موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

السريعة والعامة في صفوة حالها إلى آخر ما هنالك ... ولا يحصل المطلوب إلا بذكر الوقائع الموثوقة والنصوص المؤيدة المسهلة والنافعة ... مما فيه الكفاية للوصول إلى الغرض ...

قد تتضاءل الوقائع الجزئية المشتبه فيها امام هذه الأمور التي قد يؤدي إلى الجمود التمسك بها والوقوف عندها دون ربط الوقائع المقطوع بها وإيرادها مما يهيىء القارىء إلى تجريدها لاستخراج المجاري العامة والقواعد الكلية ... ولا يعني ذلك أننا سوف نهمل الوقائع الجزئية مطلقا. فالإهمال نصيب المردودة والمدخولة لا غير ... والغرض ايجاد الصلة دائما ومراعاة الموازنة وعند تكرر الوقائع المتماثلة يظهر أثرها وتدخل ضمن ما تتطلبه ... ومن ثم تتولد العلاقة بين الوقائع والنظم ، والمسير لهذه ومديرها الشخص ضرورة وقسرا ... فالارتباط لازم ، والنفوذ الفكري له دخل عظيم في صحة الحكم بناء على الشهادات التاريخية ، أو المشاهدات ... والتنطعات ليس من شأننا.

والغالب أن لا نعوّل على مرويات السياحات والرحلات أمثال رحلة ابن بطوطة وإنما يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار مشاهدات السائح ومدوّناته عن هذه ... ولا نتطلب منه أكثر من ذلك ... لأن مشاهدات هؤلاء السياحين صادقة لا تكذب فهم أبصر فيما رغبوا في الاطلاع عليه ، والتدوين عنه ... وعلى هذه الناحية ركنّا وبها أخذنا بزيادة على غيرها وترجيح ...

هذا ما رأينا أن نذكره عن المراجع التاريخية ...

نظرة عامة في أحوال هذا الدور

توطئة للبحث نرى أن نبدي ملاحظة عامة عن هذا العهد تبصر بحوادثه الجزئية وتكون كتمهيد وذلك أن الحكومة الايلخانية كانت قد

٤١

احتلت العراق والأمة العراقية بدا كل أمر جديد لديها ، الإدارة والدين ، واللغة ، والاجتماع ... فلم تألف منها هذه الأمور كلها ، ولا علاقة سابقة لها بها ، وقد تكون سمعت عنها ولكنها غريبة من مألوفها ...

قضت على الحكومة العباسية ، وأسست إدارة خاصة ، وهي ما عدا أيام حروبها ومقارعتها لم تتعرض للأديان والمذاهب إلا أنها ناصرت الاقليات أو بالتعبير الأصح اعتمدت عليها ولم تدع جانبا من جوانب السياسة إلا ولجته ... واستخدمت هؤلاء لتقوى في الإدارة على العنصر الغالب وتجعلها وفق مرغوبها ، أو لتمشي خطتها ، وتسيّر سياستها كما تشاء ... فكانت من أمهر الإدارات في خططها الاستعمارية ، وسياستها الداخلية ... وبحثنا في هذا القسم مقصور على الإدارة ... والمسلمون في هذه الحالة كانوا في يأس من أمرهم رغم أن الحكومة الفاتحة لم تتعرض لأوقافهم ، ولا لإداراتهم الدينية ولا لأحوالهم الداخلية ... ولم تستخدم إلا بعض الموظفين المحصوري العدد بل القليلين جدا كالوزراء وبعض الموظفين ...

أما الإدارة الحاضرة ـ عن هذا الدور ـ فقد خرجت فيها من طريق الخلافة وأبهتها العامة الكبرى فعادت ايالة لها حكمها ، وقد احتفظت بشهرتها السابقة ، ومركزها العلمي والأدبي بين الممالك والأمم ...

نعم لم تفقد بذلك مزاياها الأخرى ـ ما عدا الاستقلال والسياسة العامة وهما أعظم شيء ـ وقد نبغ فيها علماء أكابر ، وأدباء وشعراء ... يكادون يضارعون من سبقهم لولا تأثير الفارسية وشيوعها بكثرة ، واكتسابها شكلا سياسيا نوعا ، ونجاحها في الإدارة المباشرة ...

وعلى كل تغير من أوضاعها ، وتبدل نوعا من اجتماعها وانحطت مدارك أهليها عن ذي قبل مما سيوضح في قسم خاص ... وسيرى القارىء حوادث هذه الأيام السياسية في هذا الجزء بتفاصيلها على قدر

٤٢

ما تسمح به الوثائق ، ويتيسر عليه الاطلاع ...

ومنه تعالى المعونة.

احتلال بغداد على يد هلاكو في ٥ صفر سنة ٦٥٦ ه‍ ١٢٥٨ م

قتل الخليفة

امر هولاكو بقتل الخليفة يوم الخميس ٤ صفر سنة ٦٥٦ كما في تجارب السلف ص ١١ وأورد رباعية فارسية للنصير الطوسي بذلك ، وفي السلوك للمقريزي أن هلاكه كان في ٦ صفر ـ وفي طبقات ناصري مباحث موسعة عن قتلة الخليفة. وأقوال عديدة تتعلق بقتل ابنه أبي بكر.

