاريخ قتلة حسام الدين المذكور في سنة ٦٤٠ ه‍ وبالوجه المنقول عن تاريخ ايران المذكور.

٢ ـ قال في نهج البلاغة : (بعد أن ذكر كلاما عن التتر).

«.. دخلت سنة ٦٤٣ ه‍ فاتفق أن بعض أمراء بغداد وهو سليمان بن برجم وهو مقدم الطائفة المعروف بالايواء وهي من التركمان قتل شحنة من شحنهم (شحن التتر) في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم يطوون المنازل ويسبقون خبرهم ومقدمهم المعروف بجكتاي (جغتاي) الصغير فلم يشعر الناس ببغداد إلا وهم على البلد وذلك في شهر ربيع

١٧٩

__________________

الآخر من هذه السنة في فصل الخريف .. فلما قربوا من بغداد وشارفوا الوصول إلى المعسكر أخرج المستعصم ... مملوكه وقائد جيوشه شرف الدين اقبال الشرابي إلى ظاهر السور في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور ووصلت التتر إلى سور البلد في اليوم السابع عشر فوقفوا بإزاء عسكر بغداد صفا واحدا وترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما ورأى التتر من كثرتهم وجودة سلاحهم وعددهم وخيولهم ما لم يكونوا يظنونه ... فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة وظنوا أن واحدة منها تهزمهم لأنهم اعتادوا أنه لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم ، وأن الرعب والخوف منهم يكفي ويغني عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت ورشقوهم بالسهام. فما زال العسكر البغدادي يظهر عليه امارات القوة ويظهر على التتار امارات الضعف والخذلان إلى أن حجز الليل بين الفريقين ولم يصطدم الفيلقان وإنما كانت مناوشات وحملات خفيفة لا تقتضي الاتصال والممازجة ورشق بالنشاب شديد ، فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانا عظيمة وأوهموا أنهم مقيمون عندها وارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم فأصبح العسكر البغدادي فلم ير منهم عينا ولا أثرا .. عائدين حتى دخلوا الدربند ولحقوا ببلادهم (نهج البلاغة ج ٢ ص ٣٧٠ ـ ٣٧١.

٣ ـ وفي جامع التواريخ : عند ذكر المعاصرين لمانگوقا آن أيام حكومته من سنة ٦٤٨ ه‍ ـ ١٢٥١ م : ٦٥٥ ه‍ ـ ١٢٥٧ م بين أن هذا الحادث مما وقع في أيامه كما أشار إلى ذلك جامع التواريخ ج ٢ ص ٣٤٠.

قال : «وفي هذه السنين خرج حسام الدين خليل بدر بن خورشيد البلوچي من كبار الأكراد عن طاعة الخليفة ، والتجأ إلى المغول ، وكان في زي الصوفية كان يعدّ نفسه من مريدي سيدي أحمد ففي ذلك الوقت قد تشاور مع جماعة من المغول فذهب إلى خولنجان من أنحاء نجف (كذا غير منقوطة) فهاجم جمعا من اتباع سليمان شاه واغار عليهم فقتل فيهم. ومن هناك توجه نحو قلعة وهار (تعرف اليوم ببهار) وكانت تعود لسليمان شاه ، فحاصرها. ولما علم سليمان شاه بذلك طلب من الخليفة اذنا وتوجه إلى هناك لدفع هذا الصائل ، فوصل إلى حلوان (درتنك) المذكورة وجمع إليه جيوشا لا تعد ولا تحصى. وكذا جهز خليل ما استطاع من مسلمين ومغول فتصافوا في موضع يقال له سهر ، وكان سليمان شاه قد صنع له كمينا فاشتبك الحرب بين الفريقين وحمي الوطيس فأظهر سليمان شاه الهزيمة وسار حسام الدين خليل في عقبه حتى اجتياز الكمين ومن ثم رجع

١٨٠