احتلال بغداد :

الرواية المعول عليها أن المغول دخلوا بغداد تحت قيادة هلاكو يوم الاثنين ٥ صفر سنة ٦٥٦ ه‍ ١٢٥٨ م (١) بعد أن كانوا قارعوا للتغلب عليها سنين كثيرة وهاجموها بكتائب قوية هجومات متوالية فعادوا بالخيبة. ولكن الخلفاء لم يطيقوا الدوام على الدفاع وكبح جماح العدو في هجومه الأخير. فكانت النتيجة أن تم الاستيلاء عليها وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب للناس بأنواع العذاب واستخراج الأموال منهم بالضغط وأليم العقاب مدة قدرت في أربعين يوما أو في أسبوع (٢) على اختلاف في الرواية فقتلوا من الرجال والنساء والصبيان والأطفال خلقا كثيرا من أهل البلد والنازحين إليهم من أهل الأطراف فلم يبق إلا القليل

__________________

(١) تاريخ الفوطي ص ٢٦٢ وغيره.

(٢) ابن العبري ص ٤٧٥.

٤٣

وقد عيّنوا للنصارى شحاني حرسوا بيوتهم والتجأ إليهم أناس عديدون فسلموا ... وهنا يلاحظ أن الأوروبيين كانوا قد اتفقوا مع التتر ولهذا سلم النصارى أو أنهم راعوا العناصر الضعيفة لأجل إطلاعهم على خفايا المسلمين لا أنهم كانوا نصارى منهم ، ولا يحتمل أنهم تجسسوا لهم على المسلمين.

وكان ببغداد أيضا جماعة من التجار الذين يسافرون إلى خراسان وغيرها قد تعلقوا من قبل بأمراء المغول وكتب لهم يرليغات (١) فلما فتحت بغداد خرجوا إلى الامراء وعادوا معهم من يحرس بيوتهم. والتجأ إليهم أيضا جماعة من جيرانهم وغيرهم فأنقذوهم. وكذلك دار الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي نجا بها جماعة كثيرة. ومثلها دار صاحب الديوان ابن الدامغاني ودار صاحب الباب ابن الدوامي.

وفيما عدا هذه الأماكن لم يسلم أحد إلا من كان في الآبار والقنوات. وأحرق معظم البلد و(جامع الخليفة) (٢) وما جاوره ... واستولى الخراب على المدينة. وكانت القتلى في الدروب والأسواق كالتلول ووقعت الأمطار عليهم ووطأتهم الخيول فاستحالت صورهم وصاروا مثلة بتشوه الخلقة ... (٣).

الأمان :

ثم نودي بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيرت ألوانهم وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال والمصائب التي لا يستطيع القلم التعبير

__________________

(١) اليرليغ الفرمان السلطاني ، أو المنشور ، أو الأمر معرب عن المغولية ويستعمل أحيانا في اللغة التركية العثمانية.

(٢) هو جامع الخلفاء المعروف اليوم.

(٣) ابن الفوطي ص ٢٦٢.

٤٤

عنها وهم أشبه بالموتى لما نالهم من الخوف والجوع والبرد ...

حقن دماء الأطراف :

وأما أهل الحلة والكوفة فإنهم نزحوا إلى البطائح بأولادهم وبما قدروا على حمله من أموالهم. وحضر اكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين ابن طاوس العلوي إلى السلطان (هلاكو) وسألوا حقن دمائهم فأجاب سؤالهم وعين لهم شحنة فعادوا إلى بلادهم وأرسلوا إلى من في البطائح من الناس يعرفونهم ذلك فحضروا بأهليهم وأموالهم. وجمعوا مالا عظيما وحملوه إلى السلطان هلاكو فمنّ عليهم بنفوسهم.

وأما واسط فإن الأمير بغاتمر (١) انحدر إليها بعساكره وانتهى فيها إلى قريب البصرة فقتل ونهب وسبى. وكان الولاة والنقباء وأكابر الناس قد انحدروا بأهليهم وأموالهم إلى البطائح فسلموا.

عدد القتلى :

قيل أن عدد القتلى ببغداد زاد عن ثمانمائة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القنى والآبار والسراديب فمات جوعا وخوفا وهذه الرواية لم يقطع فيها ابن الفوطي ولذا عبّر عنها بقيل. ولعلها بناء على أن السكان كثيرون ولم يبق منهم إلا القليل فلم يلاحظ من فروا وانحدروا إلى الانحاء الأخرى. وعلى القول الراجح أنهم يبلغون نحو ثمانين الفا كما في تاريخ مصلح الدين اللاري نقلا عن گلشن خلفا ولا عبرة بقول من أبلغهم إلى ألفي ألف أو إلى ثلاثة آلاف ألف فالمبالغة ظاهرة جدا (٢).

__________________

(١) وتلفظه الصحيح بوقاتيمور. ر : «شجرة الترك».

(٢) ر : تاريخ الخلفاء للسيوطي وغيره امثاله ...

٤٥

الوباء :

ثم وقع أثر ذلك الوباء في من تخلف بعد القتل من شم روائح القتلى وشرب الماء الممتزج بالجيف والعفونات الأخرى ... وكان الناس يكثرون من شم البصل لقوة الجيفة وكثرة الذباب فإنه ملأ الفضاء وكان يسقط على المأكولات فيفسدها.

وكان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة وصفر المطٹم وغيره من الأثاث بأبخس ثمن. فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير (١).

الأمة الفاتحة وروحيتها ، أو التعريف بجنگيزخان وقومه

ولما كان هذا الهجوم الأخير من قبل هلاكو نتيجة التزام الخطة التي صمم جنگيز وأعقابه على المضي بمقتضاها ، وأنه تقدمته هجومات أخرى إلى أن قام هلاكو بهجومه هذا اقتضى التعريف بجنگيزخان وقومه وما راعاه من الخطة لاستخدام أمته وقيادته لها تنفيذا لما قام به من مقدمات عسكرية وهجومات أخرى على الانحاء المجاورة لبغداد بقصد التزام الجيش العراقي مدة طويلة لمحافظة الثغور بقوة كافية مما أدى إلى بذل عظيم ومصارف باهظة لا يتيسر القيام بها لحكومة مثل حكومة بغداد وحالتها على ما سيوصف فذلك كان إضعافا لها وتشويشا لإدارتها ... وقبل الكلام على ذكر توالي الهجومات ومبادىء الهجوم الأخير واطراد هذه لزم أن نعلم روحية الأمة الفاتحة والإطلاع على أساس (حكومة جنگيز).

__________________

(١) ابن الفوطي ص ٢٦٤.

٤٦

أحوال الأمة الفاتحة

الأمة الفاتحة ، وأوائل أحوالها :

إن هذه الحكومة أعني بها (حكومة جنگيز) كان موطنها (أرض المغول). ولم تكن في الأصل حكومة. وإنما هي رياسة على بضع قبائل مما يسمى عندنا بالإمارة القبائلية ، تقطن هذه الإمارة القطعة التي هي قسم من مملكة الصين ويتولى أمرها ـ كما قال المنشي النسوي ـ (خان) ومعناه الملك أو الأمير بلغتهم وفوقه الخاقان وفوق الكل قاآن (١). وأن حكمه نيابة عن خاقانهم الأعظم (قاآن). وكان خاقانهم الكبير المعاصر لخورزمشاه محمد بن تكش يقال له (آلطون خان) (٢) وقد توارث الخانية.

قال المنشي النسوي (٣) : ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة (بطوغاج) (٤) وهي عاصمة الصين. وأن مملكة الصين كانت منقسمة إلى ستة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر يتولى أمره (خان) وكان من زمرة هؤلاء الخانات في العصر المذكور الذين يحكمون نيابة عن خانهم الأعظم (امبراطورهم) شخص يسمى (دوشي خان) وهو أحد الخانات المتولي قسما من الأجزاء الستة. وكان متزوجا بعمة جنگيز خان.

وقبيلة جنگيز خان هي المعروفة بقبيلة (التمرجي) من سكان البراري. ومشتاهم موضع يسمى (أرغون). وهم المشهورون بين التتر بالشر والغدر. ولم تر حكومة الصين ارخاء عنانهم لطغيانهم. فاتفق أن دوشي خان زوج عمة جنگيزخان قد توفي فحضر جنگيز إلى عمته زائرا

__________________

(١) شجرة الترك ص ١٦٩ وجاء في الكتب العربية بلفظ «قان» دون مد وصحيحه ما ذكر.

(٢) ورد بلفظ التون بالتاء كما في تاريخ منكبرتي «ر : ص ٥» وفي غيره التان.

(٣) «راجع : تاريخ أبي الفداء في المراجع التاريخية».

(٤) ورد في سيرة جلال الدين منكبرتي بلفظ طمغاج «ر : ص ٤».

٤٧

ومعزيا. وكان الخاقانان المجاوران لعمل دوشي خان يقال لأحدهما كشلو خان (كشلي خان) وللآخر (١) ... فكانا يليان ما يتاخم عمل دوشي (منطقة حكمه) من الجهتين فأرسلت المرأة (عمة جنگيزخان) إلى كشلي خان والخان الآخر (جنگيز) تنعى إليهما زوجها دوشي خان وأنه لم يخلف ولدا وأنه كان حسن الجوار لهما وأن ابن أخيها جنگيزخان إن أقيم مقامه يحذو حذو المتوفى في معاضدتهما. فأجابها الخانان المذكوران إلى ذلك. وتولى جنگيز من الأمور ما كان لدوشي خان المتوفى بمعاضدة الخانين المذكورين.

فلما أنهي الأمر إلى الخان الأعظم الطون خان أنكر تولية جنگيزخان واستحضره وأنكر على الخانين اللذين فعلا ذلك. فلما جرى ذلك خلعوا طاعة الطون خان وانضم إليهم كل من هو من عشائرهم. ثم اقتتلوا مع الطون خان فولّى منهزما ، وتمكنوا من بلاده مشتركين في الأمر. فاتفق موت الخان الواحد واستقل بالأمر جنگيزخان وكشلوخان.

ثم مات كشلوخان وقام ابنه مقامه ولقب كشلوخان أيضا. فاستضعف جنگيزخان جانب هذا لصغره وحداثة سنه وأخل بالقواعد التي كانت مقررة بينه وبين أبيه. فانفرد كشلوخان عن جنگيزخان وفارقه لذلك ووقع الحرب بينهما. فجرد جنگيز جيشا مع ولده دوشي خان فسار هذا واقتتل مع كشلوخان فانتصر دوشي خان وهزم خصمه فتبعه وقتله وعاد إلى جنگيزخان برأسه. فانفرد جنگيزخان بالمملكة.

ثم إن جنگيزخان راسل خوارزمشاه محمد بن تكش في الصلح فلم

__________________

(١) جاء في سيرة جلال الدين منكبرتي : أنهما كشلوخان وجنكزخان بالزاي وهما المتوليان أمر ما يتاخم أعمال المتوفى من الجهتين «ر : ص ٥» ولعل مستنسخ أبي الفداء لم يذكره من جهة موافقته لاسم جنگيزخان فظنه غلطا ... أو أنه لم يظهر اسمه ، أو لم يذكر في مصدره ...

٤٨

ينتظم فجمع جنگيزخان عساكره والتقى مع خوارزمشاه محمد فانهزم خوارزمشاه فاستولى جنگيزخان على بلاد ما وراء النهر. ثم تبع خوارزمشاه محمدا وهو هارب بين يديه حتى دخل بحر طبرستان. ثم استولى جنگيز على البلاد (١).

ويستفاد من هذه بالنظر لمصادرنا أن جنگيزخان هو المؤسس لهذه الحكومة المعروفة (بحكومة المغول) (٢) أو (حكومة التتر) (٣) ولم تكن لهم حكومة ولا ذكر إلا في زمن جنگيز. وإنما كانت هذه الأقوام أشبه بقبائل العرب الرحل. ولها مدن تقطنها ومواقع مدنية تقيم فيها هي أقرب إلى البداوة أو الطريق الموصل إلى المدنية بين البداوة والحضارة.

وتكاد تكون قبائلهم وأقوامهم في عزلة عن العالم لو لم يكن الإسلام قد هاجم ديارهم أو ما جاورها أثناء الفتح الإسلامي وإبان النهضة العربية ، والمعروف أنه هاجم أقوامهم الانحاء الغربية بل هاجروا بهجرات متوالية لا محل لذكرها هنا. ومع هذا فإن (المغول) أبعد عن الاحتكاك ولم يظهروا للوجود إلا في أواخر العصر السادس للهجرة.

وقبل هذا نرى المدونات العربية عنهم سواء كانوا مغولا أو تترا حين الاستيلاء عليهم والمكافحة معهم ونشاهد منهم أسرى كثيرين قد انتشروا في العالم الإسلامي وفي المملكة الإسلامية كما أنه قد تكونت حكومات منهم وتألف الجيش التركي في الخلافة العباسية وبرز فيهم القواد والوزراء. ولكن لم يؤمل أن تظهر منهم أمة بعيدة عن الإسلام وعن الحضارة وتهاجم الترك المسلمين من جهة وتحارب الصين من أخرى وتدوخ الهند آونة وتستولي على ديار العجم وممالك روسية وتهدم صرح الخلافة الإسلامية وتقضي على حضارة المسلمين وتدهش العالم

__________________

(١) «ص ١٢٣ أبو الفداء ج ٢».

(٢) سيأتي الكلام على كل من المغول والتتر.

(٢) سيأتي الكلام على كل من المغول والتتر.

٤٩

الإسلامي مدة وتدعه في اضطراب وحيرة من أمره فتخلف أثرا ما زال ولا يزال باقيا يرن في الآذان ويفكر فيه كل من درس التاريخ ...

هذه الصولة على البلاد الإسلامية أشبه بصولة العرب وهم في جزيرة قاحلة ... على العالم المتحضر ، المجاور لهم إلا أنه بينهما جهات اشتراك وافتراق وإن كان كل منهما خلف أثرا في النفوس عظيما. فكلاهما يعتمد على قوة بدوية اختط المدبر لها منهاجا ساق به هذه الجماعات للمضيّ بمقتضاه والعمل بموجبه فنال بغيته ...

وشتان بين المنهجين فأحدهما فك الأغلال والقيود عن البشرية ومحا الفوارق بين بعضها وبعض فهو خالد ، وهو إصلاح لها وإسعاد لحياتها كلما مشت على مرسومه والآخر دمر البشرية وأهلكها لانتفاع أمة واحدة وقيادتها لاستدرار خيراتها حبا في إعاشة تلك الأمة وإقامة أودها وإنعاشها ...

وفي هذا الأخير رجعة للاستعباد مرة أخرى ... لكنها كانت أي هذه الرجعة ضرورة لا بد منها نظرا لتناسي المبدأ الإسلامي القويم والعدول عنه أو إهماله والصدود عنه ... فنرى القائم به مثل الخليفة أو الملوك الذين يعدون أنفسهم بمنزلة حماة للدين وحراس له يحاول كل منهم أن يستعبد القوم لا أن يقيم العدل ويؤمن السبل ... وينقذ البشرية مما انتابها ...

فكان الأصلح للبشرية أن يقوض هذا البناء الذي صدف أهله عن صراطه السوي وأولى لها أن يدمر رغم فظاعة الآلة الهدامة ... هذه ضرورة لا بد من ركوبها أو وقوعها وتحمل أخطارها وفي الحقيقة أن الحكومات الإسلامية كانت تركية أو سلطتها بأيديهم فالمقارعة بين طاغيتين كلاهما مخرب ومدمر للديار وهادم للحضارة ، ولم يؤثر فيه المبدأ الإسلامي ، وعلى كل لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

٥٠

ومن نظر إلى الحالة الاجتماعية عندنا آنئذ وسوء الوضع وتذبذب الإدارة وما يعاني الأهلون من جراء

المنازعات وتعدد الحكومات وانحلال ما بينها والشؤون الداخلية وما يجري فيها أو ما يتحمله الأهلون بل والمخالفون من المضض والعناء ، والتزام وجهة (خطة) مطردة لا تقبل أي تطور وتبدل ... تيقن أنها سريعة الزوال وإن كانت الأسس في الأصل قويمة فهي سائرة إلى الانحلال وإن كانت الأركان عزيزة وفاضلة ...!!

أمة الترك أو حالة الأمة الفاتحة

التواريخ والأمم أو دراسة تاريخية :

إن التواريخ القديمة لم تجعل في الغالب قيمة للأمم لا في الفتوح ولا في الاكتشافات ولا في غيرها ... وإنما نسبت ذلك كله وغيره للملوك وأعاظم الرجال ممن كانت لهم مكانة تاريخية باعتبار أنهم المسيرون للأمة والناهضون بها ولم يراجع التاريخ ويعدل به عن هذه الفكرة إلا بعد تجارب مرة وآماد طويلة ... فصارت تلاحظ منزلة العظيم في استفادته من هذه القوة ـ قدرة الأمة ـ واستخدامه إياها لما أعد نفسه لأجله بحيث تمكن من قيادتها ...

مضت أدوار طائلة على هذا الترتيب حتى الأيام الأخيرة وحينئذ نالت الأمم مكانتها التاريخية واستعادت قدرتها المادية والمعنوية ... فصار يستطلع رأيها في أكثر الأمور ويدقق الحادث الكبير (بظهور الفاتح أو العظيم) في أنه إنما حصل له ما حصل بتوجيهه استقامة الأمة وتعيين منهاج لها في سيرها التاريخي لما أحسّ به من الضرورة لقيامها ونهوضها ...

فاليوم تدقق الأمم باعتبار قوتها ومناعتها ووحدتها وصلاح مبدئها

٥١

وسائر حالاتها الاجتماعية ومزاياها القومية والنفسية وحينئذ يتجلى لنا أن ما فعله الرجل العظيم عبارة عن استقائه من معين تلك الأمة وما أحاط بذلك من ظروف وانتهاجه الخطة التي رآها لازمة للعمل ... وقد يكون هذا المنهاج مغلوطا أو ناقصا ولكن ضرورة قيام الأمة لا تؤخر تطبيقه رغم غلطه أو نقصه ... وإن كان غير مكفول الدوام ، سائرا للزوال من جراء أدنى عارض ، أو أي انحلال في الوحدة ...

نعلم هجوم جنگيز على العالم المجاور له مجاورة قريبة أو بعيدة وإحداثه الضجة في هذه الأرض أو الدوي الذي ولد ارتجاجا وهزة شعر بهما كل أحد. ولا يزال أثرهما في النفوس كما مرت الإشارة إلى ذلك. ولما كنا قاطعين بأن جنگيز لم يقم بما قام به إلا باستخدام أمة عظيمة حصلت على مكانتها التاريخية ... رأينا من المحتم درس هذه الأمة ومعرفة أحوالها في ماضيها وحاضرها إلى أيام الهجوم على بغداد ... والظروف التي سهلت لهذا الفاتح الكبير قيامه بما قام به فاشغل الأفكار من حين ظهوره إلى اليوم ...

الأمة وفاتحها :

وهناك شيئان جديران بالبحث :

١ ـ الأمة : التي انقادت للفاتح فوجه روحيتها للإذعان له وجعلها طوع ارادته فسخرها ... وأذعنت.

٢ ـ المنهاج : الذي اختطه لنجاحه في الاستيلاء والطريقة التي سار عليها ...

وهذه تدعو للبحث وتستحق التمحيص لتقدير (السير التاريخي) والتحول الجديد الذي أحدثه وما حصل عليه هو وأعقابه والحكومة التي تأسست من جراء هذا التبدل.

٥٢

أما العوامل المسهلة لهذا الفاتح من اختلال النظام والاضطرابات والفتن في الأمم المجاورة والحروب القائمة فيها على قدم وساق وتذبذب سياستها وتشتت آرائها وانحلال وحدتها باشتداد الخصام الأدبي والاجتماعي وتصلب أهليه تقوية لهذا الخلاف وتسهيلا للانفصال فهذه وأمثالها لا تخرج عن كونها وسائل مسهلة وخادمة لمصلحة الفاتح في فتوحه واكتساحه البلدان ...

لذا لا نرى وجها لأن نجعل قيمة في الدرجة الأولى إلى جنگيز وحده كما فعل ابن الأثير وغيره فنعتوه (بطاغية التتر وقهارها) وجعلوه هو الذي فعل ما فعل. فوجب أن نلم ببعض أحوال أمته لنكون على بينة من قابليتها الاستيلائية على عالم عظيم في مدة وجيزة وتدرجها وظهورها بحيث حازت مقاما عظيما في التاريخ مما دعا للانتباه ... ثم ندخل في أمر هذا الفاتح والطريقة التي سار عليها. فلا نتصور أن يظهر عظيم في وسط غير صالح ... ومن ثم نعرف مكانة هلاكو (فاتح بغداد).

وهنا نسير سيرا حثيثا وباستعجال فنتكلم عن اوائلهم إلى ظهور جنگيز سوى أننا نفرق الموضوع إلى مباحث تقريبا له. وفي كل الأحوال نراعي الإجمال.

بيان أصلهم

الترك ومكانتهم بين الأمم :

إن العلماء يعتبرون الأمم ثلاث كتلات أو مجموعات : طورانية وسامية وآرية. فالأوروبيون والعجم والأرمن من نسل الآريين ويقال لهم الهند الجرمني والهند الأوروبي. والعرب والسريان والعبرانيون من الأقوام السامية. والترك من الطورانيين أو بالتعبير الأصح أن الطورانيين من الترك. وهو اسمهم العام. وفي ضمنهم المغول.

٥٣

فالترك ـ بصورة عامة ـ أمة مستقلة ، كثيرة العديد ومتألفة من قبائل وأقوام كثيرة يشملها هذا الاسم سوى أن المؤرخين اختلفت آراؤهم في اصلهم إلى ثلاثة منازع بالنظر لاختلاف المنابع التاريخية والمصادر التي عولوا عليها ، فالذي اعتمد على (الاغوز نامة) بين أن اصلهم يرجع إلى اوغوزخان. فكان اصلهم يقف عنده فلم يعلم من كان قبله. وأما ما اختاره علاء الدين الجويني ومن حذا حذوه وعول على كتابه (جهانكشا) يقول إن نسبهم يبتدىء من اويغور. والرأي الثالث يركن إلى قول الخواجة رشيد الدين ويرجح ما جاء في كتابه (جامع التواريخ) أن أصلهم المغول فيراعي تسلسل ملوكهم واشتقاقهم من اجداد المغول.

وقد رجح المؤرخ التركي (الدكتور رضا نور) رواية أوغوز وطعن في رواية الاويغور مبديا أنها خرافية. وأن القول بالمغولية فيها إكثار من الاسرائيليات. وما ركن إليه رشيد الدين فقد اقتبسه من العجم حين استيلاء جنگيز عليها وقال الدكتور إن هؤلاء العجم قد اشبعوا بحب الاسرائيليات ...

وهذه الروايات لا تخلو من نظر وتحتاج إلى تمحيص. وإن الترجيحات مبنية على تزلفات للمغول أو غيرهم نظرا لما نعلمه من أننا لا نجد أمة تكره اعلاء شأنها أو لا تحب عظمتها ومكانتها أو التباهي بنسبها والافتخار به ... مما دعا لبقائها إلى اليوم ، ولم نر قوما لا يرغب في اعتلاء صهوات المجد ، وخصوصا أن هذا القول قد يصدق أو يعد أقرب للصدق في حق من نال مقاما تاريخيا مجيدا ... فمن كتب التاريخ حين ظهور هؤلاء كان ممن يمت إليه بسبب أو يتزلف له ... فالقول الذي يصح الاعتماد عليه ـ بتعديل ـ ما حكاه صاحب (شجرة الترك) من أن الترك أقوام وقبائل تجمعها التركية ولم يرجح المغول ولا الاويغور ولا اوغوز بعضهم على بعض ولكنه ينقد من جهة أنه لم يقف عند هذا الحد بل جعل لهم شجرة أوصلها إلى آدم (س) فأوصل (ترك)

٥٤

٥٥

وهو جد الترك الأعلى بيافث بن نوح ، ثم راعى اجداد التوراة ، فكأنه جمع الروايات الأولى وسلسل النسب واتخذ منه وحدة واستفاد من أنساب العرب وقواعد ترتيبهم فوضع كتابه. ولعله اعتمد على الروايات الشائعة والمدونات كما حكى ذلك. وقد قضى ما عليه من بلغ الجهد ... سوى أن اللغة واشتراك ألفاظها حتى في الأبعد تدل على أن الأصل واحد مما لا يدع ارتيابا.

ولما كنا نرى كل أمة تدعي أن لها جدا تقف عنده أو اسما عاما سميت به ثم اتخذته جدا ووقفت عنده صارت بذلك كل أمة تدعي أنها بنت ذلك الجد الذي تعده ابن السماء وأنها العريقة في الأصل لا تضارعها أمة وهو مدار فخرها وتنظر إلى باقي الأمم بدرجة منحطة عنها فقيل إن (ترك) جد أعلى لأمة الترك وهكذا اعتبرت أيضا أقسامها الكبرى أقسام الأمة من قبائل اساسية ـ اجدادا تالين. وهكذا على مراتبهم بأن اعتبرت لكل جد فروعا كما هو مرئيّ لها في تفرع الافخاذ ... فلم تشأ أن تخرج عن هذا الأمر المحسوس لديها.

وأما الفكرة القائلة بأن الناس كلهم من آدم وآدم من تراب ، وأن القبائل والشعوب وسائل التعارف لا طريق التناطح والتخاصم ... فلم تكن معروفة قبل الإسلام ، أو أنها كانت بصورة ضئيلة جدا. فلتأييد هذه الصلة بين الأقوام قرّب علماء الإسلام ، بين أنساب الشعوب فوصلوها بأنساب العرب والإسرائيليين اعتمادا على أقدم كتاب ذكر أولاد آدم وسلسل احفاده وهو (التوراة) ووسعوا القول فيه. ولا يزال العلماء يتحرون جهات التقارب من طريق اللغة والسحنات والحالات الاجتماعية والعادات وهكذا نرى علماء الغرب يقربون إليهم من عدوه من العنصر الآري ... ولذا حينما اتصل المغول بالعجم انتقلت إليهم هذه الفكرة من طريق المسلمين فوصلوا اجدادهم بآدم وربطوا هذه الصلة بأقوى الاسباب تأييدا لما جاء في القرآن الكريم واستفادة من عموميته وتقريبه

٥٦

بين الأقوام (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ). ومن الحديث القائل (كلكم من آدم وآدم من تراب) فلم يخرجوا عن هذا الوضع ... ومن ثم جرى تلاعب الشعراء في المعنى ومنها :

شرق وغرب تجد من صاحب بدلا

فالأرض من تربة والناس من رجل

أو كما قيل :

إذا كان اصلي من تراب فكلها

بلادي وكل العالمين أقاربي

ولما كان اجدادهم معروفين بالوجه المذكور سابقا وبالصورة المبينة وصلوا هذه الصلة بمن عرف فربطوا ترك بيافث بن نوح (س).

مقارنة بين قبائل الترك والعرب :

لو رجعنا إلى قبائل العرب وأحوالهم التاريخية واستنطقنا مخلفاتهم واستقينا معلوماتهم من شعرهم ومفاخراتهم من اقوالهم وجدنا متقدمي شعرائهم بالغوا في الفخر والحماسة فلو طالعنا إحدى معلقاتهم رأينا فيها :

ملكنا البر حتى ضاق عنا

وماء البحر نملؤه سفينا

وحينئذ يتبادر إلى اذهاننا أن حكومتهم كانت من أقوى الحكومات شكيمة ، وأن أمتهم من أكبر الأمم حضارة وتقدما ولكننا لو رأينا بلادنا في مواطن العرب الأصلية ولا حظنا عيشتنا لا نلبث أن تزول منا هذه الفكرة (النخوة) ويذهب هذا الاعتقاد. فتظهر لنا البداوة واضحة بحذافيرها ... وأن ملوك كندة وغيرهم امراء قبائل ولو سموا بالملوك ...

٥٧

وكذا يقال عن الترك فإننا وإن سمينا رئيس كل قبيلة بخان وكل من حكم على بضع قبائل (بخاقان) وقلنا (قاآن) لمن لا حاكم وراءه أو فوقه (١) وما ماثل ورجعنا إلى حالتهم وما هم عليه من البداوة وسكنى الخيام ـ كالعربي ـ علمنا ضخم الألقاب وعظم الاسم دون أن يكون وراء ذلك ما يدعو للانتباه.

ولا ينسى أن الترك لا يماثلون العرب من كل وجه فلكل من القومين مزايا وخصائص وعوائد قد لا توجد في الأخرى منها ما هو من مزاياهم الخلقية ومنها ما هي نتائج المناخ والمحيط الذي عاشوا فيه ... سواء في حره وبرده وما يلتزمانه فيه ... فأثر ذلك في التحول والانتقال لكل من القومين وحينئذ يقرب الواحد من الآخر نوعا.

وعلى كل حال إن أمة الترك وفي ضمنها المغول في الأصل قبائل رحل موصوفة بالشجاعة والصبر على المكاره وتحمل المشاق ، سكناها الخيام ومولعة بالصيد ومواطنها الاصلية مغولستان وتركستان وهما معروفان وما ذكر عن ملوكهم القدماء وأحوالهم فلا يخرج عن كونهم رؤساء قبائل ويتفاوتون في التسمية بين من يسيطر على قبيلة أو قبائل متعددة أو قوم عظيم من اقوامهم كما ان ما ذكر عن ملوكهم القدماء لا يعوّل عليه كحقيقة ناصعة. وإنما هو روايات وأخبار تناقلوها حسب ما هو معهود بين الأمم الأمية وإن كان تثبيت ذلك قد اتخذ وسائل للإشادة والفخر ... وأن خير المدونات وأصدقها عنهم ما كان في زمن المسلمين أثناء الفتوح وما بعدها. فتاريخهم الحقيقي عرف من ذلك الوقت. وحينئذ تكاثرت التتبعات وزاد البحث وضوحا ولا يعتمد على ما قبله من الروايات إلا لإيجاد الصلة والاطلاع على الماضي حسب المحفوظات وإن كان خرافيا وقد يعرف الوضع من خلاله فلا يخفى على

__________________

(١) شجرة الترك ص ١٦٩.

٥٨

المتدبر ما يجري في مطاويه رغم ما جرى على اللسان من وقائعه التي داخلتها الأساطير والخرافات والابطال التاريخيون ...

ولم يزد الأوروبيون على ما ذكره العرب والعجم رغم سياحاتهم وتتبعاتهم الأخيرة عن الماضي إلا قليلا يتعلق بتحقيق بعض الأعلام وهذه أيضا فيها نظر ولا يكاد يعول الواحد على تلفظ لهم ... ووصف الأقوام وتدقيق اللغات ونعت الأقاليم وتدوين الهجرات. وهذا كشف نوعا وزال عنه الغموض وإن لم يعثر على وقائع الماضي. أما الآثار فهي قليلة جدا ، والمعلوم من الوقائع سد فراغا مهما في المعرفة ... ومن المراجع المهمة لمعرفة أوصافهم ومزاياهم رسالة الجاحظ في (تفضيل الترك) و(كتاب تلفيق (١) الأخبار ، وتلقيح الآثار ، في وقائع قزان وبلغار وملوك التتار) ، و(كتاب اخبار الزمان للمسعودي) (٢) ، وغيرها من الكتب والمراجع ...

وبعد ملاحظة ما تقدم نبين حالة الترك القدماء باعتبارها قصصا منقولة إلى تكون المغول والتتر حسب ما هو معروف عن علماء الترك ومؤرخيهم كأساطير وروايات شفهية ...

__________________

(١) هذا الكتاب من الآثار المهمة الجامعة لاخبار الترك والتتر للمؤلف العصري «م. م. الرمزي» طبع الجلد الأول والثاني منه في بلدة اورنبورغ وفيه بعض التصاوير ولا يخلو الكتاب من أغلاط رغم وجود قائمة بالخطأ والصواب ولو لا ذلك لكان عمدة في الموضوع فإنه يعتمد على مراجع جمة وكتب كثيرة عصرية وقديمة وينقد اثناء البحث كتاب الغربيين وبعض نشرياتهم ... وهو من جملة المراجع التي عوّلنا عليها ...

(٢) منه نسخة الجلد الأول في مكتبة ويانة الأهلية وفيه بيان عن ولد يافث واف وعد منهم اقواما كثيرة وتكلم عن طائفة الترك منها بسعة ... وقد رأيتها هناك وأخذت عنها بعض النقول ، خطها قديم وواضح ... ولا محل لتفصيل القول عنها الآن.

٥٩

الترك القدماء إلى تكوّن المغول والتتر :

يقول أبو الغازي في شجرة الترك إنهم من نسل يافث بن نوح ويوصلهم بآدم على ترتيب التوراة أو كتب الأنساب العربية ويعدد أولاد يافث بأنهم ترك (١) (ومنه الترك) ، وخزر (ومنه الخزر) ، وصقلب (ومنه الصقلب) ، وروس ، ومنيغ وصين (يلفظ چين) ، وكيمارى ، وتارنج. وهم أمم من نجار تركي فجعلوها اسماء أجداد. والظاهر أن التسمية إنما نشأت من مراعاة كتب الانساب وتحديها. ولعل الأصل كذلك فلا يخرج عن التخمين. ولما كان باقي أولاد يافث لا يكونون موضوعا لنا أضربنا عن ذكرهم وإن كانت قد تألفت منهم أقوام. هذا ويلاحظ أن أبا الغازي بهادرخان لم يخل من التأثر بالآداب العربية وأنسابها كما مر يقصّ عن نفسه أنه شاعر مفلق في لغات منها العربية والفارسية ... قال :

إن ترك خلف أباه في حكومته ولقب بابن يافث. وكان عالما ، عاقلا ومدبرا ، ارتاد المواطن الكثيرة فاختار أحسنها وهو المسمى (ببحيرة ايسيغ) فأقام بها. ويقال إنه أول من نصب خيمة. وأن بعض عوائد الترك الموجودة لحد الآن قد انتقلت منه. وقد توفي عن أربع بنين خلفه في حكومته منهم (طوطوق خان).

وهذا أيضا كان عاقلا ، قديرا وعدلا. ومن هذا تأصلت عوائد كثيرة أيضا. ويعاصره أول سلاطين العجم (كيومرث). ويحكى عنه أنه ذهب مرة للصيد فصاد (ظبيا) فشواه. ثم سقطت منه قطعة على الأرض

__________________

(١) ومن ثم سمى القوم «الترك» باسم جدهم الأعلى والاختلاف ظاهر في أصل كل قوم وهل يعد جدا أعلى وحينئذ ينطوي تحته التتر والمغول وبعضهم يسميهم «بني قنطوراء» ونفى آخرون هذه. والمثبتون يقولون إنها جارية إبراهيم عليه السّلام وآخرون وجهوا اللفظ بأنه يراد به «بنو قاآن توران» فخفف وتصرف العرب به حتى نال شكله الأخير ولكل وجهة «ر : ص ٢٠ تلفيق الأخبار».

٦٠